مصحف الكتاب الاسلامي

9 مصاحف روابط 9 مصاحف

Translate داد-8-077-

الأربعاء، 31 يوليو 2019

ج1. وج2. زاد المسير في علم التفسير المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

1.  زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

- زاد المسير فى علم التفسير لابن الجوزي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرفنا على الأمم بالقرآن المجيد ودعانا بتوفيقه على الحكم الى الأمر الرشيد وقوم به نفوسنا بين الوعد والوعيد وحفظه من تغيير الجهول وتحريف العنيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
أحمده على التوفيق للتحميد وأشكره على التحقيق فى التوحيد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يبقى ذخرها على التأبيد وأن محمدا عبده ورسوله أرسله الى القريب والبعيد بشيرا للخلائق ونذيرا وسراجا فى الأكوان منيرا ووهب له من فضله خيرا كثيرا وجعله مقدما على الكل كبيرا ولم يجعل له من أرباب جنسه نظيرا ونهى أن يدعى باسمه تعظيما له وتوقيرا وأنزل عليه كلاما قرر صدق قوله بالتحدي بمثله تقريرا فقال قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا الاسراء88 فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه وأشياعه وسلم تسليما كثيرا
لما كان القرأن العزيز أشرف العلوم كان الفهم لمعانيه أوفى الفهوم لأن شرف العلم بشرف المعلوم وإنى نظرت فى جملة من كتب التفسير فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه وصغير لا يستفاد كل المقصود منه والمتوسط منها قليل الفوائد عديم الترتيب وربما أهمل فيه المشكل وشرح غير الغريب فأتيتك بهذا المختصر اليسير منظويا على العلم الغزير ووسمته ب

زاد المسير فى علم التفسير
وقد بالغت فى اختصار لفظه فاجتهد وفقك الله فى حفظه والله المعين على تحقيقه فما زال جائدا بتوفيقه
فصل في فضيلة علم التفسير
روى أبو عبد الرحمن السلمى عن ابن مسعود قال كنا نتعلم من رسول الله صلى الله عليه و سلم العشر فلا نجاوزها الى العشر الآخر حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل
وروى قتادة عن الحسن أنه قال ما أنزل الله آية إلا أحب أن أعلم فيم أنزلت وماذا عنى بها
وقال إياس بن معاوية مثل من يقرأ القرآن ومن يعلم تفسيره أو لا يعلم مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلهم لمجئ الكتاب روعة لا يدرون ما فيه فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه
فصل
اختلف العلماء هل التفسير والتأويل بمعنى أم يختلفان فذهب قوم يميلون الى العربية إلى أنهما بمعنى وهذا قول جمهور المفسرين المتقدمين وذهب قوم يميلون الى الفقه الى اختلافهما فقالوا التفسير إخراج الشيء من مقام الخفاء الى مقام التجلى والتأويل نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج فى إثباته الى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ فهو مأخوذ من قولك آل الشيء الى كذا أي صار إليه

فصل فى مدة نزول القرأن
روى عكرمة عن ابن عباس قال أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ فى ليلة القدر الى بيت العزة ثم انزل بعد ذلك فى عشرين سنة
وقال الشعبى فرق الله تنزيل القرأن فكان بين أوله وآخره عشرون سنة
وقال الحسن ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة انزل عليه بمكة ثمانى سنين
فصل
واختلفوا فى أول ما نزل من القرأن فأثبت المنقول أن أول ما نزل إقرأ باسم ربك العلق 1 رواه عروة عن عائشة وبه قال قتادة وأبوا صالح
وروي عن جابر به عبد الله أن أول ما نزل يا أيها الدثر المدثر 1 والصحيح أنه لما نزل عليه إقرأ باسم ربك رجع فتدثر فنزل يا أيها المدثر يدل عليه ما أخرج فى الصحيحين من حديث جابر قال سمعت النبى صلى الله عليه و سلم وهو يحدث عن فترة الوحى فقال فى حديثه فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثتت منه رعبا فرجعت فقلت زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله تعالى يا أيها الدثر ومعنى جثتت فرقت يقال رجل مجؤوث ومجثوث وقد صحفه بعض الرواة فقال جبنت من الجبن والصحيح الأول وروي عن الحسن وعكرمة أن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم

فصل
واختلفوا في آخر ما نزل فروى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس قال آخر آية أنزلت على النبى صلى الله عليه و سلم آية الربا وفي أفراد مسلم عنه آخر سورة نزلت جميعا إذا جاء نصر الله والفتح النصر 1 وروى الضحاك عن ابن عباس قال آخر آية أنزلت واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله البقرة 281 وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي صالح وروى أبو إسحاق عن البراء قال آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة النساء 176 وآخر سورة نزلت براءة وروي عن أبي بن كعب أن آخر آية نزلت لقد جاءكم رسول من أنفسكم التوبة 138 الى آخر السورة
فصل
لما رأيت جمهور كتب المفسرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة فى كتب فرب تفسير أخل فيه بعلم الناسخ والمنسوخ أو ببعضه فان وجد فيه لم يوجد أسباب النزول أو أكثرها فان وجد لم يوجد بيان المكي من المدني وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة الى حكم الآية فان وجد لم يوجد جواب إشكال يقع فى الآية الى غير ذلك من الفنون المطلوبة
وقد أدرجت فى هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما

لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه
وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة ولم أغادر من الأقوال التى أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ فاذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره فهو لا يخلو من أمرين إما أن يكون قد سبق وإما أن يكون ظاهرا لا يحتاج الى تفسير
وقد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير فأخذ منها الأصح والأحسن والأصون فنظمه فى عبارة الاختصار وهذا حين شروعنا فيما ابتدأنا له والله الموفق
فصل في الاستعاذة
قد أمر الله عز و جل بالاستعاذة عند القراءة بقوله تقالى فاذا قرأت القرأن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم النحل 98 ومعناه إذا أردت القراءة ومعنى أعوذ ألجأ وألوذ
فصل فى
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن عمر نزلت في كل سورة وقد اختلف العلماء هل هي آية كاملة أم لا وفيه عن أحمد روايتان واختلفوا هل هي من الفاتحة أم لا فيه عن أحمد روايتان أيضا فأما من قال إنها من الفاتحة فانه يوجب قرائتها في الصلاة إذا قال فوجوب الفاتحة وأما من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول قراءتها في الصلاة سنة ما عدا مالكا فانه لا يستحب قراءتها في الصلاة
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به فنقل جماعة عن أحمد أنه لا يسن الجهر بها وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعمار بن ياسر

وابن مغفل وابن الزبير وابن عباس وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم الحسن والشعبي وسعيد بن جبير وابراهيم وقتادة وعمر بن عبد العزيز والأعمش وسفيان الثوري ومالك وأبو حنيفة وأبو عبيد في آخرين
وذهب الشافعي إلى أن الجهر مسنون وهو مروي عن معاوية بن أبي سفيان وعطاء وطاووس ومجاهد
فأما تفسيرها
فقوله بسم الله اختصار كانه قال أبدأ بسم الله أو بدأت باسم الله وفي الإسم خمس لغات إسم بكسر الألف وأسم بضم الألف إذا ابتدات بها وسم بكسر السين وسم بضمها وسما قال الشاعر ... والله أسماك مباركا ... آثرك الله به إيثاركا ...
وأنشدوا ... باسم الذي في كل سورة سمه ...
قال الفراء بعض قيس يقولون سمه يريدون اسمه وبعض قضاعة يقولون سمه أنشدني بعضهم ... وعامنا أعجبنا مقدمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سمه ...
والقرضاب القطاع يقال سيف قرضاب
واختلف العلماء في اسم الله الذي هو الله
فقال قوم مشتق وقال آخرون إنه علم ليس بمشتق وفيه عن الخليل

روايتان إحداهما أنه ليس بمشتق ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن والثانية رواها عنه سيبويه انه مشتق وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من أله الرجل يأله إذا فزع إليه من أمر نزل به فأله أي أجاره وأمنه فسمي إلها كما يسمى الرجل إماما وقال غيره أصله ولاه فأبدلت الواو همزة فقيل إله كما قالوا وسادة ووشاح وإشاح
واشتق من الوله لأن قلوب العباد توله نحوه كقوله تعالى ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون النحل 53 وكان القياس أن يقال مألوه كما قيل معبود إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علما كما قالوا للمكتوب كتاب وللمحسوب حساب وقال بعضهم أصله من أله الرجل يأله إذا تحير لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته
وحكي عن بعض اللغويين أله الرجل يأله إلاه بمعنى عبد يعبد عبادة
وروي عن ابن عباس انه قال ويذرك وءالهتك الأعراف 127 أي عبادتك قال والتأله التعبد قال رؤبة ... لله در الغانيات المده ... سبحن واسترجعن من تألهي ...
فمعنى الإله المعبود
فأما الرحمن
فذهب الجمهور الى أنه مشتق من الرحمة مبني على المبالغة ومعناه ذو الرحمة التي لا نظير له فيها وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة فانهم يقولون للشديد الامتلاء ملآن وللشديد الشبع شبعان
قال الخطابي في الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم وعمت المؤمن والكافر
والرحيم خاص للمؤمنين قال عز و جل وكان بالمؤمنين رحيما الاحزاب 43 والرحيم بمعنى الراحم

سورة الفاتحة
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وقرأ عليه أبي بن كعب أم القرأن فقال والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الانجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
فمن أسمائها الفاتحة لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة ومن أسمائها أم القرأن وأم الكتاب لأنها أمت الكتاب بالتقدم ومن أسمائها السبع المثاني وإنما سميت بذلك لما سنشرحه في الحجر إن شاء الله
واختلف العلماء في نزولها على قولين أحدهما أنها مكية وهو مروي عن علي بن أبي طالب والحسن وأبي القالية وقتادة وأبي ميسرة
والثاني أنها مدنية وهو مروي عن أبي هريرة ومجاهد وعبيد بن عمير وعطاء الخراسانى وعن ابن عباس كالقولين
فصل
فأما تفسيرها
ف الحمد رفع بالابتداء و لله الخبر والمعنى الحمد ثابت لله ومستقر له والجمهور على كسر لام لله وضمها ابن عبلة قال الفراء هي لغة بعض

بني ربيعة وقرأ ابن السميفع الحمد بنصب الدال لله بكسر اللام وقرأ أبو نهيك بكسر الدال واللام جميعا
واعلم أن الحمد ثناء على المحمود ويشاركه الشكر إلا أن بينهما فرقا وهو أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء والشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة وقيل لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر فتقيدره قولوا الحمد لله
وقال ابن قتيبة الحمد الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة وأشباه ذلك والشكر الثناء عليه بمعروف أولاكه وقد يوضع الحمد موضع الشكر فيقال حمدته على معروفه عندي كما يقال شكرت له على شجاعته
فأما الرب فهو المالك ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالاضافة فيقال هذا رب الدار ورب العبد وقيل هو مأخوذ من التربية
قال شيخنا أبو منصور اللغوي يقال رب فلان صنيعته يربها ربا إذا أتمها وأصلحها فهو رب وراب
قال الشاعر ... يرب الذي يأتي من الخير إنه ... إذا سئل المعروف زاد وتمما ...
قال والرب يقال على ثلاثة أوجه أحدها المالك يقال رب الدار والثاني المصلح يقال رب الشيء والثالث السيد المطاع قال تعالى فيسقى ربه خمرا يوسف 41 والجمهور على خفض باء رب وقرأ أبو الغاليه وابن السميفع وعيسى ابن عمر بنصبها وقرأ أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجوني برفعها

فأما العالمين فجمع عالم وهو عند أهل العربية اسم للخلق من مبدئهم الى منتهاهم وقد سموا أهل الزمان الحاضر عالما
فقال الحطيئة ... تنحي فاجلسي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا ...
فأما أهل النظر فالعلم عندهم اسم يقع على الكون الكلي المحدث من فلك وسماء وأرض وما بين ذلك
وفي اشتقاق العالم قولان أحدهما أنه من العلم وهو يقوي قول أهل اللغة
والثاني أنه من العلامة وهو يقوي قول أهل النظر فكأنه إنما سمي عندهم بذلك لانه دال على خالقه
وللمفسرين في المراد ب العالمين هاهنا خمسة أقوال
أحدهما الخلق كله السموات والارضون وما فيهن وما بينهن رواه الضحاك عن ابن عباس
الثاني كل ذي روح دب على وجه الأرض رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أنهم الجن والإنس روي ايضا عن ابن عباس وبه قال مجاهد ومقاتل
والرابع أنهم الجن والإنس والملائكة نقل عن ابن عباس أيضا واختاره ابن قتبية
والخامس أنهم الملائكة وهو مروي عن ابن عباس أيضا
قوله تعالى الرحمن الرحيم
قرأ أبو العاليه وابن السميفع وعيسى بن عمر بالنصب فيهما وقرأ أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبوا عمران الجوني بالرفع فيهما

قوله تعالى مالك يوم الدين
قرأ عاصم والكسائي وخلف ويعقوب مالك بألف وقرأ إبن السميفع وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما نصبا الكاف وقرأ أبو هريرة وعاصم الجحدري ملك باسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف وقرأ أبو عثمان النهدي والشعبي ملك بكسر اللام ونصب الكاف من غير ألف وقرأ سعد بن أبي وقاص وعائشة ومورق العجلي ملك مثل ذلك إلا أنهم رفعوا الكاف وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء العطاردي مليك بيياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف وقرأ عمرو بن العاص كذلك إلا أنه ضم الكاف وقرأ أبو حنيفة وأبو حيوة ملك على الفعل الماضي ويوم بالنصب
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو إسكان اللام والمشهور عن أبي عمور وجمهور القراء ملك بفتح الميم مع كسر اللام وهو أظهر في المدح لأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا
وفي الدين هاهنا قولان
أحدهما انه الحساب قاله ابن مسعود
والثاني الجزاء قاله ابن عباس ولما أقر الله عز و جل رب العالمين أنه مالك الدنيا دل بقوله مالك يوم الدين على أنه مالك الأخرى وقيل إنما خص يوم الدين لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه

قوله تقالى إياك نعبد
وقرأ الحسن وأبو المتوكل وأبو مجلز يعبد بضم الياء وفتح الباء قال ابن الأنباري المعنى قل يا محمد إياك يعبد والعرب ترجع من الغيبة الى الخطاب ومن الخطاب الى الغيبة كقوله تقالى حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم يونس 32 وقوله وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء يونس 22 وقوله وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء الدهر 21 22
وقال لبيد ... باتت تشكى الي النفس مجهشة ... وقد حمتلك سبعا بعد سبعينا ...
وفي المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال
أحدهما أنها بمعنى التوحيد روي عن علي وابن عباس في آخرين
والثاني أنها بمعنى الطاعة كقوله لا تعبدوا الشيطان يس 60
الثالث أنهما بمعنى الدعاء كقوله إن الذين يستكبرون عن عبادتي غافر 60 قوله تعالى إهدنا فيه أربعة أقوال
أحدها ثبتنا قاله علي وأبي والثاني أرشدنا والثالث وفقنا والرابع ألهمنا رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس
و الصراط الطريق
ويقال إن أصله بالسين لأنه من الاستراط وهو الا بتلاع فالسراط كأنه يسترط المارين عليه فمن قرأ السين كمجاهد وابن محيصن ويعقوب فعلى أصل الكلمة ومن قرأ بالصاد كأبي عمرو والجمهور فلأنها اخف على اللسان ومن قرأ بالزاي كرواية الأصمعي عن أبي عمرو واحتج بقول العرب سقر وزقر وروي

عن حمزة إشمام السين زايا وروي عنه أنه تلفظ بالصراط بين الصاد والزاي
قال الفراء اللغة الجيدة بالصاد وهي لغة قريش الأولى وعامة العرب يجعلونها سينا وبعض قيس يشمون الصاد فيقول السراط بين الصاد والسين وكان حمزة يقرأ الزراط بالزاي وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين يقولون في أصدق أزدق
وفي المراد بالصراط هاهنا أربعة اقوال
أحدها أنه كتاب الله رواه علي عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثاني أنه دين الاسلام قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن و أبوالعالية في آخرين
والثالث أنه الطريق الهادي الى دين الله رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والرابع أنه طريق الجنة نقل عن ابن عباس أيضا فان قيل ما معنى سؤال المسلمين الهداية وهم مهتدون ففيه ثلاثة أجوبة
أحدها أن المعنى إهدنا لزوم الصراط فحذف اللزوم قاله ابن الأنباري
والثاني أن المعنى ثبتنا على الهدى تقول العرب للقائم قم حتى آتيك أي اثبت على حالك
والثالث أن المعنى زدنا هدى
قوله تقالى الذين أنعمت عليهم
قال ابن عباس هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وقرأ

الأكثرون عليهم بكسر الهاء وكذلك لديهم و إليهم وقرأهن حمزة بضمها وكان ابن كثير يصل ضم الميم بواو وقال ابن الأنباري حكى اللغويون في عليهم عشر لغات قرئ بعامتها عليهم بضم الهاء وإسكان الميم وعليهم بكسر الهاء وإسكان الميم وعليهمي بكسر الهاء والميم وإلحاق يا بعد الكسرة وعليهمو بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة وعليهمو بضم الهاء والميم وإدخال واو بعد الميم وعليهم بضم الهاء والميم من غير زيادة واو وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القراء وأوجه أربعة منقولة عن العرب عليهمي بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء وعليهم بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء وعليهم بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو و عليهم بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم
فأما المغضوب عليهم فهم اليهود والضالون النصارى
رواه عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال ابن قتيبة والضلال الحيرة والعدول عن الحق
فصل
ومن السنة في حق قارىء الفاتحة ان يعقبها ب آمين قال شيخنا أبو الحسن علي ابن عبيد الله وسواء كان خارج الصلاة أو فيها لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا قال الامام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال من خلفه آمين فوافق ذلك قول أهل السماء غفر له ما تقدم من ذنبه

وفي معنى آمين ثلاثة أقوال
أحدها أن معنى آمين كذلك يكون حكاه ابن الأنباري عن ابن عباس والحسن
والثاني أنها بمعنى اللهم استجب قاله الحسن والزجاج
والثالث أنه اسم من أسماء الله تعالى قاله مجاهد وهلال بن يساف وجعفر ابن محمد
وقال ابن قتيبة معناها يا أمين أجب دعاءنا فسقطت يا كما سقطت في قوله يوسف أعرض عن هذا يوسف 29 تأويله يا يوسف ومن طول الألف قال آمين أدخل ألف النداء على ألف أمين كما يقال آزيد أقبل ومعناه يا زيد قال ابن الأنباري وهذا القول خطأ عند جميع النحويين لأنه إذا أدخل يا على آمين كان منادى مفردا فحكم آخره الرفع فلما أجمعت العرب على فتح نونه دل على أنه غير منادى وإنما فتحت نون آمين لسكونها وسكون الياء التي قبلها كما تقول العرب ليت ولعل قال وفي آمين لغتان أمين بالقصر وآمين بالمد والنون فيهما مفتوحة
أنشدنا أبو العباس عن ابن الاعرابي ... سقى الله حيا بين صارة والحمى ... حمى فيد صوب المدجنات المواطر ... أمين وأدى الله ركبا إليهم ... بخير ووقاهم حمام المقادر ...
وأنشدنا أبو العباس أيضا ... تباعد مني فطحل وابن أمه ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

وأنشدنا أبو العباس أيضا ... يا رب لا تسلبني حبها أبدا ... ويرحم الله عبدا قال آمينا ...
وأنشدني أبي ... أمين ومن اعطاك مني هوداة ... رمى الله في أطرافه فاقفعلت ...
وأنشدني أبي ... فقلت له قد هجت لي بارح الهوى أصاب حمام الموت أهوننا وجدا ... أمين وأضناه الهوى فوق ما به أمين ولاقى من تباريحه جهدا ...
فصل
نقل الأكثرون عن احمد أن الفاتحه شرط في صحة الصلاة فمن تركها مع القدرة عليها لم تصح صلاته وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة رحمه الله لا تتعين وهي رواية عن أحمد ويدل على الرواية الأولى ما روي في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
والله تعالى أعلم بالصواب

سورة البقرة
فصل في فضيلتها
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر فان البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان
وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فانهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف اقرؤوا البقرة فان أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة
والمراد بالزهراوين المنيرتين يقال لكل مير زاهر والغيايه كل شيء أظل الانسان فوق رأسه مثل السحابة والغبرة يقال غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف كأنهم أظلوه به
قال لبيد
... فتدليت عليه قافلا ... وعلى الأرض غيايات الطفل ...
ومعنى فرقان قطعتان والفرق القطعة من الشيء قال عز و جل فكان كل فرق كالطود العظيم الشعراء 63 والصواف المصطفة المتضامة لنظل قارئها والبطلة السحرة
فصل في نزولها
قال ابن عباس هي أول ما نزل بالمدينة وهذا قول الحسن ومجاهد وعكرمة

وجابر بن زيد وقتادة ومقاتل وذكر قوم أنها مدنية سوى آية وهي قوله عز و جل واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله البقرة 281 فانها أنزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع
فصل
وأما التفسير فقوله ألم اختلف العلماء فيها وفي سائر الحروف المقطعة في أوائل السور على ستة أقوال
أحدها أنها من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لله عز و جل في كل كتاب سر وسر الله في القرأن أوائل السور وإلى هذا المعنى ذهب الشعبي وأبو صالح وابن زيد
والثاني أنها حروف من أسماء فاذا ألفت ضربا من التأليف كانت أسماء من أسماء الله عز و جل قال علي بن أبي طالب هي أسماء مقطعة لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إذا دعي به أجاب
وسئل ابن عباس عن آلر وحم و نون فقال اسم الرحمن على الجهاء و الى نحو هذا ذهب أبو العالية والربيع بن أنس
والثالث أنها حروف أقسم الله بها قاله ابن عباس وعكرمة قال ابن قتيبة ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطعة كلها واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل تعلمت أ ب ت ث وهو يريد سائر الحروف وكما يقول قرأت الحمد يريد فاتحة الكتاب فيسميها بأول حرف منها وإنما أقسم بحروف المعجم لشرفها ولأنها مباني كتبه المنزلة وبها يذكر ويوحد قال ابن الانباري وجواب القسم محذوف تقديره وحروف المعجم لقد بين الله لكم السبيل وأنهجت لكم الدلالات بالكتاب المنزل وإما

حذف لعلم المخاطبين به ولأن في قوله ذلك الكتاب لا ريب فيه دليلا على الجواب
والرابع انه أشار بما ذكر من الحروف الى سائرها والمعنى أنه لما كانت الحروف أصولا للكلام المؤلف أخبر أن هذا القرأن إنما هو مؤلف من هذه الحروف قاله الفراء وقطرب
فإن قيل فقد علموا أنه حروف فما الفائدة في أعلامهم بهذا
فالجواب أنه نبه بذلك على إعجازه فكأنه قال هو من هذه الحروف التي تؤلفون منها كلامكم فما بالكم تعجزون عن معارضته فاذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمد عليه السلام
والخامس أنها أسماء للسور روي عن زيد بن أسلم وابنه وأبي فاختة سعيد ابن علاقة مولى أم هانىء
والسادس أنها من الرمز الذي نستعمله العرب في كلامها يقول الرجل للرجل هل تا فيقول له بلى يريد هل تأتي فيكتفي بحرف من حروفه وأنشدوا ... قلنا لها قفي لنا فقالت قاف ... لا تحسبى أنا نسينا الإيجاف ...
أراد قالت أقف ومثله ... نادوهم ألا الجموا ألا تا ... قالوا جميعا كلهم ألا فا ...
يريد ألا تركبون قالوا بلى فاركبوا ومثله ... بالخير خيرات وإن شرا فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا ...
معناه وإن شرا فشر ولا أريد الشر إلا أن تشاء و الى هذا القول ذهب الأخفش والزجاج وابن الأنباري
وقال أبو روق عطية بن الحارث الهمداني كان النبي صلى الله عليه و سلم يجهر بالقراءة في الصلوات

كلها وكان المشركون يصفقون ويصفرون فنزلت هذه الحروف المقطعة فسمعوها فبقوا متحيرن وقال غيره إنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على سماعه لأن النفوص تطلع الى ما غلب عنها معناه فإذا أقبلوا إليه خاطبهم بما يفهمون فصار ذلك كالوسيلة الى الإبلاغ إلا أنه لا بد له من معنى يعلمه غيرهم أو يكون معلوما عند المخاطبين فهذا الكلام يعم جميع الحروف
وقد خص المفسرون قوله آلم بخمسة أقوال
أحدها أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه الا الله عز و جل وقد سبق بيانه
والثاني ان معناه أنا الله أعلم رواه أبوا الضحى عن ابن عباس وبه قال ابن مسعود وسعيد بن جبير
والثالث أنه قسم رواه أبو صالح عن ابن عباس وخالد الحذاء عن عكرمة
والرابع أنها حروف من أسماء ثم فيها قولان أحدهما أن الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد قاله ابن عباس
فان قيل إذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاء به فلم أخذت اللام من جبريل وهي أخر الإسم
فالجواب أن مبتدأ القرآن من الله تعالى فدل على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه وجبريل انختم به التنزيل والإقرأء فتنوول من اسمه نهاية حروفه و محمد مبتدأ في الإقرأء فتنوول أول حرف فيه والقول الثاني أن الألف من الله تعالى واللام من لطيف والميم من مجيد قاله أبو العالية
والخامس أنه اسم من أسماء القرآن قاله مجاهد والشعبي وقتادة وابن جريج

قوله تعالى ذلك فيه قولان
أحدهما أنه بمعنى هذا وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والكسائي وأبي عبيدة والأخفش واحتج بعضهم بقول خفاف بن ندبة ... اقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا ...
أي أنا هذا وقال ابن الأنباري إنما أراد أنا ذلك الذي تعرفه
والثاني أنه إشارة الى غائب
ثم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه أراد به ما تقدم إنزاله عليه من القرآن
والثانى أنه أراد به ما وعده أن يوحيه إليه في قبوله سنلقي عليك قولا ثقيلا المزمل 5
والثالث أنه أراد بذلك ما وعد به أهل الكتب السالفة لأنهم وعدوا بنبي وكتاب
والكتاب القرآن وسمي كتابا لأنه جمع بعضه الى بعض ومنه الكتيبة سميت بذلك لاجتماع بعضها الى بعض ومنه كتبت البغلة
قوله تقالى لا ريب فيه الريب الشك والهدى الإرشاد والمتقون المحترزون مما اتقوه
وفرق شيخنا علي بن عبيد الله بين التقوى والورع فقال التقوى أخذ عدة والورع دفع شبهة فالتقوى متحقق السبب والورع مظنون المسبب
واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال
أحدها أن ظاهرها النفي ومعناها النهى وتقديرها لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه ومثله ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ يوسف 38 أي ما ينبغي لنا ومثله فلا رفت ولا فسوق البقرة 196 وهذا مذهب الخليل وابن الأنباري

والثاني أن معناها لا ريب فيه أنه هدى للمتقين قاله المبرد
والثالث أن معناها لا ريب فيه أنه من عند الله قاله مقاتل في آخرين
فان قيل فقد ارتاب به قوم
فالجواب انه حق في نفسه فمن حقق النظر فيه علم قال الشاعر ... ليس في الحق يا أمامة ريب ... إنما الريب ما يقول الكذوب ...
فان قيل فالمتقى مهتد فما فائدة اختصاص الهداية به
فالجواب من وجهين أحدهما أنه أراد المتقين والكافرين فاكتفى بذكر كر أحد الفريقين كقوله تقالى سرابيل تقيكم الحر النحل 81 أراد والبرد
والثاني أنه خص المتقين لانتفاعهم به كقوله إنما انت منذر من يخشاها النازعات 45 وكان منذرا لمن يخشى ولمن لا يخشى
قوله تقالى الذين يؤمنون بالغيب الايمان في اللغة التصديق والشرع أقره على ذلك وزاد فيه القول والعمل وأصل الغيب المكان المطمئن الذي يستتر فيه لنزوله عما حوله فسمي كل مستتر غيبا
وفي المراد بالغيب هاهنا ستة اقوال
أحدها أنه الوحي قاله ابن عباس وابن جريج
والثاني القرأن قاله أبو رزين العقيلي وزر بن حبيش
والثالث الله عز و جل قاله عطاء وسعيد بن جبير
والرابع ما غاب عن العياد من أمر الجنة والنار ونحو ذلك مما ذكر في القرأن رواه السدي عن أشياخه وإليه ذهب أبو العالية وقتادة

والخامس أنه قدر الله عز و جل قاله الزهري
والسادس أنه الايمان بالرسول في حق من لم يره قال عمرو بن مرة قال أصحاب عبد الله له طوبى لك جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وجالسته فقال إن شان رسول الله صلى الله عليه و سلم كان مبينا لمن رآه ولكن أعجب من ذلك قوم يجدون كتابا مكتوبا يؤمنون به ولم يروه ثم قرأ الذين يؤمنون بالغيب
قوله تقالى ويقيمون الصلاة الصلاة في اللغة الدعاء وفي الشريعة أفعال وأقوال على صفات مخصوصة وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال
أحدها أنها سميت بذلك لرفع الصلا وهو مغرز الذنب من الفرس
والثاني أنها من صليت العود إذا لينته فالمصلي يلين ويخشع
والثالث أنها مبنية على السؤال والدعاء والصلاة في اللغة الدعاء وهي في هذا المكان اسم جنس
قال مقاتل أراد بها هاهنا الصلوات الخمس
وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال
أحدها أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به روي عن ابن عباس ومجاهد
والثاني أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها قاله قتادة ومقاتل
والثالث إدامتها والعرب تقول في الشيء الراتب قائم وفلان يقيم أرزاق الجند قاله ابن كيسان
قوله تقالى ومما رزقناهم أي أعطيناهم ينفقون أي يخرجون وأصل الإنفاق الإخراج يقال نفقت الدابة إذا خرجت روحها

وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال
أحدها أنها النفقة على الأهل والعيال قاله ابن مسعود وحذيفة
والثاني أنها الزكاة المفروضة قاله ابن عباس وقتادة
والثالث أنها الصدقات النوافل قاله مجاهد والضحاك
والرابع أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة ذكره بعض المفسرين وقالوا إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء فعلى قول هؤلاء الآية منسوخة بآية الزكاة وغير هذا القول أثبت واعمل أن الحكمة في الجمع بين الإيمان بالغيب وهو عقد القلب وبين الصلاة وهي فعل البدن وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال أنه ليس في التكليف قسم رابع إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين أثنين منهما كالحج والصوم ونحوهما
قوله تعالى والذين يؤمنون بما أنزل إليك اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه رواه الضحاك عن أبن عباس واختاره مقاتل
والثاني أنها نزلت في العرب الذي آمنوا بالنبي وما أنزل من قبله رواه صالح عن ابن عباس قال المفسرون الذي أنزل إليه القرأن وقال شيخنا علي بين عبيد الله القرآن وغيره مما أوحي إليه
قوله تقالى وما أنزل من قبلك يعني الكتب المتقدمة والوحي فأما الآخرة فهي اسم لما بعد الدنيا وسميت آخرة لأن الدنيا قد تقدمتها وقيل سميت آخرة لأنها نهاية الأمر

قوله تعالى تقالى يوقنون اليقين ما حصلت به الثقة وثلج به الصدر وهو أبلغ علم مكتسب
قوله تعالى أولئك على هدى أي على رشاد وقال ابن عباس على نور واستقامة قال ابن قتبية المفلحون الفائزون ببقاء الأبد وأصل الفلاح البقاء ويشهد لهذا قول لبيد ... نحل بلادا كلها حل قبلنا ... ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير ...
يريد البقاء وقال الزجاج المفلح الفائز بما فيه غاية صلاح حاله قال ابن الأنباري ومنه حي على الفلاح معناه هلموا الى سبيل الفوز ودخول الجنة
قوله تعالى إن الذين كفروا في نزولها أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في قادة الأحزاب قاله أبو العالية
والثاني أنها نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته قاله الضحاك
الثالث انها نزلت في طائفة من إليهود ومنهم حيي بن أخطب قاله ابن السائب
والرابع أنها نزلت في مشركي العرب كأبي جهل وأبي طالب وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم
قال مقاتل فأما تفسيرها فالكفر في اللغة التغطية تقول كفرت الشيء إذا غطيته فسمي الكافر كافرا لأنه يغطي الحق
قوله تعالى سواء عليهم أي متعادل عندهم الانذار وتركه والإنذار إعلام مع تخويف وتناذر بنو فلان هذا الأمر إذا خوفه بعضهم بعضا
قال شيخنا على بن عبيد الله هذه الآية وردت بلفظ العموم والمراد بها الخصوص لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن وقد آمن كثير من الكفار عند

إنذارهم ولو كانت على ظاهرها في العموم لكان خبر الله لهم خلاف مخبره ولذلك وجب نقلها الى الخصوص
قوله تعالى ختم الله على قلوبهم الختم الطبع والقلب قطعة من دم جامدة سوداء وهو مستكن في الفؤاد وهو بين النفس ومسكن العقل وسمي قلبا لتقلبه وقيل لأنه خالص البدن وإنما خصه بالختم لأنه محل الفهم
قوله تعالى وعلى سمعهم يريد على أسماعهم فذكره بلفظ التوحيد ومعناه الجمع فاكتفى بالواحد عن الجميع ونظيره قوله تعالى ثم يخرجكم طفلا الحج 5
وأنشدوا من ذلك ... كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فان زمانكم زمن خميص ...
أي في أنصاف بطونكم ذكر هذا القول أبو عبيدة والزجاج وفيه وجه آخر وهو أن العرب تذهب بالسمع مذهب المصدر والمصدر يوحد تقول يعجبني حديثكم ويعجبني ضربكم فأما البصر والقلب فهما اسمان لا يجريان مجرى المصادر في مثل هذا المعنى ذكره الزجاج وابن القاسم وقد قرأ عمرو بن العاص وأبن أبي عبلة وعلى أسماعهم
قوله تعالى وعلى أبصارهم غشاوة الغشاوة الغطاء
قال الفراء أما قريش وعامة العرب فيكسرون الغين من غشاوة وعكل يضمون الغين وبعض العرب يفتحها وأظنها لربيعة وروى المفضل عن عاصم غشاوة بالنصب على تقدير جعل على أبصارهم غشاة فأما العذاب فهو الألم المستمر وماء عذب إذا استمر في الحلق سائغا
قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله اختلفوا فيمن نزلت على قولين

أحدهما أنها في المنافقين ذكره السدي عن ابن مسعود وابن عباس وبه قال أبو العالية وقتادة وابن زيد
والثاني أنها في منافقي أهل الكتاب رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال ابن سيرين كانوا يتخوفون من هذه الآية وقال قتادة هذه الآية نعت المنافق يعرف بلسانه وينكر بقلبه و يصدق بلسانه ويخالف بعمله ويصبح على حالة ويمسي على غيرها ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبت ريح هب معها
قوله تعالى يخادعون الله
قال ابن عباس كان عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن القيس إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ونشهد أن صاحبكم صادق فاذا خلوا لم يكونوا كذلك فنزلت هذه الآية
فأما التفسير فالخديعة الحيلة والمكر وسميت خديعة لأتها تكون في خفاء والمخدع بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة ورجل خادع إذا فعل الخديعة سواء حصل مقصوده أو لم يحصل فاذا حصل مقصوده قيل قد خدع وانخدع الرجل استجاب للخادع سواء تعمد الاستجابة أو لم يقصدها والعرب تسمي الدهر خداعا لتلونه بما يخفيه من خير وشر
وفي معنى خداعهم الله خمسة أقوال
أحدها انهم كانوا يخادعون المؤمنين فكأنهم خادعوا الله روي عن ابن عباس واختاره ابن قتيبة
والثاني انهم كانوا يخادعون نبي الله فأقام الله نبيه مقامه كما قال إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله الفتح 10 قاله الزجاج

والثالث أن الخادع عند العرب الفاسد وأنشدوا ... أبيض اللون لذيذ طعمه ... طيب الريق إذا الريق خدع ...
أي فسد رواه محمد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الاعرابي قال ابن القاسم فتأويل يخادعون الله يفسدون ما يظهرون من الايمان بما يضمرون من الكفر
والرابع أنهم كانوا يفعلون في دين الله مالو فعلوه بينهم كان خداعا
والخامس أنهم كانوا يخفون كفرهم ويظهرون الإيمان به
قوله تعالى وما يخدعون إلا أنفسهم قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وما يخادعون وقرأ الكوفيون واين عامر يخدعون والمعنى أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم
ومتى يعود وبال خداعهم عليهم فيه قولان
أحدهما في دار الدنيا وذلك بطريقين أحدهما بالاستدراج والإمهال الذي يزيدهم عذابا باطلاع النبي والمؤمنين على أحوالهم التي أسروها
والقول الثاني ان عود الخداع عليهم في الآخرة وفي ذلك قولان
أحدهما أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين وذلك قوله قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب الحديد 13
والثاني أنه يعود عليهم عند اطلاع أهل الجنة عليهم فاذا رأوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم فقالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله الأعراف 50 فيجيبونهم إن الله حرمهما على الكافرين الأعراف 51

قولهتعالي وما يشعرون أي وما يعلمون وفي الذي لم يشعروا به قولان
أحدهما انه إطلاع الله نبيه على كذبهم قاله ابن عباس
والثاني أنه إسرارهم بأنفسهم بكفرهم قاله ابن زيد
قوله تعالى في قلوبهم مرض المرض ها هنا الشك قاله عكرمة وقتادة فزادهم الله مرضا هذا الإخبار من الله تعالى أنه فعل بهم ذلك و الأليم بمعنى المؤلم والجمهور يقرؤون يكذبون بالتشديد وقرأ الكوفيون سوى أبان عن عاصم بالتخفيف مع فتح الياء
قوله تعالى وإذا قيل لهم لآتفسدوا في الأرض اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو قول الجمهور منهم ابن عباس ومجاهد
والثاني أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها قاله سلمان الفارسي وكان الكسائي يقرأ بضم القاف من قيل والحاء من حيل والغين من غيض والجيم من جئ والسين من سئ و سيئت وكان ابن عامر يضم من ذلك ثلاثة حيل و سبق و سئ وسئيت وكان نافع يضم سئ و سيئت ويكسر البواقي والآخرون يكسرون جميع ذلك
وقال الفراء أهل احجاز من قريش ومن جاورهم من بني كنانة يكسرون القاف في قيل ودجئ وغيض وكثير من عقيل ومن جاورهم وعامة أسد يشمون الى الضم من قيل وجئ

وفي المراد بالفساد ها هنا خمسة أقوال
أحدها أنه الكفر قاله ابن عباس
والثاني العمل بالمعاصي قاله أبو الغالية ومقاتل
والثالث أنه الكفر والمعاصي قاله السدي عن أشياخه
والرابع انه ترك امتثال الأوامر واجتناب النواهي قاله مجاهد
والخامس أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين ذكره شيخنا علي بن عبيد الله
قوله تعالى أنما نحن مصلحون فيه خمسة أقوال
أحدها أن معناه إنكار ماعرفوا به وتقديره ما فعلنا شيئا يوجب الفساد
والثاني أن معناه إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين والقولان عن ابن عباس
والثالث انهم أرادوا مصافاة الكفار صلاح لا فساد قاله مجاهد وقتادة
والرابع أنهم أرادوا أن فعلنا هذاهو الصلاح وتصديق محمد هو الفساد قاله السدي
والخامس أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين لأنهم اعتقدوا أن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه و سلم فقد أمنوه بمبايعته وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم ذكره شيخنا
قوله تعالى ألا إنهم هم المفسدون قال الزجاج ألا كلمة يبتدأ بها ينبه بها المخاطب تدل على صحة ما بعدها وهم تأكيد للكلام

وفي قوله تعالى ولكن لا يشعون قولان
أحدهما لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم
والثاني لا يشعرون أن ما فعلون فساد لا صلاح
قوله تعالى وإذا قيل لهم آمنوا في المقول لهم قولان
أحدهما أنهم إليهود قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني المنافقون قاله مجاهد وابن زيد وفي القائلين لهم قولان
أحدهما انهم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس ولم يعين أحدا من الصحابة
والثاني أنهم معينون وهم سعد بن معاذ وأبو لبابة وأسيد ذكره مقاتل
وفي الإيمان الذي دعوا إليه قولان
أحدهما أنه التصديق بالنبي وهو قول من قال هم إليهود والثاني أنه العمل بمقتضى ما أظهروه وهو قول من قال هم المنافقون
وفي المراد بالناس ها هنا ثلاثة أقوال أحدها جميع الصحابة قاله ابن عباس
والثاني عبد الله بن سلام ومن أسلم معه من اليهود قاله مقاتل والثالث معاذ بن جبل وسعد بن معاد وأسيد بن حضير وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي وفيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال أحدها جميع الصحابة قاله ابن عباس والثاني النساء والصبيان قاله الحسن والثالث ابن سلام وأصحابة قاله مقاتل وفيما عنوه بالغيب من إيمان الذين زعموا انهم السفهاء ثلاثة أقوال أحدها انهم أرادوا دين الإسلام قاله ابن عباس والسدي والثاني أنهم أرادوا البعث والجزاء قاله مجاهد والثالث أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة من غير نظر في عاقبة وهذا الوجه والذي قبله يخرج على أنهم المنافقون والأول يخرج على أنهم إليهود قال ابن قتيبة والسفهاء الجهلة

يقال سفه فلان رأيه إذا جهله ومنه قيل للبذاء سفه لأنه جهل قال الزجاج وأصل السفه في اللغة خفة الحلم ويقال ثوب سفيه إذا كان رقيقا باليا وتسفهت الريح الشجر إذا مالت به قال الشاعر ... مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعإليها مر الرياح النواسم ...
قوله تعالى ولكن لا يعلمون
قال مقاتل لا يعلمون أنهم هم السفهاء
قوله تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلو الى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون
اختلفوا فيمن نزلت على قولين أحدهما أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه قاله ابن عباس والثاني أنها نزلت في المنافقين وغيرهم من أهل الكتاب الذين كانوا يظهرون للنبي صلى الله عليه و سلم من الإيمان ما يلقون رؤساءهم بضده قاله الحسن
فأما التفسير ف لى بمعنى مع كقوله تعالى من أنصاري الى الله أي مع الله والشياطين جمع شيطان قال الخليل كل متمرد عند العرب شيطان وفي هذا الاسم قولان أحدهما أنه من شطن أي بعد عن الخير فعلى هذا تكون النون أصلية
قال أمية بن أبي الصلت في صفة سليمان عليه السلام ... أيما شاطن عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأغلال ...
عكاه أوثقه وقال النابغة

نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
والثاني أنه من شاط يشيط إذا التهب واحترق فتكون النون زائدة وأنشدوا ... وقد يشيط على أرماحنا البطل ...
أي يهلك
وفي المراد بشياطينهم ثلاثة أقوال أحدها انهم رؤوسهم في الكفر قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن والسدي والثاني إخوانهم من المشركين قاله أبو العالية ومجاهد والثالث كهنتهم قاله الضحاك والكلبي
قوله تعالى إنا معكم
قيه قولان احدهما أنهم أرادوا إنا معكم على دينكم والثاني إنا معكم على النصرة والمعاضدة والهزء السخرية
قوله تعالى الله يستهزئ بهم
اختلف العلماء في المراد باستهزاء الله بهم على تسعة أقوال
أحدها أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار فيسرعون إليه فيغلق ثم يفتح لهم باب آخر فيسرعون فيغلق فيضحك منهم المؤمنون روي عن ابن عباس
والثاني أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النار لهم كما تجمد الإهالة في القدر فيمشون فتنخسف بهم روي عن الحسن البصري
والثالث أن الاستهزاء بهم إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب فيبقون في الظلمة فيقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا الحديد 13 قاله مقاتل

والرابع أن المراد به يجازيهم على استهزائهم فقوبل اللفظ بمثله لفظا وإن خالفه معنى فهو كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها الشورى 40 وقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم البقرة 194 وقال عمرو بن كلثوم ... ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ...
أراد فنعاقبه بأغلط من عقوبته
والخامس أن الاستهزاء من الله التخطئة لهم والتجهيل فمعناه الله يخطئ فعلهم ويجهلم في الإقامة على كفرهم
والسادس أن استهزاءة استدراجه إياهم
والسابع أنه إيقاع استهزائهم بهم ورد خداعهم ومكرهم عليهم ذكر هذا الأقوال محمد بن القاسم الأنباري
والثامن أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذل ذق إنك أنت العزيز الكريم الدخان 49 ذكره شيخنا في كتابه
والتاسع أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة كان كالاستهزاءبهم
قوله تعالى ويمدهم في طغيانهم يعمهون
فيه أربعة أقوال أحدها يمكن لهم قاله ابن مسعود والثاني يملي لهم قاله ابن عباس والثالث يزيدهم قاله مجاهد والرابع يمهلهم قاله الزجاج
والطغيان الزيادة على القدر والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة يقال طغى البحر إذا هاجت أمواجه وطغى السيل إذا جاء بماء كثير وفي المراد بطغاينهم قولان أحدهما أنه كفرهم قاله الجمهور والثاني أنه عتوهم وتكبرهم قاله ابن قتيبة ويعمهون بمعنى يتحيرون يقال رجل عمه وعامه أي متحير

قال الراجز ... ومخفق من لهله ولهله ... من مهمه يجتبنه في مهمه ... أعمى الهدى بالجاهلين العمه ...
وقال ابن قبية يعمهون يركبون رؤوسهم فلا يبصرون
قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى
في نزولها ثلاثة أقوال أحدها أنها نزلت في جميع الكفار قاله ابن مسعود وابن عباس والثاني أنها في أهل الكتاب قاله قتادة والسدي ومقاتل والثالث أنها في المنافقين قاله مجاهد واشتروا بمعنى استبدلوا والعرب تجعل من آثر شيئا على شئ مشتريا له وبائعا للآخر والضلالة والضلال بمعنى واحد
وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال
أحدها ان المارد هاهنا الكفر والمراد بالهدى الإيمان روي عن الحسن وقتادة والسدي
والثاني أنها الشك والهدى اليقين
والثالث أنها الجهل والهدى العلم
وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال أحدها أنهم آمنوا ثم كفروا قاله مجاهد والثاني أن اليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه فلما بعث كفروا به

قاله مقاتل والثالث ان الكفار لما بلغهم ما جاء به النبي من الهدى فردوه واختاروا الضلال كانو كمن أبدل شيئا بشئ ذكره شيخنا علي بن عبيد الله
قوله تعالى فما ربحت تجارتهم
من مجاز الكلام لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها ومثله قوله تعالى بل مكر الليل والنهار سبأ 33 يريد بل مكرهم في الليل والنهار ومثله فاذا عزم الأمر محمد 21 أي عزم عليه وأنشدوا ... حارث قد فرجت عني همي ... فنام ليلي وتجلى غمي ...
والليل لا ينام بل ينام فيه وإنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإشكال ويعلم مقصود قائله فأما إذا أضيف الى ما يصلح أن يوصف به وأريد به ما سواه لم يجز مثل أن تقول ربح عبدك وتريد ربحت في عبدك و الى هذا المعنى ذهب الفراء وابن قبية والزجاج
قوله تعالى وما كانوا مهتدين
فيه خمسة أقوال أحدها وما كانوا في العلم بالله مهتدين والثاني وما كانوا مهتدين من الضلالة والثالث وما كانوا مهتدين الى تجارة المؤمنين والرابع وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة والخامس أنه قد لا يربح التاجر ويكون على هدى من تجارته غير مستحق للذم فيما اعتمده فنفى الله عز و جل عنهم الأمرين مبالغة في ذمهم
قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
هذه الآية نزلت في المنافقين والمثل بتحريك الثاء ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال وفي قوله تعالى استوقد قولان

أحدهما أن السين زائدة وأنشدوا ... وداع دعا يا من يجيب الى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب ...
أراد فلم يجبه وهذا قول الجمهور منهم الاخفش وابن قتيبة
والثاني ان السين داخلة للطلب أراد كمن طلب من غيره نارا
قوله تعالى فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في طلمات لا يبصرون
وفي أضاءت قولان أحدهما أنه من الفعل المتعدي قال الشاعر ... أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه ...
وقال آخر ... أضاءت لنا النار وجها أغر ... ملتبسا بالفؤاد التباسا ...
والثاني أنه من الفعل اللازم قال أبو عبيد يقال أضاءت النار وأضاءها غيرها وقال الزجاج يقال ضاء القمر وأضاء
وفي ما قولان أحدهما أنها زائدة تقديره أضاءت حوله والثاني أنها بمعنى الذي وحول الشئ ما دار من جوانبه والهاء عادة على المستوقد فان قيل كيف وحد فقال كمثل الذي استوقد ثم جمع فقال ذهب الله بنورهم فالجواب أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال إنما ضرب المثل للفعل لا لأعيان الرجال وهو مثل للنفاق وإنما قال ذهب الله بنورهم لأن المعنى ذاهب الى المنافقين فجمع لذلك قال ثعلب وقال غير الفراء معنى الذي الجمع وحد اولا للفظه وجمع بعد لمعناه كما قال الشاعر

فان الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم با أم خالد ...
فجعل الذي جمعا
فصل
اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين أحدهما أنه ضرب بكلمة الإسلام التي يلفظون بها ونورها صيانة النفوس وحقن الدماء فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وهذا المعنى موي عن ابن عباس والثاني أنه ضرب لإقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول فذهاب نورهم إقبالهم على الكافرين والضلال وهذا قول مجاهد
وفي المراد ب الظلمات ها هنا أربعة أقوال أحدها العذاب قاله ابن عباس والثاني ظلمة الكفر قاله مجاهد والثالث ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت قاله قتادة والرابع أنها نفاقهم قاله السدي
فصل
وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم
إحداها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه فاذا ذهبت تلك النار بقي في طلمة فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم كان نور إيمانهم كالمستعار
والثانية أن ضياء النار يحتاج في دوامه الى مادة الحطب فهو له كغذاء الحيوان فكذلك نور الإيمان يحتاج الى مادة الاعتقاد ليدوم

والثانية أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء فشبه حالهم بذلك
قوله تعالى صم بكم عمي
الصمم انسداد منافذ السمع وهو أشد من الطرش وفي البكم ثلاثة أقوال أحدها أنه الخرس قاله مقاتل وأبو عبيد وابن فارس والثاني أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق وقيل إن الخرس يحدث عنه والثالث أنه عيب في الفؤاد يمنعه ان يعي شيئا فيفهمه فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق ذكر هذين القولين شيخنا
قوله تعالى فهم لا يرجعون
فيه ثلاثة أقوال أحدها لا يرجعون عن ضلالتهم قاله قتادة ومقاتل والثاني لا يرجعون الى الإسلام قاله السدي والثالث لا يرجعون عن الصمم والبكم والعمى وإنما أضاف الرجوع إليهم لأنهم انصرفوا باختيارهم لغلبة أهوائهم عن تصفح الهدى بآلات التصفح ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة ولكونهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به كانوا كالصمم البكم والعرب تسمي المعرض عن الشئ أعمى والملتفت عن سماعه أصم قال مسكين الدارمي ... ما ضر جارا لي أجاوره ... ألا يكون لبابه ستر ... أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر ... وتصم عما بينهم أذني ... حتى يكون كأنه وقر ...
قوله تعالى أو كصيب من السماء أو حرف مردود على قوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا البقرة 17 واختلف العلماء فيه على ستة أقوال

أحدها انه داخل ها هنا للتخيير تقول العرب جالس الفقهاء أو النحويين ومعناه انت مخير في مجالسة أي الفريقين شئت فكأنه خيرنا بين أن نضرب لهم المثل الأول او الثاني
والثاني انه داخل للابهام فيما قد علم الله تحصيله فأبهم عليهم مالا يطلبون تفصيله فكأنه قال مثلهم كأحد هذين ومثله قوله تعالى فهي كالحجارة أو أشد قسوة البقرة 74 والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله قال لبيد ... تمنى ابتناي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا ألا من ربيعة أو مضر ...
أي هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين وقد فنيا فسبيلي أن أفنى كما فنيا
والثالث أنه بمعنى بل وأنشد الفراء ... بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها او انت في العين أملح ...
والرابع أنه للتفصيل ومعناه بعضهم يشبه بالذي استوقد نارا وبعضهم بأصحاب الصيب ومثله قوله تعالى كونوا هودا أو نصارى البقرة 135 معناه قال بعضهم وهم إليهود كونوا هودا وقال النصارى كونوا نصارى وكذا قوله فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون الأعراف 4 معناه جاء بعضهم بأسنا بياتا وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة
والخامس انه بمعنى الواو ومثله قوله تعالى أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم النور 61 قال جرير ... نال الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر ... 4
السادس أنه للشك في حق المخاطبين إذ الشك مرتفع عن الحق عز و جل ومثله قوله تعالى وهو أهون عليه الروم 37 يريد فالإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون

فأما التفسير لمعنى الكلام او كأصحاب صيب فأضمر الأصحاب لأن في قوله يجعلون أصابعهم في آذانهم دليلا عليه والصيب المطر قال ابن قبية هو فيعل من صاب يصوب إذا نزل من السماء وقال الزجاج كل نازل من علو الى استفال فقد صاب يصوب قال الشاعر ... كأنهم صابت عليهم سحابة ... صواعقها لطيرهن دبيب ...
وفي الرعد ثلاثة أقوال
أحدها انه صوت ملك يزجر السحاب وقد روي هذا المعنى مرفوعا الى النبي صلى الله عليه و سلم وبه قال ابن عباس ومجاهد وفي رواية عن مجاهد أنه صوت مل يسبح وقال عكرمة هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الابل
والثاني أنه ريح تختنق بين السماء والأرض وقد روي عن أبي الجلد أنه قال الرعد الريح واسم أبي الحلد جيلان بن أبي فروة البصري وقد روى عنه قتادة
والثالث انه اصطكاك أجرام السحاب حكاه شيخنا علي بن عبيد الله
وفي البرق ثلاثة أقوال
أحدها أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب روي هذا المعنى مرفوعا الى النبي صلى الله عليه و سلم وهو قول علي بن أبي طالب وفي رواية عن علي قال هو ضربة بمخراق من حديد وعن ابن عباس أنه ضربة بسوط من نور قال ابن الانباري المخاريق ثياب تلف ويضرب بها الصبيان بعضهم بعضا فشبه السوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق

قال عمرو بن كلثوم ... كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا ...
وقال مجاهد البرق مصع ملك والمصع الضرب والتحريك
الثاني ان البرق الماء قاله أبو الجلد وحكى ابن فارس أن البرق تلألؤ الماء
والثالث أنه نار تتقدح من اصطكاك اجرام السحاب لسيره وضرب بعضه لبعض حكاه شيخنا
والصواعق جمع صاعقة وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه وروي عن شهر بن حوشب أن الملك الذي يسوق السحاب إذا اشتد غضبه طار من فيه النار فهي الصواعق وقال غيره هي نار تنقدح من اصطكاك اجرام السحاب قال ابن قتيبة وإنما سميت صاعقة لأنها أصابت قتلت يقال صعقتهم أي قتلتهم
قوله تعالى والله محيط بالكافرين
فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا يفوته أحد منهم فهو جامعهم يوم القيامة ومثله قوله تعالى أحاط بكل شئ علما الطلاق 12 قاله مجاهد
والثاني أن الإحاطة الإهلاك مثل قوله تعالى وأحيط بثمره الكهف 42
والثالث أنه لا يخفى عليه ما يفعلون
قوله تعالى يكاد البرق يخطف أبصارهم يكاد بمعنى يقارب وهي كلمة إذا أثبتت انتفى الفعل وإذا نفيت ثبت الفعل وسئل بعض المتأخرين فقيل له ... أنحوي هذا العصر ماهي كلمة ... جرت بلساني جرهم وثمود ... إذا نفيت والله يشهد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود

ويشهد للاثبات عند النفي قوله تعالى لا يكادون يفقهون حديثا النساء 87 وقوله إذا أخرج يده لم يكد يراها النور 40 ومثله ولا يكاد يبين الزخرف 52 ويشهد للنفي عند الإثبات قوله تعالى يكاد البرق البقرة 20 و يكاد سنا برقه النور 43 و يكاد زيتها يضئ النور 35 وقال ابن قتيبة كاد بمعنى هم ولم يفعل وقد جاءت بمعنى الإثبات قال ذو الرمة ... ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه مي سافرا كاد يبرق ...
أي لو تعرضت له لبرق أي دهش وتحير
قلت وقد قال ذو الرمة في المنفية ما يدل على أنها تستعمل أنها تستعمل للاثبات وهو قوله ... اذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح ...
أراد لم يبرح
قوله تعالى يخطف أبصارهم
قرأ الجمهور بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الطاء وقرأ أبان بن تغلب وأبان ابن يزيد كلاهما عن عاصم بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء مخففا ورواه الجعفي عن أبي بكر عن عاصم بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الطاء وهي قرأءة الحسن كذلك إلا أنه كسر الياء وعنه فتح الياء والخاء مع كسر الطاء المشددة
ومعنى يخطف يستلب وأصل الاختطاف الاستلاب ويقال لما يخرج به الدلو خطاف لأنه يختطف ما علق به قال النابغة ... خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع ...
والحجن المتعقفة وجمل خيطف سريع المر وتلك السرعة الخطفى

قوله تعالى كلما أضاه لهم
قال الزجاج يقال ضاء الشئ يضوء وأضاء يضئ وهذه اللغة الثانية هى المختارة
فصل
واختلف العلماء ما الذي يشبه الرعد مما يتعلق بأحوال المنافقين على ثلاثة أقوال
أحدها أنه التخويف الذي في القرآن قاله ابن عباس
والثاني أنه ما يخافون أن يصيبهم من المصائب إذا علم النبي والمؤمنون بنفاقهم قاله مجاهد والسدي
والثالث انه ما يخافونه من الدعاء الى الجهاد وقتال من يبطنون مودنه ذكره شيخنا
واختلفوا ما الذي يشبه البرق من أحوالهم على ثلاثة أقوال أحدهما أنه ما يتبين لهم من مواعظ القرأن وحكمه
والثاني أنه ما يشئ لهم من نور إسلامهم الذي يظهرونه والثالث انه مثل لما ينالونه بإظهار الإسلام من حقن دمائهم فانه بالإضافة الى ما ذخر لهم في الأجل كالبرق
واختلفوا في معنى قوله يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق على قولين أحدهما أنهم كانوا يفرون من سماع القرآن لئلا يأمرهم بالجهاد مخالفة الموت قاله الحسن والسدي والثاني أنه مثل لإعراضهم عن القرآن كراهية له قاله مقاتل
واختلفوا في معنى كلما أضاء لهم مشوا فيه على أربعة أقوال
أحدها أن معناه كلما أتاهم القرأن بما يحبون تابعوه قاله ابن عباس والسدي

والثاني أن إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم فيسرعون الى متابعته قاله قتادة
والثالث انه تكلمهم بالاسلام ومشيهم فيه اهتداؤهم به فاذا تركواذلك وقفوا في ضلالة قاله مقاتل
والرابع أن إضاءته لهم تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان ومشيهم فيه إقامتهم على المسالمة باظهار ما يظهرونه ذكره شيخنا
فأما قوله تعالى وإذا أظلم عليهم فمن قال إضاءته إتيانه إياهم بما يحبون قال إظلامه إتيانه إياهم بما يكرهون وعلى هذا سائر الأقوال التي ذكرناها بالعكس
ومعنى قاموا وقفوا
قوله تعالى ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم قال مقاتل معناه لو شاء لأذهب أسماعهم وأبصارهم عقوبة لهم قال مجاهد من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة في نعت المنافقين
قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب على أربعة أقوال أحدها أنه عام في جميع الناس وهو قول ابن عباس
والثاني أنه خطاب لليهود دون غيرهم قاله الحسن ومجاهد والثالث أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم قاله السدي والرابع أنه خطاب للمنافقين وإليهود قاله مقاتل والناس اسم للحيوان الآدمي وسموا بذلك لتحركهم في مراداتهم والنوس الحركة وقيل سموا أناسا لما يعتريهم من النسيان

وفي المراد بالعبادة هاهنا قولان أحدهما التوحيد والثاني الطاعة رويا عن ابن عباس والخلق والإيجاد وإنما ذكر من قبلهم لأنه أبلغ في التذكير وأقطع للجحد وأحوط في الحجة وقيل إمنا ذكر من قبلهم لينبههم على الاعتبار بأحوالهم من إثابة مطيع ومعاقبة عاص
وفي لعل قولان
أحدهما أنها بمعنى كي وأنشدوا في ذلك ... وقلتم لنا كفوا الحروب لعنا ... نكف ووثقتم لنا كل موثق ... فلما كففنا الحرب كانت عهودكم ... كلمع سراب في الملا متألق ...
يريد لكي نكف و الى هذا المعنى ذهب مقاتل وقطرب وابن كيسان
والثاني أنها بمعنى الترجي ومعناها اعبدوا الله راجين للتقوى ولآن تقوا أنفسكم بالعبادة عذاب ربكم وهذا قول سيبويه قال ابن عباس لعلكم تتقون الشرك وقال الضحاك لعلكم تتقون النار وقال مجاهد لعلكم تطيعون
قوله تقالى الذي جعل لكم الأرض فراشا
إنما سميت الأرض أرضا لسعتها من قولهم أرضت القرحة إذا اتسعت
وقيل لانحطاطها عن السماء وكل ما سفل أرض وقيل لأن الناس يرضونها بأقدامهم وسميت السماء سماء لعلوها قال الزجاج وكل ما علا على الأرض فاسمه بناء وقال ابن عباس البناء هاهنا بمعنى السقف
قوله تعالى وأنزل من السماء يعني من السحاب
ماء معنى المطر

فلا تجعلوا لله أندادا يعني شركاء أمثالا يقال هذا ند هذا ونديده وفيما أريد بالأنداد هاهنا قولان أحدهما الأصنام قاله ابن زيد والثاني رجال كانوا يطيعونهم في معصية الله قاله السدي
قوله تعالى وأنتم تعلمون
فيه ستة أقوال
أحدهما وأنتم تعلمون أنه خلق السماء وأنزل الماء وفعل ما شرحه في هذه الآيات وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وقتادة و مقاتل
الثاني وانتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والانجيل روي عن ابن عباس أيضا وهو يخرج على قول من قال الخطاب لأهل الكتاب
والثالث وأنتم تعلمون انه لا ند له قاله مجاهد
والرابع أن العلم هاهنا بمعنا العقل قاله ابن قتبية
والخامس وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه ذكره شيخنا علي بن عبيد الله
والسادس وأنتم تعلمون أنها حجارة سمعته من الشسيخ أبي محمد بن الخشاب
قوله تعالى وإن كنتم في ريب
سبب نزلوها أن إليهود قالوا هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه فنزلت هذه الآية وهذا مروي عن ابن عباس ومقاتل و إن ها هنا لغير شك لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون ولكن هذا عادة العرب يقول الرجل لابنه إن كنت ابني فأطعني وقيل إنها هاهنا بمعنى إذ قال أبو زيد ومنه قوله تعالى وذروا ما بقي من الربى إن كنتم مؤمين البقرة 278

قوله تعالى فأتوا بسورة من مثله قال ابن قتيبة السورة تهمز و لا تهمز فمن همزها جعلها من أسأرت يعني أفضلت لأنها قطعة من القرآن ومن لم يهمزها جلعها من سورة البناء أي منزلة بعد منزلة قال النابغة في النعمان ... ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب ...
والسورة في هذا البيت سورة المجد وهي مستقارة من سورة البناء وقال ابن الأنباري قال أبو عبيدة إنما سميت السورة سورة لأنه يرتفع فيها من منزلة الى منزلة مثل سورة البناء معنى أعطاك سورة أي منزلة شرف ارتفعت إليها عن منازل الملوك قال ابن القاسم ويجوز أن تكون سميت سورة لشرفها تقول العرب له سورة في المجد أي شرف وارتفاع او لأنها قطعة من القرآن من قولك أسأرت سؤرا أي أبقيت بقية وفي هاء مثله قولان أحدهما أنها تعود على القرآن المنزل قاله قاله قتادة والفراء و مقاتل والثاني أنها تعود على النبي صلى الله عليه و سلم فيكون التقدير فأتوا بسورة من مثل هذا العبد الأمي ذكره أبو عبيدة والزجاج وابن القاسم فعلى هذا القول تكون من لا بتداء الغاية وعلى الأول تكون زائدة
قوله تعالى وادعوا شهداءكم من دون الله
فيه قولان أحدهما أن معناه اسعينوا من المعونة قاله السدي والفرء والثاني استغيثوا من الاستغانة وأنشدوا ... فلما التقت فرساننا ورجالهم ... دعوا يال كعب واعتزينا لعامر ...
وهذا قول ابن قتيبة

وفي شهدائهم ثلاثة أقوال
أحدهما أنهم آلهتم قاله ابن عباس والسدي و مقاتل والفراء قال ابن قتيبة وسموا شهداء لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم وقال غيره لأنهم عيدوهم ليشهدوا لهم عند الله
و الثاني أنهم أعوانهم روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أن معناه قأتوا بناس يشهدون ما تأتون به مثل القرأن روي عن مجاهد
قوله تعالى إن كنتم صادقين أي في قولكم إن هذا القرأن ليس من عند الله قاله ابن عباس
قوله تعالى فان لم تفعلوا في هذه الآية مضمر مقدر يقتضي الكلام تقديمه وهو انه لما تحداهم بما في الآية الماضية من التحدي فسكتوا عن الإجابة قال فان لم تفعلوا وفي قوله تعالى ولن تفعلوا أعظم دلالة على صحة نبوة نبينا لأنه أخبر أنهم لا يفعلون ولم يفعلوا
قوله تعالى فأتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين
والوقود بفتح الواو الحطب وبضمها التوقد كالوضوء بالفتح الماء وبالضم المصدر وهو اسم حركات المتوضئ وقرأ الحسن و قتادة وقودها بضم الواو والاختيار الفتح والناس أو قدوا فيها بطريق العذاب والحجارة لبيان قوتها وشدتها إذ هي محرقة للحجارة وفي هذه الحجارة قولان احدهما أنها أصنامهم التي عبدوها قاله الربيع بن أنس والثاني أنها حجارة الكبريت وهي أشد الأشياء حرا إذا أحميت يعذبون بها ومعنى اعدت هيئت وإنما خوفهم بالنار إذا لم يأتوا بمثل القرآن لأنهم إذا كذبوه وعجزوا عن الاتيان بمثله ثبتت عليهم الحجة وصار الخلاف عنادا وجزاء المعاندين النار

قوله تعالى وبشر الذين آمنوا
البشارة أول خبر يرد على الإنسان وسمي بشارة لأنه يؤثر في بشرته فان كان خيرا أثره المسرة والإنبساط وإن شرا أثر الانجماع والغم والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير وقد تستعمل في الشر ومنه قوله تعالى بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما النساء 138
قوله تقالى وعملوا الصالحات
يشمل كل عمل صالح وقد روي عن عثمان بن عفان أنه قال أخلصوا الأعمال
وعن على رضي الله عنه أنه قال أقاموا الصلوات المفروضات فأما الجنات فجمع جنة وسميت الجنة جنة لاستتار أرضها بأشجارها وسمي الجن جنا لاستتارهم والجنين من ذلك والدرع جنة وجن الليل إذا ستر وذكر عن المفضل أن الجنة كل بستان فه نخل وقال الزجاج كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضا فهو جنة
قوله تعالى تجري من تحتها أي من تحت شجرها لا من تحت أرضها
قوله تعالى هذا الذي رزقنا من قبل فيه ثلاثة أقوال
أحدها ان معناه هذا الذي طعمنا من قبل فرزق الغداة كرزق العشيء روي عن ابن عباس والضحاك و مقاتل
والثاني هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا قاله مجاهد وابن زيد
والثالث أن ثمر الجنة إذا جني خلفه مثله فاذا لأوا ما خلف الجنى اشتبه عليهم فقالوا هذا الذي رزقنا من قيل قاله يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة

قوله تعالى وأتوا به متشابها
فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه متشابه في المنظر واللون مختلف في الطعم قاله مجاهد وابو العالية والضحاك والسدي و مقاتل
والثاني انه متشابه في جودته لا ردئ فيه قاله الحسن وابن جريج
والثالث أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم غير أنه أحسن في المنظر والطعم قاله قتادة وابن زيد فان قال قائل ما وجه الامتنان بمتشابهه وكلما تنوعت المطاعم واختلفت الوانها كان أحسن فالجواب أنا إن قلنا إنه متشابه المنظر مختلف الطعم كان أغرب عند الخلق وأحسن فانك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفاكهة كان نهاية في العجب وإن قلنا إنه متشابه في الجودة جاز اختلافه في الألوان والطعوم وإن قلنا إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني كان اطرف وأعجب وكل هذه مطالب مؤثرة
قوله تعالى ولهم فيها أزواج مطهرة أي في الخلق فانهن لا يحصن ولا يبلن ولا يأتين الخلاء وفي الخلق فانهن لا يحسدن و لايغرن ولا ينظرن الى غير أزواجهن
قال ابن عباس نقية عن القذى والأذى قال الزجاج ومطهرة أبلغ من طاهرة لأنه للتكثير والخلود البقاء الدائم الذي لا انقطاع له
قوله تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا
في سبب نزولها قولان
أحدهما أنه نزل قوله تعالى ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له الحج 73 ونزل قوله كمثل العنكبوت

اتخذت بيتا العنكبوت 41 قالت إليهود وما هذا من الأمثال فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس والحسن وقتادة و مقاتل والفراء
والثاني انه لما ضرب الله المثلين المتقدمين وهما قوله تقالى كمثل الذي استوقد نارا البرقة 17 وقوله أو كصيب من السماء البقرة 19 قال المنافقون الله أجل وأعلى من ان يضرب هذه الأمثال فنزلت هذه الآية رواه السدي عن أشياخه وروي عن الحسن و مجاهد نحوه
والحياء بالمد الانقباض والاحتشام غير أن صفات الحق عز و جل لا يطلع لها على ماهية وإنما تمر كما جاءت وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم إن ربكم حيي كريم وقيل معنى لا يستحيي لا يترك وحكى ابن جرير الطبري عن بعض اللغويين أن معنى لا يستحيي لا يخشى ومثله وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه الأحزاب 37 أي تستحيي منه فالاستحياء والخشية ينوب كل واحد منهما عن الآخر وقرأ مجاهد وابن محيصن لا يستحي بياء واحدة وهي لغة
قوله تعالى أن يضرب مثلا
قال ابن عباس أن يذكر شبها واعلم أن فائدة المثل أن يبين للمضروب له الأمر الذي ضرب لأجله فينجلي غامضه
قوله تعالى ما بعوضه
ما زائدة وهذا اختيار أبي عبيدة والزجاج والبصريين وانشدوا للنابغة ... قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... الى حمامتنا أو نصفه فقد ...
وذكر ابو جعفر الطبري أن المعنى ما بين بعوضة الى ما فوقها ثم حذف ذكر بين و الى إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في ما الثانية دلالة عليهما كما قالت

العرب مطرنا مازبالة فالثعلبية وله عشرون ما ناقة فجملا وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما يعنون ما بين قرنها الى قدمها وقال غيره نصب البعوضة على البدل من المثل
وروى الأصمعي عن نافع بعوضة بالرفع على إضمار هو والبعوضة صفيرة البق
قوله تعالى فما فوقها فيه قولان
أحدهما أن معناه فما فوقها في الكبر قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج والفراء
والثاني فما فوقها في الصغر فيكون معناه فما دونها قاله أبو عبيدة
قال ابن قتيبة وقد يكون الفوق بمعنى دون وهو من الأضداد ومثله الجون يقال للأسود والأبيض والصريم الصبح والليل والسدفة الظلمة والضوء والحلل الصغير والكبير والناهل العطشان والريان والمائل القائم واللاطئ بالأرض والصارخ المغيث والمستغيث والهاجد المصلي بالليل والنائم والروهة الارتفاع والانحدار والتلعة ما ارتفع من الارض وما انهبط من الارض والظن يقين وشك والاقرأء الحيض والاطهار والمفرع في الجبل المصعد والمنحدر والوراء خلفا وقداما وأسررت الشئ أخفيته وأعلنته وأخفيت الشئ اظهرته وكتمته ورتوت الشئ شددته وأرخيته وشعبت الشئ جمعته وفرقته وبعت الشئ بمعنى بعته واشتريته وشربت الشئ اشتريته وبعته والحي خلوف غيب ومختلفون
واختلفوا في قوله يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا هل هو من تمام قول الذين قالوا ماذا أراد الله بهذا مثلا البقرة 26 أو هو مبتدأ من كلام الله عز و جل على قولين

أحدهما أنه تمام الكلام الذي قبله قاله الفراء وابن قتيبة قال الفراء كأنهم قالوا ماذا اراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضل به هذا ويهدي به هذا ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله فقال الله وما يضل به إلا الفاسقين البقرة 26
والثاني أنه مبتدأ من قول الله تعالى قاله السدي ومقاتل
فأما الفسق فهو في اللغة الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها فالفاسق الخارج عن طاعة الله الى معصيته
وفي المراد بالفاسقين هاهنا ثلاثة أقوال احدها أنهم إليهود قاله أبن عباس ومقاتل والثاني المنافقون قاله أبو العالية والسدي والثالث جميع الكفار
قوله تعالى الذين ينقضون عهد الله
هذه صفة للفاسقين وقد سبقت فيهم الأقوال الثلاثة والنقض ضد الإبرام ومناه حل الشئ بعد عقده وينصرف النقض الى كل شئ بحسبه فنقض البناء تفريق جمعه بعد إحكامه ونقض العهد الإعراض عن المقام على أحكامه
وفي هذا العهد ثلاثة أقوال
احدها أنه ما عهد الى أهل الكتاب من صفة محمد صلى الله عليه و سلم والوصية باتباعه قاله ابن عباس و مقاتل
والثاني أنه ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا قاله السدي
والثالث أنه الذي أخذه عليهم حين استخرج ذرية آدم من ظهره قاله الزجاج ونحن وإن لم نذكر ذلك العهد فقد ثتب بخبر الصادق فيجب الايمان به
وفي من قولان أحدهما أنها زائدة والثاني أنها لابتداء الغاية كأنه قال ابتداء نقض العهد من بعد ميثاقه وفي هاء ميثاقه قولان أحدهما أنها ترجع الى الله تعالى والثاني أنها ترجع الى العهد فتقديره بعد إحكام التوفيق فيه

وفي الذي أمر الله أن يوصل ثلاثة أقوال أحدها الرحم والقرابة قاله ابن عباس وقتادة والسدي والثاني أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم قطعوه بالتكذيب قاله الحسن والثالث الإيمان بالله وأن لا يفرق بين أحد من رسله فآمنوا ببعض وكفروا بعض قاله مقاتل
وفي فسادهم في الأرض ثلاثة أقوال أحدها أنه استدعاؤهم الناس الى الكفر قاله ابن عباس والثاني أنه العمل بالمعاصي قاله السدي و مقاتل والثالث أنه قطعهم الطريق على من جاء مهاجرا الى النبي صلى الله عليه و سلم ليمنعوا الناس من الاسلام
والخسران في اللغة لنقصان
قوله تعالى كيف تكفرون بالله في كيف قولان
أحدهما أنه استفهام في معنى التعجب وهذا التعجب للمؤمنين أي اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون وقد ثبتت حجة الله عليهم قاله ابن قتيبة والزجاج
والثاني أنه استفهام خارج مخرج التقرير والتوبيخ تقديره ويحكم كيف تكفرون بالله قال العجاج ... أطربا وأنت قنسري ... والدهر بالانسان دواري ...
أراد أتطرب وأنت يشخ كبير قاله ابن الانباري
قوله تعالى وكنتم أمواتا
قال الفراء أي وقد كنتم أمواتا ومثله أو جاؤوكم حصرت صدورهم النساء 90 أي قد حصرت ومثله إن كان قميصه قد من دبر فكذبت يوسف 26 أي فقد كذبت ولولا إضمار قد لم يجز مثله في الكلام
وفي الحياتين والموتتين اقوال أصحها أن الموتة الأولى كونهم نطفا وعلقا

ومضغا فأحياهم في الأرحام ثم يميتهم بعد خروجهم الى الدنيا ثم يحييهم للبعث يوم القيامة وهذا قول ابن عباس وقتادة و مقاتل والفراء وثعلب والزجاج وابن قتيبة وابن الانباري
قوله تعالى هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا أي لأجلكم فبعضه للانتفاع وبعضه للاعتبار
ثم استوى الى السماء أي عمد الى خلقها والسماء لفظها لفظ الواحد ومعناها معنى الجمع بدليل قوله فسواهن
وأيها أسبق في الخلق الأرض ام السماء فيه قولان أحدهما الأرض قاله مجاهد والثاني السماء قاله مقاتل
واختلفوا في كيفية تكميل خلق الأرض وما فيها فقال ابن عباس بدأ بخلق الارض في يومين ثم خلق السموات في يومين وقدر فيها أقواتها في يومين وقال الحسن و مجاهد جمع خلق الارض وما فيها في أربعة أيام متوالية ثم خلق السماء في يومين
والعليم جاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم
قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة
كان أبوا عبيدة يقول إذ ملغاة وتقدير الكلام وقال ربك وتابعه ابن قتيبة وعاب ذلك عليهما الزجاج وابن القاسم وقال الزجاج إذ معناها الوقت فكأنه قال ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة
والملائكة من الألوك وهي الرسالة قال لبيد ... وغلام أرسلته أمه ... بألوك فبذلنا ما سأل ...
وواحد الملائكة ملك والاصل فيه ملأك وأنشد سيبويه

فلست لإنسي ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب ...
قال أبو إسحاق ومعنى ملأك صاحب رسالة يقال مألكة ومألكة وملأكة ومآلك جمع مألكة قال الشاعر ... أبلغ النعمان عني مألكا ... أنه قد طال حبسي وانتظاري ...
وفي هؤلاء الملائكة قولان أحدهما أنهمن جميع الملائكة قاله السدي عن أشياخه والثاني أنهم الذين كانوا مع إبليس حين أهبط الى الأرض ذكره أبو صالح عن ابن عباس
ونقل أنه كان في الأرض قبل آدم خلق فأفسدوا فبعث الله إبليس في جماعة من الملائكة فأهلكوهم
واختلفوا ما المقصود في إخبار الله عز و جل الملائكة بخلق آدم على ستة أقوال
أحدها أن الله تعالى علم في نفس إبليس كبرا فأحب أن يطلع الملائكة عليه وأن يظهر ما سبق عليه في علمه رواه الضحاك عن ابن عباس والسدي عن أشياخه
والثاني أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة قاله الحسن
والثالث أنه لما خلق النار خافت الملائكة فقالوا ربنا لمن خلقت هذه قال لمن عصاني فخافوا وجود المعصية منهم وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم فقال لهم إني جاعل في الأرض خليفة البقرة 30 قاله ابن زيد
والرابع أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه فأخبرهم حتى قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها فاجابهم إني أعلم ما لا تعلمون
والخامس أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده ليكونوا معظمين له إن أوجده

والسادس أنه أراد إعلامهم بانه خلقه ليسكنه الارض وإن كانت ابتداء خلقه في السماء
والخليفة هو القائم مقام غيره يقال هذا خلف فلان وخليفته قال ابن الانباري والاصل في الخيلفة خليف بغير هاء فدخلت الهاء للمبالغة في مدحه بهذا الوصف كما قالوا علامة ونسابة وراوية وفي معنى خلافة آدم قولان
أحدهما انه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه ودلائل توحيده والحكم في خلقه وهذا قول ابن مسعود و مجاهد
والثاني انه خلف من سلف في الارض قبله وهذا قول ابن عباس والحسن
قوله تعالى أتجعل فيها من يفسد فيها
فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن ظاهر الالف الاستفهام دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق قال جرير ... ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح ...
معناه أنتم خير من ركب المطايا
والثاني انهم قالوه لاستعلام وجه الحكمةة لا على وجه الاعتراض ذكره الزجاج
والثالث أنهم سألوا عن حال أنفسهم فتقديره أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك أم لا
وهل علمت الملائكة أنهم يفسدون بتوقيف من الله تعالى أم قاسوا على حال من قبلهم فيه قولان
أحدهما أنه بتوقيف من الله تعالى قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن و مجاهد وقتادة وابن زيد وابن قتيبة وروى السدي عن أشياخه أنهم قالوا ربنا وما يكون

ذلك الخليفة قال يكون له ذرية يفسدون في الارض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا فقالوا اتجعل فيها من يفسد فيها
والثاني أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية و مقاتل
قوله تعالى ويسفك الدماء
قرأ الجمهور بكسر الفاء وضمها ابن مصرف وابراهيم بن أبي عبلة وهما لغتان وروي عن طلحة وابن مقسم ويسفك بضم الياء وفتح السين وتشديد الفاء مع كسرها وهي لتكثير الفعل وتكريره وسفك الدم صبه وإراقته وسفحه وذلك مستعمل في كل مضيع إلا أن السفك يختص الدم والصب والسفح والإراقة يقال في الدم وفي غيره
وفي معنى تسبيحهم أربعة أقوال أحدها أنه الصلاة قاله ابن مسعود وابن عباس والثاني انه قوله سبحان الله قاله مقتادة والثالث أنه التعظيم والحمد قاله أبو صالح والرابع انه الخضوع والذل قاله محمد بن القاسم الانباري
قوله تعالى ونقدس لك
القدس الطهارة وفي معنى تقديسهم ثلاثة أقوال أحدها أن معناه نتطهر لك من أعمالهم قاله ابن عباس والثاني نعظمك ونكبرك قاله مجاهد والثالث نصلي لك قاله قتادة
قوله تعالى إني أعلم ما لا تعلمون
فيه أربعة أقوال أحدها ان معناه أعلم ما في نفس إبليس من البغى والمعصية قاله ابن عباس و مجاهد والسدي عن أشياخه والثاني أعلم أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء

وصالحون قاله قتادة والثالث أعلم أني أملأ جهنم من الجنة والناس قاله ابن زيد
والرابع أعلم عواقب الامور فانا أبتلي من تظنون أنه مطيع فيؤديه الابتلاء الى المعصية كابليس ومن تظنون به المعصية فيطيع قاه الزجاج
الإشارة الى خلق آدم عليه السلام
روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الله عز و جل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الارض منهم الاحمر والأبيض والاسود وبين ذلك والسهل والحزن وبين ذلك والخبيث والطيب قال الترمذي هذا حديث صحيح وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعا وأخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي ص - أنه قال خلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ما بين العصر الى الليل قال ابن عباس لما نفخ فيه الروح أتته النفخة من قبل رأسه فجعلت لا تجري منه في شئ إلا صار لحما ودما
قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها
في تسمية آدم قولان أحدهما لأنه خلق من أديم الارض قاله ابن عباس وابن جبير و الزجاج والثاني انه من الأدمة في اللون قاله الضحاك والنضر بن شميل وقطرب
وفي الاسماء التي علمه قولان أحدهما أنه علمه كل الاسماء وهذا قول ابن عباس

وسعيد بن جبير و مجاهد وقتادة والثاني انه علمه أسماء معدودة لمسميات مخصوصة ثم فيها أربعة أقوال احدها أنه علمه أسماء الملائكة قاله أبو القالية والثاني أنه علمه أسماء الاجناس دون أنواعها كقولك إنسان وملك وجني وطائر قاله عكرمة والثالث انه علمه أسماء ما خلق من الارض من الدواب والهوام والطير قال الكلبي و مقاتل وابن قتيبة والرابع أنه علمه أسماء ذريه قاله ابن زيد
قوله تعالى ثم عرضهم
يريد أعيان الخلق على الملائكة قال ابن عباس الملائكة هاهنا هم الذين كانوا مع إبليس خاصة
قوله تعالى أنبئوني أخبروني
قوله تعالى إن كنتم صادقين
فيه قولان أحدهما إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا هو أفضل منكم وأعلم قاله الحسن والثاني أني أجعل فيها من يفسد فيها قاله السدي عن أشياخه
قوله تعالى قالوا سبحانك
قال الزجاج لا اختلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو التنزيه لله تعالى عن كل سوء والعليم بمعنى العالم جاء على بناء فعيل للمبالغة وفي الحكيم قولان أحدهما أنه بمعنى الحاكم قاله ابن قتيبة والثاني المحكم للأشياء قاله الخطابي
قوله تعالى قال يا آدم أنبئهم أي أخبرهم وروي عن ابن عباس أنبئهم بكسر الهاء قال أبو علي قرأءة الجمهور على الأصل لأن أصل هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه ألا ترى أنك تقول ضربهم وأبناءهم وهذا لهم ومن كسر أتبع كسر الهاء التي قبلها وهي كسرة الباء والهاء والميم تعود على الملائكة وفي الهاء والميم

من أسمائهم قولان أحدهما أنها تعود على المخلوقات التي عرضها قاله الاكثرون
والثاني أنها تعود على الملائكة قاله الربيع بن أنس
وفي الذي أبدوه قولان أحدهما أنه قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ذكره السدي عن أشياخه والثاني أنه ما أظهروه من السمع والطاعة لله حيث مروا على جسد آدم فقال إبليس إن فضل هذا عليكم ما تصنعون فقالوا نطيع ربنا فقال إبليس في نفسه لئن فضلت عليه لأهلكنه ولئن فضل علي لأعصينه قاله مقاتل
وفي الذي كتموه قولان أحدهما أنه اعتقاد الملائكة أن الله تعالى لا يخلق خلقا أكرم منهم قاله الحسن وأبو العالية وقتادة والثاني أنه ما أسره إبليس من الكبر والعصيان وراه السدي عن أشياخه وبه قال مجاهد وابن جبير و مقاتل
قوله تعالى وإذا قلنا للملائكة اسجدوا
عامة القرأء على كسر التاء من الملائكة وقرأ أبو جعفر والأعمش بضمها في الوصل قال الكسائي هي لغة أزدشنوءة
وفي هؤلاء الملائكة قولان أحدهما أنهم جميع الملائكة قاله السدي عن أشياخه والثاني أنهم طائفة من الملائكة روي عن ابن عباس والاول أصح
والسجود في اللغة التواضع والخضوع وأنشدوا ... ساجد المنخر ما يرفعه ... خاشع الطرف أصم المستمع ...
وفي صفة سجودهم لآدم قولان أحدهما أنه على صفة سجود الصلاة وهو الأظهر
والثاني أنه الانحناء والميل المساوي للركوع

قوله تعالى إلا إبليس
في هذا الاستثناء قولان
أحدهما أنه استثناء من الجنس فهو على هذا القول من الملائكة قاله ابن مسعود في رواية وابن عباس وقد روي عن ابن عباس أنه كان من الملائكة ثم مسخه الله تعالى شيطانا والثاني أنه من غير الجنس فهو من الجن قاله الحسن والزهري قال ابن عباس كان إبليس من خزان الجنة وكان يدير أمر السماء الدنيا فإن قيل كيف استثني وليس من الجنس فالجواب أنه أمر بالسجود معهم فاستثي منهم لأنه لم يسجد وهذا كما تقول أمرت عبدي وإخوتي فأطاعوني إلا عبدي هذا قول الزجاج
وفي إبليس قولان أحدهما اسم أعجمي ليس بمشتق ولذلك لا يصرف هذا قول أبي عبيدة و الزجاج وابن الانباري والثاني انه مشتق من الإبلاس وهو اليأس روي عن أبي صالح وذكره ابن قتيبة وقال إنه لم يصرف لآنه لا سمي له فاستثقل قال شيخنا أبو منصور اللغوي والأول أصح لأنه لو كان من الإبلاس لصرف ألا ترى أنك لو سميت رجلا بإخريط وإجفيل لصرف في المعرفة
قوله تعالى أبى معناه امتنع واستكبر استفعل من الكبر وفي وكان قولان أحدهما انها بمعنى صار قاله قتادة والثاني أنها بمعنى الماضي فمعناه كان في علم الله كافرا قاله مقاتل وابن الانباري
قوله تعالى وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة زوجه حواء قال الفراء أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل زوج ويجمعونها الازواج وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون زوجة ويجمعونها زوجات

قال الشاعر ... فان الذي يسعى يحرش زوجتي ... كماش الى أسد الشرى يستبيلها ...
وانشدني أبو الجراح ... يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم ... أن ليس وصل اذا انحلت عرى الذنب ...
وفي الجنة التي أسكنها آدم قولان أحدهما جنة عدن والثاني جنة الخلد
والرغد الرزق الواسع الكثير يقال أرغد فلان إذا صار في خصب وسعة
قوله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة أي بالاكل لا بالدنو منها
في الشجرة ستة أقوال
احدها أنها السنبلة وهو قول ابن عباس وعبد الله بن سلام وكعب الاحبار ووهب بن منبه وقتادة وعطية العوفي ومحارب بن دثار و مقاتل
والثاني أنها الكرم روي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة وبن هبير
والثالث أنها التين روي عن الحسن وعطاء بن أبي رباح وابن جريج
والرابع أنها شجرة يقال لها شجرة العلم قاله أبو صالح عن ابن عباس
والخامس انها شجرة الكافور نقل عن علي بن أبي طالب
والسادس انها النخلة روي عن أبي مالك
وقد ذكروا وجها سابعا عن وهب بن منبه أنه قال هي شجرة الخلد وإنما الكلام على جنسها

قوله تعالى فتكونا من الظالمين
قال ابن الانباري الظلم وضع الشئ في غير موضعه ويقال ظلم الرجل سقاءه اذا سقاه قبل أن يخرج زبده وقال الشاعر ... وصاحب صدق لم تربني شكاته ... ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر ...
أراد بالصاحب وطب اللبن وظلمه إياه أن يسقيه قبل أن يخرج زبده
والعرب تقول هو أظلم من حية لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفرة فتسكنه ويقال قد ظلم الماء الوادي إذا وصل منه الى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى فان قيل ما وجه الحكمة في تخصيص تلك الشجرة بالنهي فالجواب أنه ابتلاء من الله تعالى بما أراد وقال أبوا العالية كان لها ثقل من بين أشجار الجنة فلما أكل منها قيل اخرج الى الدار التي تصلح لما يكون منك
قوله تعالى فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه
أزلهما بمعنى استزلهما وقرأ حمزة فأزالهما أراد نحاهما قال أبو علي الفارسي لما كان معنى اسكن أنت وزجك الجنة اثبتا فيها فثبتا قابل حمزة الثبات بالزوال الذي يخالفه ويقوي قرأءته فأخرجهما
والشيطان إبليس وأضيف الفعل إليه لأنه السبب وفي هاء عنها ثلاثة أقوال أحدها أنها تعود الى الجنة والثاني ترجع الى الطاعة والثالث ترجع الى الشجرة فمعناه فأزلهما بزلة صدرت عن الشجرة
وفي كيفية إزلاله لهما ثلاثة أقوال أحدها أنه احتال حتى دخل إليهما الجنة وكان الذي أدخله الحية قاله ابن عباس والسدي والثاني انه وقف على باب الجنة وناداهما قاله الحسن والثالث أنه وسوس إليهما وأوقع في نفوسهما من غير مخاطبة

ولا مشاهدة قاله ابن إسحاق وفيه بعد قال الزجاج الأجود ان يكون خاطبها لقوله وقاسمهما
واختلف العلماء في معصية آدم بالاكل فقال قوم إنه نهي عن شجرة بعينها فأكل من جنسها وقال آخرون تأول الكراهة في النهي دون التحريم
قوله تعالى وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين الهبوط بضم الهاء الانحدار من علو وبفتح الهاء المكان الذي يهبط فيه والى من انصرف هذا الخطاب فيه ستة اقوال أحدها أنه انصرف الى آدم وحواء والحية قاله أبو صالح عن ابن عباس والثاني الى آدم وحواء وإبليس والحية حكاه السدي عن ابن عباس والثالث الى آدم وإبليس قاله مجاهد والرابع الى آدم وحواء وإبليس قاله مقاتل والخامس الى آدم وحواء وذريتهما قاله الفراء والسادس الى آدم وحواء فحسب ويكون لفظ الجمع واقعا على التثنية كقوله وكنا لحكمهم شاهدين الأنبياء 78 ذكره ابن الانباري وهو العلة في قول مجاهد أيضا
واختلف العلماء هل أهبطو جملة أو متفرقين على قولين
أحدهما أنهم أهبطوا جملة لكنهم نزلوا في بلاد متفرقة قاله كعب ووهب
والثاني أنهم أهبطوا متفرقي نهبط إبليس قبل آدم وهبط آدم بالهند وحواء بجدة وإبليس بالأبلة قاله مقاتل وروي عن ابن عباس أنه قال أهبطت الحية بنصيبين قال وأمر الله تعالى جبريل باخراج آدم فقبض على ناصيته وخلصه من الشجرة التي قبضت عليه فقال أيها الملك ارفق بي قال جبريل إني لا أرفق بمن عصى الله فارتعد آدم واضطرب وذهب كلامه وجبريل يعاتبه في معصيته ويعدد نعم الله عليه قال

وأدخل الجنة ضحوة واخرج منها بين الصلاتين فمكث فيها نصف يوم خمسمائة عام مما يعد أهل الدنيا
وفي العداوة المذكرة هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أن ذرية بعضهم أعداء لبعض قاله مجاهد والثاني أن إبليس عدو لآدم وحواء وهما له عدو قاله مقاتل والثالث أن إبليس عدو للمؤمنين وهم أعداؤه قاله الزجاج
وفي المستقر قولان أحدهما أن المراد به القبور حكاه السدي عن ابن عباس والثاني موضع الاسقرار قاله أبو العالية وابن زيد و الزجاج وابن قتيبة وهو أصح
والمتاع المنفعة والحين الزمان قال ابن عباس الى حين أي الى فناء الأجل بالموت
قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم
تلقى بمعنى أخذ وقبل قال ابن قتبية كأن الله تعالى أوحى إليه ان يستغفره وسيتقبله بكلام من عنده ففعل ذلك آدم فتاب عليه وقرأ ابن كثير فتلقى آدم بالنصب كلمات بالرفع على أن الكلمات هي الفاعلة
وفي الكلمات أقوال
أحدها أنها قوله تعالى ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين الأعراف 23 قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير و مجاهد وعطاء الخارساني وعبيد بن عمير وأبي بن كعب وابن زيد
والثاني أنه قال أي رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال ألم تنفخ في من روحك قال بلى قال ألم تسبق رحمتك الي قبل غضبك قال بلى قال ألم

تسجد لي ملائكتك وتسكني جنتك قال بلى قال أي رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت الى الحنة قال نعم حكاه السدي عن ابن عباس
والثالث أنه قال اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني فأنت خير الراحمين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وقد ذكرت أقوال من كلمات الاعتذار تقارب هذا المعنى
قوله تعالى فتاب عليه
أصل التوبة الرجوع فالتوبة من آدم رجوعه عن المعصية وهي من الله تقالى رجوعه عليه بالرحمة والثواب الذي كلما تكررت توبة العبد تكرر قبوله وإنما لم تذكر حواء في التوبة لأنه لم يجر لها ذكر لا أن توبتها لم تقبل وقال قوم إذا كان معنى قعل الاثنين واحد جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما كقوله تعالى والله ورسوله أحق أن يرضوه التوبة 63 وقوله فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى طه 117
قوله تعالى قلنا اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكما مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
في إعادة ذكر الهبوط وقد تقدم قولان
أحدهما أنه أعيد لأن آدم أهبط إهباطين احدهما من الجنة الى السماء والثاني من السماء الى الأرض وأيهما الاهباط المذكور في هذه الآية فيه قولان
والثاني أنه إنما كرر الهبوط توكيدا

قوله تعالى فاما قال الزجاج هذه إن التي للجزاء ضمت إليها ما والأصل في اللفظ إن ما مفصولة ولكنها مدغمة وكتبت على الإدغام فاذا ضمت ما لى إن لزم الفعل النون الثقيلة أو الخفيفة وإنما تلزمه النون لأن ما تدخل مؤكدة ودخلت النون مؤكدة أيضا كما لزمت اللام النون في القسم في قولك والله لتفعلن وجواب الجزاء الفاء
وفي المراد بالهدى هاهنا قولان أحدهما أنه الرسول قاله ابن عباس و مقاتل والثاني الكتاب حكاه بعض المفسرين
قوله تعالى فلا خوف علهم
وقرأ يعقوب فلا خوف بفتح الفاء من غير تنوين وقرأ ابن محيصن بضم الفاء من غير تنوين والمعنى فلا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ولا هم يحزنون عند الموت والخوف لأمر مستقبل والحزن لأمر ماض
قوله تعالى والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون في معنى الآية ثلاثة أقوال
أحدها أنها العلامة فمعنى آية علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها والذي بعدها قال الشاعر ... ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما ...
وقال النابغة ... توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع ...
وهذا اختيار أبي عبيد
والثاني أنها سميت آية لأنها جماعة حروف من القرأن وطائفة منه قال أبو عمرو الشيباني يقال خرج القوم بآياتهم أي بجماعتهم وأنشدوا ... خرجنا من النقبين لا حي مثلنا ... بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا

والثالث أنها سميت آية لأنها عجب وذلك أن قارئها يستدل إذا قرأها على مباينتها كلام المخلوقين وهذا كما تقول فلان آية من الآيات أي عجب من العجائب ذكره ابن الانباري
في المراد بهذه الآيات أربعة أقوال
أحدها آيات الكتب التي تتلى والثاني معجزات الأنبياء والثالث القرأن والرابع دلائل الله في مصنوعاته وأصحاب النار سكانها سموا أصحابا لصحتبهم إياها بالملازمة
قوله تعالى يا بني اسرائيل اذكروا نعمتى التي أنعمت عليكم واوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون
اسرائيل هو يعقوب وهو اسم أعجمي قال ابن عباس ومعناه عبد الله وقد لفظت به العرب على اوجه فقالت إسرائل واسرال والسرائيل واسرائين
قال أمية ... إنني زارد الحديد على الناس ... دروعا سوابغ الأذيال ... لا أرى من يعينني في حياتي ... غير نفسي إلا بني إسرال ...
وقال أعرابي صاد ضبا فإتى به أهله ... يقول أهل السوق لما جينا ... هذا ورب البيت إسرائينا ...
أراد هذا مما مسخ من بني اسرائيل
والنعمة المنة مثلها النعماء والنعمة بفتح النون التنعم وأراد بالنعمة النعم فوحدها لأنهم يكتفون بالواحد من الجميع كقوله تعالى والملائكة بعد ذلك ظهير التحريم أي ظهراء
وفي المراد بهذه النعمة ثلاثة أقوال أحدها أنها ما استوعدهم من التوراة التي

فيها صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس والثاني أنها ما أنعم به على أبائهم وأجدادهم إذ أنجاهم من آل فرعون وأهلك عدوهم واعطاهم التوراة ونحو ذلك قاله الحسن و الزجاج
وإنما من عليهم بما أعطى آباءهم لأن فخر الآباء فخر للأبناء وعار الآباء عار على الأبناء والثالث انها جمع نعمة على تصريف الأحوال
والمراد من ذكرها شكرها إذ من لم يشكر فما ذكر
قوله تعالى وأوفوا
قال الفراء أهل الحجاز يقولون اوفيت واهل نجد يقولون وفيت بغير ألف
قال الزجاج يقال وفى بالعهد واوفى به وأنشد ... أما ابن طوق فقد اوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها ...
وقال ابن قتيبة يقال وفيت بالعهد وأوفيت به واوفيت الكيل لا غير وفي المراد بعهده اربعة أقوال أحدها انه لما عهده إليهم في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه و سلم رواه ابو صالح عن ابن عباس والثاني أنه امتثال الأوامر واجتناب النواهي رواه الضحاك عن ابن عباس والثالث أنه الإسلام قاله أبو العالية والرابع أنه العهد المذكور في قوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا المائدة 13 قاله قتادة
قوله تعالى أوف بعهدكم قال ابن عباس أدخلكم الجنة
قوله تعالى وإياي فارهبون أي خافون
قوله تعالى وآمنوا بما أنزلت يعني القرآن مصدقا لما معكم يعني التوراة او الانجيل فان القرأن يصدقهما أنهما من عند الله ويوافقهما في صفة النبي صلى الله عليه و سلم

ولا تكونوا اول كافر به
إنما قال أول كافر لأن المتقدم الى الكفر أعظم من الكفر بعد ذلك إذ المبادر لم يتأمل الحجة وإنما بادر بالعناد فحاله أشد وقيل ولاتكونوا أول كافر به بعد أن آمن والخطاب لرؤساء إليهود
وفي هائه قولان أحدهما انها تعود الى المنزل قاله ابن سعود وابن عباس
والثاني أنها تعود على ما معهم لأنهم اذا كتموا وصف النبي صلى الله عليه و سلم وهو معهم فقد كفروا به ذكره الزجاج
قوله تعالى ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون
أي لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا وفيه ثلاثة أقوال أحدها انه ما كانوا يأخذون من عرض الدنيا والثاني بقاء رئاستهم عليهم والثالث أخذ الأجرة على تعليم الدين
قوله تعالى ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون
تلبسوا بمعنى تخلطوا يقال لبست الأمر عليهم ألبسه إذا عميته عليهم وتخليطهم أنهم قالوا إن الله عهد إلينا أن نؤمن بالنبي الأمي ولم يذكر أنه من العرب
وفي المراد بالحق قولان أحدهما انه امر النبي صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس ومجاهد و قتادة وأبوا العالية والسدي و مقاتل والثاني أنه الإسلام قاله الحسن
قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
يريد الصلوات الخمس وهي هاهنا اسم جنس والزكاة مأخوذه من الزكاء وهو النماء والزيادة يقال زكا الزرع يزكو زكاء وقال ابن الأنباري معنى الزكاة في كلام العرب الزيادة والنماء فسميت زكاة لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه وتوفره وتقيه من الآفات ويقال هذا أزكى من ذاك أي أزيد فضلا منه

قوله تعالى واركعوا مع الراكعين
أي صلوا مع المصلين قال ابن عباس يريد محمد صلى الله عليه و سلم والصحابة رضى الله عنهم وقيل إنما ذكر الركوع لأنه ليس في صلاتهم ركوع والخطاب لليهود وفي هذه الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع وهي إحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه
قوله تعالى أنأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون قال ابن عباس نزلت في إليهود كان الرجل يقول لقرابته من المسلمين في السر اثبت على ما أنت عليه فانه حق والالف في أتأمرون ألف الاستفهام ومعناه التوبيخ
وفي البر هاهنا ثلاثة أقوال أحدها أنه التمسك بكتابهم كانوا يامرون باتباعه ولا يقومون به والثاني اتباع محمد صلى الله عليه و سلم روي القولان عن ابن عباس والثالث الصدقة كانوا يأمرون بها ويبخلون ذكره الزجاج
قوله تعالى وتنسون أي تتركون وفي الكتاب قولان أحدهما أنه التوراة قاله الجمهور والثاني أنه القرآن فلا يكون الخطاب على هذا القول لليهود
قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الأصل في الصبر الحبس فالصابر حابس لنفسه عن الجزع وسمي الصائم صابرا لحبسه نفسه عن الأكل والشرب والجماع والمصبورة البهيمة تتخذ غرضا وقال مجاهد
الصبر هاهنا الصوم
وفيما امروا بالصبر عليه ثلاثة أقوال أحدها أنه أداء الفرائض قاله ابن عباس و مقاتل والثاني أنه ترك المعاصي قاله قتادة والثالث عدم الرئاسة وهو خطاب لأهل الكتابين ووجه الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا

قوله تعالى وإنها في المكنى عنها ثلاثة أقوال احدها أنه الصلاة قاله ابن عباس والحسن و مجاهد والجمهور والثاني أنها الكعبة والقبلة لأنه لما ذكر الصلاة دلت على القبلة ذكره الضحاك عن ابن عباس وبه قال مقاتل والثالث انها الاستعانة لأنه لما قال واستعينوا دل على الاستعانة ذكره محمد ابن القاسم النحوي
قوله تعالى لكبيرة قال الحسن والضحاك الكبيرة الثقيلة مثل قوله تعالى كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الشورى 13 أي ثقل والخشوع في اللغة التطامن والتواضع وقيل السكون
قوله تعالى الذين يظنون انهم ملاقوا ربهم وانهم إليه راجعون
الظن هاهنا بمعنى اليقين وله وجوه قد ذكرناها في كتاب الوجوه والنظائر
قوله تعالى يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين يعني على عالمي زمانهم قاله ابن عباس وابو العالية و مجاهد وابن زيد قال ابن قتيبة وهو من العام الذي اريد به الخاص
قوله تعالى واتقوا يوما لاتجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخد منها عدل و لا هم ينصرون
قال الزجاج كانت إليهود تزعم أن آباءها الأنبياء تشفع لهم يوم القيامة فآيسهم الله بهذه الآية من ذلك
قوله تعالى واتقوا يوما فيه إضمار تقديره اتقوا عذاب يوم أو ما في يوم والمراد باليوم يوم القيامة وتجزي بمعنى تقضي قال ابن قتيبة يقال جزى الأمر عني يجزي بغير همز أي قضى عني وأجزأني بجزئني مهموز أي كفاني
قوله تعالى نفس عن نفس قالوا المراد بالنفس هاهنا النفس الكافرة فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص

قوله تعالى ولا تقبل منها شفاعة
قرأ ابن كثير وأبوا عمرو بالتاء وقرأ الباقون بالياء إلا أن قتادة فتح الياء ونصب الشفاعة ليكون الفعل لله تعالى قال ابو علي من قرأ بالتاء فلأن الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنث فيلزم أن يلحق المسند أيضا علامة التأنيث ومن قرأ بالياء فلأن التأنيث في الاسم الذي أسند إليه الفعل ليس بحقيقي فحمل على المعنى كما أن الوعظ والموعظة بمعنى واحد وفي الآية إضمار تقديره لا يقبل منها فيه شفاعة والشفاعة مأخوذة من الشفع الذي يخالف الوتر وذلك أن سؤال الشفيع يشفع سؤال المشفوع له
فأما العدل فهو الفداء وسمي عدلا لأنه يعادل المفدى واختلف اللغويون هل العدل و العدل بفتح العين وكسرها يختلفان أم لا فقال الفراء العدل بفتح العين ما عادل الشئ من غير جنسه والعدل بكسرها ما عادل الشئ من جنسه فهو المثل تقول عندي عدل غلامك بفتح العين إذا أردت قيمته من غير جنسه وعندي عدل غلامك بكسر العين إذا كان غلام يعدل غلاما وحكى الزجاج عن البصريين أن العدل والعدل في معنى المثل وأن المعنى واحد سواء كان المثل من الجنس او من غير الجنس
قوله تعالى ولا هم ينصرون أي يمنعون من عذاب الله
قوله تعالى وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم تقديره واذكروا إذ نجيناكم وهذه النعم على آبائهم كانت وفي آل فرعون ثلاثة أقوال أحدها أنهم أهل مصر قاله مقاتل والثاني أهل بيته خاصة قاله أبو عبيدة والثالث أتباعه على دينه قاله الزجاج وهل الآل والاهل بمعنى أو يختلفان فيه قولان وقد شرحت معنى الآل في كتاب النظائر وفرعون اسم أعجمي وقيل هو لقبه وفي اسمه أربعة أقوال أحدها الوليد بن

مصعب قاله الأكثرون والثاني فيطوس قاله مقاتل والثالث مصعب بن الريان حكاه ابن جرير الطبري والرابع مغيث ذكره بعض المفسرين
قوله تعالى يسومونكم أي يولونكم يقال فلان يسومك خسفا أي يوليك ذلا واستخفافا وسوء العذاب شديده وكان الزجاج يرى أن قوله يذبحون أبناءكم تفسير لقوله يسومونكم سوء العذاب وأبى هذا بعض أهل العلم فقال قد فرق الله بينهما في موضع آخر فقال يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ابراهيم 6 وإنما سوء العذاب استخدامهم في أصعب الأعمال وقال الفراء الموضع الذي طرحت فيه الواو تفسير لصفات العذاب والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم من العذاب غير الذبح فكأنه قال يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح
قوله تعالى ويستحيون نساءكم أي يستبقون نساءكم أي بناتكم وإنما استبقوا نساءهم للاستذلال والخدمة
وفي البلاء ههنا قولان أحدهما انه بمعنى النعمة قاله ابن عباس و مجاهد وأبو مالك وابن قتيبة و الزجاج والثاني انه النقمة رواه السدي عن أشياخه فعلى هذا القول يكون ذا في قوله تعالى ذلكم عائدا على سومهم سوء العذاب وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم وعلى القول الاول يعود على النجاة من آل فرعون قال أبو العالية وكان السبب في ذبح الأنباء أن الكهنة قالت لفرعون سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه فقتل الأبناء قال الزجاج فالعجب من حمق فرعون إن كان الكاهن عنده صادقا فما ينفع القتل وإن كان كاذبا فما معنى القتل
قوله تعالى وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون الفرق الفصل بين الشيئين وبكم بمعنى لكم وإنما ذكر آل فرعون دونه لأنه

قد علم كونه فيهم وفي قوله تعالى وأنتم تنظرون قولان احدهما أنه من نظر العين معناه وأنتم ترونهم يغرقون والثاني أنه بمعنى العلم كقوله تعالى ألم تر الى ربك مكيف مد الظل الفرقان 45 قاله الفراء
الاشارة الى قصتهم
روى السدي عن أشياخه ان الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل وألقى على القبط الموت فمات بكر كل رجل منهم فأصبحوا يدفنونه فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس قال عمرو بن ميمون فلما خرج موسى بلغ ذلك فرعو فقال لا تتبعوهم حتى يصيح الديك ليلتئذ قال أبو السليل لما انتهى موسى الى البحر قال هيه أبا خالد فأخذه أفكل يعني رعدة قال مقاتل تفرق الماء يمينا وشمالا كالجبلين المتقابلين وفيهما كوى ينظر كل سبط الى الآخر قال السدي فلما رآه فرعون متفرقا قال ألا ترون البحر فرق مني فانفتح لي فأتت خيل فرعون فأبت أن تقتحم فنزل جبريل على ماذيانة فتشامت الحصن ريح الماذيانة فاقتحمت في إثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم
قوله تعالى وإذا واعدنا موسى أربعين ليلة
قرأ ابو جعفر وأبوا عمرو وعدنا بغير ألف هاهنا وفي الأعراف و طه ووافقهما أبان عن عاصم في البقرة خاصة وقرأ الباقون واعدنا بألف ووجه القرأءة الأولى إفراد الوعد من الله تعالى ووجه الثانية أنه لما قبل موسى وعد الله عز و جل صار ذلك مواعدة بين الله تعالى وبين موسى ومثله لا تواعدوهم سرا البقرة 235
ومعنى الآية وعدنا موسى تتمة أربعن ليلة او انقضاء أربعين ليلة وموسى اسم أعجمي اصله بالعبرانية موشا فمو هو الماء وشا هو الشجر لأنه وجد عند

الماء والشجر فعرب بالسين ولماذا كان هذا الوعد فيه قولان أحدهما لأخذ التوراة والثاني للتكليم وفي هذه المدة قولان أحدهما أنها ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وهذا قول من قال كان الوعد لإعطاء التوراة والثاني أنها ذو الحجة وعشر من المحرم وهو قول من قال كان الوعد للتكليم وإنما ذكرت الليالي دون الأيام لأن عادة العرب التأريخ بالليالي لأن أول شهر ليله واعتماد العرب على الأهلة فصارت الأيام تبعا لليالي وقال أبو بكر النقاش إنما ذكر الليالي لأنه امره أن يصوم هذا الأيام ويواصلها بالليالي فلذلك ذكر الليالي وليس بشئ
قوله تقالى ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون من بعده أي من بعد انطلاقه الى الجبل
الاشارة الى اتخاذهم العجل
روى السدي عن أشياخه أنه لما انطلق موسى واسختلف هارون قال هارون يا بني اسرائيل إن الغنيمة لا تحل لكم وإن حلي القبط غنيمة فاجمعوه واحفروا له حفيرة فادفنوه فان أحله موسى فخذوه وإلا كان شيئا لم تأكلوه ففعلوا قال السدي وكان جبريل قد أتى الى موسى ليذهب به الى ربه فرأه السامري فأنكره وقال إن لهذا شأنا فأخذ قبضة من أثر حافر الفرس فقفها في الحفيرة فظهر العجل وقيل إن السامري أمرهم بالقاء ذلك الحلي وقال إنما طالت غيبة موسى عنكم لأجل ما معكم من الحلي فاحفورا لها حفيرة وقربوه الى الله يبعث لكم نبيكم فإنه كان عارية ذكره أبو سليمان الدمشقي
وفي سبب اتخاذ السامري عجلا قولان أحدهما أن السامري كان من قوم يعبدون البقر فكان ذلك في قلبه قاله ابن عباس والثاني أن بني إسرائيل لما مروا على قوم

يعكفون على أصنام لهم أعجبهم ذلك فلما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها وأنكر عليهم أخرج السامري لهم في غيبته عجلا لما رأى من اسحسانهم ذلك قاله ابن زيد
وفي كيفية اتخاذ العجل قولان أحدهما أن السامري كان صواغا فصاغه وألقى فيه القبضة قاله علي وابن عباس والثاني أنهم حفروا حفيرة وألقوا فيها حلي قوم فرعون وعواريهم تنزها عنها فألقى السامري القبضة من التراب فصار عجلا روي عن ابن عباس أيضا قال ابن عباس صار لحما ودما وجسدا فقال لهم السامري هذا إلهكم وإله موسى قد جاء وأخطأ موسى الطريق فعبدوه وزفنوا حوله
قوله تعالى وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون الكتاب التوراة وفي الفرقان خمسة أقوال أحدها أنه النصر قاله ابن عباس وابن زيد والثاني أنه ما في التوراة من الفرق بين الحق والباطل فيكون الفرقان نعتا للتوراة قاله أبو العالية والثالث أنه الكتاب فكرره بغير اللفظ قال عدي بن زيد ... فألقى قولها كذبا ومينا ...
وقال عنترة ... أقوى وأفقر بعد أم الهيثم ...
هذا قول مجاهد واختيار الفراء و الزجاج والرابع أنه فرق البحر لهم ذكره الفراء و الزجاج وابن القاسم والخامس أنه القرأن ومعنى الكلام لقد آتينا موسى الكتاب ومحمد الفرقان ذكره الفراء وهو قول قطرب
قوله تعالى إذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم

القوم اسم للرجال دون النساء قال الله تعالى لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء الحجرات 11 وقال زهير ... وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء ...
وإنما سموا قوما لأنهم يقومون بالأمور
قوله تعالى فتوبوا الى بارئكم قال أبو علي كان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يكسرون الهمزة من غير اختلاس ولا تخفيف وروى اليزيدي وعبد الوارث عن أبي عمرو بارئكم بجزم الهمزة روى عنه العباس بن الفضل بارئكم مهموزة غير مثقلة وقال سيبويه كان أبو عمر يختلس الحركة في بارئكم و يأمركم وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات فيرى من سمعه أنه قد أسكن ولم يسكن
والبارئ الخالق ومعنى فاقتلوا أنفسكم ليقتل بعضكم عضا قاله ابن عباس و مجاهد
واختلفوا فيمن خوطب بهذا على ثلاثة أقوال أحدها أنه خطاب للكل قاله السدي عن أشياخه والثاني أنه خطاب لمن لم يعبد ليقتل من عبد قاله مقاتل والثالث أنه خطاب للعابدين فحسب أمروا أن يقتل بعضهم بعضا قاله أبو سليمان الدمشقي وفي الاشارة بقوله ذا في ذلكم قولان أحدهما أنه يعود الى القتل والثاني أنه يعود الى التوبة
الإشارة الى قصتهم في ذلك
قال ابن عباس قالوا لموسى كيف يقتل الآباء والإخوة الإخوة فأنزل الله عليهم ظلمة لا يرى بعضهم بعضا فقالوا فما آية توبتنا

قال أن يقوم السلاح فلا يقتل وترفع الظلمة فقتلوا حتى خاضوا في الدماء وصاح الصبيان يا موسى العفو العفو فبكى موسى فنزلت التوبة وقام السلاح وارتفعت الظلمة قال مجاهد بلغ القتلى سبعين ألفا قال قتادة جعل القتل للقتيل شهادة وللحي توبة
قوله تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فاخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون
في القائلين لموسى ذلك قولان أحدهما أنهم السبعون المختارون قاله ابن مسعود وابن عباس والثاني جميع بني اسرائيل إلا من عصم الله منهم قاله ابن زيد قال وذلك أنه أتاهم بكتاب الله فقالوا والله لا نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول هذا كتابي وفي جهرة قولان أحدهما أنه صفة لقولهم أي جهروا بذلك القول قاله ابن عباس وابوعبيدة والثاني أنها الرؤية البينة أي ارناه غير مستتر عنا بشئ يقال فلان يتجاهر بالمعاصي أي لا يستتر من الناس قاله الزجاج ومعنى الصاعقة ما يصعقون منه أي يموتون ومن الدليل على أنهم ماتوا قوله تقالى ثم بعثناكم هذا قول الأكثرين وزعم قوم أنهم لم يموتوا واحتجوا بقوله تعالى وخر موسى صعقا وهذا قول ضعيف لأن الله تعالى فرق بين الموضعين فقال هناك فلما أفاق وقال هاهنا ثم بعثناكم والإفاقة للمغشي عليه والبعث للميت
قوله تعالى وأنتم تنظرون فيه ثلاثة أقوال أحدها أن معناه ينظر بعضكم الى بعض كيف يقع ميتا والثاني ينظر بعضكم الى إحياء بعض والثالث تنظرون العذاب كيف ينزل بكم وهو قول من قال نزلت نار فأحرقتهم
قوله تعالى وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

الغمام السحاب سمي غماما لأنه يغم السماء أي يسترها وكل شئ غطيته فقد غممته وهذا كان في التيه وفي المن ثمانية أقوال أحدها أنه الذي يقع على الشجر فيأكله الناس قاله ابن عباس والشعبي والضحاك والثاني أنه الترنجبين روي عن ابن عباس أيضا وهو قول مقاتل والثالث أنه صمغه قاله مجاهد والرابع انه يشبه الرب الفليظ قاله عكرمة والخامس أنه شراب قاله أبو العالية والربيع بن أنس والسادس أنه خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي قاله وهب والسابع أنه عسل قاله ابن زيد والثامن أنه الزنجبيل قاله السدي
وفي السلوى قولان أحدهما أنه طائر قال بعضهم يشبه السماني وقال بعضهم هو السماني والثاني أنه العسل ذكره ابن الانباري وانشد ... وقاسمها بالله جهدا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها ...
قوله تعالى وما ظلمونا قال ابن عباس ما نقصونا وضرونا بل ضروا أنفسهم
قوله تعالى واذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم وغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين
في القائل لهم قولان أحدهما أنه موسى بعد مضى أربعين سنة والثاني أنه يوشع بن نون بعد موت موسى والقرية مأخوذة من الجمع ومنه قريت الماء في الحوض والمقراة الحوض يجمع فيه الماء وفي المراد ب هذه القرية قولان أحدهما أنها بيت المقدس قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي وروي عن ابن عباس أنها أريحا قال السدي واريحا هي أرض بين المقدس والثاني أنها قرية من أداني قرى الشام قاله وهب

قوله تعالى وادخلوا الباب سجدا قال ابن عباس وهو أحد أبواب بيت المقدس وهو يدعى باب حطة وقوله سجدا أي ركعا قال وهب أمروا بالسجود شكرا لله تعالى إذ ردهم إليها
قوله تعالى وقولوا حطة وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة حطة بالنصب
وفي معنى حطة ثلاثة أقوال أحدها أن معناه استغفروا قاله ابن عباس ووهب قال ابن قتيبة وهي كلمة أمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار من حططت أي حط عنا ذنوبنا
والثاني أن معناها قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم ذكره الضحاك عن ابن عباس والثالث أن معناهالا إله إلا الله قاله عكرمة قال ابن جرير الطبري فيكون المعنى قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم وهو قول لاإله إلا الله
ولماذا أمروا بدخول القرية فيه قولان أحدهما أن ذلك لذنوب ركبوها فقيل ادخلوا القرية وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطايكم قاله وهب والثاني أنهم ملواالمن والسلوى فقيل اهبطوا مصرا فكان أول ما لقيهم أريحا فأمروا بدخولها
قوله تعالى نغفر لكم خطاياكم
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي نغفر لكم بالنون مع كسر الفاء وقرأ نافع وأبان عن عاصم يغفر بياء مضمومة وفتح الفاء وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة مع فتح الفاء
قوله تعالى فيدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون
اعلم ان الله عز و جل أمرهم في دخولهم بفعل وقول فالفعل السجود والقول حطة فغير القوم الفعل والقول

فأما تغيير الفعل ففيه خمسة أقوال
أحدها انهم دخلوا متزحفين على أوراكهم رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم والثاني أنهم دخلوا من قبل أستاههم قاله ابن عباس وعكرمة والثالث أنهم دخلوا مقنعي رؤوسهم قاله ابن مسعود والرابع أنهم دخلوا على حروف عيونهم قاله مجاهد والخامس انهم دخلوا مستلقين قاله مقاتل
وأما تغيير القول ففيه خمسة أقوال
أحدها انهم قالوا مكان حطة حبة في شعرة رواه أبوا هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثاني انهم قالوا حنطة قاله ابن عباس وعكرمة و مجاهد ووهب وابن زيد والثالث انهم قالوا حنطة حمراء فيها شعرة قاله ابن مسعود والرابع أنهم قالوا حبة حنطة مثقوبة فيها شعيرة سوداء قاله السدي عن أشياخه والخامس أنهم قالوا سنبلاثا قاله أبو صالح
فاما الرجز فهو العذاب قاله الكسائي و ابو عبيدة و الزجاج وأنشدوا لرؤية ... حتى وقمنا كيدة بالرجز ...
وفي ماهية هذا العذاب ثلاثة أقوال احدها أنه ظلمة وموت مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا وهلك سبعون ألفا عقوبة قاله ابن عباس والثاني أنه أصابهم الطاعون عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا قاله وهب بن منية والثالث انه الثلج هلك به منهم سبعون ألفا قاله سعيد بن جبير

قوله تعالى وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعضاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشروا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين
استسقى بمعنى استدعى ذلك كقولك استنصر
وفي الحجر قولان
احدهما انه حجر معروف عين لموسى قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة وعطية وابن زيد و مقاتل واختلفوا في صفته على ثلاثة أقوال احدها أنه كان حجرا مربعا قاله ابن عباس والثاني كان مثل رأس الثور قاله عطية والثالث مثل راس الشاة قاله ابن زيد وقال سعيد بن جبير هو الذي ذهب بثياب موسى فجاءه جبريل فقال إن الله تعالى يقول لك ارفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة فكان اذا احتاج الى الماء ضربه
والقول الثاني أنه أمر بضرب أي حجر كان والأول أثبت
قوله تعالى فانفجرت منه
تقدير معناه فضرب فانفجرت فلما عرف بقوله فانفجرت انه قد ضرب اكتفى بذلك عن ذكر الضرب ومثله أن اضرب بعصاك البحر فانفلق الشعراء 63 قاله الفراء ولما كان القوم اثني عشر سبطا أخرج الله لهم اثني عشرة عينا ولأنه كان فيهم تشاحن فسلموا بذلك منه
قوله تعالى ولا تعثوا
العثو أشد الفساد يقال عثي وعثا وعاث قال ابن الرقاع ... لولا الحياء وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم

قوله تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
هذا قولهم في التيه وعنوا بالطعام الواحد المن والسلوى قال محمد بن القاسم كان المن يؤكل بالسلوى والسلوى بالمن فلذلك كانا طعاما واحدا والبقل هاهنا اسم جنس وعنوا به البقول وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال تذهب العامة الى أن البقل ما يأكله الناس خاصة دون البهائم من النبات الناجم الذي لايحتاج في أكله الى طبخ وليس كذلك إنما البقل العشب وما ينبت الربيع مما يأكله الناس والبهائم يقال بقلت الارض وأبقلت لغتان فصيحتان إذا أنبت البقل وابتقلت الإبل إذا رعت قال أبو النجم يصف الإبل ... تبقلت في أول التبقل ... وبين رماحي مالك ونهشل ...
وفي القثاء لغتان كسر القاف وضمها والكسر أجود وبه قرأ الجمهور وقرأ ابن مسعود و أبو رجاء وقتادة وطلحة بن مصرف والأعمش بضم القاف قال الفراء الكسر لغة أهل الحجاز والضم لغة تميم وبعض بني أسد
وفي الفوم ثلاثة أقوال
أحدها أنه الحنطة قاله ابن عباس والسدي عن أشياخه والحسن وأبو مالك قال الفراء هي لغة قديمة يقول أهلها فوموا لنا أي اختبزوا لنا

والثاني أنه الثوم وهو قرأءة عبد الله وابي وثومها واختاره الفراء وعلل بأنه ذكر مع ما يشاكله والفاء تبدل من الثاء كما تقول العرب الجدث والجدف للقبر والأثافي والاثاثي للحجارة التي توضع تحت القدر ومغافير والمغاثير لضرب من الصمغ وهذا قول مجاهد والربيع بن أنس و مقاتل والكسائي والنضر بن شميل وابن قتيبة
والثالث أنه الحبوب ذكره ابن قتيبة و الزجاج
قوله تعالى أتستبدلون الذي هو أدنى أي أرادأ بالذي هو خير أي أعلى يريد أن المن والسلوى اعلى ما طلبتم
قوله تعالى اهبطوا مصر فيه قولان أحدهما أنه اسم لمصر من الأمصار غير معين قاله ابن مسعود و ابن عباس وقتادة وابن زيد وإنما أمروا بالمصر لأن الذي طلبوه في الأمصار والثاني أنه أراد البلد المسمى بمصر وفي قرأءة عبد الله والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش مصر بغير تنوين قال أبو صاح عن ابن عباس أراد مصر فرعون وهذا قول أبوالعالية والضحاك واختاره الفراء واحتج بقرأءة عبد الله قال وسئل عنها الاعمش فقال هى مصر التي عليها صالح بن على وقال مفضل الضبي سميت مصرا لأنها أخر حدود المشرق وأول حدود المغرب فهى حد بينهما والمصر الحد وأهل هجر يكتبون في عهدهم اشترى فلان الدار بمصورها أي بحدودها وقال عدي ... وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا

وحكى ابن فارس ان قوما قالوا سميت بذلك لقصد الناس إياها كقولهم مصرت الشاة إذا حلبتها فالناس يقصدونها ولا يكادون يرغبون عنها إذا نزلوها
قوله تعالى وضربت عليهم الذلة أي ألزموها قال الفراء الذلة والذل بمعنى واحد وقال الحسن هى الجزية وفي المسكنة قولان
أحدهما انها الفقر والفاقة قاله أبوالعالية والسدي وابو عبيدة وروي عن السدي قال هي فقر النفس
والثاني الخضوع قاله الزجاج
قوله تعالى وباؤوا أي رجعوا وقوله تعالى ذلك إشارة الى الغضب
وقيل الى جميع ما ألزموه من الذلة والمسكنة وغيرها
قوله تعالى ويقتلون النبيين
كان نافع يهمز النبيين والانبياء والنبوة وما جاء من ذلك إلا في موضعين في الاحزاب لاتدخوا بيوت النبي 53 إن وهبت نفسها للنبي 50 وإنما ترك الهمز في هذين الموضعين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد وباقي القرأء قولان أحدهما يهمزون جميع المواضع قال الزجاج الأجود ترك الهمز واشتقاق النبي من نبأ وأنبأ أي أخبر ويجوز ان يكون من نبا ينبو إذا ارتفع فيكون بغير همز فعيلا من الرفعة قال عبد الله بن مسعود كانت بنو اسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار
قوله تعالى بغير الحق فيه ثلاثة أقوال أحدها أن معناه بغير جرم قاله ابن الانباري والثاني أنه توكيد كقوله تعالى ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والثالث أنه خارج مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم فهو كقوله تعالى

رب احكم بالحق فوصف حكمه بالحق ولم يدل على انه يحكم بغير الحق
قوله تعالى وكانوا يعتدون العدوان أشد الظلم وقال الزجاج الاعتداء مجاوزة القدر في كل شئ
قوله تعالى ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قوله تعالى إن الذين آمنوا فيهم خمسة أقوال
أحدها أنهم قوم كانوا مؤمنين بعيسى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس والثاني أنهم الذين آمنوا بموسى وعملوا بشريعته الى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته الى أن جاء محمد وهذا قول السدي عن أشياخه والثالث انهم المنافقون قاله سفيان الثوري والرابع أنهم الذين كانوا يطلبون الإسلام كقس بن ساعدة وبحيرا وورقة بن نوفل وسلمان والخامس أنهم المؤمنون من هذه الأمة
قوله تعالى والذين هادوا قال الزجاج أصل هادوا في اللغة تابوا وروي عن ابن مسعود أن اليهود سموا بذلك لقول موسى هدنا إليك والنصارى لقول عيسى من أنصاري الى الله وقيل سموا النصارى لقرية نزلها المسيح اسمها ناصرة وقيل لتناصرهم
فأما الصابئون فقرأ الجمهور بالهمز في جيمع القرآن وكان نافع لايهمز كل المواضع قال الزجاج معنى الصابئين الخارجون من دين الى دين يقال صبأ فلان إذا خرج من دينه وصبأت النجوم إذا طلعت وصبأ نابه إذا خرج
وفي الصابئين سبعة أقوال

احدها أنه صنف من النصارى ألين قولا منهم وهم السائحون المحلقة اوساط رؤوسهم روي عن ابن عباس
والثاني انهم قوم بين النصارى والمجوس ليس لهم دين قاله مجاهد
والثالث أنهم قوم بين اليهود والنصارى قاله سعيد بن جبير
والرابع قوم كالمجوس قاله الحسن والحكم
والخامس فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور قاله أبوالعالية
والسادس قوم يصلون الى القبلة ويعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور قاله قتادة
والسابع قوم يقولون لاإله إلا الله فقط وليس لهم عمل ولاكتاب ولانبي قاله ابن زيد
قوله تعالى من آمن في إعادة ذكر الإيمان ثلاثة أقوال احدها أنه لما ذكر مع المؤمنين طوائف من الكفار رجع قوله من آمن إليهم والثاني أن المعنى من أقام على إيمانه والثالث أن الايمان الأول نطق المنافقين بالإسلام والثاني اعتقاد القلوب
قوله تعالى وعمل صالحا
قال ابن عباس أقام الفرائض
فصل
وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة فيه قولان
احدهما أنها محكمة قاله مجاهد والضحاك في آخرين وقدروا فيها إن الذين آمنوا ومن آمن من الذين هادوا والثاني أنها منسوخة بقوله ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ذكره جماعة من المفسرين

قوله تعالى واذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون
الخطاب بهذه الآية لليهود والميثاق مفعال من التوثق ييمين او عهد او نحو ذلك من الأمور التي تؤكد القول
وفي هذا الميثاق ثلاثة أقوال أحدها انه اخذ ميثاقهم ان يعملوا بما في التوراة فكرهوا الإقرأر بما فيها فرفع عليهم الجبل قاله مقاتل قال ابو سليمان الدمشقي اعطوا الله عهدا ليعملن بما في التوراة فلما جاء بها موسى قرأوا ما فيها من التثقيل امتنعوا من اخذها فرفع الطور عليهم والثاني انه ما اخذه الله تعالى على الرسل وتابعيهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم ذكره الزجاج والثالث ذكره الزجاج أيضا فقال يجوز ان يكون الميثاق يوم أخذ الذرية من ظهر آدم
قوله تعالى ورفعنا فوقكم الطور قال ابو عبيدة الطور في كلام العرب الجبل وقال ابن قتيبة الطور الجبل بالسريانية وقال ابن عباس ما أنبت من الجبال فهو طور وما لم ينبت فليس بطور
وأي الجبال هو فيه ثلاثة اقوال احدها جبل من جبال فلسطين قاله ابن عباس والثاني جبل نزلوا بأصله قاله قتادة والثالث الجبل الذي تجلى له ربه قاله مجاهد
وجمهور العلماء على أنه إنما رفع الجبل عليهم لإبائهم التوراة وقال السدي لإبائهم خول الأرض المقدسة
قوله تعالى خذوا ما آتيناكم بقوة
وفي المراد بالقوة أربعة أقوال احدها الجد والاجتهاد قاله ابن عباس وقتادة والسدي والثاني الطاعة قاله أبوالعالية والثالث العمل بما فيه قاله مجاهد والرابع الصدق قاله ابن زيد

قوله تعالى واذكرا ما فيه فيه قولان أحدهما اذكروا ما تضمنه من الثواب والعقاب قاله ابن عباس والثاني معناه ادرسوا ما فيه قاله الزجاج
قوله تعالى لعلكم تتقون قال ابن عباس تتقون العقوبة
قوله تعالى ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
قوله تعالى ثم توليتم أي اعرضتم عن العمل بما فيه من بعد إعطاء المواثيق لتأخذنه بجد فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين بالعقوبة
قوله تعالى ولقد علمتم الذني اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين السبت اليوم المعروف قاله ابن الانباري ومعنى السبت في كلام العرب القطع يقال قد سبت رأسه إذا حلقه وقطع الشعر منه ويقال نعل سبتية اذا كانت مدبوغة بالقرظ محلوقة الشعر فسمي السبت سبتا لأن الله تعالى ابتدأ الخلق فيه وقطع فيه بعض خلق الارض او لأن الله تعالى أمر بني إسرائيل فيه بقطع الأعمال وتركها قال وقال بعضهم سمي سبتا لأن الله تعالى أمرهم بالاستراحة فيه من الأعمال وهذا خطأ لأنه لايعرف في كلام العرب سبت بمعنى استراح
وفي صفة اعتدائعهم في السبت قولان أحدهما أنهم أخذوا الحيتان يوم السبت قاله الحسن و مقاتل والثاني انهم حبسوها يوم السبت واخذوها يوم الأحد وذلك أن الرجل كان يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا الى البحر فاذا كان يوم السبت فتح النهر وقد حرم الله عليه العمل يوم السبت فيقبل الموج بالحيتان حتى يلقيها في الحفيرة فيريد الحوت الخروج فلا يطيق فيأخذها يوم الأحد قاله السدي

الإشارة الى قصة مسخهم
روى عثمان بن عطاء عن أبيه قال نودي الدين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات نودوا با أهل القرية فانتبهت طائفة أكثر من الأولى ثم نودوا يا أهل القرية فانتبه الرجال والنساء والصبيان فقال الله لهم كونوا قردة خاسئين فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فلان ألم ننهكم فيقولون برؤوسهم بلى قال قتادة فصار القوم قردة تعاوي لها أذناب بعدما كانوا رجالا ونساء
وفي رواية عن قتادة صار الشبان قردة والشيوخ خنازير وما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم وقال غيره كانوا نحوا من سبعين ألفا وعلى هذا القول العلماء غير مجاهد روي عن مجاهد أنه قال مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم وهو قول بعيد قال ابن عباس لم يحيوا على الارض إلا ثلاثة أيام ولم يحيا مسخ في الأرض فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة ايام وماتوا في اليوم الثامن وهذا كان في زمان داود عليه السلام
قوله تعالى خاسئين الخاسئ في اللغة المبعد يقال للكلب اخسأ أي تباعد
قوله تعالى فجعناها نكالا لم بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين
في المكمنى عنها أربعة أقوال احدها انها الخطيئة رواه عطية عن ابن عباس والثاني العقوبة رواه الضحاك عن ابن عباس وقال الفراء الهاء كناية عن المسخة التي مسخوها والثالث انها القرية والمراد أهلها قاله قتادة وابن قتيبة والرابع أنها الأمة التي مسخت قاله الكسائي و الزجاج
وفي النكال قولان أحدهما أنه العقوبة قاله مقاتل والثاني العبرة قاله ابن قتيبة و الزجاج
قوله تعالى لما بين يديها وما خلفها فيه ثلاثة أقوال أحدها لما بين يديها

من القرى وما خلفها رواه عكرمة عن ابن عباس والثاني لما بين يديها من الذنوب ووما خلفها ما عملوا بعدها رواه عطية من ابن عباس والثالث لما بين يديها من السنين التي عملوا فيها بالمعاصي وما خلفها ما كان بعدهم في بني اسرائيل لئلا يعملوا بمثل أعمالهم قاله عطية
وفي المتقين قولان أحدهما انه عام في كل متق الى يوم القيامة قاله ابن عباس والثاني ان المراد بهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم قاله السدي عن أشياخه وذكره عطية وسفيان
قوله تعالى وإذا قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك بين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لافارض ولابكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون
ذكر السبب في أمرهم بذبح البقرة
روى ابن سيرين عن عبيدة قال كان في بني اسرائيل رجل عقيم لايولد له وله مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله واحتمله ليلا فأتى به حيا آخر فوضعه على باب رجل منهم ثم أصبح يديعه حتى تسلحوا وركب بعضهم الى بعض فأتوا موسى فذكروا له ذلك فأمرهم بذبح البقرة
وروى السدي عن أشياخه أن رجلا من بني اسرائيل كانت له بنت وابن اخ فقير فخطب اليه ابنته فأبى فغضب وقال والله لآقتلن عمي ولآخذن ماله ولأنكحن ابنته ولآكلن ذيته فأتاه فقال قد قدم تجار في بعض أسباط بني اسرائيل فانطلق معي فخذ لي من تجارتهم لعلي اصيب فيها ربحا فخرج معه فلما بلغا ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه لا يدري أين هو فاذا بذلك السبط قد اجتمعوا عليه فأمسكهم وقال قتلتم عمي وجعل يبكي

وينادي واعماه قال أبوالعالية والذي سأل موسى أن يسأل الله البيان القاتل وقال غيره بل القوم اجتمعوا فسألوا موسى فلما أمرهم بذبح بقرة قالوا اتتخذنا هزوا وقرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر والكسائي هزؤا بضم الهاء والزاي والهمزة وقرأ حمزة و إسماعيل وخلف في اختياره والفراء عن عبد الوارث والمفضل هزءا باسكان الزاي ورواه حفص بالضم من غير همز وحكى ابو علي الفارسي ان كل اسم على ثلاثة أحرف اوله مضموم فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه نحو العسر واليسر
قوله تعالى قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
وانما انتفى من الهزء لأن الهازئ جاهل لاعب فلما تبين لهم أن الأمر من عند الله قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال الزجاج وانما سألوا ما هي لأنهم لايعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميت
فأما الفارض فهي المسنة يقال فرضت البقرة فهي فارض إذا أسنت والبكر الصغيرة التي لم تلد والعوان دون المسنة وفوق الصغير يقال حرب عوان إذا لم تكن اول حرب وكانت ثانية
قوله تعالى قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون
في الصفراء قولان أحدهما أنه من الصفرة وهو اللون المعروف قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن قتيبة و الزجاج والثاني أنها السوداء قال الحسن البصري ورده جماعة فقال ابن قتيبة هذا غلط في نعوت البقر وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل يقال بعير أصفر أي أسود لآن السوداء من الإبل يشوب سوادها صفرة

ويدل على ذلك قوله تعالى فاقع لونها والعرب لاتقول أسود فاقع وإنما تقول أسود حالك وأصفر فاقع
قال الزجاج وفاقع نعت للأصفر الشديد الصفرة يقال أصفر فاقع وأحمر قانئ وأخضر ناضر وأبيض يقق وأسود حالك وحلكوك ودجوجي فهذه صفات المبالغة في الألوان
ومعنى تسر الناظرين تعجبهم قال ابن عباس شدد القوم فشدد الله عليهم وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لولا أن بني اسرائيل استثنوا لم يعطوا الذي أعطوا يعني بذلك قولهم
وإنا إن شاء الله لمهتدون
وفي المراد باهتدائهم قولان احدهما أنهم أرادوا المهتدون الى البقرة وهو قول الأكثرين والثاني الى القاتل ذكره ابو صالح عن ابن عباس
قوله تعالى قال إنه يقول إنها بقرة لاذلول تثير الأرض ولاتسقي الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون
قوله تعالى قال إنه يقول إنها بقرة لاذلول قال قتادة لم يذلها العمل فتثير الأرض قال ابن قتيبة يقال في الدواب دابة ذلول بينة الذل بكسر الذال وفي الناس رجل ذليل بين الذل بضم الذال
تثير الأرض تقلبها للزراعة ويقال للبقرة المثيرة قال الفراء لاتقفن على ذلول لأن المعنى ليست بذلول فتثير الأرض وحكى ابن القاسم أن أبا حاتم السجستاني أجاز الوقف على ذلول ثم أنكره عليه جدا وعلل بأن التي تثير الأرض لايعدم منها سقي الحرث ومتى أثارت الأرض كانت ذلوللا ومعنى ولا تسقي الحرث لايستقي عليها الماء لسقي الزرع

قوله تعالى مسلمة فيه أربعة أقوال
احدها مسلمة من العيوب قاله ابن عباس و أبوالعالية وقتادة و مقاتل والثاني مسلمة من العل قاله الحسن وابن قتيبة والثالث مسلمة من الشية قاله مجاهد وابن زيد والرابع مسلمة القوائم والخلق قاله عطاء الخراساني
فأما الشية فقال الزجاج الوشي في اللغة خلط لون بلون ويقال وشيت الثوب أشيه شية ووشيا كقولك وديت فلانا ادية دية ونصب لاشية فيها على النفي ومعنى الكلام ليس فيها لون يفارق سائر لونها وقال عطاء الخراساسني لونها لون واحد
قوله تعالى الآن جئت بالحق قال ابن قتيبة الآن هو الوقت الذي أنت فيه وهو حد الزمانين حد الماضي من آخره وحد المستقبل من أوله ومعنى جئت بالحق بنيت لنا
قوله تعالى وماكادوا يفعلون فيه قولان أحدهما لغلاء ثمنها قاله ابن كعب القرظي والثاني لخوف الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم قاله وهب قال ابن عباس مكثوا يطلبون البقرة أربعن سنة حتى وجدوها عند رجل فأبى ان يبيعها الا بملء مسكها ذهبا وهذا قول مجاهد وعكرمة وعبيدة ووهب وابن زيد والكلبي و مقاتل في مقدار الثمن فأما السبب الذي لأجله غلا ثمنها فيحتمل وجهين أحدهما انهم شددوا فشدد الله عليهم والثاني لإكرام الله عز و جل صاحبها فإن كان برا بوالديه فذكر بعض المفسرين أنه كان شاب من بني اسرائيل برا بأبيه فجاء رجل يطلب سلعة هي عنده فانطلق ليبيعه إياها فاذا مفاتيح حانوته مع أبيه وأبوه نائم فلم يوقظه ورد المشتري فأضعف له المشتري الثمن فرجع الى أبيه فوجده نائما فعاد الى المشتري فرده فأضعف له الثمن فلم يزل ذلك دابها حتى ذهب المشتري فأثابه الله على بره بأبيه أن نتجت له بقرة من بقرة تلك البقرة

وروي عن وهب بن منبه في حديث طويل أن فتى كان برا بوالديه وكان يحتطب على ظهره فاذا باعه تصدق بثلثه واعطى أمه ثلثه وأبقى لنفسه ثلثه فقالت له يوما إني ورثت من أبيك بقرة فتركتها في البقر على اسم الله فاذا أتيت البقر فادعها باسم إله ابراهيم فذهب فصاح بها فأقبلت فأنطقها الله فقالت اركبني يا فتى فقال الفتى إن أمي لم تأمرني بهذا فقالت أيها البر بأمه لو ركبتني لم تقدر على فانطلق فلوا أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لانقلع لبرك بأمك فلما جاء بهاا قالت أم بعها بثلاثة دنانير على رضى مني فبعث الله ملكا فقال بكم هذه قال بثلاثة دنانير على رضى من أمي قال لك ستة ولا تستأمرها فأبى وعاد الى أمه فأخربها فقالت بعها بستة على رضى مني فجاء الملك فقال خذ اثني عشر ولاتستأمرها فأبى وعاد الى أمه فأخرها فقالت يا بني ذاك ملك فقل له بكم تأمرني أن أبيعها فجاء اليه فقال له ذلك فقال يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل في بني اسرائيل
وذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون
قوله تعالى وإذ قتلتم نفسا هذه الآية مؤخرة في التلاوة مقدمة في المعنى لأن السبب في الأمر بذبح البقرة قتل النفس فتقدير الكلام وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فسألتم موسى فقال إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ونظيرها قوله تعالى ولم يجعل له عوجا قيما الكهف 1 أراد أنزل الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا فأخر المقدم وقدم المؤخر لأنه من عادة العرب قال الفرزدق ... إن الفرزدق صخرة ملمومة ... طالت فليس تنالها الأوعالا ...
أراد طالت الأوعال وقال جرير ... طاف الخيال وأين منك لماما ... فارجع لزورك بالسلام سلاما

أراد طاف الخيال لماما وأين هو منك وقال الآخر ... خير من القوم العصاة أميرهم ... يا قوم فاسحيوا النساء الجلس ...
أراد خير من القوم العصاة النساء فاستحيوا من هذا
ومعنى قوله فادارأتم اختلفتم قاله ابن عباس و مجاهد وقال الزجاج ادارأتم بمعنى تدارأتم أي تدافعتم وألقى بعضكم على بعض تقول درأت فلانا إذا دفعته وداريته إذا لاينته ودريته إذا ختلته فأدغمت التاء في الدال لأنهما من مخرج واحد فأما الذي كتموه فهو أمر القتيل
قوله تعالى فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون
من قال أقاموا في طلبها أربعين سنة قال ضربوا قبره ومن لم يقل ذلك قال ضربوا جسمه قبل دفنه وفي الذي ضرب به ستة أقوال
أحدها أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف رواه عكرمة عن ابن عباس قال ابو سليمان الدمشقي وذلك العظم هو أصل الأذن وزعم قوم أنه لايكسر ذلك العظم من احد فيعيش قال الزجاج الغضروف في الأذن وهو ما أشبه العظم الرقيق من فوق الشحمة وجميع أعلى صدفة الأذن وهو معلق الشنوف فأما العظمان اللذان خلف الأذن الناتئان من مؤخر الأذن فيقال لهما الخشاوان والخششاوان واحدهما خشاء وخششاء
والثاني انه ضرب بالفخذ روي عن ابن عباس أيضا وعكرمة و مجاهد وقتادة وذكر عكرمة و مجاهد انه الفخذ الأيمن
والثالث أنه البضعة التي بين الكتفين رواه السدي عن أشياخه
والرابع أنه الذنب رواه ليث عن مجاهد

والخامس أنه عجب الذنب وهو عظم بني عليه البدن روي عن سعيد بن جبير
والسادس أنه اللسان قاله الضحاك
وفي الكلام اختصار تقديره فقلنا اضربوه ببعضها ليحيا فضربوه فيحي فقام فأخبر بقاتله
وفي قاتله أربعة أقوال أحدها بنو أخيه رواه عطية عن ابن عباس والثاني ابنا عمه رواه أبو صالح عن ابن عباس وهذان القولان يدلان على أن قاتله أكثر من واحد والثالث ابن أخيه قال السدي عن أشياخه وعبيدة والرابع أخوه قاله عبد الرحمن بن زيد
قوله تعالى كذلك يحيي الله الموتى فيه قولان
احدهما انه خطاب لقوم موسى والثاني لمشركي قريش احتج عليهم إذ جحدوا البعث بما يوافق عليه أهل الكتاب قال ابو عبيدة وآياته عجائبه ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون
قوله تعالى ثم قست قولبكم قال ابراهيم بن السري قست في اللغة غلظت ويبست وعست فقسوة القلب ذهاب اللين والرحمة والحشوع منه والقاسي والعاسي الشديد الصلابة وقال ابن قتيبة قست وعست وعتت واحد أي يبست
وفي المشار إليهم بها قولان احدهما جميع بني اسرائيل والثاني القاتل قال ابن عباس قال الذين قتلوه بعد أن سمى قاتله والله ما قتلناه وفي كاف ذلك ثلاثة أقوال أحدها أنه إشارة الى إحياء الموتى فيكون الخطاب لجميع بني اسرائيل والثاني

الى كلام القتيل فيكون الخطاب للقاتل ذكرهما المفسرون والثالث الى ما شرح من الآيات من مسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وانبجاس الماء وإحياء القتيل ذكره الزجاج
وفي أو أقوال هي بعينها مذكروة في قوله تعالى أو كصيب وقد تقدمت
قوله تعالى وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار قال مجاهد كل حجر ينفجر منه الماء وينشق عن ماء او يتردى من رأس جبل فمن خشية الله
قوله تعالى أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون
في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال احدها انه النبي صلى الله عليه و سلم خاصة قاله ابن عباس و مقاتل والثاني انه المؤمنون تقديره أفتطمعون أن تصدقوا نبيكم قاله أبوالعالية وقتادة والثالث أنهم الأنصار فانهم لما أسلموا أحبوا إسلام اليهود للرضاعة التي كانت بينهم ذكره النقاش قال الزجاج وألف أفتطمعون ألف استخبار كأنه آيسهم من الطمع في إيمانهم
وفي سماعهم لكلام الله قولان احدهما أنهم قرؤوا التوراة فحرفوها هذا قول مجاهد والسدي في آخرين فيكون سماعهم لكلام الله بتبليغ نبيهم وتحريفهم تغيير ما فيها والثاني أنهم السبعون الذين اختارهم موسى فسمعوا كلام الله كفاحا عند الجبل فلما جاؤوا الى قومهم قالوا قال لنا كذا وكذا وقال في آخر قوله إن لم تستطيعوا ترك ما أنهاكم عنه فافعلوا ما تستطيعون هذا قول مقاتل والأول أصح وقد أنكر بعض أهل العلم منهم الترمذي صاحب النوادر هذا القول إنكار شديد وقال إنما خص

بالكلام موسى وحده وإلا فأي ميزة وجعل هذا من الأحاديث لتي رواها الكلبي وكان كذابا
ومعنى عقلوه سمعوه ووعوه
وفي قوله تعالى وهم يعلمون قولان أحدهما وهم يعلمون أنهم حرفوه والثاني وهم يعلمون عقاب تحريفه
قوله تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالواآمنا وإذا خلا بعضهم الى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون ومت يعلنون
هذه الآية نزلت في نفر من اليهود كنوا إذا لقوا النبي والمؤمنين قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم الى بعض قالوا اتحدثونهم بما فتح الله عليكم هذا قول ابن عباس وأبي العالية و مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وابن زيد و مقاتل
وفي معنى بما فتح الله عليكم قولان أحدهما بما قضى الله عليكم والفتح القضاء ومنه قوله تعالى ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق الاعراف 89 قال السدي عن أشياخه كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض اتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليقولوا نحن احب الى الله منكم واكرم على الله منكم والثاني أن معناه بما علمكم الله قال ابن عباس و أبوالعالية وقتادة الذي فتحه عليهم ما أنزله من التوراة في صفة محمد صلى الله عليه و سلم وقال مقاتل كان المسلم يلقى حليفه أو أخاه من الرضاعة من اليهود فيسأله اتجدون محمدا في كتابكم فيقولون نعم إنه لحق فسمع كعب بن الأشرف وغيره فقال لليهود في السر اتحدثون أصحاب محمد بما فتح الله عليكم أي بما بين لكم في التوراة من أمر ممد ليخاصموكم به عند ربكم باعترافكم أنه نبي أفلا تعقلون أن هذا حجة عليكم

قوله تعالى عند ربكم فيه قولان احدهما انه بمعنى في حكم ربكم كقوله تعالى فأولئك عند الله هم الكاذبون النور 13 والثاني انه أراد يوم القيامة
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا اماني وإن هم إلا يظنون
قوله تعالى ومنهم أميون يعنى اليهود والأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ قاله مجاهد وفي تسميته بالأمي قولان أحدهما لأنه على خلقة الأمة التي لم تتعلم الكتاب فهو على جبلته قاله الزجاج والثاني انه ينسب الى أمه لأن الكتابة في الرجال كانت دون النساء وقيل لأنه على ما ولدته أمه
قوله تعالى لايعلمون الكتاب قال قتادة لايدرون ما فيه
قوله تعالى إلا أماني جمهور القرأء على تشديد الياء وقرأ الحسن وأبو جعفر بتخفيف الياء وكذلك تلك أمانيهم البقرة 111 و ليس بأمانيكم ولاأماني أهل الكتاب النساء 123 في أمنيته الحج 52 غرتكم الأماني الحديد 14 كله بتخفيف الياء وكسر الهاء من أمانيهم ولا بخلاف في فتح ياء الأماني
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها أنها الأكاذيب قال ابن عباس إلا أماني يريد إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا وهذا قول مجاهد واختيار الفراء وذكر الفراء أن بعض العرب قال لابن دأب وهو يحدث اهذا شئ رويته أم شئ تمنيته يريد افتلعته
والثاني أن الأماني التلاوة فمعناه لايعلمون فقه الكتاب إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم قال الشاعر ... تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمني داود الزبور على رسل ...
وهذا قول الكسائي و الزجاج

والثالث أنها أمانيهم على الله قاله قتادة
قوله تعالى وإن هم إلا يظنون قال مقاتل ليسوا على يقين فان كذب الرؤساء أو صدقوا تابعوهم
قوله تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيدهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيدهم وويل لهم مما يكسبون
هذا الآية نزلت في أهل الكتاب الذين بدلوا التوراة وغيروا صفة النبي صلى الله عليه و سلم فيها وهذا قول ابن عباس وقتادة وابن زيد وسفيان فأما الويل فروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ويل واد في جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره وقال الزجاج الويل كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة ويستعملها هو أيضا وأصلها في اللفة العذاب والهلاك قال ابن الانباري ويقال معنى الويل المشقة من العذاب ويقال أصله وي لفلان أي حزن لفلان فكثر الاستعمال للحرفين فوصلت اللام ب وي وجعلت حرفا واحدا ثم خبر عن ويل بلام أخرى وهذا اختاير الفراء والكتاب هاهنا التوراة وذكر الأيدي توكيد والثمن القليل ما يفنى من الدنيا
وفيما يكسبون قولان أحدهما أنه عوض ما كتبوا والثاني إثم ما فعلوا
وقالوا لن تسمنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون
قوله تعالى وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة وهم اليهود وفيما عنوا بهذه الأيام قولان

احدهما انهم أرادوا أربعن يوما قاله ابن عباس وعكرمة و أبوالعالية وقتادة والسدي
ولماذا قدروها بأربعين فيه ثلاثة أقوال
احدها أنهم قالوا بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة ونحن نقطع مسيرة كل سنة في يوم ثم ينقضي العذاب وتهلك النار قاله ابن عباس
والثاني أنهم قالوا عتب علينا ربنا في أمر فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة ثم يدخلنا الجنة فلن تمسنا النار إلا أربعين يوما تحلة القسم وهذا قول الحسن و أبي العالية
والثالث أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل قاله مقاتل
والقول الثاني أن الأيام المعدودة سبعة أيام وذلك لآن عندهم أن الدنيا سبة ألاف سنة والناس يعذبون لكل ألف سنة يوما من أيام الدنيا ثم ينقطع العذاب قاله ابن عباس
قل أتخذتم عند الله عهدا أي عهد إليكم أنه لايعذبكم إلا هذا المقدار
يلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب انار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
قوله تعالى بلى من كسب سيئة بلى بمنزلة نعم إلا أن بلى جواب النفي ونعم جواب الإيجاب قال الفراء إذا قال الرجل لصاحبه مالك علي شئ فقال الآخر نعم كان تصديقا أن لاشئ له عليه ولو قال بلى كان ردا لقوله قال ابن الانباري وإنما صارت بلى تتصل بالجحد لأنها رجوع عن الجحد الى التحقيق فهي بمنزلة بل وبل سبيلها أن تأتي بعد الجحد كقولهم ما قام أخوك بل أبوك وإذا قال الرجل للرجل ألا تقوم فقال له بلى أراد بل أقوم فزاد الألف على بل ليحسن السكوت عليها لأنه لو قال بل كان يتوقع كلاما بعد بل فزاد الألف ليزول هذا التوهم عن المخاطب

ومعنى بلي من كسب سيئة بل من كسب قال الزجاج بلى رد لقولهم لن تمسنا النار إلا أيما معدودة والسيئة هاهنا الشرك في قول ابن عباس وعكرمة وابي وائل و أبي العالية و مجاهد وقتادة و مقاتل
وأحاطت به أي أحدقت به خطيئته وقرأ نافع خطيئاته بالجمع قال عكرمة مات ولم يتب منها وقال ابو وائل الخطيئة صفة للشرك قال أبو علي إما أن يكون المعنى أحاطت بحسنته خطيئته أي أحبطتها من حيث أن المحيط أكثر من الماط به فيكون كقوله وإن جهنم لمحيطة بالكافرين التوبة 49 وقوله احاط بهم سرادقها الكهف 29 اويكون معنى أحاطت به أهلكته كقوله إلا أن يحاط بكم يوسف 66
وإذا أخذنا ميثاق بني اسرائيل لاتعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون
قوله تعالى وإذ أخذنا ميثاق بني اسرائيل هذا الميثاق مأخوذ علهم في التوراة
قوله تعالى لاتعبدون وقرأ عاصم ونافع وابو عمرو وابن عامر بالتاء على الخطاب لهم وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الإخبار عنهم
قوله تعالى وبالوالدين احسانا أي ووصيناهم بآبائهم وأمهاتهم خيرا قال الفراء والعرب تقول أوصيك به خيرا وآمرك به خيرا والمعنى آمرك أن تفعل به ثم تحذف أن فيوصل الخير بالوصية والأمر قال الشاعر ... عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبي دهماء إذ يوصينا ... خيرا بها كأننا جافونا ...
وأما الإحسان الى الوالدين فهو برهما قال ابن عباس لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار وقالت عائشة ما بر والده من شد النظر اليه وقال عروة لا تمتنع عن شئ أحباه

قوله تعالى وذي القربى أي ووصييناهم بذي القربى أن يصلوا أرحامهم واما اليتامى فجمع يتيم قال الاصمعي اليتم في الناس من قبل الأب وفي غير الناس من قبل الأم قال ابن الانباري قال ثعلب اليتم معناه في كلام العرب الانفراد فمعنا صبي يتيم منفرد عن أبيه وأنشدنا ... أفاطم إني هالك فتبيني ... ولا تجزعي كل النساء يتيم ...
قال يروى يتيم ويئيم فمن روى يتيم بالتاء أراد كل النساء ضعيف منفرد ومن روى بالياء أراد كل النساء يموت عنهن اوزاجهن وقال انشدنا ابن الاعرابي ... ثلاثة احباب فحب علاقة ... وحب تملاق وحب هو القتل ...
قال فقلنا له زدنا فقال البيت يتيم أي منفرد وقرأت على شيخنا ابي منصور اللغوي قال إذا بلغ الصبي زال عنه اسمه اليتم يقال منه يتم ييتم يتما ويتما وجمع اليتيم يتامى وأيتام وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة قال وقيل أصل اليتم الغفلة وبه سمي اليتيم لأنه يتغافل عن بره والمرأة تدعى يتيمة مالم تزوج فاذا تزوجت زال عنها اسم اليتم وقيل لا يزول عنها اسم اليتم أبدا وقال ابو عمرو اليتم الإبطاء ومنه أخذ اليتيم لأن البر يبطئ عنه والمساكين جمع مسكين وهو اسم مأخوذ من السكون كأن المسكين قد اسكنه الفقر
قوله تعالى وقولوا للناس حسنا قرأ ابن كثير وابو عمر ونافع وعاصم وابن عامر حسنا بضم الحاء والتخفيف وقرأ حمزة والكسائي حسنا بفتح الحاء والتثقيل قال ابو علي من قرأ حسنا فجائز ان يكون الحسن لغة في الحسن كالبخل والبخل والرشد والرشد وجاء ذلك في الصفة كما جاء في الاسم ألا تراهم قالوا العرب والعرب ويجوز ان يكون الحسن مصدرا كالكفر والشكر والشغل وحذف المضاف معه كأنه

قال قولوا قولا ذا حسن ومن قرأ حسنا جعله صفة والتقدير عنده قولوا للناس قولا حسنا فحذف الموصوف
واختلفوا في المخاطب بهذا على قولين
احدهما انهم اليهود قاله ابن عباس وابن جبير وابن جريج ومعناه اصدقوا وبينوا صفة النبي
والثاني انهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم قال أبوالعالية قولوا للناس معروفا وقال محمد ابن علي بن الحسين كلموهم بما تحبون أن يقولوا لكم و زعم قوم ان المراد بذلك مساهلة الكفار في دعائهم الى الإسلام فعلى هذا تكون منسوخة بآية السيف
قوله تعالى ثم توليتم أي اعرضتم الا قليلا منكم وفيهم قولان احدهما انهم اولهم الذين لم يبدلوا والثاني انهم الذين آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه و سلم في زمانه وإذأخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وأن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم افتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون بعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون
قوله تعالى وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم أي لا يسفك بعضكم دم بعض ولا يخرج بعضكم بعضا من داره قال ابن عباس ثم أقررتم يومئذ بالعهد وأنتم اليوم تشهدون على ذلك فالإقرأر على هذا متوجه الى سلفهم والشاهدة متوجهة الى خلفهم ثم أنتم هؤلاء تقتلون انفسكم أي يقتل بعضكم بعضا روى السدي عن أشياخه قال كانت قريظة خلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج فكانوا يقاتلون في حرب سمير فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءها وكانت

النضير تقاتل قريظة وحلفاءها فيغلبونهم ويخربون الديار ويخرجون منها فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه فتعيرهم العرب بذلك فتقول كيف تقاتلونهم وتفدونهم فيقولون أمرنا أن نفديهم حرم علينا قتلهم فتقول العرب فلم تقاتلونهم فيقولون نستحيي أن يستذل حلفاؤنا فعيرهم الله عز و جل فقال
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم الى قوله أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فكان إيمانهم ببعضه فداءهم الأسارى وكفرهم قتل بعضهم بعضا
قوله تعالى تظاهرون قرأ عاصم وحمزة والكسائي تظاهرون وفي التحريم تظاهرا بتخفيف الظاء وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر بتشديد الظاء مع إثبات الألف قال أبو علي من قرأ تظاهرون بتشديد الظاء أدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها فخفف بالإدغام ومن قرأ تظاهرون خفيفة حذف التاء التي أدغمها أولئك من اللفظ فخفف بالحذف والتاء التي أدغمها ابن كثير هي التي حذفها عاصم وروي عن الحسن وابي جعفر تظهرون بتشديد الظاء من غير ألف فالتظاهر التعاون قال ابن قتيبة وأصله من الظهر فكأن التظاهر أن يجعل كل واحد من الرجلين أو من القوم الآخر ظهرا له يتقوى به ويستند اليه قال مقاتل والإثم المعصية والعدوان الظلم
قوله تعالى وأن يأتوكم أسارى تفادهم أصل الأسر الشد قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر أسارى وقرأ الاعمش وحمزة أسرى قال الفراء أهل الحجاز يجمعون الأسير أسارى وأهل نجد اكثر كلامهم أسرى وهو أجود الوجهين في العربية لأنه بمنزلة قولهم جريح وجرحى وصريع وصرعى وروى الأصمعي عن أبي عمرو قال الاسارى ما شدوا والاسرى في ايديهم إلا انهم لم يشدوا وقال الزجاج فعلى جمع لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم وعقولهم يقال هالك وهلكى ومريض مرضى وأحمق

وحمقى وسكران وسكرى فمن قرأ أسارى فهى جمع الجمع تقول اسير واسرى واسارى جمع اسرى
قوله تعالى تفادهم قرأ ابن كثير وابو عمر وابن عامر تفدوهم وقرأ نافع وعاصم والكسائي تفادوهم بألف والمفاداة إعطاء شئ وأخذ شئ مكانه أفتؤمنون ببعض الكتاب وهو فكاك الأسرى وتكفرون ببعض وهو الإخراج والقتل وقال مجاهد تفديه في يد غيرك وتقتله أنت بيدك
وفي المراد بالخزي قولان احدهما انه الجزية قاله ابن عباس والثاني قتل قريظة ونفي النضير قاله مقاتل قوله تعالى اولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة قال ابن عباس هم اليهود وقال مقاتل باعوا الآخرة بما يصيبونه من الدنيا
ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب يريد التوراة وقفينا أتبعنا قال ابن قتيبة وهو مأخوذ من القفا يقال قفوت الرجل إذا سرت في أثره والبينات الآيات والواضحات كابراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وأيدناه قويناه والأيد القوة
وفي روح القدس ثلاثة أقوال
احدها أنه جبريل والقدس الطهارة وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي في آخرين وكان ابن كثير يقرأ بروح القدس ساكنة الدال قال ابو علي التخفيف والتثقيل فيه حسنان نحو العنق والعنق والطنب والطنب
وفي تأييده به ثلاثة أقوال ذكرها الزجاج احدها أنه أيد به لاظهار حجته وأمر دينه

والثاني لدفع بني اسرائيل عنه إذ أرادوا قتله والثالث انه أيد به في جميع أحواله
والقول الثاني انه الاسم الذي كان يحيي به الموتى رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث انه الإنجيل قاله ابن زيد
وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون
قوله تعالى وقالوا قلوبنا غلف قرأ الجمهور باسكان اللام وقرأ قوم منهم الحسن وابن محيصن بضمها قال الزجاج قرأ غلف بتسكين اللام فمعناه ذوات غلف فكأنهم قالوا قلوبنا في أوعية ومن قرأ غلف بضم اللام فهو جمع غلاف فكأنهم قالوا قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم وهي اوعية للعلم فعلى الأول يقصدون إعراضه عنهم كأنهم يقولون مانفهم شيئا وعلى الثاني يقولون لو كان قولك حقا لقبلته قلوبنا
قوله تعالى فقليلا ما يؤمنون فيه خمسة أقوال
أحدها فقليل من يؤمن منهم قاله ابن عباس وقتادة والثاني ان المعنى قليل ما يؤمنون به قال معمر يؤمنون بقيل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره والثالث أن المعنى فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا ذكره ابن الانباري وقال هذا على لغة قوم من العرب يقولون قلما رأيت مثل هذا الرجل وهم يريدون ما رأيت مثله والرابع فيؤمنون قليلا من الزمان كقوله تعالى آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ذكره ابن الانباري ايضا والخامس أن المعنى فايمانهم قليل ذكره ابن جرير الطبري وحكى في ما قولين أحدهما انها زائدة والثاني ان ما تجمع جميع الأشياء ثم تخص بعض ما عمته بما يذكر بعدها
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين

قوله تعالى ولما جاءهم كتاب من عند الله يعني القرأن ويستفتحون يستنصرون وكانت اليهود إذا قاتلت المشركين استنصروا باسم نبي الله محمد صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى بئس ما اشتروا به أنفسهم بئس كلمة مستوفية لجميع الذم ونقيضها نعم واشتروا بمعنى باعوا والذي باعوها به قليل من الدنيا
قوله تعالى بغيا قال قتادة حسدا ومعنى الكلام كفروا بغيا لأن نزل الله الفضل على النبي صلى الله عليه و سلم
وفي قوله تعالى بغضب على غضب خمسة أقوال احدها ان الغضب الاول لاتخاذهم العجل والثاني لكفرهم بمحمد حكاه السدي عن ابن مسعود و ابن عباس والثاني ان الاول لتكذيبهم رسول الله والثاني لعداوتهم لجبريل رواه شهر عن ابن عباس والثالث أن الاول حين قالوا يد الله مغلولة المائدة 64 والثاني حني كذبوا نبي الله رواه ابو صالح عن ابن عباس واختاره الفراء والرابع ان الاول لتكذيبهم بعيسى والإنجيل والثاني لتكذيبهم بمحمد والقرأن قاله الحسن والشعبي وعكرمة و أبوالعالية وقتادة و مقاتل والخامس ان الأول لتبديلهم التوراة والثاني لتكذيبهم محمدا صلى الله عليه و سلم قاله مجاهد والمهين المذل
وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى وإذا قيل لهم آمنوا بما أزل الله يعني القرأن قالوا نؤمن بما أنزل علينا يعنون التوراة
وفي قوله ويكفرون بما وراءه قولاان أحدهما أنه اراد بما سواه ومثله وأحل لكم ما وراء ذلكم النساء 24 قاله الفراء و مقاتل والثاني بما بعد الذي أنزل عليهم قاله الزجاج
قوله تعالى وهو الحق يعود على ما وراءه
فلم تقتلون أنبياء الله هذا جواب قولهم نؤمن بما انزل علينا فان الأنبياء

وتقتلون بمعنى قتلتم فوضع المستقبل في موضع الماضي لأت الوهم لا يذهب الى غيره وانشدوا في ذلك ... شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر ...
اراد يشهد
ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى ولد جاءكم موسى بالبينات فيها قولان احدهما ما في الألواح من الحلال والحرام قاله ابن عباس والثاني الآيات التسع قاله مقاتل
وفي هاء بعده قولان أحدهما انها تعود الى موسى فمعناه من بعد انطلاقه الى الجبل قاله ابن عباس و مقاتل والثاني أنها تعود الى المجيء لأن جاءكم يدل على المجيء وفي ذكر عبادتهم العجل تكذيب لقولهم نؤمن بما انزل علينا
قوله تعالى قالوا سمعنا وعصينا قال ابن عباس كانوا إذا نظروا الى الجبل قالوا سمعنا وأطعنا وإذا نظروا الى الكتاب قالوا سمعنا وعصينا
قوله تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل أي سقوا حب العجل فحذف المضاف وهو الحب وأقام المضاف اليه مقامه ومثله قوله الحج اشهر معلومات البقرة 197 أي وقت الحج وقوله أجعلتم سقاية الحاج التوبة 19 أي اجعلتم صاحب سقاية الحاج وقوله واسئلوا القرية يوسف 82 أي أهلها وقوله إذا لأذقناك ضعف الحياة الاسراء 75 أي ضعف عذاب الحياة وقوله لهدمت صوامع وبيع وصلوات الحج 40 أي بيوت صلوات وقوله بل مكر الليل والنهار سبأ 30 أي مكركم فيهما وقوله فليدع نادية العلق 17 أي أهله

ومن هذا قول الشاعر ... أنبئت أن النار بعدك اوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس ...
أي أهل المجلس وقال الآخر ... وشر المنايا ميت بين أهله ...
أي وشر المنايا منية ميت بين اهله
قوله تعالى قل بئسما يامركم به إيمانكم أي أن تكذبوا المرسلين وتقتلوا النبيين بغير حق وتكتموا الهدى
قوله تعالى إن كنتم مؤمنين في إن قولان أحدهما انها بمعنى الجحد فالمعنى ما كنتم مؤمنين إذ عصيتم الله وعبدتم العجل والثاني أن تكون إن شرطا معلقا بما قبله فالمعنى إن كنتم مؤمنين فبئس الإيمان إيمان يأمركم بعبادة العجل وقتل الانبياء ذكرهما ابن الأنباري
قل ان كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ولتجدنهم احرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا يودأحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون
قوله تعالى قل إن كانت لكم الدار الآخرة كانت اليهود تزعم ان الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وولده فنزلت هذه الآية ومن الدليل على علمهم بان النبي صلى الله عليه و سلم صادق انهم ما تمنوا الموت واكبر دليل على صدقه أنه أخير أنهم لا يتمنونه بقوله تعالى ولن يتمنوه فما تمناه أحد منهم والذي قدمته أيديهم قبل الأنبياء وتكذيبهم وتبديل التوراة
قوله تعالى ولتجدنهم اللام لام القسم والنون توكيد له والمعنى ولتجدن اليهود في حال دعائهم الى تمني الموت أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا وفي الذين أشركوا قولان أحدهما أنهم المجوس قاله ابن عباس وابن قتيبة

و الزجاج والثاني مشركو العرب قاله مقاتل
قوله تعالى يود أحدهم في الهاء والميم من احدهم قولان أحدهما انها تعود على الذين أشركوا قاله الفراء والثاني ترجع الى اليهود قال مقاتل قال الزجاج وإنما ذكر ألف سنة لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعوبها لملوكها كان الملك يحيا بأن يقال له عش ألف نيروز وألف مهرجان
قوله تعالى وما هو فيه قولان ذكرهما الزجاج احدهما انه كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره تقديره وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره والثني ان يكون هو كناية عما جرى من التعمير فيكون المعنى وما تعميره بمزحزخه من العذاب ثم جعل ان يعمر مبينا عنه كأنه قال ذلك الشئ الدني ء ليس بمزحزحه من العذاب
قل من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فان الله عدو للكافرين ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون
قوله تعالى قل من كان عدوا لجبير قال ابن عباس أقبلت اليهود الى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا من يأتيك من الملائكة قال جبريل فقالوا ذاك ينزل بالحرب والقتال ذاك عدونا فنزلت هذه الآية والتي تليها
وفي جبريل إحدى عشرة لغة
إحداها جبريل بكسر الجيم والراء من غير همز وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ ابن عامر وابو عمرو قال ورقة بن نوفل ... و جبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل

وقال عمران بن حطان ... والروح جبريل فيهم لاكفاء له ... وكان جبريل عند الله مأمونا ...
وقال حسان ... و جبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء ...
واللغة الثانية جبريل بفتح الجيم وكسر الراء وبعدها ياء ساكنة من غير همز على وزن فعليل وبها قرأ الحسن البصري وابن كثير وابن محيصن وقال الفراء لا أشتهيها لأنه ليس في الكلام فعليل ولا أرى الحسن قرأها إلا وهو صواب لأنه اسم اعجمي
والثالثة جبرئيل بفتح الجيم والراء وبعدها همزة مكسورة على وزن جبرعيل وبها قرأ الأعمش وحمزة والكسائي قال الفراء وهي لغة تميم وقيس وكثير من أهل نجد وقال الزجاج هي أجود اللغات وقال جرير ... عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد ... وبجبرئيل وكذبوا ميكالا ...
والرابعة جبرئل بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء اللازم مكسورة من غير مد على وزن جبرعل رواها ابو بكر عن عاصم
والخامسة جبرئل بفتح الجيم وكسر الهمزة وتشديد اللام وهى قرأءة أبان عن عاصم ويحيى بن يعمر
والسادسة جبرائيل بهمزة مكسورة بعدها ياء مع الألف
والسابعة جبراييل بيائين بعد الألف أولهما مكسورة
والثامنة جبرين بفتح الجيم ونون مكان اللام
والتاسعة جبرين بكسر الجيم وبنون قال الفراء هي لغة بني أسد وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن الانباري قال في جبريل تسعة لغات فكرهن

وذكر ابن الانباري في كتاب الرد على من خالف مصحف عثمان جبرائل بفتح الجيم وإثبات الالف مع همزة مكسورة ليس بعدها ياء وجبرئين بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها يا ونون
فأما ميكائيل ففيه خمس لغات
إحداهن ميكال مثل مفعال بغير همز وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ ابو عمرو وحفص عن عاصم
والثانية ميكائيل باثبات ياء ساكنة بعد الهمزة مثل ميكاعيل وهي لغة تميم وقيس وكثير من أهل نجد وبها قرأ ابن عامر وابن وحمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم
والثالثة ميكائل بهمزة مكسورة بعد الألف من غير ياء مثل ميكاعل وبها قرأ نافع وابن شنبوذ وابن الصباح جميعا عن قنبل
والرابعة ميكئل على وزن ميكعل وبها قرأ ابن محيصن
والخامسة ميكائين بهمزة معها ياء ونون بعد الالف ذكرها ابن الانباري
قال الكسائي جبريل وميكائيل اسمان لم تكن العرب تعرفهما فلما جاءا عربتهما قال ابن عباس جبريل وميكائيل كقولك عبد الله وعبد الرحمن ذهب الى أن إيل اسم الله واسم الملك جبر وميكا وقال عكرمة معنى جبريل عبد الله ومعنى ميكائيل عبيد الله وقد دخل جبريل وميكائيل في الملائكة لكنه أعاد ذكرهما لشرفهما كقوله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان الرحمن 68 وإنما قال فان الله عدو للكافرين ولم يقل لهم ليدل على أنهم كافرون بهذه العداوة
اوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون

قوله تعالى او كلما عاهدوا عهدا الواو واو العطف أدخلت عليها ألف الاستفهام قال ابن عباس و مجاهد والمشار اليهم اليهود وقيل العهد الذي عاهدوه انهم قالوا والله لئن خرج محمد لنؤمنن به وروي عن عطاء انها العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبينهم فنقضوها كفعل قريظة والنضير ومعنى نبذه رفضه
قوله تعالى نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب يعني اليهود والكتاب التوراة وفي قوله تعالى كتاب الله قولان أحدهما القرأن والثاني انه التوراة لأن الكافرين بمحمد صلى الله عليه و سلم قد نبذوا التوراة
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يقرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
قوله تعالى واتبعوا ماتتلو الشياطين
في سبب نزولها قولان
احدهما ان اليهود كانوا لا يسألون النبي عن شئ من التوراة إلا أجابهم فسألوه عن السحر وخاصموه به فنزلت هذه الآية قاله أبوالعالية والثاني انه لما ذكر سليمان في القرأن قالت يهود المدينة ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا فنزلت هذه الآية قاله ابن اسحاق
وتتلوا بمعنى تلت و على بمعنى في قاله المبرد قال الزجاج وقوله على ملك سليمان أي على عهد سليمان
وفي كيفية ما تلت الشياطين على ملك سليمان ستة أقوال

احدها انه لما خرج سليمان عن ملكه كتبت الشياطين السحر ودفنته في مصلاه فلما توفي استخرجوه وقالوا بهذا كان يملك الملك ذكر هذا المعنى ابو صالح عن ابن عباس وهو قول مقاتل
والثاني ان آصف كان يكتب ما يأمر به سليمان ويدفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان استخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكذبا وأضافوه الى سليمان رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثالث ان الشياطين كتبت السحر بعد موت سليمان ثم اضافته اليه قاله عكرمة
والرابع ان الشياطين ابتدعت السحر فأخذه سليمان فدفنه تحت كرسيه لئلا يتعمله الناس فلما قبض استخرجته فعلمته الناس وقالوا هذا علم سليمان قاله قتادة
والخامس ان سليمان أخذ عهود الدواب فكانت الدابة إذا أصابت إنسانا طلب إليها بذلك العهد فتخلي عنه فزاد السحرة السجع والسحر قاله ابو مجلز
والسادس ان الشياطين كانت في عهد سليمان تسترق السمع فتسمع من كلام الملائكة ما يكون في الارض من موت او غيث او أمر فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا في بني اسرائيل أن الجن تعلم الغيب فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع ان يدنو من الكرسي إلا احترق وقال لا أسمع أحدا يذكر ان الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان جاء شيطان الى نفر من بني اسرائيل فدلهم على تلك الكتب وقال إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا ففشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذ

بنوا اسرائيل تلك الكتب فلما جاء محمد صلى الله عليه و سلم خاصموه بها هذا قول السدي
وسليمان اسم عبراني وقد تكلمت به العرب في الجاهلية وقد جعله النابغة سليما ضرورة فقال ... ونسج سليم كل قضاء ذائل ...
واضطر الحطيئة فجعله سلاما فقال ... فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاء محكمة من نسج سلام ...
وارادا جميعا داود ابا سليمان فلم يستقم لهما الشعر فجعلاه سليمان وغيراه
كذلك قرأته على شيخنا ابي منصور اللغوي وفي قوله وما كفر سليمان دليل على كفر الساحر لأنهم نسبوا الى السحر لا الى الكفر
قوله تعالى ولكن الشياطين كفروا
وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وعاصم بتشديد نون ولكن ونصب نون الشياطين وقرأ ابن عامر و حمزة والكسائي بتخفيف النون من لكن ورفع نون الشياطين
قوله تعالى وما أنزل على الملكين وقرأ ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والزهري الملكين بكسر اللام وقرأءة الجمهور أصح
وفي ما قولان احدهما انها معطوفة على ما الأولى فتقديره واتبعوا ما تتلو الشياطين وما أنزل على الملكين والثاني انها معطوفة على السحر فتقديره يعلمون الناس السحر ويعملونهم ما أنزل على الملكين فإن قيل إذا كان السحر نزل على الملكين فلماذا كره فالجواب من وجهين ذكرهما ابن السري احدهما انهما كانا يعلمان الناس ما السحر ويأمران باجتنابه وفي ذلك حكمة لأن سائلا لو قال ما الزني لوجب

أن يوقف عليه ويعلم انه حرام والثاني أنه من الجائز ان يكون الله تعالى امتحن الناس بالملكين فمن قبل التعلم كان كافرا ومن لم يقبله فهو مؤمن كما امتحن بنهر طالوت
وفي الذي انزل على الملكين قولان احدهما انه السحر روي عن ابن مسعود والحسن وابن زيد والثاني انه التفرقة بين المرء وزوجه لا السحر روي عن مجاهد وقتادة و عن ابن عباس كالقولين قال الزجاج وهذا من باب السحر ايضا
الإشارة الى قصة الملكين
ذكر العلماء ان الملكين انما انزلا الى الارض لسبب وهو انه لما كثرت خطايا بني آدم دعت عليهم الملائكة فقال الله تعالى لو انزلت الشهوة والشياطين منكم منزلتهما من بني آدم لفعلتم مثل ما فعلوا فحدثوا انفسهم أنهم إن ابتلوا اعتصموا فأوحى الله إليهم

أن اختاروا من أفضلكم ملكين فاختاروا هاروت وماروت وهذا مروي عن ابن مسعود و ابن عباس
واختلف العلماء ماذا فعلا من المعصية على ثلاثة أقوال احدها أنهما زنيا وقتلا وشربا الخمرة قاله ابن عباس والثاني انهما جارا في الحكم قاله عبيد الله بن عتبة والثالث انهما هما بالمعصية فقط ونقل عن علي رضي الله عنه ان الزهرة كانت امرأة جميلة وانها خاصمت الى المللكين هاروت وماروت فراودها كل واحد منهما على نفسها ولم يعلم صاحبه وكانا يصعدان السماء آخر النهار فقالت لهما بم تهبطان وتصعدان قالا باسم الله الأعظم فقالت ما أما بمواتيتكما الى ما تريدان حتى تعلمانيه فعلماها إياه فطارت الى السماء فمسخها الله كوكبا
وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه و سلم لعن الزهرة وقال إنها فتنت ملكين إلا أن هذه الأشياء بعيد عن الصحة وتأول بعضهم هذا فقال إنه لما رأى الكوكب ذكر تلك المرأة

لاأن المرأة مسخت نجما
واختلف العلماء في كيفيفة عذابهما فروي عن ابن مسعود أنهما معلقان بشعورهما الى يوم القيامة وقال مجاهد إن جبا ملئ نارا فجعلا فيه
فأما بابل فروي عن الخليل ان ألسن الناس تبلبلت بها واختلفوا في حدها على ثلاثة اقوال احدها انها الكوفة وسوادها قاله ابن مسعود والثاني انها من نصيبين الى رأس العين قاله قتادة والثالث انها جبل في وهذه من الأرض قاله السدي
قوله تعالى إنما نحن فتنة أي اختبار وابتلاء
قوله تعالى إلا باذن الله يريد بقضائه ولقد علموا إشارة الى اليهود لمن اشتراه يعني اختاره يريد السحر واللم لام اليمين فأما الخلاق فقال الزجاج هو النصيب والوافر من الخير
قوله تعالى ولبئس ما شروا به أنفسهم أي باعوها به لو كانوا يعلمون العقاب فيه

فصل
اختلف الفقهاء في حكم الساحر فمذهب إمامنا أحمد رضي الله عنه يكفر بسحره قتل به او لم يقتل وهل تقبل توبته على روايتين وقال الشافعي لا يكفر بسحره فان قتل بسحره وقال سحري يقتل مثله وتعمدت ذلك قتل قودا وإن قال قد يقتل قد يخطئ لم يقتل وفيه الدية فأما ساحر أهل الكتاب فانه لا يقتل عند أحمد إلا أن يضر بالمسلمين فيقتل لنقض العهد وسواء في ذلك الرجل والمرأة وقال أبو حنيفة حكم ساحر أهل الكتاب حكم ساحر المسلمين في ايجاب القتل فأما المراة الساحرة فقال تحبس ولا تقتل
ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم
قوله تعالى ولو أنهم آمنوا يعني الهيود والمثوبة الثواب لو كانوا يعلمون قال الزجاج أي يعلمون بعلمهم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوالا تقولوا راعنا قرأ الجمهور بلا تنوين وقرأ الحسن والأعمش وابن محيصن بالتنوين وراعنا بلا تنوين من راعيت وبالتنوين من الرعونة قال ابن قتيبة راعنا بالتنوين هو اسم مأخوذ من الرعن و الرعونة أراد لا تقولوا جهلا ولا حمقا وقال غيره كان الرجل إذا أراد استنصات صاحبه قال أرعني سمعك فكان المنافقون يقولون راعنا يريدون انت أرعن وقوله انظرنا بمعنى انتظرنا وقال مجاهد انظرنا اسمع منا وقال ابن زيد لا تعجل علينا
ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختفص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم
قوله تعالى ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب
قال ابن عباس هم يهود المدينة ونصارى نجران فالمشركون مشركو اهل مكة ان ينزل عليكم أي على رسولكم من خير من ربكم أراد النبوة والإسلام

وقال أبو سليمان الدمشقي أراد بالخير العلم والفقه والحكمة
والله يختص برحمته من يشاء
في هذه الرحمة قولان احدهما انها النبوة قاله علي بن أبي طالب ومحمد بن علي بن الحسين و مجاهد و الزجاج والثاني انها الاسلام قاله ابن عباس و مقاتل
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله علي كل شئ قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير
قوله تعالى ما ننسخ من آية
سبب نزولها ان اليهود قالت لما نسخت القبلة إن محمدا يحل لأصحابه إذا شاء ويحرم عليهم إذا شاء فنزلت هذه الآية
قال الزجاج النسخ في اللغة إبطال شئ وإقامة آخر مقامه تقول العرب نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال احدها رفع اللفظ والحكم والثاني تبديل الآية بغيرها رويا عن ابن عباس والأول قول السدي والثاني قول مقاتل والثالث رفع الحكم مع بقاء اللفظ رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود وبه قال أبوالعالية وقرأ ابن عامر ما ننسخ بضم النون وكسر السيد قال ابو علي أي ما نجده منسوخا كقولك احمدت فلانا أي وجدته محمودا وإنما يجده منسوخا بنسخه إياه
قوله تعالى او ننسها قرأ ابن كثير وابو عمرو ننسأها بفتح النون مع

الهمزة والمعنى نؤخرها قال أبو زيد نسأت الإبل عن الحوض فأنا انسأها إذا اخرتها ومنه النسيئة في البيع وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال احدها نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها قاله الفراء والثاني نؤخر إنزالها فلا ننزلها البتة والثالث نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها حكاهما ابو علي الفارسي وقرأ سعد بن ابي وقاص تنسها بتاء مفتوحة ونون وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك تنسها بضم التاء وقرأ نافع أوننسها بنونين الأولى مضمومة والثاينة ساكنة أراد أو ننسكها من النسيان
قوله تعالى نأت بخير منها قال ابن عباس بألين منها وأيسر على الناس
قوله تعالى او مثلها أي في الثواب والمنفعة فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار ألم تعلم لفظه لفظ الاستفهام ومعناه التوقيف والتقرير والملك في اللغة تمام القدرة واستحكامها فالله عز و جل يحكم بما يشاء على بعاده وبغير ما يشاء من أحكام
أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل
قوله تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم
في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها ان رافع بن حريملة ووهب بن زيد قالا لرسول الله ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا وفجر لنا أنهارا حتى نتبعك فنزلت الآية قاله ابن عباس
والثاني أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه و سلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا فقال هو لكم كالمائدة لبني اسرائيل إن كفترتم فأبوا قاله مجاهد

والثالث ان رجلا قال يا رسول الله لو كانت كفارتنا ككفارات بني اسرائيل فقال النبي صلى الله عليه و سلم اللهم لا نبغيها ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني اسرائيل كانوا إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها فان كفرها كانت له خزينا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة فقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني اسرائيل فقال ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما النساء 110 وقال الصلوات الخمس والجمعة الى الجمعة كفارة لما بينهن فنزلت هذه الآية قال أبوالعالية
والرابع أن عبد الله بن أبي أمية المخزومي اتى النبي صلى الله عليه و سلم في رهط من قريش فقال يا محمد والله لا أؤمن بك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا فنزلت هذه الآية ذكره ابن السائب
والخامس أن جماعة من المشركين جاؤوا الى النبي صلى الله عليه و سلم فقال بعضهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا وقال آخر ان اؤمن لك حتى تسير لنا جتال مكة وقال عبد الله بن أبي أمية لن أؤمن لك حتى تأتي بكتاب من السماء فيه من الله رب العالمين الى بن أبي أمية اعلم أني قد ارسلت محمدا الى الناس وقال آخر هلا جئت بكتابك مجتمعا كما جاء موسى بالتوراة فنزلت هذه الآية ذكره محمد بن القاسم الأنباري
وفي المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال
أحدها أنهم قريش قاله ابن عباس و مجاهد والثاني اليهود قاله مجاهد والثالث جميع العرب قاله أبو سليمان الدمشقي

وفي إم قولان
احدهما انها بمعنى بل تقول العرب هل لك علي حق ام انت معروف بالظلم يريدون بل أنت وأنشدوا ... بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح ...
ذكره الفراء و الزجاج
والثاني بمعنى الاستفهام فان اعترض معترض فقال إنما تكون للاستفهام إذا كانت مردودة على استفهام قبلها فأين الاستفهام الذي تقدمها فعنه جوابان أحدهما انه قد تقدمها استفهام وهو قوله ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ذكره الفراء وكذلك قال ابن الأنباري هي مردودة على الألف في ألم تعلم فإن اعترض على هذا الجواب فقيل كيف يصح العطف ولفظ ألم تعلم ينبىء عن الواحد و تريدون عن جماعة فالجواب أنه إنما رجع الخطاب من التوحيد الى الجمع لأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه و سلم فقد خوطبت به أمته فاكتفى به من أمته في المخاطبة الأولى ثم أظهر المعنى في المخاطبة الثانية ومثل هذا قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن الطلاق 1 ذكر هذا الجواب ابن الأنباري فأما الجواب الثاني عن أم فهو أنها للاستفهام وليست مردودة على شيء قال الفراء إذا توسط الاستفهام الكلام ابتدىء بالألف وبأم وإذا لم يسبقه كلام لم يكن إلا بالألف أو بهل وقال ابن الانباري أم جارية مجرى هل غير أن الفرق بينهما أن هل استفهام مبتدأ لا يتوسط ولا يتأخر و أم استفهام متوسط لا يكون إلا بعد كلام
فأما الرسول هاهنا فهو محمد صلى الله عليه و سلم والذي سئل موسى من قبل قولهم أرنا الله جهرة النساء 153 وهل سألوا ذلك نبيا أم لا فيه قولان أحدهما أنهم سألوا ذلك فقالوا لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا الاسراء 92 قاله ابن عباس والثاني انهم بالغوا في المسائل

فقيل لهم بهذه الآية لعلكم تريدون أن تسألوا محمدا أن يريكم الله جهرة قاله ابو سليمان الدمشقي
والكفر الجحود والإيمان التصديق وقال أبوالعالية المعنى ومن يتبدل الشدة بالرخاء وسواء السبيل وسطه
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير
قوله تعالى ود كثير من أهل الكتاب
في سبب نزولها ثلاثة أقوال احدها أن حيي بن أخطب وأبا ياسر كانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس والثاني أن كعب بن الأشرف كان يهجوا النبي ويحرض عليه كفار قريش في شعره وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله حين قدمها فأمر النبي بالصفح عنهم فنزلت هذه الآية قاله عبد الله بن كعب بن مالك والثالث أن نفرا من اليهود دعوا حذيفة وعمارا الى دينهم فأبيا فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
ومعنى ود احب وتمنى وأهل الكتاب اليهود قال الزجاج من عند أنفسهم موصول ب ود كثير لا بقوله حسدا لأن حسد الإنسان لا يكون إلا من عند نفسه والمعنى مودتهم لكفركم من عند أنفسهم لا أنه عندهم الحق فأما الحسد فهو تمني زوال النعمة عن المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها وتفارقه الغبطة فانها تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط وحد بعضهم الحسد فقال هو أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأخيار ولا يجوز أن يكون الفاضل حسودا لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل

وقال بعض الحكماء كل أحد يمكن ان ترضيه إلا الحاسد فانه لا يرضيه إلا زوال نعمتك وقا الأصمعي سمعت اعرابيا يقول ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد حزن لازم ونفس دائم وعقل هائم وحسرة لا تنقضي
قوله تعالى حتى يأتي الله بأمره قال ابن عباس فجاء الله بأمره في النضير بالجلاء والنفي وفي قريظة بالقتل والسبي
فصل
وقد روي عن ابن مسعود و ابن عباس و أبي العالية وقتادة رضي الله عنهم ان العفو والصفح منسوخ بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الىخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله التوبة 29 وأبى هذا القول جماعة من المفسرين والفقهاء واحتجوا بأن الله لم يأمر بالصفح والعفو مطلقا وإنما أمر به الى غاية وما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته والآخر يحتاج الى حكم آخر
واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير
قوله تعالى تجدوه أي تجدوا ثوابه
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصاري ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون

قوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى
قال ابن عباس اختصم يهود المدينة و نصارى نجران عند النبي صلى الله عليه و سلم فقالت اليهود ليست النصارى على شيء ولا يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وكفروا بالإنجيل وعيسى وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وكفروا بالتوراة وموسى فقال الله تعالى تلك أمانيهم
واعلم أن الكلام في هذه الآية مجمل ومعناه قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا والهود جمع هائد تلك أمانيهم أي ذاك شئ يتمنونه وظن يظنونه هذا معنى قول ابن عباس و مجاهد قال هاتوا برهانك أي حجتكم إن كنتم صادقين بأن الجنة لا يدخلها الى من كان هودا أو نصارى ثم بين تعالى بأنه ليس كما زعموا فقال بلى من أسلم وجهه وأسلم بمعنى اخلص وفي الوجه قولان أحدهما أنه الدين والثاني العمل
قوله تعالى وهو محسن أي في عمله فله أجره قال الزجاج يريد فهو يدخل الجنة
قوله تعالى وهم يتلون الكتاب أي كل منهم يتلوا كتابه بتصديق ما كفر به قاله السدي وقتادة كذلك قال الذي لا يعلمون وفيهم قولان احدهما انهم مشركوا العرب قاله لمحمد وأصحابه لستم على شيء قاله السدي عن أشياخه والثاني انهم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى كقوم نوح وهود و صالح قاله عطاء
قوله تعالى فالله يحكم بينهم يوم القيامة قال الزجاج يريد حكم الفصل بينهم فيريهم من يدخل الجنة عيانا ومن يدخل النار عيانا فأما الحكم بينهم في العقد فقد بينه لهم في الدنيا بما اقام على الصواب من الحجج
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها أسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
قوله تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله اختلفوا فيمن نزلت على قولين

أحدهما أنها نزلت في الروم كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس من أجل أن بني اسرئيل قتلوا يحيى بن زكريا فخرب وطرحت الجيف فيه قاله ابن عباس في آخرين والثاني أنها في المشركين الذين حالوا بين رسول الله وبين مكة يوم الحديبة قاله ابن زيد وفي المراد بخرابها قولان أحدهما أنه نقضها والثاني منع ذكر الله فيها
قوله تعالى اوئلك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين فيه قولان أحدهما أنه إخبار عن احوالهم بعد ذلك قال السدي لا يدخل رومي بيت المقدس إلا وهو خائف أن يضرب عنقه أو قد أخيف بأداء الجزية والثاني أنه خبر في معنى الأمر تقديره عليكم بالجد في جهادهم كي لا يدخلها احد إلا وهو خائف
لهم في الدنيا خزي فيه ثلاثة أقوال أحدها أن خزيهم الجزية قاله ابن عباس والثاني أنه فتح القسطنطينية قاله السدي والثالث أنه طردهم عن المسجد الحرام فلا يدخله مشرك أبدا ظاهرا قاله ابن زيد
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم
قوله تعالى ولله المشرق والمغرب
في نزولها اربعة أقوال أحدها أن الصحابة كانوا مع رسول الله في غزوة في ليلة مظلمة فلم يعرفوا القبلة فجعل كل واحد منهم مسجدا بين يديه وصلى فلما أصبحوا إذا هم على غير القبلة فذكروا ذلك لرسول الله فأنزل الله تعالى هذه الآية رواه عامر ابن ربيعه والثاني أنها نزلت في التطوع بالنافلة قاله ابن عمر والثالث أنه لما نزل قوله تعالى ادعوني استجب لكم غافر 60 قالوا الى أين فنزلت هذه الآية قاله مجاهد
والرابع أنه لما مات النجاشي وأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بالصلاة عليه قالوا أنه كان لا يصلي الى القبلة فنزلت هذه الآية قاله قتادة
قوله تعالى فثم وجه الله فيه قولان أحدهما فثم الله يريد علمه معكم اين كنتم

وهو ابن عباس و مقاتل والثاني فثم قبلة الله قاله عكرمة و مجاهد والواسع الذي وسع غناه مفاقر عباده ورزقه جميع خلقه والسعة في كلام العرب الغني
فصل
وهذه الآية مستعملة الحكم في المجتهد إذا صلى إلى غير القبلة وفي صلاة المتطوع على الراحلة والخائف وقد ذهب قوم إلى نسخها فقالوا إنها لما نزلت توجه رسول الله إلى بيت المقدس ثم نسخ ذلك بقوله وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره البقرة 144
وهذا مروي عن ابن عباس قال شيخنا علي بن عبيد الله وليس في القرآن أمر خاص بالصلاة إلى بيت المقدس وقوله فأينما تولوا فثم وجه الله ليس صريحا بالأمر بالتوجه إلى بيت المقدس بل فيه ما يدل على أن الجهات كلها سواء في جواز التوجه إليها فإذا ثبت هذا دل على أنه وجب التوجه إلى بيت المقدس بالسنة ثم نسخ بالقرآن
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون
قوله تعالى وقالوا اتخذ الله ولدا
اختلفوا فيمن نزلت على اربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في اليهود إذ جعلوا عزيرا ابن الله قاله ابن عباس
والثاني أنها نزلت في نصارى نجران حيث قالوا عيسى ابن الله قاله مقاتل
والثالث أنها في النصارى ومشركي العرب لأن النصارى قالت عيسى ابن الله والمشركين قالوا الملائكة بنات الله ذكره إبراهيم بن السري
والرابع أنها في اليهود والنصارى ومشركي العرب ذكره الثعلبي
فأما القنوت فقال الزجاج هو في اللغة بمعنيين أحدهما القيام والثاني الطاعة والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت الدعاء في القيام فالقانت القائم بأمر الله ويجوز أن يقع في جميع الطاعات لأنه إن لم يكن قيام على الرجلين فهو قيام بالنية وقال ابن قتيبة لا أرى أصل القنوت

إلا الطاعة لأن جيمع الخلال من الصلاة والقيام فيها والدعاء وغير ذلك يكون عنها
وللمفسرين في المراد بالقنوت هاهنا ثلاثة أقوال أحدها أنه الطاعة قاله ابن عباس وابن جبير و مجاهد وقتادة والثاني أنه الإقرار بالعبادة قاله عكرمة والسدي والثالث القيام قاله الحسن والربيع
وفي معنى القيام قولان أحدهما أنه القيام له بالشهادة بالعبودية والثاني أنه القيام بين يديه يوم القيامة فإن قيل كيف عم بهذا القول وكثير من الخلق ليس له بمطيع فعنه ثلاثة اجوبة أحدها أن يكون ظاهرها ظاهر العموم ومعناها معنى الخصوص والمعنى كل أهل الطاعة له قانتون والثاني أن الكفار تسجد ظلالهم لله بالغدوات والعشيات فنسب القنوت إليهم بذلك والثالث أن كل مخلوق قانت هل بأثر صنعه فيه وجري أحكامه عليه فذلك دليل على ذله للرب ذكرهن ابن الانباري
بديع السموات والأرض و إذا قضى امرا فإنما يقول له كن فيكون
قوله تعالى بديع السموات
البديع المبدع وكل من أنشأ شيئا لم يسبق إليه قيل له أبدعت قال الخطابي البديع فعيل بمعنى مفعل ومعناه أنه فطر الخلق مخترعا له لا على مثال سبق
قوله تعالى و إذا قضى أمرا قال ابن عباس معنى القضاء الإرادة وقال مقاتل إذا قضى أمرا في علمه فانما يقول له كن فيكون والجمهور على ضم نون فيكون بالرفع على القطع والمعنى فهو يكون وقرأ ابن عامر بنصب النون قال مكي ابن أبي طالب النصب على الجواب لكن فيه بعد
فصل
وقد استدل أصحابنا على قدم القرآن بقوله كن فقالوا لو كانت كن مخلوقة لافتقرت إلى إيجادها بمثلها وتسلسل ذلك والمتسلسل محال فإن قيل هذا خطاب لمعدوم

فالجواب أنه خطاب تكوين يظهر أثر القدرة ويستحيل أن يكون المخاطب موجودا لأنه بالخطاب كان فامتنع وجوده قبله أو معه ويحقق هذا أن ما سيكون متصور للعلم فضاهى بذلك الموجود فجاز خطابه لذلك
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون
قوله تعالى وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله فيهم ثلاثة أقوال أحدها انهم اليهود قاله ابن عباس والثاني النصارى قاله مجاهد والثالث مشركو العرب قاله قتادة والسدي عن أشياخه و لولا بمعنى هلا
وفي الذين من قبلهم ثلاثة أقوال أحدها انهم اليهود قاله ابن عباس و مجاهد والثاني اليهود والنصارى قاله السدي عن أشياخه والثالث اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار قاله قتادة
تشابهت قلوبهم أي في الكفر
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم
قوله تعالى إنا أرسناك بالحق
في سبب نزولها قولان أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوما ليت شعري ما فعل أبواي فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
وفي المراد بالحق هاهنا ثلاثة أقوال أحدها أنه القرآن قاله ابن عباس والثاني الإسلام قاله ابن كيسان و الثالث الصدق
قوله تعالى ولا تسأل عن الأكثرون بضم التاء على الخبر والمعنى لست بمسؤول عن اعمالهم وقرأ نافع ويعقوب بفتح التاء وسكون اللام على النهي عن السؤال عنهم

وجوز أبو الحسن الأخفسشأن يكون معنى هذه القراءة لا تسأل عنهم فانهم في أمر عظيم فيكون ذلك على وجه التعظيم لما هم فيه فأما الجحيم فقال الفراء الجحيم النار والجمر على الجمر وقال أبو عبيدة الجحيم النار المستحكمة المتلظية وقال الزجاج الجحيم النار الشديدة الوقود وقد جحم فلان النار إذا شدد وقودها ويقال لعين الأسد جحمة لشدة توقدها ويقال لوقود الحرب وهو شدة القتال فيها جاحم وقال ابن فارس الجاحم المكان الشديد الحر قال الأعشى ... يعدون للهيجاء قبل لقائها ... غداة اختضار البأس والموت جاحم ...
ولذلك سميت الجحيم وقال ابن الأنباري قال أحمد بن عبيد إنما سميت النار جحيما لأنها أكثر وقودها من قول العرب جحمت النار أجحمها إذا أكثرت لها الوقود
قال عمران بن حطان ... يرى طاعة الله الهدى وخلافه ... الضلالة يصلي أهلها جاحم الحمر ...
ولن رضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير
قوله تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى
في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه و سلم إلى قبلتهم فلما صرف إلى الكعبة يئسوا منه فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس والثاني انهم دعوه إلى دينهم فنزلت قاله مقاتل والثالث انهم كانو يسألونه الهدنه ويطمعونه في أنه إن هادنهم وافقوه فنزلت ذكر معناه الزجاج
قال الزجاج والملة في اللغة السنة والطريقه قال ابن عباس و هدى الله هاهنا الإسلام وفي الذي جاءه من العلم اربعة اقوال أحدها أنه التحول إلى الكعبة قاله ابن عباس والثاني أنه البيان بأن دين الله الإسلام والثالث أنه القرآن والرابع

العلم بضلالة القوم مالك من الله من ولي ينفعك ولا نصير يمنعك من عقوبته
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي انعمت عليكم و أني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين
قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على قولين أحدهما أنها نزلت في الذين آمنوا من اليهود قاله ابن عباس والثاني في المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قاله عكرمة وقتادة وفي الكتاب قولان أحدهما أنه القرآن قاله قتادة والثاني أنه التوراة قاله مقاتل
قوله تعالى يتلونه حق تلاوته أي يعملون به حق عمله قاله مجاهد
قوله تعالى أولئك يؤمنون به في هاء به قولان أحدهما أنها تعود على الكتاب والثاني على النبي محمد صلى الله عليه و سلم وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات والابتلاء الاختبار وفي إبراهيم ست لغات أحدها إبراهيم وهي اللغة الفاشية والثانية إبراهم والثالثة ابراهم والرابعة إبراهم ذكرهن الفراء والخامسة إبراهام والسادسة إبرهم قال عبد المطلب ... عذت بما عاذ به إبرهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم ...
وقال أيضا ... نحن آل الله في كعبته ... لم يزل ذاك على عهد إبرهم ...
وفي الكلمات خمسة أقوال
أحدها أنها خمس في الرأس وخمس في الجسد أما التي في الرأس فالفرق والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وفي الجسد تقليم الأظافر وحلق

العانة ونتف الإبط والاستطابة بالماء والختان رواه طاووس عن ابن عباس
والثاني أنها عشر ست في الإنسان وأربع في المشاعر فالتي في الإنسان حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب والسواك والغسل من الجنابة والغسل يوم الجمعة والتي في المشاعر الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمرة ورمي الجمار والإفاضة رواه حنش بن عبد الله عن ابن عباس
والثالث أنها المناسك رواه قتادة عن ابن عباس
والرابع أنه ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر والهجرة والنار وذبح ولده والختان قاله الحسن
والخامس أنها كل مسألة في القرآن مثل قوله رب اجعل هذا البلد آمنا إبراهيم 35 ونحو ذلك قاله مقاتل فمن قال هي أفعال فعلها قال معنى فأتمهن عمل بهن ومن قال هي دعوات ومسائل قال معنى فأتمهن أجابه الله إليهن وقد روي عن أبي حنيفة أنه قرأ إبراهيم رفع الميم ربه بنصب الباء على معنى اختبر ربه هل يستجيب دعاءه ويتخذه خليلا أم لا
قوله تعالى ومن ذريتي في الذرية قولان أحدهما أنها فعلية من الذر لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر والثاني أن أصلها ذرورة على وزن فعلولة ولكن لما كثر التضعيف أبدل من الراء الأخيرة ياء فصارت ذروية ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية ذكرهما الزجاج وصوب الأول
وفي العهد هاهنا سبعة أقوال أحدها أنه الإمامة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والثاني أنه الطاعة رواه الضحاك عن ابن عباس ابن عباس والثالث الرحمة قاله عطاء وعكرمة والرابع الدين قاله أبوالعالية والخامس

النبوة قاله السدي عن أشياخه والسادس الأمان قاله أبو عبيدة والسابع الميثاق قاله ابن قتيبة والأول أصح
وفي المراد بالظالمين هاهنا قولان أحدهما أنهم الكفار قاله ابن جبير والسدي والثاني العصاة قاله عطاء
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود
قوله تعالى وإذ جعلنا البيت مثابة للناس البيت هاهنا الكعبة والألف واللام تدخل للمعهود أو للجنس فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس انصرف إلى المعهود قال الزجاج والمثاب والمثابة واحد كالمقام والمقامة قال ابن قتيبة والمثابة المعاد من قولك ثبت إلى كذا أي عدت إليه وثاب إليه جسمه بعد العلة إذا عاد فأراد أن الناس يعودون إليه مرة بعد مرة
قوله تعالى وأمنا قال ابن عباس يريد أن من أحدث حديثا في غيره ثم لجأ إليه فهو آمن ولكن ينبغي لأهل مكة أن لا يبايعوه ولا يطعموه ولا يسقوه ولا يؤووه ولا يكلم حتى يخرج فاذا خرج أقيم عليه الحد قال قال القاضي أبو يعلي وصف البيت بالأمن والمراد جميع الحرم كما قال هديا بالغ الكعبة والمراد الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام وهذا على طريق الحكم لا على وجه الخبر فقط
وفي مقام إبراهيم ثلاثة أقوال أحدها أنه الحرم كله قاله ابن عباس والثاني عرفة والمزدلفة والجمار قاله عطاء وعن مجاهد كالقولين وقد روي عن ابن عباس وعطاء و مجاهد قالوا الحج كله مقام إبراهيم والثالث الحجر قاله سعيد بن جبير وهو الأصح قال عمر بن الخطاب قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت

وفي سبب وقوف إبراهيم على الحجر قولان أحدهما أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل فلم يجده فقالت له زوجته انزل فأبى فقالت فدعني اغسل رأسك فأتته بحجر فوضع رجله عليه وهو راكب فغسلت شقه ثم رفعته وقد غابت رجله فيه فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته فغابت رجله فيه فجعله الله من شعاره ذكره السدي عن ابن مسعود و ابن عباس والثاني أنه قام على الحجر لبناء البيت وإسماعيل يناوله الحجارة قاله سعيد بن جبير
قرأ الجمهور منهم ابن كثير و أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي واتخذوا بكسر الخاء على الأمر وقرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على الخبر قال ابن زيد قال النبي صلى الله عليه و سلم أين ترون أن نصلي فقال عمر إلى المقام فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقال أبو علي وجه فتح الخاء أنه معطوف على ما أضيف إليه كأنه قال وإذ اتخذوا ويؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر وهو قوله وعهدنا
قوله تعالى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أي أمرناهما وأوصنياهما وإسماعيل اسم أعجمي وفيه لغتان إسماعيل و اسماعين وأنشدوا ... قال جواري الحي لما جينا ... هذا ورب البيت إسماعينا ...
قوله تعالى أن طهرا بيتي قال قتادة يريد من عبادة الأوثان والشرك وقول الزور فان قيل لم يكن هناك بيت فما معنى أمرهما بتطهيره فعنه جوابان أحدهما أنه كانت هناك أصنام فامرا باخراجها قاله عكرمة والثاني أن معناه ابنياه مطهرا قاله السدي والعاكفون المقيمون يقال عكف يعكف ويعكف عكوفا إذا أقام ومنه الاعتكاف وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الله تعالى ينزل في

كل ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة ينزل على هذا البيت ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير
قوله تعالى وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا البلد صدر القرى والبالد المقيم بالبلد والبلدة الصدر ووضعت الناقة بلدتها إذا بركت والمراد بالبلد هاهنا مكة ومعنى آمنا ذا أمن وأمن البلدة مجاز والمراد أمن من فيه وفي المراد بهذا الأمن ثلاثة أقوال أحدها انه سأله الأمن من القتل والثاني من الخسف والقذف والثالث من القحط والجدب قال مجاهد قال إبراهيم لمن آمن فقال الله عز و جل ومن كفر فسأرزقه
قوله تعالى فأمتعه وقرأ ابن عامر فأمتعه بالتخفيف من امتعت وقرأ الباقون بالتشديد من متعت والإمتاع إعطاء ما تحصل به المتعة والمتعة أخذ الحظ من لذة ما يشتهي وبماذا يمتعه فيه قولان أحدهما بالأمن والثاني بالرزق والأضطرار الإلجاء إلى الشيء والمصير ما ينتهي إليه الأمر
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم

قوله تعالى وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل
القواعد أساس البيت واحدها قاعدة فأما قواعد النساء فواحدتها قاعد وهي العجوز ربنا تقبل منا أي يقولان ربنا فحذف ذلك كقوله والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم الرعد 25 أراد يقولون و السميع بمعنى السامع لكنه ابلغ لأن بناء فعيل للمبالغة قال الخطابي ويكون السماع بمعنى القبول والاجابة كقول النبي صلى الله عليه و سلم أعوذ بك من دعاء لا يسمع أي لا يستجاب وقول المصلي سمع الله لمن حمده أي قبل الله حمد من حمده وأنشدوا ... دعوت الله حتى خفت أن لا ... يكون الله يسمع ما أقول ...
الإشارة إلى بناء البيت
روى أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال كانت الملائكة تحج إلى البيت قبل آدم وقال ابن عباس لما أهبط آدم قال الله تعالى يا آدم اذهب فابن لي بيتا فطف به واذكرني حوله كما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي فأقبل يسعى حتى انتهى إلى البيت الحرام وبناه من خسمة أجبل من لبنان وطور سيناء وطورزيتا والجودي وحراء فكان آدم أول من أسس البيت وطاف به ولم يزل كذلك حتى بعث الله الطوفان فدرس موضع البيت فبعث الله إبرهيم واسماعيل وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء الببيت ضاق به ذرعا ولم يدر كيف يصنع فأنزل الله عليه كهيئة السحابة فيها رأس يتكلم فقال يا إبراهيم علم على ظلي فلما علم ارتفعت وفي رواية أنه كان يبني عليها كل يوم قال وحفر إبراهيم من تحت السكينة فأبدى عن قواعد ما تحرك القاعدة منها دون ثلاثين رجلا فلما بلغ موضع الحجر قال لإسماعيل

التمس لي حجرا فذهب يطلب حجرا فذهب يطلب حجرا فجاء جبريل بالحجر الأسود فوضعه فلما جاء إسماعيل قال من جاءك بهذا الحجر قال جاء به من لم يتكل على بنائي وبنائك وقال ابن عباس وابن المسيب و أبوالعالية رفعا القواعد التي كانت قواعد قبل ذلك وقال السدي لما أمره الله ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله له ريحا فكنست حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل الطوفان
قوله تعالى ربنا واجعلنا مسلمين لك قال الزجاج المسلم في اللغة الذي قد استسلم لأمر الله وخضع والمناسك المتعبدات فكل متعبد منسك ومنسك ومنه قيل للعابد ناسك وتسمى الذبيحة المتقرب بها إلى الله عز و جل النسيكة وكأن الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة لله تعالى
قوله تعالى وارنا مناسكنا أي مذابحنا قاله مجاهد وقال غيره هي جميع أفعال الحج وقرأ ابن كثير وأرنا بجزم الراء و رب أرني الاعراف 143 و أرنا الذين أضلانا فصلت 29 وقرأ نافع وحمزة والكسائي أرنا بكسر الراء في جميع ذلك وقرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر كذلك إلا أنهما أسكنا الراء من أرنا اللذين وحدها قال الفراء أهل الحجاز يقولون ارنا وكثير من العرب يجزم الراء فيقول أرنا مناسكنا وقرأ بها بعض الثقات وأنشد بعضهم ... قالت سليمى اشتر لنا دقيقا ... واشتر فعجل خادما لبيقا ...
وأنشدني الكسائي ... ومن يتق فان الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغادي ...
قال قتادة أراهما الله مناسكهما الموقف بعرفات والإفاضة من جمع ورمي الجمار والطواف والسعي وقال أبو مجلز لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل فأراه الطواف

ثم أتى به جمرة العقبة فعرض له الشيطان فاخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبعا وقال له ارم وكبر فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان ثم أتى به جمرة الوسطى فعرض لهما الشيطان فإخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات فقال ارم وكبر فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان ثم أتى به الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات فقال له ارم وكبر فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان ثم أتى به منى فقال هاهنا يحلق الناس رؤوسهم ثم أتى به جمعا فقال هاهنا يجمع الناس ثم أتى به عرفة فقال اعرفت قال نعم قال فمن ثم سميت عرفات
قوله تعالى ربنا وابعث فيهم رسولا منهم في الهاء والميم من فيهم قولان أحدهما أنها تعود على الذرية قاله مقاتل والفراء والثاني على أهل مكة في قوله وارزق أهله والمراد بالرسول محمد صلى الله عليه و سلم وقد روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قيل يا رسول الله ما كان بدء أمرك قال دعوة أبي إبراهيم وبشري عيسى ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام والكتاب القرآن والحكمة السنة قاله ابن عباس وروي عنه الحكمة الفقه والحلال والحرام ومواعظ القرأن وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع من الجهل
وفي قوله تعالى ويزكيهم ثلاثة أقوال أحدها أن معناه يأخذ الزكاه منهم فيطهرهم بها قاله ابن عباس والفراء والثاني يطهرهم من الشرك والكفر قاله مقاتل والثالث يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء

قوله تعالى إنك أنت العزيز قال الخطابي العز في كلام العرب على ثلاثة أوجه أحدها بمعنى الغلبة يقولون من عزبز أي من غلب سلب يقال منه عز يعز بضم العين من يعز ومنه قوله تعالى وعزني في الخطاب ص28 والثاني بمعنى الشدة والقوة يقال منه عز يعز بفتح العين من يعز والثالث أن يكون بمعنى نفاسة القدر يقال منه عز يعز بكسر العين من يعز ويتناول معنى العزيز على أنه الذي لا يعادله شيء ولا مثل له
ومن يرغب من ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون
قوله تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم
سبب نزولها أن عبد الله بن سلام دعا ابني اخيه مهاجرا وسلمة إلى الإسلام فأسلم سلمة ورغب عن الإسلام مهاجر فنزلت هذه الآية قاله مقاتل قال الزجاج و من لفظها لفظ الاستفهام ومعناها التقرير والتوبيخ والمعنى ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نسفه ويقال رغبت في الشئ إذا أردته ورغبت عنه إذا تركته وملة إبراهيم دينه
قوله تعالى إلا من سفه نفسه فيه أربعة أقوال أحدها أن معناه إلا من سفه نفسه قاله الأخفش ويونس قال يونس ولذلك تعدي إلى النفس فنصبها وقال الأخفش نصبت النفس لإسقاط حرف الجر لأن المعنى إلا من سفه في نفسه

قال الشاعر ... نغالي اللحم للأضياف نيئا ... ونرخصه إذا نضج القدور ...
والثاني إلا من أهلك نفسه قاله أبو عبيدة والثالث الا من سفهت نفسه كما يقال غبن فلان رأية وهذا مذهب الفراء وابن قتيبة قال الفراء نقل الفعل عن النفس إلى ضمير من ونصبت النفس على التشبيه بالتفسير كما يقال ضقت بالأمر ذرعا يريدون ضاق ذرعي به ومثله واشتعل الرأس شيبا مريم 4 والرابع إلا من جهل نفسه فلم يفكر فيها وهو اختيار الزجاج
قوله تعالى وإنه في الآخرة لمن الصالحين قال ابن الانباري لمن الصالحي الحال عند الله تعالى وقال الزجاج الصالح في الآخرة الفائز
قوله تعالى إذ قال له ربه أسلم وذلك حين وقوع الاصطفاء قال ابن عباس لما رأى الكوكب والقمر والشمس قال له ربه أسلم أي أخلص
قوله تعالى ووصى قرأ بان عباس وأهل المدينة وأوصى بألف مع تخفيف الصاد والباقون بغير ألف مشددة الصاد وهذا لاختلاف المصاحف اخبرنا أبن ناصر قال أخبرنا ثابت قال أخبرنا ابن قشيش قال اخبرنا ابن حيويه قال حدثنا ابن الانباري قال أخبرنا ثعلب قال أملى علي خلف بن هشام البزار قال اختلف مصحفا أهل المدينة وأهل العراق في اثني عشر حرفا كتب اهل المدينة وأوصى وأهل العراق ووصى وكتب أهل المدينة سارعوا إلى مغفرة من ربكم آل عمران 133 بغير واو وأهل العراق وسارعوا وكتب اهل المدينة يقول الذين آمنوا المائدة 56 وأهل العراق ويقول وكتب أهل المدينة من يرتدد المائدة 57 وأهل العراق من يرتد وكتب أهل المدينة الذين اتخذوا مسجدا التوبة 108 و أهل العراق والذين وكتب أهل المدينة خيرا منهما منقلبا الكهف 37 و أهل

العراق منها وكتب أهل المدينة فتوكل على العزيز الرحيم الشعراء 217 و أهل العراق وتوكل وكتب أهل المدينة وأن يظهر في الأرض الفساد المؤمن 26 وأهل العراق أو أن يظهر وكتب أهل المدينة في حم عسق بما كسبت أيديكم بغير فاء و أهل العراق فبما وكتب أهل المدينة ما تشتهيه الأنفس الزخرف 71 بالهاء و أهل العراق ما تشتهي وكتب أهل المدينة فان الله الغني الحميد الحديد 26 و اهل العراق إن الله هو الغني الحميد وكتب أهل المدينة فلا يخاف عقباها الشمس 15 و أهل العراق ولا يخاف
ووصى أبلغ من اوصى لأنها تكون لمرات كثيرة وهاء بها تعود على المسألة قاله عكرمة و الزجاج قال مقاتل وبنوه أربعة إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن وذكر غير مقاتل أنهم ثمانية
قوله تعالى فلاتموتن إلا و انتم مسلمون يريد الزموا الإسلام فاذا أدرككم الموت صادفكم عليه
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله أبائك إبراهيم وإسماعيل واسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون
قوله تعالى أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت
سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه يوم مات باليهودية فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
قوله تعالى تلك أمة قد خلت أي مضت يشير إلى إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى ابراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب

والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
قوله تعالى وقالوا كونوا هودا
معناه قالت اليهود كونوا هودا وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا
بل ملة إبراهيم حنيفا المعنى بل نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفيته وفي الحنيف قولان أحدهما أنه المائل إلى العبادة قال الزجاج الحنيف في اللغة المائل إلى الشئ أخذ من قولهم رجل أحنف وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها قالت أم الأحنف ترقصه ... والله لولا حنف برجله ... ودقة في ساقه من هزله ... ما كان في فتيانكم من مثله ...
والثاني أنه المستقيم ومنه قيل للأعرج حنيف نظرا له إلى السلامة هذا قول ابن قتيبة وقد وصف المفسرون الحنيف بأوصاف فقال عطاء هو المخلص وقال ابن سائب هو الذي يحج وقال غيرهما هو الذي يوحد ويحج ويضحي ويختتن ويستقبل الكعبة
فأما الأسباط فهم بنوا يعقوب وكانوا اثني عشر رجلا قال الزجاج السبط في اللغة الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد والسبط في اللغة الشجرة لها قبائل فالسبط الذين هم من شجرة واحدة
فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فانما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
قوله تعالى فان آمنوا يعني أهل الكتاب
قوله تعالى بمثل ما آمنتم به ثلاثة أقوال أحدها أن معناه مثل إيمانكم

فزيدت الباء للتوكيد كما زيدت في قوله وهزي إليك بجذع النخلة مريم 24 قاله ابن الانباري والثاني أن المراد هاهنا الكتاب وتقديره فان آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم قاله أبو معاذ النحوي والثالث أن المثل هاهنا صلة والمعنى فان آمنوا بما آمنتنم به ومثله قوله ليس كمثله شيء الشورى 11أي ليس كهو شيء وانشدوا ... يا عاذلي دعني من عذلكا ... مثلي لا يقبل من مثلكا ...
أي أنا لا أقبل منك فأما الشقاق فهو المشاقة والعداوة ومنه قولهم فلان قد شق عصا المسلمين يريدون فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إمامهم فكأنه صار في شق غير شقهم
قوله تعالى فسيكفيكهم الله هذا ضمان لنصر النبي صلى الله عليه و سلم
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون
قوله تعالى صبغة الله سبب نزولها أن النصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام صبغوه في ماء لهم يقال له المعمودية ليطهروه بذلك ويقولون هذا طهور مكان الختان فاذا فعلوا ذلك قالوا صار نصرانيا حقا فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس قال ابن مسعود و ابن عباس و أبوالعالية و مجاهد والنخعي وابن زيد صبغة الله دينه قال الفراء صبغة الله نصب مردودة على الملة وقرأ ابن عبلة صبغة الله بالرفع على معنى هذه صبغة الله و كذلك قرأ ملة إبراهيم بالرفع ايضا على معنى هذه ملة إبراهيم قال ابن قتيبة المراد بصبغة الله الختان فسماه صبغة لأن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ويقولون هذا طهرة لهم كالختان للحنفاء فقال الله تعالى صبغة الله أي الزموا صبغة الله لاصبغة النصارى اولادهم وأراد بها ملة ابراهيم وقال غيره إنما سمي الدين صبغة لبيان أثره على الإنسان كظهور الصبغ على الثوب

قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون
قوله تعالى أتحاجوننا في الله قال ابن عباس يريد يهود المدينة ونصارى نجران والمحاجة المخاصمة في الدين فان اليهود قالت نحن أهل الكتاب الأول وقيل ظاهرت اليهود عبدة الأوثان فقيل لهم تزعمون انكم موحدون ونحن نوحد فلم ظاهرتم من لا يوحد
قوله تعالى ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم قال أكثر المفسرين هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة ثم نسخ بآية السيف
أم تقولون إن إبرايهم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون
قوله تعالى أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل الآية
سبب نزولها أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للمؤمنين إن أنبياء الله كانوا منا من بني إسرائيل وكانوا على ديننا فنزلت هذه الأية قاله مقاتل ومعنى الآية إن الله قد أعلمنا بدين الأنبياء و لاأحد أعلم به منه قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية ابي بكر وأبو عمور أم يقولون بالياء على وجه الخبر عن اليهود وقرا بن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم تقولون بالتاءلأن قبلها مخاطبة وهي أتحاجوننا وبعدها قل أأنتم أعلم
وفي الشهادة التي كتموها قولان أحدهما أن الله تعالى شهد عندهم بشهادة لإبراهيم ومن ذكر معه انهم كانوا مسلمين فكتموها قاله الحسن وزيد بن أسلم والثاي انهم كتموا الإسلام وأمر محمد وهم يعلمون أنه نبي دينه الإسلام قاله أبوالعالية و قتادة

سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس
فيهم ثلاثة أقوال أحدها انهم اليهود قاله البراء بن عازب و مجاهد وسعيد ابن جبير والثاني انهم أهل مكة رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث انهم المنافقون ذكره السدي عن اين مسعود وابن عباس وقد يمكن أن يكون الكل قالوا ذلك والاية نزلت بعد تحويل القبلة والسفهاء الجهلة ما ولاهم أي صرفهم عن قبلتهم يريد قبلة المقدس
واختلف العلماء في مدة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم إلى بيت المقدس بعد قدومة إلى المدينة على ستة أقوال أحدها أنه ستة عشر شهرا او سبعة عشر قاله البراء به عازب والثاني سبعة عشر شهرا قاله ابن عباس والثالث ثلاثة عشر شهرا قاله معاذ بن جبل والرابع تسعة اشهر أو عشرة أشهر قاله أنس بن مالك والخامس ستة عشر شهرا والسادس ثمانية عشر شهرا روي القولان عن قتادة
وهل كان استقباله إلى بيت المقدس برأيه أو عن وحي فيه قولان أحدهما أنه كان بأمر الله تعالى ووحيه قاله ابن عباس وابن جريج والثاني أنه كان باجتهاده ورأيه قاله الحسن و أبوالعالية وعكرمة والربيع وقال قتادة كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاؤوا بقوله ولله المشرق والمغرب البقرة 115 ثم أمرهم باستقبال بيت المقدس وفي سبب اختياره بيت المقدس قولان أحدهما ليتألف أهل الكتاب ذكره بعض المفسرين والثاني لامتحان العرب بغير ما ألفوه قاله الزجاج

وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقيبه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم
قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا
سبب نزولها أن اليهود قالوا قبلتنا قبلة الانبياء ونحن عدل بين الناس فنزلت هذه الآية قاله مقاتل والأمة الجماعة والوسط العدل قاله ابن عباس وابو سعيد و مجاهد وقتادة وقال ابن قتيبة الوسط العدل الخيار ومنه قوله تعالى قال أوسطهم القلم 28 أي أعدلهم وخيرهم قال الشاعر ... هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم ...
وأصل ذلك أن خير الأشياء أوساطها والغلو والتقصير مذمومان وذكر ابن جرير الطبري أنه من التوسط في الفعل فان المسلمين لم يقصروا في دينهم كاليهود فانهم قتلوا الأنباء وبدلوا كتاب الله ولم يغلوا كالنصارى فانهم زعموا أن عيسى ابن الله وقال أبو سليمان الدمشقي في هذا الكلام محذوف ومعناه جعلت قبلتكم وسطا بين القبلتين فان اليهود يصلون نحوالمغرب والنصارى نحو المشرق وانتم بينهما
قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس فيه قولان أحدهما أن معناه لتشهدوا للأنبياء على أممهم روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ويجيء النبي ومعه الرجلان ويجيءالنبي ومعه أكثر من ذلك فيقال لهم أبلغكم هذا فيقولون لا فيقال للنبي أبلغتهم فيقول نعم فيقال من يشهد لك قال محمد وأمته فيشهدون أن الرسل قد بلغوا فيقال ما علمكم فيقولون

أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا فصدقناه فذلك قوله لتكونوا شهداء على الناس وهذا مذهب عكرمة وقتادة والثاني أن معناه لتكونوا شهداء لمحمد صلى الله عليه و سلم على الأمم اليهود والنصارى والمجوس قاله مجاهد
قوله تعالى ويكون الرسول عليكم شهيدا يعني محمدا صلى الله عليه و سلم وبماذا يشهد عليهم في ثلاثة أقوال بأعمالهم قاله ابن عباس و أبو سعيد الخدري وابن زيد والثاني بتبليغهم الرسالة قاله قتادة و مقاتل و الثالث بايمانهم قاله أبوالعالية فيكون على هذا علكيم بمعنى لكم قال عكرمة لا يسأل عن هذه الأمة إلا نبيها
قوله تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها يريد قبلة بيت المقدس إلا لنعلم فيه اربعة أقوال أحدها لنرى والثاني لنميز رويا عن ابن عباس والثالث لنعلمه واقعا إذ علمه قديم قاله جماعة من أهل التفسير وهو يرجع إلى قول ابن عباس لنرى والرابع أن العلم راحع إلى المخاطبين والمعنى لتعلموا انتم قاله الفراء
قوله تعالى ممن ينقلب على عقبية أي يرجع الى الكفر قاله ابن زيد و مقاتل
قوله تعالى وإن كانت لكبيرة في المشار إليها قولان أحدهما أنه التولية إلى الكعبة قاله ابن عباس و مجاهد وقتادة و مقاتل والثاني أنها قبلة بيت المقدس قبل التحول عنها قاله أبوالعالية و الزجاج
قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم نزل على سبب وهو أن المسلمين قالوا يا رسول الله أرأيت إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم والإيمان المذكور هاهنا أريد به الصلاة في قول الجماعة وقيل إنما سمي

الصلاة إيمانا لاشتمالها على قول ونية وعمل قال الفراء وإنما أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين والمعنى فيمن مات من المسلمين قبل أن تحول القبلة لأنهم داخلون معهم في الملة قوله تعالى لرؤوف قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم لرؤوف على وزن لرعوف في جميع القرآن ووجهها أن فعولا اكثر في كلامهم من فعل فباب ضروب وشكور أوسع من باب حذر ويقظ وقرا أبو عمروا وحمزة والكسائي و أبو بكر عن عاصم لرؤف على وزن رعف ويقال هو الغالب على أهل الحجاز قال جرير ... ترى للمسلمين عليك حقا ... كفعل الوالد الرؤف الرحيم ...
والرؤوف بمعنى الرحيم هذا قول الزجاج وذكر الخطابي عن بعض أهل العلم أن الرأفة أبلغ الرحمة وأرقها قال ويقال الرأفة أخص والرحمة أعم
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون
قوله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء
سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحب أن يوجه إلى الكعبة قاله البراء واين ابن عباس وابن المسيب و أبوالعالية وقتادة وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس واختلفوا في سبب اختيار النبي الكعبة علي بيت المقدس على قولين أحدهما أنها كانت قبلة إبراهيم روى عن ابن عباس والثاني لمخالفة اليهود قاله مجاهد ومعنى تقلب وجهه نظره إليها يمينا وشمالا و في بمعنى إلى و ترضاها بمعنى تحبها والشطر النحو من غير خلاف قال إبن عمر أتى الناس

آت وهم في صلاة الصبح بقباء فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وأمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا وهم في صلاتهم
فصل
اختلف العلماء أي وقت حولت القبلة على ثلاثة اقوال أحدها أنها حولت في صلاة الظهر يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله المدينة قاله البراء بن عازب و معقل بن يسار والثاني أنها حولت يوم الثلاثاء للنصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه المدينة قاله قتادة والثالث انها حولت في جمادى الآخرة حكاه إبن سلامة المفسر عن إبراهيم الحربي
وفي الذين أوتوا الكتاب قولان أحدهما اليهود قاله مقاتل والثاني اليهود والنصارى قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى ليعلمون أنه الحق يشير إلى ما أمر به من التوجه إلى الكعبة ثم توعدهم بباقي الآية على كتمانهم ما علموا ومن أين علموا أنه الحق فيه أربعة أقوال أحدها أن في كتابهم الأمر بالتوجه إليها قاله أبوالعالية والثاني يعلمون أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم والثالث أن في كتابهم أن محمدا رسول صادق فلا يأمر إلا بحق والرابع انهم يعلمون جواز النسخ
ولئن أتيت أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين

قوله تعالى ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية
سبب نزولها أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للنبي ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فنزلت هذه الآية قاله مقاتل
قوله تعالى ما تبعوا قبلتك يريد الكعبة وما بعضهم بتابع قبلة بعض لأن اليهود يصلون قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق ولئن أتبعت أهواءهم فصليت إلى قبلتهم من بعد ما جاءك من العلم قال مقاتل يريد بالعلم البيان
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون
قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه في هاء يعرفونه قولان أحدهما أنها تعود على النبي صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس والثاني تعود على صرفه إلى الكعبة قاله أبوالعالية وقتادة والسدي و مقاتل وروي عن ابن عباس أيضا وفي الحق الذي كتموه قولان أحدهما أنه النبي صلى الله عليه و سلم قاله مجاهد والثاني أنه التوجه إلى الكعبة قاله السدي و مقاتل في آخرين
وفي قوله وهم يعلمون قولان أحدهما وهم يعلمون أنه حق والثاني وهم يعلمون ما على مخالفه من العقاب
الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
قوله تعالى الحق من ربك
قال الزجاج أي هذا الحق من ربك والممترون الشاكون والخطاب عام
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير

قوله تعالى ولكل وجهة
أي لكل أهل دين وجهة المراد بالوجهة القبلة قاله ابن عباس في آخرين قال الزجاج يقال جهة ووجهة وفي هو ثلاثة أقوال أحدها أنها ترجع إلى الله تعالى فالمعنى الله موليها إياهم أي أمرهم بالتوجه إليها والثاني ترجع إلى المتولى فالمعنى هو موليها نفسه فيكون هو ضمير كل والثالث يرجع إلى البيت قاله مجاهد أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة والجمهور يقرؤون موليها وقرا ابن عامر والوليد عن يعقوب هو مولاها بألف بعد اللام فضمير هو لكل ومعنى القراءتين متقارب
قوله تعالى فاستبقوا الخيرات أي بادروها وقال قتادة لا تغلبوا على قبلتكم أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا قال ابن عباس وغيره هذا في يوم القيامة فأما إعادة قوله ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما
الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون
قوله تعالى ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام فانه تكرير تأكيد ليحسم طمع أهل الكتاب في رجوع المسلمين أبدا إلى قبلتهم
قوله تعالى لئلا يكون للناس في الناس قولان أحدهما انهم أهل الكتاب قاله ابن عباس و أبو العالية وقتادة و مقاتل والثاني مشركوا العرب رواه السدي عن أشياخه فمن قال بالأول قال احتجاج أهل الكتاب انهم قالوا للنبي مالك تركت قبلة بيت المقدس إن كانت ضلالة فقد دنت بها الله وإن كانت هدى فقد نقلت عنها وقال قتادة قالوا اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه ومن قال بالثاني قال احتجاج المشركين

أنهم قالوا قد رجع إلى قبلتكم ويوشك أن يعود إلى دينكم
وتسمية باطلهم حجة على وجه الحكاية عن المحتج به كقوله تعالى حجتهم داحضة عند ربهم الشورى 16 وقوله فرحوا بما عندهم من العلم غافر 83
قوله تعالى إلا الذين ظلموا منهم قال الزجاج معناه إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له كما تقول مالك علي حجة إلا الظلم أي إلا أن تظلمني أي مالك علي البتة ولكنك تظلمني قال ابن عباس فلا تخشوهم في انصرافكم إلى الكعبة واخشوني في تركها
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
قوله تعالى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم قال الزجاج كما لا تصلح أن تكون جوابا لما قبلها والأجود أن تكون معلقة بقوله فاذكروني وقد روي معناه عن علي و ابن عباس و مجاهد مقاتل والآية خطاب لمشركي العرب وفي قوله ويزكيهم ثلاثة أقوال قد سبق ذكرها في قصة إبراهيم والكتاب القرآن والحكمة السنة
فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون
قوله تعالى فاذكروني
قال ابن عباس وابن جبير اذكروني بطاعتي اذكركم بمغفرتي وقال ابراهيم بن السري كما أنعمت عليكم بالرسالة فاذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي قال فان قيل كيف يكون جواب كما أرسلنا فاذكروني فان قوله فاذكروني أمر وقوله أذكركم جزاؤه فالجواب أن المعنى إن تذكروني أذكركم
قوله تعالى واشكروا لي الشكر الاعتراف بحق المنعم مع الثناء عليه

يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين
قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا اسعينوا بالصبر والصلاة
سبب نزولها أن المشركين قالوا سيرجع محمد إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا فنزلت هذه الآية قاله قتادة وقال ابن عباس استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض بالصلاة وقد سبق الكلام في الصبر وبيان الاستعانة به وبالصلاة
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل احياء ولكن لا تشعرون قوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات
سبب نزولها أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأحد مات فلان ببدر مات فلان بأحد فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس ورفع الأموات باضمار مكنى من أسمائهم أي لا تقولوا هم اموات ذكر نحوه الفراء فان قيل فنحن نراهم موتى فما وجه النهي فالجواب أن المعنى لا تقولوا هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنات ولا تنال من تحف الله ما لا يناله الأحياء بل هم أحياء أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة فهم أحياء من هذه الجهة وإن كانوا أمواتا من جهة خروج الأرواح ذكره ابن الانباري فان قيل أليس جميع المؤمنين منعمين بعد موتهم فلم خصصتم الشهداء فالجواب أن الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم مرزوقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم منعم بما دون ذلك ذكره إبن جرير الطبري
ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون

قوله تعالى ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال
قال الفراء من تدل على أن لكل صنف منها شيئا مضمرا فتقديره بشىء من الخوف وشىء من الجوع و شيء من نقص الأموال
وفيمن أريد في هذه الآية اربعة أقوال أحدها انهم أصحاب النبي خاصة قاله عطاء والثاني انهم أهل مكة والثالث أن هذا يكون في آخر الزمان قال كعب يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة والرابع أن الآية على عمومها
فأما الخوف فقال ابن عباس وهو الفزع في القتال والجوع المجاعة التي اصابت أهل مكة سبع سنين ونقص من الأموال ذهاب أموالهم والأنفس بالموت والقتل الذي نزل بهم والثمرات لم تخرج كما كانت تخرج وحكى أبو سليمان الدمشقي عن بعض أهل العلم أن الخوف في الجهاد والجوع في فرض الصوم ونقص الأموال ما فرض فيها من الزكاة والحج ونحو ذلك والأنفس ما يستشهد منها في القتال والثمرات ما فرض فيها من الصدقات وبشر الصابرين على هذه البلاوي بالجنة
واعلم أنه إنما أخبرهم بما سيصيبهم ليوطنوا أنفسهم على الصبر فيكون ذلك أبعد بهم من الجزع قالوا إنا لله يريدون نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء وإنا إليه راجعون يريدون نحن مقرون بالبعث والجزاء على أعمالنا والثواب على صبرنا قال سعيد بن جبير لقد أعطيت هذه الامة عند المصيبة شيئا لم يعطه الأنبياء قبلهم الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب ألم تسمع إلى قوله يا أسفى على يوسف قال الفراء وللعرب في المصيبة ثلاث لغات مصيبة ومصابة ومصوبة زعم الكسائي أنه سمع أعرابيا يقول جبر الله مصوبتك

أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون
قوله تعالى أولئك عليهم صلوات من ربهم
قال سعيد بن جبير الصلوات من الله المغفرة وأولئك هم المهتدون بالاسترجاع قال عمر بن الخطاب نعم العدلان ونعمت العلاوة أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون
قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله
في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن رجالا من الأنصار ممن كان يهل لمناة في الجاهلية ومناة صنم كان بين مكة والمدينة قالوا يا رسول الله إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة فهل علينا من حرج أن نطوف بهما فنزلت هذه الآية رواه عروة عن عائشة
والثاني أن المسلمين كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة لأنه كان على الصفا تماثيل وأصنام فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس وقال الشعبي كان وثن على

الصفا يدعى إساف ووثن على المروة يدعى نائلة وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحونهما فلما جاء الإسلام كفوا عن السعي بينهما فنزلت هذه الآية
والثالث أن الصحابة قالت للنبي صلى الله عليه و سلم إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة وإن الله تعالى ذكر الطواف بالبيت ولم يذكره بين الصفا والمرة فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما فنزلت هذه الآية رواه الزهري عن ابي بكر بن بعد الرحمن عن جماعة من أهل العلم قال إبراهيم بن السري الصفا في اللغة الحجارة الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئا وهو جمع واحدة صفاة وصفا مثل حصاة وحصى والمروة الحجارة اللينة وهذان الموضعان من شعائر الله أي من اعلام متعبداته وواحد الشعائر شعيرة والشعائر كل ما كان من موقف أو سعي أو ذبح والشعائر من شعرت بالشىء إذا علمت به فسميت الاعلام التي هي متعبدات الله شعائر الله والحج في اللغة القصد وكذلك كل قاصد شيئا فقد اعتمره والجناح الإثم أخذ من جنح إذا مال وعدل وأصله من جناح الطائر وإنما اجتنب المسلمون الطواف بينهما لمكان الأوثان فقيل لهم إن نصب الأوثان بينهما قبل الإسلام لا يوجب اجتنابهما فأعلم الله عز و جل أنه لا جناح في التطوف بهما وأن من تطوع بذلك فان الله شاكر عليم والشكر من الله المجازاة والثناء الجميل والجمهور قرؤوا ومن تطوع بالتاء ونصب العين منهم ابن كثير ونافع وعاصم و أبو عمرو وابن عامر وقرأ حمزة والكسائي يطوع بالياء وجزم العين وكذلك خلافهم في التي بعدها بآيات
فصل
اختلفت الرواية عن إمامنا احمد في السعي بين الصفا والمروة فنقل الأثرم أن من ترك السعي لم يجزه حجه ونقل أبو طالب لا شيء في تركه عمدا أو سهوا ولا ينبغي أن يتركه ونقل الميموني أنه تطوع

قوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى قال أبو صالح عن ابن عباس نزلت في رؤساء اليهود كتموا ما أنزل الله في التوراة من البينات والهدى فالبينات الحلال والحرام والحدود والفرائض والهدى نعت النبي وصفته من بعد ما بيناه للناس قال مقاتل لبني إسرائيل وفي الكتاب قولان أحدهما أنه التوراة وهو قول ابن عباس والثاني التوراة والإنجيل قاله قتادة أولئك إشارة إلى الكاتمين يلعنهم الله قال ابن قتية أصل اللعن في اللغة الطرد ولعن الله إبليس أي طرده ثم انتقل ذلك فصار قولا قال الشماخ وذكر ماء ... ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين ...
أي الطريد وفي اللاعنين اربعة أقوال أحدها أن المراد بهم دواب الأرض رواه البراء عن النبي صلى الله عليه و سلم وهو قول مجاهد و عكرمة قال مجاهد يقولون إنما منعنا القطر بذنوبكم فيلعنونهم والثاني انهم المؤمنون قاله عبد الله بن مسعود والثالث انهم الملائكة والمؤمنون قاله أبوالعالية وقتادة والرابع انهم الجن والإنس وكل دابة قاله عطاء
فصل
وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة كانت أو مستنبطة وتدل على امتناع جواز اخذ الأجرة على ذلك إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب فعله وقد روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال إنكم تقولون أكثر أبو هريرة على النبي صلى الله عليه و سلم

والله الموعد وايم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا بشيء أبدا ثم تلا إن الذين يكتمون ما أنزلنا إلى آخرها
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم
قوله تعالى إلا الذين تابوا
قال ابن مسعود إلا الذين تابوا من اليهود وأصلحوا أعمالهم وبينوا صفة رسول الله في كتابهم
فصل
وقد ذهب قوم إلى أن الآية التي قبل هذه منسوخة بالاستثناء في هذه وهذا ليس ينسخ لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ وذلك يقتضي التخصيص دون النسخ ومما يحقق هذا أن الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثى منه
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
قوله تعالى إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار
إنما شرط الموت على الكفر لأن حكمه يستقر بالموت عليه فان قيل كيف قال والناس أجمعين وأهل دينه لا يلعنونه فعنه ثلاثة اجوبة أحدها انهم يلعنونه في الآخرة قال الله عز و جل ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا

العنكبوت 25 وقال كلما دخلت أمة لعنت أختها الأعراف 38 والثاني أن المراد بالناس هاهنا المؤمنون قاله ابن مسعود وقتادة و مقاتل فيكون على هذا من العام الذي أريد به الخاص والثالث أن اللعنة من الأكثر يطلق عليها لعنة جميع الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل
خالدين فيها لا يخفف عنهم الذاب ولا هم ينظرون
قوله تعالى خالدين فيها في هاء الكناية قولان أحدهما أنها تعود إلى اللعنة قاله ابن مسعود و مقاتل والثاني أنها ترجع إلى النار و إن لم يجر لها ذكر فقد علمت
وإلهكم إله واحد لا إله هو الرحمن الرحيم
قوله تعالى وإلهكم إله واحد
قال ابن عباس إن كفار قريش قالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه فنزلت ههذ الآية وسورة الإخلاص والإله بمعنى المعبود
إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون
قوله تعالى إن في خلق السموات والارض
في سبب نزولها ثلاثة أقوال أحدها أن المشركين قالوا للنبي اجعل لنا الصفا ذهبا إن كنت صادقا فنزلت هذه الآية حكاه السدي عن ابن مسعود و ابن عباس والثاني انهم لما قالوا انسب لنا ربك وصفه فنزلت وإلهكم إله واحد قالوا فأرنا آية ذلك فنزلت إن في خلق السموات والأرض إلى قوله يعقلون رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث أنه لما نزلت وإلهكم إله واحد قال كفار قريش كيف يسع الناس إله واحد فنزلت هذه الآية قاله عطاء

فأما السموات فتدل على صانعها إذ هي قائمة بغير عمد وفيها من الآيات الظاهرة ما يدل يسيره على مبدعه وكذلك الأرض في ظهور ثمارها وتمهيد سهولها وإرساء جبالها الى غير ذلك واختلاف الليل والنهار كل واحد منهما حادث بعد أن لم يكن وزائل بعد أن كان والفلك السفن قال ابن قتيبة الواحد والجمع بلفظ واحد وقال اليزيدي واحدة فلكة ويذكر ويؤنث وقال الزجاج الفلك السفن ويكون واحدا ويكون جمعا لأن فعل وفعل جمعهما واحد ويأتيان كثيرا بمعنى واحد يقال العجم والعجم والعرب والعرب والفلك والفلك والفلك يقال لك شيء مستدير أو فيه استدارة و البحر الماء العزير بما ينفع الناس من المعايش وما أنزل الله من السماء من ماء يعني المطر والمطر ينزل على معنى واحد وأجزاء الأرض والهواء على معنى واحد والانواع تختلف في النبات والطعوم الألوان والأشكال المختلفات وفي ذلك رد على من قال إن انه من فعل الطبيعة لأنه لو كان كذلك لوجب أن يتفق موجبها إذ المتفق لا يوجب المختلف وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في قوله يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل الرعد 4
قوله تعالى وبث أي فرق
قوله تعالى وتصريف الرياح قرأ ابن كثير الرياح على الجمع في خمسة مواضع هاهنا وفي الحجر 22 وأرسلنا الرياح لوقح وفي الكهف 46 تذروه الرياح وفي الروم 46 الحرف الأول الرياح وفي الجاثية 4 وتصريف الرياح وقرأ باقي القرآن الريح وقرأ أبو جعفر الرياح في خسمة عشر موضعا في البقرة وفي الأعراف 56 يرسل الرياح وفي إبراهيم 18 اشتدت به الرياح وفي الحجر 22 الرياح لواقح وفس سبحان 19 وفي الكهف 45 تذروه الرياح وفي الأنبياء 81

وفي الفرقان 48 أرسل الرياح وفي النمل والثاني من الروم 48 وفي سبأ 12 وفي صلى الله عليه و سلم 36 وفي عسق 33 يسكن الرياح وفي الجاثية 5 وتصريف الرياح تابعه نافع إلا في سبحان ورياح سليمان الأنبياء 81 وتابع نافعا أبو عمرو إلا في حرفين الريح في إبراهيم وعسق ووافق أبا عمرو وعاصم وابن عامر وقرا حمزة الرياح جمعا في موضعين في الفرقان والحرف الأول من الروم وباقيهن على التوحيد وقرا الكسائي مثل حمزة إلا إنه زاد عليه في الحجر 22 الرياح لواقح ولم يختلفوا فيما ليس فيه ألف ولام فمن جمع فكل ريح تساوي اختها في الدلالة على التوحيد والنفع ومن وحد أراد الجنس
ومعنى تصريف الرياح تقلبها شمالا مرة وجنوبا مرة ودبورا اخرى وصبا اخرى وعذابا ورحمة والسحاب المسخر المذلل والآية فيه من أربعة اوجه ابتداء كونه وانتهاء تلاشيه وقيامه بلا دعامة ولا علاقة وإرساله إلى حيث شاء الله تعالى لآيات الاية العلامة أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال أخبرنا عاصم قال أخبرنا ابن بشران قال أخبرنا ابن صفوان قال حدثنا ابن أبي الدنيا قال حدثني هارون قال حدثني عفان عن مبارك بن فضاله قال سمعت الحسن يقول كانوا يقولون يعني أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الحمد لله الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف لقال الشاك في الله لو كان لهذا الخلق رب لحادثه وإن الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات أنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين وجعل فيها معاشا وسراجا وهاجا ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق وجاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين وجعل فيه سكنا ونجوما وقمرا منيرا و إذا شاء بنى بناء جعل فيه المطر والبرق والرعد والصواعق ما شاء و إذا شاء صرف ذلك و إذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس و إذا شاء ذهب بذلك وجاء بحر يأخذ

أنفاس الناس ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه بما ترون من الآيات كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا بحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا و أن الله شديد العذاب
قوله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا
وفي الأنداد قولان قد تقدما في أول السورة وفي قوله يحبونهم كحب الله قولان
أحدهما أن معناه يحبونهم كحب الذين آمنوا لله هذا قول ابن عباس وعكرمة و أبي العالية و ابن زيد و مقاتل و الفراء
والثاني يحبونم كمحبتهم لله أي يسوون بين الأوثان وبين الله تعالى في المحبة هذا اختيار الزجاج قال والقول والاول ليس بشيء والدليل على نقضه قوله والذين آمنوا أشد حبا لله قال المفسرون أشد حبا لله من أهل الأوثان لأوثانهم
قوله تعالى ولو يرى الذين ظلموا قرأ أبو عمرو و ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي يرى بالياء ومعناه لو يرون عذاب الآخرة لعلموا أن القوة لله جيمعا وقرا نافع وابن عامر و يعقوب ولو ترى بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد به جميع الناس وجوابه محذوف تقديره لرأيتم أمر عظيما كما تقول لو رأيت فلانا والسياط تأخذه وإنما حذف الجواب لأن المعنى واضح بدونه قال أبو علي وإنما قال إذ ولم يقل إذا وإن كانت إذ لما مضى لإرادة تقريب الأمر فأتى بمثال الماضي وإنما حذف جواب لو لأنه أفخم لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد وقرا أبو جعفر إن القوة لله و إن الله بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف كأنه يقول

فلا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم إن القوة لله جميعا قال ابن عباس القوة القدرة والمنعة
إذ تبرأ الذي اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار
قوله تعالى من الذين اتبعوا فيهم قولان أحدهما انهم القادة والرؤساء قاله ابن عباس و أبوالعالية و قتادة و مقاتل و الزجاج والثاني انهم الشياطين قاله السدي
قوله تعالى ورأؤا العذاب يشمل الكل وتقطعت بهم الأسباب أي عنهم مثل قوله فسئل به خبيرا الفرقان 59 وفي الأسباب أربعة أقوال أحدها أنها المودات و إلى نحوه ذهب ابن عباس و مجاهد وقتادة والثاني أنها الأعمال رواه السدي عن ابن مسعود و ابن عباس وهو قول ابي صالح وابن زيد والثالث أنها الأرحام رواه أبن جريج عن ابن عباس والرابع أنها تشمل جميع ذلك قال ابن قتيبة هي الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا فأما تسميتها بالأسباب فالسبب في اللغة الحبل ثم قيل لكل ما يتوصل به إلى المقصود سبب والكرة الرجعة إلى الدنيا قاله ابن عباس وقتادة في آخرين فنتبرأ منهم يريدون من القادة كما تبرؤوا منا في الآخرة كذلك يريهم الله أعمالهم قال الزجاج أي كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم لأن أعمال الكافر لا تنفعه وقال ابن الأنباري يريهم الله أعمالهم القبيحة حسرات عليهم إذا رأوا أحسن المجازاة للمؤمنين بأعمالهم قال ويجوز أن يكون كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم الصالحة وجزاءها فخذق ! الجزاء

وأقام الأعمال مقامه قاله ابن فارس والحسرة التلهف على الشيء الفائت وقال غيره الحسرة أشد الندامة
يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
قوله تعالى يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا نزلت في ثقيف و خزاعة وبني عامر بن صعصعة فيما حرموا على انفسهم من الحرث والأنعام وحرموا البحيرة والسائبة والحام قاله ابن السائب
قوله تعالى ولا تتبعوا خطوات الشيطان قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم خطوات مثقلة وقرا نافع وابن عامر وابو بكر عن عاصم وحمزة خطوات ساكنة الطاء خفيفة وقرا الحسن و أبو الجوزاء خطوات بفتح الخاء وسكون الطاء من غير همز وقرا أبو عمران الجوني بضم الخاء والطاء مع الهمز قاله ابن قتيبة خطواته سبيله ومسلكه وهي جمع خطوة والخطوة بضم الخاء ما بين القدمين وبفتحها الفعلة الواحدة واتباعهم خطواته أنهم كانوا يحرمون أشياء قد احلها الله ويخلون أشياء قد حرمها الله
قوله تعالى إنه لكم عدو مبين أي بين وقيل أبان عداوته بما جرى له مع آدم
إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون
قوله تعالى إنما يأمركم بالسوء السوء كل إثم وقبح قال ابن عباس وإنما سمي سوءا لأنه تسوء عواقبه وقيل لأنه يسوء إظهاره والفحشاء من فحش الشيء إذا جاز قدره وفي المراد بها هاهنا خمسة أقوال أحدها أنها كل معصية لها حد في الدنيا

والثاني أنها ما لا يعرف في شريعة ولا سنة والثالث أنها البخل وهذه الاقوال الثلاثة منقولة عن ابن عباس والرابع أنها الزنى قاله السدي والخامس المعاصي قاله مقاتل
قوله تعالى وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون أي أنه حرم عليكم ما لم يحرم
و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون
قوله تعالى و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله
اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال أحدها أنها في الذين قيل لهم كلوا مما في الارض حلالا طيبا فعلى هذا تكون الهاء والميم عائدة عليهم وهذا قول مقاتل والثاني أنها نزلت في اليهود وهي قصة مستأنفة فتكون الهاء والميم كناية عن غير مذكور ذكره ابن اسحاق عن ابن عباس والثالث في مشركي العرب وكفار قريش فتكون الهاء والميم عائدة إلى قوله ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا فعلى القول الأول يكون المراد بالذي أنزل الله تحليل الحلال وتحريم الحرام وعلى الثاني يكون الإسلام وعلى الثالث التوحيد والإسلام و ألفينا بمعنى وجدنا
قوله تعالى أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون له أيتبعونهم ايضا في خطئهم وافترائهم
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ياأيهاالذين آمنونا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون
قوله تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق

في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال
أحدها أن معناها ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي ينعق بها الراعي وهذا قول الفراء وثعلب قالا جميعا أضاف المثل إلى الذين كفروا ثم شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم والمعنى ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت فلو قال لها الراعي ارعي أو اشربي لم تدر ما يقول لها فكذلك الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن وإنذار الرسول فأضيف التشبيه إلى الراعي والمعنى في المرعي وهو ظاهر في كلام العرب يقولون فلان يخافك كخوف الأسد والمعنى كخوفه الأسد لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف قال الشاعر ... كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناء فريضة الرجم ...
والمعنى كما كان الرجم فريضة الزنى
والثاني أن معناها ومثل الذين كفروا ومثلنا في وعظهم كمثل الناعق والمنعوق به فحذف ومثلنا اختصارا إذ كان في الكلام ما يدل عليه وهذا قول ابن قتيبة و الزجاج
والثالث ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتم التي يعبدون كمثل الذي ينعق هذا قول ابن زيد والذي ينعق هو الراعي يقال نعق بالغنم ينعق نعقا ونعيقا ونعاقا ونعقانا قال ابن الانباري والفاشي في كلام العرب أنه لا يقال نعق إلا في الصياح بالغنم وحدها فالغنم تسمع الصوت ولا تعقل المعنى صم بكم إنما وصفهم بالصم والبكم أنهم لأنهم في تركهم قبول ما يسمعون يمنزلة من لا يسمع وكذلك في النطق والنظر وقد سبق شرح هذا المعنى
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم

قوله تعالى إنما حرم عليكم الميتة
قرأ أبو جعفر الميتة هاهنا وفي المائدة والنحل و بلدة ميتا ق11 بالتشديد حيث وقع والميتة في عرف الشرع اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة وقيل إن الحكمة في تحريم الميتة أن جمود الدم فيها بالموت يحدث أذى للآكل وقد يسمى المذبوح في بعض الأحوال ميتة حكما لأن حكمه حكم الميتة كذبيحة المرتد فأما الدم فالمحرم منه المسفوح لقوله تعالى أو دما مسفوحا الأنعام 145 قال القاضي أبو يعلى فأما الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى في العروق فهو مباح
فأما لحم الخنزير فالمراد جملته و إنما خص اللحم لأنه معظم المقصود قال الزجاج الخنزير يشتمل على الذكر والأنثى ومعنى وما أهل به لغير الله البقرة 173 ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله ومثله الإهلال بالحج إنما هو رفع الصوت بالتلبية
قوله تعالى فمن اضطر أي ألجيء بضرورة وقرا أبو جعفر فمن اضطر بكسر الطاء حيث كان وأدغم ابن محيصن الضاد في الطاء
قوله تعالى غير باغ قال الزجاج البغي قصد الفساد يقال بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد وفي قوله غير باغ ولا عاد اربعة أقوال أحدها أن معناه غير باغ على الولاة ولا عاد يقطع السبيل هذا قول سعيد بن جبير و مجاهد والثاني غير باغ في أكله فوق حاجته ولا متعد بأكلها وهو يجد غيرها هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والربيع والثالث غير باغ أي مستحل ولا عاد غير مضطر روي عن سعيد بن جبير و مقاتل والرابع غير باغ شهوته بذلك ولا عاد بالشبع منه قاله السدي
فصل
معنى الضرورة في إباحة الميتة ان يخاف على نفسه أو بعض أعضائه سئل أحمد

رضي الله عنه عن المضطر إذا لم يأكل الميتة فذكر عن مسروق أنه قاله من اضطر فلم يأكل فمات دخل النار فأما مقدار ما يأكل فنقل حنبل يأكل مقدار ما يقيمه عن الموت ونقل ابن منصور يأكل بقدر ما يستغني فظاهر الأولى أنه لا يجوز له الشبع وهو قول ابي حنيفة والشافعي وظاهر الثانيه جواز الشبع وهو قول مالك
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا اولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم
قوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب
قال ابن عباس نزلت في اليهود كتموا اسم النبي صلى الله عليه و سلم وغيروه في كتابهم والثمن القليل ما يصيبونه من اتباعهم من الدنيا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار قال الزجاج معناه إن الذين يأكلونه يعذبون به فكأنهم يأكلون النار ولا يكلمهم هذا دليل على أن الله لا يكلم الكفار ولا يحاسبهم
قوله تعالى ولا يزكيهم فيه ثلاثة أقوال احدها لا يزكي اعمالهم قاله مقاتل والثاني لا يثني عليهم قاله الزجاج والثالث لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم قاله ابن جرير
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار
قوله تعالى أولئك الذين اشرتوا الضلالة أي اختاروها على الهدى
قوله تعالى فما أصبرهم على النار فيه أربعة أقوال أحدها أن معناه فما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النار قاله عكرمة والربيع والثاني ما أجرأهم على النار قاله الحسن و مجاهد وذكر الكسائي أن أعرابيا حلف له رجل كاذبا فقال الأعرابي ما أصبرك على الله يريد ما أجرأك والثالث ما أبقاهم في النار كما تقول ما أصبر فلانا على الحبس

أي ما أبقاه فيه ذكره الزجاج والرابع أن المعنى فأي شيء صبرهم على النار قاله ابن الأنباري وفي ما قولان أحدهما أنها للاستفهام تقديرها ما الذي أصبرهم قاله عطاء والسدي وابن زيد و أبو بكر بن عياش والثاني أنها للتعجب كقولك ما أحسن زيدا وما أعلم عمرا وقال ابن الانباري معنى الآية التعجب والله يعجب المخلوقين ولا يعجب هو كعجبهم
قوله تعالى ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الوعيد بالعذاب فتقديره ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به واختلفوا فيه وفي الكتاب قولان أحدهما أنه التوراة والثاني القرآن وفي الحق قولان أحدهما أنه العدل قاله ابن عباس والثاني أنه ضد الباطل قاله مقاتل
قوله تعالى وإن الذين اختلفوا في الكتاب فيه قولان
أحدهما أنه التوراة ثم في اختفلاهم فيها ثلاثة أقوال أحدها أن اليهود والنصارى اختلفوا فيها فادعى النصارى فيها صفة عيسى وأنكر اليهود ذلك والثاني انهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه و سلم والثالث انهم خالفوا سلفهم في التمسك بها
والثاني أنه القرآن فمنهم من قال شعر ومنهم من قال إنما يعلمه بشر
والشقاق معاداة بعضهم لبعض وفي معنى بعيد قولان أحدهما أن بعضهم متباعد في مشاقة بعض قاله الزجاج والثاني أنه بعيد من الهدى
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم

إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرآء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
قوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم
قال قتادة ذكر لنا أن رجلا سأل عن البر فأنزلت هذه الآية فدعاه رسول الله فتلاها عليه وفيمن خوطب بها قولان أحدهما انهم المسلمون والثاني اهل الكتابين فعلى القول الاول معناها ليس البر كله في الصلاة ولكن البر ما في هذه الآية وهذا المعنى مروي عن ابن عباس و مجاهد وعطاء والضحاك وسفيان وعلى القول الثاني معناها ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب وصلاة النصارى إلى المشرق ولكن البر ما في هذه الآية وهذا قول قتادة والربيع وعوف الأعرابي و مقاتل
وقرأ حمزة وحفص عن عاصم ليس البر بنصب الراء وقرا الباقون برفعها قال أبو علي كلاهما حسن لأن كل واحد من الاسمين اسم ليس وخبرها معرفة فاذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسما والآخر خبرا كما تتكافأ النكرتان
وفي المراد بالبر ثلاثة أقوال أحدها الإيمان والثاني التقوى والثالث العمل الذي يقرب إلى الله
قوله تعالى ولكن البر من آمن بالله فيه قولان أحدهما أن معناه ولكن البر بر من آمن بالله والثاني ولكن ذا البر من آمن بالله حكاهما الزجاج وقرأ نافع وابن عامر ولكن البر بتخفيف نون لكن و رفع البر وإنما ذكر اليوم الآخر لأن عبدة الأوثان لا يؤمنون بالبعث وفي المراد بالكتاب هاهنا قولان احدهما أنه القرآن والثاني أنه بمعنى الكتب فيدخل في هذا اليهود لتكذيبهم بعض النبيين وردهم القرآن
قوله تعالى وآتى المال على حبه في هاء حبه قولان أحدهما أنها ترجع إلى المال والثاني إلى الإيتاء وكان الحسن إذا قرأها قال سوى الزكاة المفروضة

قوله تعالى ذوي القربى يريد قرابة المعطي وقد شرحنا معنى اليتامى والمساكين عند رأس ثلاث وثمانين آية من هذه السورة فأما ابن السبيل ففيه ثلاثة أقوال أحدها أنه الضيف قاله سعيد بن جبير والضحاك و مقاتل و الفراء وابن قتيبة و الزجاج والثاني أنه الذي يمر بك مسافرا قاله الربيع بن أنس وعن مجاهد وقتادة كالقولين وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال هو المنقطع به يريد بلدا آخر وهذا اختيار ابن جرير الطبري وأبي سليمان الدمشقي والقاضي أبو يعلى ويحققه أن السبيل الطريق وابنه صاحبه الضارب فيه فله حق على من يمر به إذا كان محتاجا ولعل اصحاب القول الأول أشاروا إلى هذا لأنه إن كان مسافرا فانه ضيف لم ينزل والقول الثالث أنه الذي يريد سفرا ولا يجد نفقة ذكره الماوردي وغيره عن الشافعي
قوله تعالى وفي الرقاب أي في فك الرقاب ثم فيه قولان أحدهما انهم المكاتبون يعانون في كتابتهم بما يعتقون به رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو مروي عن علي بن أبي طالب والحسن وابن زيد والشافعي والثاني انهم عبيد يشترون بهذا السهم ويعتقون رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال مالك بن أنس و أبو عبيد وأبو ثور وعن أحمد كالقولين
فأما البأساء فهي الفقر والضراء المرض وحين البأس القتال قاله الضحاك أولئك الذين صدقوا قال أبوالعالية تكلموا بالإيمان وحققوه بالعمل
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه باحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص

روى شيبان عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان وكان الحي منهم إذا كان فيهم عدة ومنعة فقتل عبدهم عبد قوم آخرين قالوا لن نقتل به إلا حرا تعززا لفضلهم على غيرهم و إذا قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين قالوا لن نقتل بها إلا رجل فنزلت هذا الآية ومعنى كتب فرض قاله ابن عباس وغيره والقصاص مقابلة الفعل بمثله مأخوذ من قص الأثر فان قيل كيف يكون فرضا والولى مخير بينه وبين العفو فالجواب أنه فرض على القاتل للولي لا على الولي
قوله تعالى فمن عفي له من أخيه شيء أي من دم أخيه أي ترك له القتل ورضي منه بالدية ودل قوله من أخيه على أن القاتل لم يخرج عن الإسلام فاتباع بالمعروف أي مطالبته بالمعروف بأمر آخذ الدية بالمطالبة الجميلة التي لا يرهقة فيها وأداء إليه بإحسان يأمر المطالب بان لا يبخس ولا يماطل ذلك تخفيف من ربكم قال سعيد بن جبير كان حكم الله على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد ولا يعفى عنه ولا يؤخذ منه دية فرخص الله لأمة محمد فان شاء ولي المقتول عمدا قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية
قوله تعالى فمن اعتدى أي ظلم فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية فله عذاب أليم قال قتادة يقتل ولا تقبل منه الدية
فصل
ذهب جماعة من المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ لأنه لما قال الحر بالحر اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر وكذلك لما قال والأنثى بالأنثى اقتضى أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب وذلك منسوخ بقوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس قال شيخنا علي بن عبد الله وهذا عند الفقهاء ليس بنسخ لأن الفقهاء يقولون دليل الخطاب حجة مالم يعراضه دليل دليل أقوى منه

ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون
قوله تعالى ولكم في القصاص حياة
قال الزجاج إذا علم الرجل أنه إن قتل قتل أمسك عن القتل فكان في ذلك حياة للذي هم بقتله ولنفسه لأنه من أجل القصاص امسك وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال ... أبلغ أبا مالك عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام ...
يريد انهم إذا تعاتبوا أصلح من بينهم العتاب والألباب العقول وإنما خصهم بهذا الخطاب و إن كان الخطاب عاما لأنهم المنتفعون بالخطاب لكونهم يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه
قوله تعالى لعلكم تتقون قال ابن عباس لعلكم تتقون الدماء وقال ابن زيد لعلك تتقي أن يقتله فتقتل به
فصل
نقل أين منصور عن أحمد إذا قتل رجل رجلا بعصى أو خنقه أو شدخ رأسه بحجر يقتل مثل الذي قتل به فظاهر هذا أن القصاص يكون بغير السيف ويكون بمثل الآلة التي قتل لها وهو قول مالك والشافعي ونقل عنه حرب إذا قتله بخشبة قبل بالسيف ونقل أبو طالب إذا خنقه قتل بالسيف فظاهر هذا أنه لا يكون القصاص إلا بالسيف وهو قول ابي حنيفة رحمه الله
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين
قوله تعالى كتب علكيم إذا حضر أحدكم الموت
قال الزجاج المعنى وكتب عليكم إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف

بالواو وعلم أن معناه معنى الواو وليس المراد كتب عليكم أن يوصي احدكم عند الموت لأنه في شغل حينئذ وإنما المعنى كتب علكيم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية فيقول الرجل إذا أنا مت فلفلان كذا فأما الخير هاهنا فهو المال في قول الجماعة
وفي مقدار المال الذي تقع هذه الوصيه فيه ستة أقوال أحدها أنه ألف درهم فصاعدا روي عن علي وقتادة والثاني أنه سبعمائة درهم فما فوقها رواه طاووس عن ابن عباس والثالث ستون دينار فما فوقها رواه عكرمة عن ابن عباس والرابع أنه المال الكثير الفاضل عن نفقة العيال قالت عائشة لرجل سألها إني أريد الوصية فقالت كم مالك قال ثلاثة آلاف قالت كم عيالك قال أربعة قالت هذا شيء يسير فدعه لعيالك والخامس أنه من ألف درهم إلى خمسمائة قاله إبراهيم النخعي والسادس أنه القليل والكثير رواه معمر عن الزهري فأما المعروف فهو الذي لا حيف فيه
فصل
وهل كانت الوصية ندبا أو واجبة فيه قولان أحدهما أنها كانت ندبا والثاني أنها كانت فرضا وهو أصح لقوله تعالى كتب ومعناه فرض قال ابن عمر نسخت هذه الآية بآية الميرات وقال ابن عباس نسختها للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون النساء 7 والعلماء متفقون على نسخ الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون وهم مختلفون في الأقربين الذين لا يرثون هل تجب الوصية لهم على قولين اصحهما أنها لا تجب لأحد
فمن بدله بعد ما سمعه فانما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم
قوله تعالى فمن بدله قال الزجاج من بدل أمر الوصية بعد سماعه إياها فانما إئمه

على مبدله لا على الموصي ولا على المصى له إن الله سميع لما قد قاله الموصي عليم بما يفعله المصى إليه
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
قوله تعالى فمن خاف من موص قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم موص ساكنة الواو وقرا حمزة والكسائي و أبو بكر عن عاصم موص مفتوحة الواو مشددة الصاد وفي المراد بالخوف هاهنا قولان أحدهما أنه العلم والثاني نفس الخوف فعلى الأول يكون الجور قد وجد وعلى الثاني يخشى وجوده وال الجنف الميل عن الحق قال الزجاج جنفا أي ميلا أو إثما أي قصد الإثم وقال ابن عباس الجنف الخطأ والإثم العمد قال أبو سليمان الدمشقي الجنف الخروج عن الحق وقد يسمى به الممطىء والعامد ألا أن المفسرين عقلوا الجنف على الممطئ والإثم على العامد
وفي توجيه هذه الآية قولان أحدهما أن معناه من حضر رجلا يموت فأسرف في وصيته أو قصر عن حق فليأمره بالعدل هذا قول مجاهد والثاني أن معناه من اوصى بجور فرد وليه وصيته أو ردها إمام من أئمة المسلمين إلى كتاب الله وسنة نبيه فلا إثم عليه وهذا قول قتادة
قوله تعالى فأصلح بينهم أي بين الذين أوصى لهم ولم يجر لهم ذكر غير أنه لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له وأنشد الفراء ... وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني ... أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني ...
فكنى في البيت الاول عن الشر بعد ذكره الخير وحده لما في مفهوم اللفظ من الدلالة

يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام
الصيام في اللغة الإمساك في الجملة يقال صامت الخيل إذا امسكت عن السير وصامت الريح إذا امسكت عن الهبوب والصوم في الشرع عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع انضمام النية إليه وفي الذين من قبلنا ثلاثة أقوال أحدها انهم أهل الكتاب رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس وهو قول مجاهد والثاني انهم النصارى قاله الشعبي والربيع والثالث انهم جميع أهل الملل ذكره أبو صالح عن ابن عباس
وفي موضع التشبيه في كاف كما كتب قولان أحدهما أن التشبيه في حكم الصوم وصفته لا في عددة قال سعيد بن جبير كتب عليهم إذا نام احدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة والنساء عليهم حرام ليلة الصيام وهو عليهم ثابت وقد أرخص لكم فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله احل لكم ليلة الصيام الرفث البقرة 187 فانها فرقت بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين والثاني أن التشبيه في عدد الايام ثم في ذلك قولان أحدهما أنه فرض على هذه الأمة صوم ثلاثة أيام من كل شهر وقد كان ذلك فرضا على من قبلهم قال عطية عن ابن عباس في قوله تعالى كما كتب على الذين من قبلكم قال كان ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ برمضان قال معمر عن قتادة كان الله قد كتب على الناس قبل رمضان ثلاثة أيام من كل شهر فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن والثاني أنه فرض على من قبلنا صوم رمضان بعينه قال ابن عباس فقدم النصارى يوما ثم يوما واخروا يوما ثم قالوا نقدم عشرا ونؤخر عشرا وقال السدي عن أشياخه اشتد على النصارى صوم رمضان فجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف فلما رأوا ذلك اجتمعوا

فجلوا صياما في الفصل بين الشتاء والصيف وقالوا نزيد عشرين يوما نكفر بها ما صنعنا فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة
قوله تعالى لعلكم تتقون لأن الصيام وصلة إلى التقى إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي وقيل لعلكم تتقون محظورات الصوم
أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من ايام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وان تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون
قوله تعالى أياما معدودات قال الزجاج نصب أياما على الظرف كأنه قال كتب عليكم الصيام في هذه الأيام والعامل فيه الصيام كأن المعنى كتب عليكم أن تصوموا أياما معدودوات وفي هذه الايام ثلاثة أقوال أحدها أنها ثلاثة أيام من كل شهر والثاني أنها ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء والثالث أنها شهر رمضان وهو الأصح وتكون الآية محكمة في هذا القول وفي القولين قبله تكون منسوخة فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام فيه إضمار فأفطر
فصل
وليس المرض والسفر على الإطلاق فان المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم واتفق العلماء أن السفر مقدر واختلفوا في تقديره فقال احمد ومالك والشافعي أقله مسيرة ستة عشر فرسخا يومان وقال أبو حنيفة وأصحابه أقله مسيرة ثلاثة أيام مسيرة اربعة وعشرين فرسخا وقال الأوزاعي أقله مرحلة يوم مسيرة ثمانية فراسخ وقيل إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف يقال سفرت المرأة عن وجهها وأسفر الصبح إذا أضاء فسمي الخروج إلى المكان البعيد سفرا لأنه يكشف عن أخلاق المسافر

قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين نقل عن ابن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عمر و ابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري في آخرين في هذه الآية انهم قالوا كان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى يطعم عن كل يوم مسكينا حتى نزلت فمن شهد منكم الشهر فليصمه فعلى هذا يكون معنى الكلام وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية ثم نسخت وروي عن عكرمة أنه قال نزلت في الحامل والمرضع وقرا أبو بكر الصديق و ابن عباس وعلى الذين يطوقونه بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو قال ابن عباس هو الشيخ والشيخة
قوله تعالى فدية طعام مسكين قرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي فدية منون طعام المسكين موحد وقرأ نافع وابن عامر فدية بغير تنوين طعام بالخفض مساكين بالجمع قال أبو علي معنى القراءة الأولى على كل واحد طعام مسكين ومثله فاجلدوهم ثمانين النور 4 أي اجلدوا كل واحد ثمانين قال أبو زيد أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة وأعطانا كلنا مئة أي فعل ذلك بكل واحد منا قال فأما من أضاف الفدية إلى الطعام فكاضافة البعض إلى ما هو بعض له وذلك أنه سمى الطعام الذي يفدى به فدية ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها فهو على هذا من باب خاتم حديد
قوله تعالى فمن تطوع خيرا فيه ثلاثة أقوال أحدها أن معناه من أطعم مسكينين قاله ابن عباس و مجاهد والثاني أن التطوع إطعام مساكين قاله طاووس والثالث أنه زيادة المسكين على قوته وهو مروي عن مجاهد وفعله أنس بن مالك لما كبر وأن تصوموا خير لكم عائد إلى من تقدم ذكره من الأصحاء المقيمين المخيرين بين الصوم والإطعام على ما حكينا في اول الآية عن السلف ولم يرجع ذلك إلى المرضى والمسافرين والحامل والمرضع اذ الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم وقد نهوا عن تعريض أنفسهم للتلف وهذا يقوي قول القائلين بنسخ الآية

شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون
قوله تعالى شهر رمضان
قال الأخفش شهر رمضان بالرفع على تفسير الأيام كانه لما قال أياما معدودات فسرها فقال هي شهر رمضان قال أبو عبيد وقرا مجاهد شهر رمضان بالنصب وأراه نصبه على معنى الإغراء عليكم شهر رمضان فصوموه كقوله ملة أبيكم وقوله صبغة الله قلت وممن قرأ بالنصب معاوية والحسن وزيد بن علي وعكرمة ويحيى بن يعمر قال ابن فارس الرمض حر الحجارة من شدة حر الشمس ويقال شهر رمضان من شدة الحر لأنهم لما نقلوا اسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التى وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر ويجمع على رمضانات وأرمضاء وأرمضة
قوله تعالى الذي انزل فيه القران فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه أنزل القرآن فيه جملة واحدة وذلك في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا قاله ابن عباس والثاني أن معناه أنه انزل القرآن بفرض صيامه روي عن مجاهد والضحاك والثالث أن معناه إن القرآن ابتدىء بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه و سلم قاله ابن إسحاق وابو سليمان الدمشقي قال مقاتل والفرقان المخرج في الدين من الشبهة والضلالة
قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه أي من كان حاضرا غير مسافر فان قيل ما الفائدة في اعادة ذكر المرض والسفر في هذه الآية وقد تقدم ذلك قيل لأن في الآية المتقدمة منسوخا فأعاده لئلا يكون مقرونا بالمنسوخ

قوله تعالى يريد الله بكم اليسر قال ابن عباس و مجاهد وقتادة والضحاك اليسر الإفطار في السفر والعسر الصوم فيه وقال عمر بن عبد العزيز أي ذلك كان أيسر عليك فافعل الصوم في السفر أو الفطر
قوله تعالى ولتكملوا العدة قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي ولتكملوا باسكان الكاف خفيفة وقرا أبو بكر عن عاصم بتشديد الميم وذلك مثل وصى و أوصى وقال ابن عباس ولتكملوا عدة ما افطرتم وقال بعضهم المراد به لا تزيدوا على ما افترض كما فعلت النصارى ولا تنقلوه عن زمانه كما نقلته ولتكبروا الله على ما هداكم قال ابن عباس حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا لله حتى يفرغوا من عيدهم فان قيل ما وجه دخول الواو في قوله ولتكملوا العدة ولتكبروا الله وليس هناك ما يعطف عليه فالجواب أن هذه الواو عطفت اللام التي بعدها على لام محذوفة والمعنى ولا يريد بكم العسر ليسعدكم ولتكملوا العدة فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها ذكره ابن الانباري
فصل
ومن السنة إظهار التكبير ليلة الفطر وليلة النحر وإذا غدوا إلى المصلى واختلفت الرواية عن أحمد رضي الله عنه متى يقطع في عيد الفطر فنقل عنه حنبل يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة ونقل الأثرم إذا جاء المصلى قطع قال القاضي أبو يعلى يعني إذا جاء المصلى وخرج الإمام
و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون

قوله تعالى وإذا سألك عبادي عني
في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال أقريب ربنا فنناجيه ام بعيد فنناديه فنزلت هذه الآية رواه الصلت بن حكيم عن ابيه عن جده
والثاني أن يهود المدينة قالوا يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تتزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام فنزلت هذه الآية رواه ابو صالح عن ابن عباس
والثالث انهم قالوا يا رسول الله لو نعلم آية ساعة أحب إلى الله أن ندعو فيها دعوانا فنزلت هذه الآية قاله عطاء
والرابع أن أصحاب النبي قالوا له اين الله فنزلت هذه الآية قاله الحسن
والخامس أنه لما حرم في الصوم الاول على المسلمين بعد النوم الأكل والجماع أكل رجل منهم بعد أن نام ووطى رجل بعد أن نام فسألوا كيف التوبة مما عملوا فنزلت هذه الآية قاله مقاتل ومعنى الكلام إذا سألوك عني فأعلمهم اني قريب
وفي معنى أجيب قولان أحدهما اسمع قاله الفراء وابن القاسم والثاني أنه من الإجابة فليستجيبوا لي أي فليجيبوني قال الشاعر ... وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب ...
أراد فلم يجبه وهذا قول ابي عبيدة وابن قتبية و الزجاج لعلهم يرشدون قال أبوالعالية يعني يهتدون
فصل
إن قال قائل هذه الآية تدل على أن الله تعلى يجيب أوعيه الداعين وترى كثيرا من الداعين لا يستجاب لهم

فالوجواب أن أبا سعيد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم الا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال إما أن يعجل دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة و إما أن يدفع عنه من السوء مثلها
و جواب آخر وهو أن الدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطاعة لله ومنها أكل الحلال فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدعاء ومنها حضور القلب ففي بعض الحديث يقبل الله دعاء من قلب غافل لاه
وجواب آخر وهو أن الداعي قد يعتقد المصلحة في إجابته إلى ما سأل وقد لا تكون المصلحة في ذلك فيجاب إلى مقصوده الأصلي وهو طلب المصلحة وقد تكون المصلحة في التأخير أو في المنع
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون
قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث
سبب نزول هذه الآية أن الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع حرما عليه

إلى أن يفطر فجاء شيخ من الأنصار وهو صائم إلى اهله فقال عشوني فقالوا حتى نسخن لك طعاما فوضع رأسه فنام فجاؤوا بالطعام فقال قد كنت نمت فبات يتقلب ظهرا لبطن فلما أصبح اتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله إني أردت أهلي الليلة فقالت إنها قد نامت فظننتها تعتل فواقعتها فأخبرتني أنها قد نامت فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطاب أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم وأنزل الله في الانصاري وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر هذا قول جماعة من المفسرين واختلفوا في اسم هذا الانصاري على اربعة أقوال أحدها قيس بن صرمة قاله البراء والثاني صرمة بن أنس قاله القاسم بن محمد وقال عبد الرحمن بن ابي ليلى صرمة بن مالك والثالث ضمرة بن أنس والرابع أبو قيس بن عمر وذكر القولين أبو بكر الخطيب فأما الرفث فقال ابن عمر وابن عباس و مجاهد وعطاء والحسن وابن جبير في آخرين هو الجماع
قوله تعالى هن لباس لكم وأنتم لباس لهن
فيه قولان أحدهما أن اللباس السكن ومثله جعل لكم الليل لباسا الفرقان 47 أي سكنا وهذا قول ابن عباس وابن جبير و مجاهد وقتادة والثاني انهن بمنزلة اللباس لإفضاء كل واحد ببشرته إلى بشرة صاحبه فكنى عن اجتماعهما متجردين باللباس قال الزجاج والعرب تسمي المرأة لباسا وإزارا قال النابغة الجعدي ... إذا ماالضجيع ثنى جيدها ... تثنت فكانت عليه لباسا

وقال غيره ... ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري ...
يريد بالإزار امرأته
قوله تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون انفسكم قال ابن قتيبة يريد تخونونها بارتكاب ما تحرم عليكم قال ابن عباس وعنى بذلك فعل عمر فإنه أتى اهله فلما اغتسل اخذ يلوم نفسه ويبكي فالآن باشروهن أصل المباشرة إلصاق البشرة بالبشرة وقال ابن عباس المراد بالمباشرة هاهنا الجماع وابتغوا ما كتب الله لكم فيه اربعة اقوال أحدها أنه الولد قاله ابن عباس والحسن و مجاهد في آخرين قال بعض أهل العلم لما كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع اباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد فقال وابتغوا ما كتب الله لكم يريد الولد والثاني أن الذي كتب لهم الرخصة وهو قول قتادة وابن زيد والثالث أنه ليلة القدر رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس والرابع أنه القرآن فمعنى الكلام اتبعوا القرآن فما أبيح لكم وأمرتم به فهو المبتغى وهذا اختيار الزجاج
قوله تعالى وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض قال عدي بن حاتم لما نزلت هذه الآية عمدت إلى عقالين ابيض واسود فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أقوم في الليل ولا أستبين الاسود من الابيض فلما أصبحت غدوة على رسول الله فأخبرته فضحك وقال إن كان وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل وقال سهل بن سعد نزلت بن سعد نزلت هذه الآية حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الاسود ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط احدهم في رجليه الخيط الاسود

والخيط الابيض فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له زيهما فأنزل الله بعد ذلك من الفجر فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار
فصل
إذا شك في الفجر فهل يدع السحور ام لا فظاهر كلام احمد يدل على أنه لا يدع السحور بل يأكل حتى يستيقن طلوع الفجر وقال مالك أكره له أن يأكل إذا شك في طلوع الفجر فان أكل فعليه القضاء وقال الشافعي لا شيء عليه
قوله تعالى ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد في هذه المباشرة قولان أحدهما أنها المجامعة وهو قول الاكثرين والثاني أنها ما دون الجماع من اللمس والقبلة قاله ابن زيد وقال قتادة كان الرجل المعتكف إذا خرج من المسجد فلقي امرأته باشرها إذا أراد ذلك فوعظهم الله في ذلك
فصل
الاعتكاف في اللغة اللبث يقال فلان معتكف على كذا وعاكف وهو فعل مندوب إليه إلا أن ينذره الإنسان فيجب ولا يجوز إلا في مسجد تقام فيه الجماعات ولا يشترط في حق المرأة مسجد تقام فيه الجماعة إذ الجماعة لا تجب عليها وهل يصح بغير صوم فيه عن أحمد روايتان
قوله تعالى تلك حدود الله قال ابن عباس يعني المباشرة فلا تقربوها قال الزجاج الحدود ما منع الله من مخالفتها فلا يجوز مجاوزتها وأصل الحد في اللغة المنع ومنه حد الدار وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها والحداد في اللغة الحاجب والبواب وكل من منع شيئا فهو حداد قال الأعشى ... فقمنا ولما يصح ديكنا ... إلى جونة عند حدادها

أي عند ربها الذي يمنعها الا بما يريده واحدت المرأة على زوجها وحدت فهي حاد ومحد إذا قطعت الزينة وامتنعت منها واحددت النظر إلى فلان إذا منعت نظرك من غيره وسمي الحديد حديدا لأنه يمتنع به الأعداء
قوله تعالى كذلك يبين الله أي مثل هذا البيان الذي ذكر
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون
قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
سبب نزولها أن امرؤ القيس بن عابس وعبدان الحضرمي اختصما في ارض وكان عبدان هو الطالب ولا بينة له فأراد امرؤ القيس أن خلف فقرأ عليه النبي صلى الله عليه و سلم إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا آل عمران 77 فكره أن خلف ولم يخاصم في الأرض فنزلت هذه الآية هذا قول جماعة منهم سعيد بن جبير ومعنى الآية لا يأكل بعضكم أموال بعض كقوله فاقتلوا أنفسكم قال القاضي أبو يعلي والباطل على وجهين أحدهما أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه كالسرقة والغصب والخيانة والثاني أن يأخذه بطيب نفسه كالقمار والغناء وثمن الخمر وقال الزجاج الباطل الظلم وتدلوا أصله في اللغة من أدليت الدلو إذا أرسلتها لتملأها ودلوتها إذا أخرجتها ومعنى أدلى فلان بحجته أرسلها وأتى بها على صحة فمعنى الكلام تعملون على ما يوجبه إدلاء الحجة وتخونون في الأمانة وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن
وفي ها بها قولان أحدهما أنها ترجع إلى الاموال كأنه قال لا تصانعوا ببعضها جورة الحكام والثاني أنها ترجع إلى الخصومة فان قيل كيف أعاد ذكر

الأكل فقال ولا تأكلوا لتأكلوا فالجواب أنه وصل اللفظة الاولى بالباطل والثانية بالإثم فأعادها للزيادة في المعنى ذكره ابن الانباري
يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تاتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون
قوله تعالى يسئلونك عن الأهلة
هذه الآية من اولها إلى قوله والحج نزلت على سبب وهو أن رجلين من الصحابة قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد ويمتليء حتى يستدير ويستوي ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان فنزلت يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج هذا قول ابن عباس
ومن قوله تعالى وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إلى آخرها يدل على سبب آخر وهو انهم كانوا إذا حجوا ثم قدموا المدينة لم يدخلوا من باب ويأتون البيوت من ظهورها فنسي رجل فدخل من باب فنزلت وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها هذا قول البراء بن عازب
وفيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله اربعة أقوال أحدها انهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام قاله ابن عباس و أبوالعالية والنخعي وقتادة وقيس النهشلي والثاني لأجل دخول الشهر الحرام قاله البراء بن عازب والثالث أن أهل الجاهلية كانوا إذا هم احدهم بالشىء فاحتبس عنه لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان

هم به قاله الحسن والرابع أن أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك رواه عثمان بن عطاء عن أبيه
فأما التفسير فانما سألوه عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها فأخبرهم انها مقادير لما يحتاج الناس اليه في صومهم وحجهم وغير ذلك والأهلة جمع هلال وكم يبقى الهلال على هذه التسمية فيه للعرب اربعة أقوال أحدها أنه يسمى هلالا لليلتين من الشهر والثاني لثلاث ليال ثم يسمى قمرا والثالث إلى أن يحجر وتحجيره أن يسير بخطة دقيقة وهو قوال الأصمعي والرابع إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل حكى هذه الاقوال ابن السري واختار الأول قال واشتقاق الهلال من قولهم استهل الصبي إذا بكى حين يولد و أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية فسمي هلالا لأنه حين يرى يهل الناس بذكره
قوله تعالى ولكن البر من اتقى مثل قوله تعالى ولكن البر من آمن بالله وقد سبق بيانه واختلف القراء في البيوت وما أشبهها فقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي بكسر باء البيوت وعي العيون وغين الغيوب وروي عن نافع أنه ضم باء البيوت وعين العيون وغين الغيوب وجيم الجيوب وشين الشيوخ وروى عنه قالون أنه كسر باء البيوت وقرا أبو عمر و أبو جعفر بضم الأحرف الخمسة وكسرهن جميعا حمزة واختلف عن عاصم قال الزجاج من ضم البيوت فعلى أصل الجمع بيت وبيوت مثل قلب وقلوب وفلس وفلوس ومن كسر فانما كسر للياء التي بعد الباء وذلك عند البصريين ردىء لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء وسمعت شيحنا أبا منصور اللغوي يقول إذا كان الجمع على فعول وثانيه ياء جاز فيه الضم والكسر تقول بيوت وبيوت وشيوخ وشيوخ وقيود وقيود

وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين
قوله تعالى وقاتلوا فس سبيل الله الذين يقاتلونكم
سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما صد عن البيت ونحر هديه بالحديبية وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل رجع فلما تجهز في العام المقبل خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك و أن يصدوهم ويقاتلوهم وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
قوله تعالى ولا تعتدوا أي ولا تظلموا وفي المراد بهذا الاعتداء اربعة أقوال أحدها أنه قتل النساء والولدان قاله ابن عباس و مجاهد والثاني أن معناه لا تقاتلوا من لم يقاتلكم قاله سعيد بن جبير و أبوالعالية و ابن زيد والثالث أنه إتيان ما نهوا عنه قاله الحسن والرابع أنه ابتداؤهم بالقتال في الحرم في الشهر الحرام قاله مقاتل
فصل
اختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا على قولين
أحدهما أنها منسوخة واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين أحدهما أنه اولها وهو قوله وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم قالوا وهذا يقتضي أن القتال يباح في حق من قاتل من الكفار ولا يباح في حق من لم يقاتل وهذا منسوخ بقوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم والثاني أن المنسوخ منها ولا تعتدوا ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان أحدهما أنه قتل من لم يقاتل والثاني أنه ابتداء المشركين بالقتال وهذا منسوخ بآية السيف
والقول الثاني أنها محكمة ومعناها عند ارباب هذا القول وقاتلوا في سبيل الله

الذين يقاتلونكم وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال فأما من ليس بمعد نفسه للقتال كالرهبان والشيوخ الفناة والزمنى والمكافيف والمجانين فان هؤلاء لا يقاتلون وهذا حكم باق غير منسوخ
فصل
واختلف العلماء في اول اية نزلت في إباحة القتال على قولين أحدهما أنها قوله تعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الحج 39 قاله أبو بكر الصديق و ابن عباس وسعيد بن جبير والزهري والثاني أنها هذه الآية وقاتلوا في سبيل الله قاله أبوالعالية و ابن زيد
واقتلوهم حيث تقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزآء الكافرين
قوله تعالى واقتلوهم حيث ثقفثموهم
أي وجدتموهم يقال ثقفته أثقفه إذا وجدته قال القاضي ابو يعلى قوله تعالى واقتلوهم حيث تقفثموهم عام في جميع المشركين الا من كان بمكة فانهم أمروا باخراجهم منها الا من قاتلهم فإنهم أمروا بقتالهم يدل على ذلك قوله في نسق الآية ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه رو وكانوا قد آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج فكأنهم أخرجوهم أما الفتنة ففيها قولان أحدهما أنها الشرك قاله ابن مسعود و ابن عباس وابن عمر وقتادة في آخرين والثاني أنها ارتداد المؤمن إلى عبادة الأوثان قاله مجاهد فيكون معنى الكلام على القول الأول شرك القوم أعظم

من قتلكم إياهم في الحرم وعلى الثاني ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشد عليه من أن يقتل محقا
قوله تعالى ولا تقاتلوهم قرأ ابن كثير ونافع و أبو عمرو وعاصم ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم وقرا حمزة والكسائي وخلف ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فان قتلوكم بحذف الألف فيهن وقد اتفق الكل على قوله فاقتلوهم واحتج من قرأ بالألف بقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة واحتج من حذف الألف بقوله فاقتلوهم
فصل
واختلف العلماء في قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه هل هو منسوخ ام لا فذهب مجاهد في جماعة من الفقهاء إلى أنه محكم وانه لا يقاتل فيه الا من قاتل ويدل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه خطب يوم فتح مكة فقال يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والارض ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من النهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة فبين صلى الله عليه و سلم أنه خص في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التخصيص لا على وجه النسخ فثبت بذلك خطر القتال في الحرم إلا أن يقاتلوا فيدفعون دفعا وهذا أمر مستمر والحكم غير منسوخ وقد ذهب قتادة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم التوبة 5 فأمر بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال وذهب الربيع ابن أنس و ابن زيد إلى أنه منسوخ بقوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وزعم

مقاتل أنه منسوخ بقوله تعالى واقتلوهم حيث ثقفتموهم البقرة 191 والقول الأول أصح
قوله تعالى فإن قاتلوكم فاقتلوهم قال مقاتل أي فقاتلوهم
فان انتهوا فإن الله غفور رحيم
قوله تعالى فإن انتهوا
فيه ثلاثة أقوال أحدها أن معناه فإن انتهوا عن شركهم وقتالكم والثاني عن كفرهم والثالث عن قتالكم دون كفرهم فعلى القولين الأولين تكون الآية محكمة ويكون معنى فان الله غفور رحيم غفور لشركهم وجرمهم وعلى القول الأخير يكون في معنى قوله غفور رحيم قولان أحدهما غفور لكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم والثاني أن معناه يأمركم بالغفران والرحمة لهم فعلى هذا تكون الآية منسوخة باية السيف
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فان انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
قوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة
قال ابن عباس والحسن و مجاهد وقتادة في آخرين الفتنة هاهنا الشرك
قوله تعالى ويكون الدين لله قال ابن عباس أي يخلص له التوحيد والعدوان الظلم وأريد به هاهنا الجزاء فسمي الجزاء عدوانا مقابلة للشئ بمثله كقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه والظالمون هاهنا المشركون قاله عكرمة و قتادة في آخرين

فصل
وقد روي عن جماعة من المفسرين منهم قتادة أن قوله تعالى فان انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين منسوخ بآية السيف وإنما يستقيم هذا إذا قلنا إن معنى الكلام فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم فأما إذا قلنا إن معناه فإن انتهوا عن دينهم فالآية محكمة
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين
قوله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام
هذه الآية نزلت على سبب واختلفوا فيه على قولين أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم أقبل هو و أصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي فصدهم المشركون فصالحهم نبي الله على أن يرجع عنهم ثم يعود في العام المقبل فيكون بمكة ثلاث ليال ولا يدخلها بسلاح ولا يخرج بأحد من أهل مكة فلما كان العام المقبل أقبل هو وأصحابه فدخلوها فافتخر المشركون عليه إذ ردوه يوم الحديبة فأقصه الله منهم وأدخله مكة في الشهر الذي ردوه فيه فقال الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص والى هذا المعنى ذهب ابن عباس و مجاهد وعطاء و أبوالعالية وقتادة في آخرين والثاني أن مشركي العرب قالوا للنبي عليه السلام انهيت عن قتالنا في الشهر الحرام قال نعم وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فيه فنزلت هذه الآية يقول إن استحلوا منكم شيئا في الشهر الحرام فاستحلوا منهم مثله هذا قول الحسن واختاره إبراهيم ابن السري و الزجاج فأما أرباب القول الأول فيقولون معنى الآية الشهر الحرام

الذي دخلتم فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه عام أول والحرمات قصاص اقتصصت لكم منهم في ذي القعدة كما صدوكم في ذي القعدة وقال الزجاج الشهر الحرام أي قتال الشهر الحرام بالشهر الحرام فأعلم الله تعالى أن أمر هذه الحرمات لا تجوز للمسلمين إلا قصاصا ثم نسخ ذلك بآية السيف وقيل إنما جمع الحرمات لأنه اراد الشهر الحرام بالبلد الحرام وحرمة الإحرام
قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه قال ابن عباس من قاتلكم في الحرم فقاتلوه وإنما سمى المقابلة على الاعتداء اعتداء لأن صورة الفعلين واحدة و إن كان أحدهما طاعة والآخر معصية قال الزجاج والعرب تقول ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه وجهل فلان علي فجهلت عليه وقد سبق بيان هذا المعنى في أول السورة
قوله تعالى واتقوا الله قال سعيد بن جبير واتقوا الله ولا تبدؤوهم بقتال في الحرم
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة واحسنوا إن الله يحب المحسنين وأتموا التحج والعمرة لله فان أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فاذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب
قوله تعالى وأنفقوا في سبيل الله
هذه الآية نزلت على سبب وفيه قولان

أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر بالتجهز إلى مكة قال ناس من الأعراب يا رسول الله بماذا نتجهز فوالله مالنا زاد ولا مال فنزلت قاله ابن عباس
والثاني أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدقون فأصابتهم سنة فأمسكوا فنزلت قاله أبو جبيرة بن الضحاك والسبيل في اللغة الطريق و إنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين والتهلكة بمعنى الهلاك يقال هلك الرجل يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة قال المبرد وأراد بالأيدي الأنفس فعبر بالبعض عن الكل وفي المراد بالتهلكة هاهنا اربعة أقوال أحدها أنها ترك النفقة في سبيل الله قاله حذيفة و ابن عباس والحسن وابن جبير وعكرمة و مجاهد وقتادة والضحاك والثاني أنها القعود عن الغزو شغلا بالمال قاله أبو أيوب الانصاري والثالث أنها القنوط من رحمة الله قاله البراء والنعمان بن بشير وعبيدة والرابع أنها عذاب الله رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس
قوله تعالى وأحسنوا فيه ثلاثة أقوال أحدها أن معناه أحسنوا الإنفاق وهو قول أصحاب القول الأول والثاني أحسنوا الظن بالله قاله عكرمة وسفيان وهو يخرج على قول من قال التهلكة القنوط والثالث أن معناه أدوا الفرائض رواه سفيان عن ابي إسحاق

قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله قال ابن فارس الحج في اللغة القصد والاعتمار في الحج أصله الزيارة قال ثعلب الحج بفتح الحاء المصدر وبكسرها الاسم قال وربما قال الفراء هما لغتان وذكر ابن الانباري في العمرة قولين أحدهما الزيارة والثاني القصد وفي إتمامها اربعة أقوال احدهها أن معنى إتمامها أن يفصل بينهما فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج قاله عمر بن الخطاب والحسن وعطاء والثاني أن يحرم الرجل من دويرة اهله قاله علي بن ابي طالب وطاووس وابن جبير والثالث أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتم قاله ابن عباس والرابع أنه فعل ما أمر الله فيهما قاله مجاهد وجمهور القراء على نصب العمرة بايقاع الفعل عليها وقرا الأصمعي عن نافع والقزاز عن ابي عمرو والكسائي عن ابي جعفر برفعها وهي قراءة ابن مسعود و ابي رزين والحسن والشعبي وقراءة الجمهور تدل على وجوبها وممن ذهب إلى أن العمرة واجبة علي وابن عمر و ابن عباس والحسن وابن سيرين وعطاء وطاووس وسعيد ابن جبير و مجاهد و أحمد والشافعي وروي عن ابن مسعود و جابر والشعب وإبراهيم و ابي حنيفة ومالك أنها سنة وتطوع
قوله تعالى فإن أحصرتم قال ابن قتيبة يقال أحصره المرض والعدو إذا منعه من السفر ومنه هذه الآية وحصره العدو إذا ضيق عليه وقال الزجاج يقال للرجل إذا حبس قد حصر فهو محصور وللعلماء في هذا الإحصار قولان أحدهما أنه لا يكون إلا بالعدو ولا يكون المريض محصرا وهذا مذهب ابن عمر وابن عباس و أنس ومالك والشافعي و أحمد ويدل عليه قوله فاذا أمنتم والثاني أنه يكون بكل حابس من مرض أو عدو أو عذر وهو قول عطاء و مجاهد وقتادة وابي حنيفة وفي الكلام اختصار وحذف والمعنى فإن أحصرتم دون تمام الحج والعمرة فحللتم فعليكم

ما استيسر من الهدي ومثله أو به أذى من رأسه ففدية تقديره فحلق ففدية والهدي ما أهدي إلى البيت وأصله هدي مشدد فخفف قاله ابن قتيبة وبالتشديد يقرأ الحسن و مجاهد و في المراد بما استيسر من الهدي ثلاثة أقوال أحدها أنه شاة قاله علي بن أبي طالب و ابن عباس والحسن وعطاء وابن جبير وإبراهيم وقتادة و الضحاك والثاني أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير قاله ابن عمر وعائشة والقاسم والثالث أنه على قدر الميسرة رواه طاووس عن ابن عباس وروي عن الحسن وقتادة قالا اعلاه بدنه وأوسطه بقرة وأخسه شاة وقال أحمد الهدي من الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومالك والشافعي رحمهما الله
قوله تعالى حتى يبلغ الهدي محله قال ابن قتيبة المحل الموضع الذي يحل به نحره وهو من حل يحل وفي المحل قولان أحدهما أنه الحرم قاله ابن مسعود والحسن وعطاء وطاووس و مجاهد وابن سيرين والثوري وابو حنيفة والثاني أنه الموضع الذي أحصر به فيذبحه ويحل قاله مالك والشافعي و أحمد
قوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية هذا نزل على سبب وهو أن كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه فنزلت هذه الآية فيه فكان يقول في نزلت خاصة
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله اقتضى قوله ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله تحريم حلق الشعر سواء وجد به الأذى أو لم يجد حتى نزل فمن كان منكم

مريضا أو به أذى من رأسه ففدية فاقتضى هذا إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية فصار ناسخا لتحريمه المتقدم
ومعنى الآية فمن كان منكم أي من المحرمين محصرا كان أو غير محصر مريضا واحتاج إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام ففعله أو به أذى من رأسه فحلق ففدية من صيام وفي الصيام قولان أحدهما أنه ثلاثة ايام روي في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم وهو قول الجمهور والثاني أنه صيام عشرة ايام روي عن الحسن وعكرمة ونافع وفي الصدقة قولان أحدهما أنه إطعام ستة مساكين روي في حديث كعب وهو قول من قال الصوم ثلاثة ايام والثاني أنها إطعام عشرة مساكين وهو قول من أوجب صوم عشرة ايام والنسك ذبح شاة يقال نسكت لله أي ذبحت له وفي النسك لغتان ضم النون والسين وبها قرأ الجمهور وضم النون مع تسكين السين وهي قراءة الحسن
قوله تعالى فاذا أمنتم أي من العدو إذ المرض لا تؤمن معاودته وقال علقمة في آخرين فاذا امنتم من الخوف والمرض فمن تمتع بالعمرة إلى الحج معناه من بدأ بالعمرة في أشهر الحج وأقام الحج من عامه ذلك فعليه ما استيسر من الهدي وهذا قول ابن عمر وابن المسيب وعطاء والضحاك وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة ايام في الحج قال الحسن هي قبل التروية بيوم و يوم التروية ويوم عرفة وهذا قول عطاء والشعبي و أبي العالية وابن جبير وطاووس وابراهيم وقد نقل عن علي رضي الله عنه وقد روي عن الحسن وعطاء قالا في أي العشر شاء صامهنى ونقل عن طاووس و مجاهد وعطاء انهم قالوا في أي اشهر الحج شاء فليصمهن ونقل عن ابن عمر أنه قال من حين يحرم إلى يوم عرفة

فصل
فإن لم يجد الهدي ولم يصم الثلاثة ايام قبل يوم النحر فماذا يصنع قال عمر بن الخطاب و ابن عباس و ابن جبير وطاووس و ابراهيم لا يجزئه إلا الهدي ولا يصوم وقال ابن عمر وعائشة يصوم ايام منى ورواه صالح عن أحمد وهو قول مالك وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم ايام التشريق بل يصوم بعدهن روي عن علي ورواه المروذي عن أحمد وهو قول الشافعي
فصل
فان وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة أيام لم يلزمه الخروج منه وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه الخروج وعليه الهدي وقال عطاء إن صام يومين ثم أيسر فعليه الهدي وإن صام ثلاثة ايام ثم أيسر فليصم السبعة ولا هدي عليه وفي معنى قوله في الحج قولان أحدهما أن معناه في أشهر الحج والثاني في زمان الإحرام بالحج وفي قوله تعالى وسبعة إذا رجعتم قولان أحدهما إذا رجعتم إلى أمصاركم قاله ابن عباس والحسن و أبوالعالية والشعبي وقتادة والثاني إذا رجعتم من حجكم وهو قول عطاء وسعيد بن جبير وأبي حنيفة ومالك قال الأثرم قلت لأبي عبيد الله يعني أحمد بن حنبل فصيام السبعة أيام إذا رجع متى يصومهن أفي الطريق ام في اهله قال كل ذلك قد تأوله الناس قيل لأبي عبد الله ففرق بينهن فرخص في ذلك
قوله تعالى تلك عشرة كاملة فيه خمسة أقوال
أحدها أن معناه كاملة في قيامها مقام الهدي والى هذا المعنى ذهب ابن عباس والحسن قال القاضي أبو يعلى وقد كان يجوز أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب فأعلمنا الله تعالى أن العشرة بكمالها هي القائمة مقامه

والثاني أن الواو قد تقوم مقام او في مواضع منها قوله فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فأزال الله عز و جل احتمال التخيير في هذه الآية بقوله بلك عشرة كاملة والى هذا المعنى ذهب الزجاج
والثالث أن ذلك للتوكيد وأنشدوا للفرزدق ... ثلاث واثنتان فهن خمس ... وسادسة تميل إلى شمامي ...
وقال آخر ... هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا ...
وقال آخر ... كم نعمة كانت له كم كم وكم ...
والقرآن نزل بلغة العرب وهي تكرر الشىء لتوكيده
والرابع أن معناه تلك عشرة كاملة في الفصل و إن كانت الثلاثة في الحج والسبعة بعد لئلا يسبق إلى وهم احد أن السبعة دون الثلاثة قاله أبو سليمان الدمشقي
والخامس أنها لفظة خبر ومعناها الأمر فتقديره تلك عشرة فأكملوها
قوله تعالى ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام في المشار إليه بذلك قولان أحدهما أنه التمتع بالعمرة إلى الحج والثاني أنه الجزاء بالنسك والصيام واللام من لمن في هذا القول بمعنى على فأما حاضروا المسجد الحرام فقال ابن عباس وطاووس و مجاهد هم أهل الحرم وقال عطاء من كان منزله دون المواقيت قال ابن الانباري ومعنى الآية إن هذا الفرض لمن كان من الغرباء وإنما ذكر اهله وهو المراد بالحضور لأن الغالب على الرجل أن يسكن حيث اهله ساكنون
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في

الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فان خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب
قوله تعالى الحج أشهر معلومات
في الحج لغتات فتح الحاء وهي لأهل الحجاز وبها قرأ الجمهور وكسرها وهي لتميم وقيل لأهل نجد وبها قرأ الحسن قال سيبويه يقال حج حجا كقولهم ذكر ذكرا وقالوا حجة يريدون عمل سنة قال الفراء المعنى وقت الحج هذه الأشهر وقال الزجاج معناه أشهر الحج أشهر معلومات
وفي أشهر الحج قولان أحدهما أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة قاله ابن مسعود وابن عمر و ابن عباس وابن الزبير والحسن وابن سيرين وعطاء والشعبي وطاووس والنخعي وقتادة ومكحول و الضحاك والسدي و أبوحنيفة و أحمد بن حنبل والشافعي رضي الله عنهم والثاني أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة وهو مروي عن ابن عمر ايضا وعطاء وطاووس و مجاهد و الزهري والربيع ومالك ابن أنس قال ابن جرير الكبري إنما أراد هؤلاء أن هذه الأشهر أن ليست أشهر العمرة إنما هي للحج و إن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء منى وقد كانوا يستحبون أن يفعلوا العمرة في غيرها قال ابن سيرين ما أحد من أهل العلم شك في أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج وإنما قال الحج أشهر وهي شهران وبعض الآخر على عادة العرب قال الفراء تقول العرب له اليوم يومان لم اره وانما هو يوم وبعض آخر وتقول زرتك العام وأتيتك اليوم وإنما وقع الفعل في ساعة وذكر ابن الانباري في هذا قولين أحدهما أن العرب توقع الجمع على التثنية كقوله تعالى أولئك مبرؤون مما يقولون وإنما يريد عائشة وصفوان وكذلك قوله وكنا لحكمهم شاهدين يريد

داود وسليمان والثاني أن العرب توقع الوقت الطويل على الوقت القصير فيقولون قتل ابن الزبير أيام الحج وانما كان القتل في أقصر وقت
فصل
اختلف العلماء فيمن احرم بالحج قبل أشهر الحج فقال عطاء وطاووس و مجاهد والشافعي لا يجزئه ذلك وجعلوا فائدة قوله الحج أشهر معلومات أنه لا ينعقد الحج إلا فيهن وقال أبو حنيفة ومالك والثوري والليث بن سعد و أحمد بن حنبل يصح الإحرام بالحج قبل أشهر فعلى هذا يكون قوله الحج أشهر معلومات أي معظم الحج يقع في هذه الأشهر كما قال النبي صلى الله عليه و سلم الحج عرفة
قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج قال ابن مسعود هو الإهلال بالحج والاحرام به وقال طاووس وعطاء هو أن يلبي وروي عن علي وابن عمر و مجاهد والشعبي في آخرين أنه إذا قلد بدنته فقد أحرم وهذا محمول على أنه قلدها ناويا للحج ونص الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في رواية الأثرم أن الإحرام بالنيبة قيل له يكون محرما بغير تلبية قال نعم إذا عزم على الإحرام وهذا قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز الدخول في الإحرام إلا بالتلبية أو تقليد الهدي وسوقه
قوله تعالى فلا رفث قرأ ابن كثير وابو عمرو وابو جعفر فلا رفث ولا فسوق بالضم والتنوين وقرا نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير تنوين ولم يرفع احد منهم لام جدال إلا أبو جعفر قال أبو علي حجة من فتح أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود لأنه بالفتح قد نفى جميع الرفث والفسوق كقوله لا ريب

فيه فاذا رفع ونون كان النفي لواحد منه وإنما فتحوا لام الجدال ليتناول النفي جميع جنسه فكذلك ينبغي أن يكون جمع الاسمين قبل وحجة من رفع أنه قد علم من فحوى الكلام نفي جميع الرفث وقد يكون اللفظ واحدا والمراد بالمعنى الجميع
وفي الرفث ثلاثة أقوال أحدها أنه الجماع قاله ابن عمر والحسن وعكرمة و مجاهد وقتادة في آخرين والثاني أنه الجماع وما دونه من التعريض به وهو مروي عن ابن عمر ايضا و ابن عباس وعمرو بن دينار في آخرين والثالث أنه اللغو من الكلام قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي وفي الفسوق ثلاثة أقوال أحدها أنه السباب قاله ابن عمر و ابن عباس و إبراهيم في آخرين والثاني أنه التنابز بالألقاب مثل أن تقول لأخيك يا فاسق يا ظالم رواه الضحاك عن ابن عباس والثالث أنه المعاصي قاله الحسن وعطاء وطاووس و مجاهد وقتادة في آخرين وهو الذي نختاره لأن المعاصي تشمل الكل ولأن الفاسق الخارج من الطاعة إلى المعصية
قوله تعالى ولا جدال في الحج الجدال المراء وفي معنى الكلام قولان
أحدهما أن معناه لا يمارين أحدا أحدا فيخرجه المراء إلى الغضب وفعل مالا يليق بالحج و إلى هذا المعنى ذهب ابن عمر و ابن عباس وطاووس وعطاء وعكرمة والنخعي وقتادة و الزهري و الضحاك في آخرين
والثاني أن معناه لا شك في الحج ولا مراء فانه قد استقام أمره وعرف وقته وزال النسيء عنه قال مجاهد كانوا يحجون في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين ثم حجوا في صقر عامين وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر

الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه و سلم بسنة ثم حج النبي من قابل في ذي الحجة فذلك حين قال إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض والى هذا المعنى ذهب السدي عن أشياخه والقاسم بن محمد
قوله تعالى وتزودوا فان خير الزاد التقوى قال ابن عباس كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فيسألون الناس فأنزل الله تعالى وتزودوا فان خير الزاد التقوى قال الزجاج أمروا أن يتزودوا وأعلموا أن خير ما تزودوا تقوى الله عز و جل
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرم واذكروه كما هداكم و إن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
قوله تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم
قال ابن عباس كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم ويقولون أيام ذكر فنزلت هذه الآية والابتغاء الالتماس والفضل هاهنا التماس الرزق بالتجارة والكسب قال ابن قتيبة أفضتم بمعنى دفعتم وقال الزجاج معناه دفعتم بكثرة يقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه و أكثروا التصرف
وفي تسمية عرفات قولان

أحدهما أن الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به فلما أتى عرفات قال قد عرفت فسميت عرفة قاله علي رضي الله عنه
والثاني أنها سميت بذلك لاجتماع آدم وحواء وتعارفهما بها قاله الضحاك
قاله الزجاج والمشعر المعلم سمي بذلك لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحج وهو مزدلفة وهي جمع يسمى بالاسمين قال ابن عمر و مجاهد المشعر الحرام المزدلفة كلها
قوله تعالى واذكروه كما هداكم أي جزاء هدايته لكم فان قيل ما فائدة تكرير الذكر قيل فيه اربعة أجوبة أحدها أنه كرره للمبالغة في الأمر به والثاني أنه وصل بالذكر الثاني ما لم يصل بالذكر الأول فحسن تكريره فالمعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته والثالث أنه كرره ليدل على مواصلته والمعنى اذكروه ذكرا بعد ذكر ذكر هذه الاقوال محمد بن القاسم النحوي والرابع أن الذكر في قوله فاذكروا الله عند المشعر الحرام هو صلاة المغرب والعشاء اللتان يجمع بينهما بالمزدلفة والذكر في قوله كما هداكم هو الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع حكاه القاضي أبو يعلى
قوله تعالى وإن كنتم من قبله في هاء الكناية ثلاثة أقوال أحدها أنها ترجع إلى الإسلام قاله ابن عباس والثاني أنها ترجع إلى الهدى قاله مقاتل و الزجاج والثالث أنها ترجع إلى القرآن قاله سفيان الثوري
قوله تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس قالت عائشة كانت قريش ومن يدين بدينها وهم الحمس يقفون عشية عرفة بالمزدلفة يقولون نحن قطن البيت وكان بقية

العرب والناس يقفون بعرفات فنزلت هذه الآية قال الزجاج سموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا والحماسة الشدة في كل شيء
وفي المراد بالناس هاهنا اربعة أقوال أحدها انهم جميع العرب غير الخمس ويدل عليه حديث عائشة وهو قول عروة و مجاهد وقتادة والثاني أن المراد بالناس هاهنا إبراهيم الخليل عليه السلام قاله الضحاك بن مزاحم والثالث أن المراد بالناس آدم قاله الزهري وقد قرأ أبو المتوكل وأبو نهيك ومورق العجلي الناسي باثبات الياء والرابع انهم أهل اليمن وربيعة فانهم كانوا يفيضون من عرفات قاله مقاتل
وفي المخاطبين بذلك قولان أحدهما أنه خطاب لقريش وهو قول الجمهور والثاني أنه خطاب لجميع المسلمين وهو يخرج على قول من قال الناس آدم أو إبراهيم والإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر إلا أن جمهور المفسرين على أنها الإفاضة من عرفات فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك كيف يقال فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله ثم أفيضوا من عرفات غير اني اقول وجه الكلام على ما قال أهل التفسير أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله
والغفور من أسماء الله عز و جل وهو من قولك غفرت الشىء إذا غطيته فكأن الغفور هو الساتر لعبده برحمته أو الساتر لذنوب عباده والغفور هو الذي يكثر المغفرة لأن بناء المفعول للمبالغة من الكثرة كقولك صبور وضروب وأكول
فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس

من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب ا اولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا انكم إليه تحشرون
قوله تعالى فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله
في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم ذكروا أفعال آبائهم وأيامهم وأنسابهم في الجاهلية فتفاخروا بذلك فنزلت هذه الآية وهذا المعنى مروي عن الحسن وعطاء و مجاهد
والثاني أن العرب كانوا إذا حدثوا أو تكلموا يقولون وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا فنزلت هذه الآية وهذا مروي عن الحسن ايضا
والثالث انهم كانوا إذا قضوا مناسكهم قام الرجل بمنى فقال اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ذكل فلا يذكر الله إنما يذكر أباه ويسأل أن يعطى في دنياه فنزلت هذه الآية هذا قول السدي
والمناسك المتعبدات وفي المراد بها هاهنا قولان أحدهما أنها جميع أفعال الحج قاله الحسن والثاني أنها إراقة الدماء قاله مجاهد وفي ذكرهم آبائهم اربعة أقوال أحدها أنه إقرارهم بهم والثاني أنه حلفهم بهم والثالث أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم فانهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان الله إليهم والرابع أنه ذكر الأطفال الآباء لأنهم اول نطقهم بذكر آبائهم روي هذا المعنى عن عطاء و الضحاك وفي أو قولان أحدهما أنها بمعنى بل والثاني بمعنى الواو و الخلاق قد تقدم ذكره

وفي حسنة الدنيا سبعة أقوال أحدها أنها المرأة الصالحة قاله علي والثاني أنها العبادة رواه سفيان بن حسين عن الحسن والثالث أنها العلم والعبادة رواه هشام عن الحسن والرابع المال قاله أبو وائل والسدي وابن زيد والخامس العافية قاله قتادة والسادس الرزق الواسع قاله مقاتل والسابع النعمة قاله ابن قتيبة
وفي حسنة الآخرة ثلاثة اقوال أحدها أنها الحور العين قاله علي رضي الله عنه والثاني الجنة قاله الحسن والسدي و مقاتل والثالث العفو والمعافاة روي عن الحسن والثوري
قوله تعالى أولئك لهم نصيب مما كسبوا قال الزجاج معناه دعاؤهم مستجاب لأن كسبهم هاهنا هو الدعاء وهذه الآية متعلقة بما قبلها إلا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب اخواتها فروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلا قال يا رسول الله مات أبي ولم يحج أفأحج عنه فقال لو كان علي ابيك دين قضيته اما كان ذلك يجزيء عنه قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضى قال فهل لي من أجر فنزلت هذه الآية
وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال أحدها أنه قلته قاله ابن عباس والثاني انه قرب مجيئه قال مقاتل والثالث أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه كان سريع الحساب لذلك والرابع أن المعنى والله سريع المجازاة ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج والخامس أنه لا يحتاج إلى فكر وروية كالعاجزين قاله أبو سليمان الدمشقي

قوله تعالى واذكروا الله في أيام معدودات في هذا الذكر قولان أحدهما أنه التكبير عند الجمرات وأدبار الصلوات وغير ذلك من أوقات الحج والثاني أنه التكبير عقيب الصلوات المفروضات واختلف ارباب هذا القول في الوقت الذي يبتدىء فيه بالتكبير ويقطع على ستة أقوال أحدها أنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى ما بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق قاله علي وابو يوسف ومحمد والثاني أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر قاله ابن مسعود وابو حنيفة والثالث من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد العصر من آخر أيام التشريق قاله ابن عمر وزيد بن ثابت و ابن عباس وعطاء والرابع أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الظهر من يوم النفر وهو الثاني من أيام التشريق قاله الحسن والخامس أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق قاله مالك بن أنس وهو أحد قولي الشافعي والسادس أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق وهذا قول للشافعي ومذهب إمامنا أحمد أنه كان محلا كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة أولها الفجر يوم عرفة وآخرها العصر من آخر أيام التشريق وان كان محرما كبر عقيب سبعة عشر صلاة اولها الظهر من يوم النحر وآخرها العصر من آخر أيام التشريق
وهل يختص هذا التكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة ام لا فيه عن أحمد روايتان إحداهما يختص بمن صلاها في جماعة وهو قول أبي حنيفة رحمه الله والثانية يختص بالفريضة وإن صلاها وحده وهو قول الشافعي
وفي الأيام المعدودات ثلاثة أقوال أحدها أنها أيام التشريق قاله ابن عمر وابن

عباس والحسن وعطاء و مجاهد وقتادة في آخرين والثاني أنها يوم النحر ويومان بعده روي عن علي وابن عمر والثالث أنها أيام العشر قاله سعيد بن جبير والنخعي قال الزجاج ومعدودات يستعمل كثيرا للشىء القليل كما يقال دريهمات وحمامات
قوله تعالى فمن تعجل في يومين أي فمن تعجل النفر الأول في اليوم الثاني من أيام منى فلا إثم عليه ومن تأخر إلى النفر الثاني وهو اليوم الثالث من أيام منى فلا إثم عليه فان قيل إنما يخاف الإثم المتعجل فما بال المتأخر ألحق به والذي أتى به أفضل فعنه اربعة أجوبة أحدها أن المعنى لا إثم على المتعجل والمتأخر مأجور فقال لا إثم عليه لتوافق اللفظة الثانية الاولى كقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه والثاني أن المعنى فلا إثم على المتأخر في ترك استعمال الرخصة والثالث أن المعنى قد زالت آثام المتعجل والمتأخر التي كانت عليها قبل حجهما والرابع أن المعنى طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر إنما يكون بشرط التقوى
وفي معنى لمن اتقى ثلاثة أقوال أحدها لمن اتقى قتل الصيد قاله ابن عباس والثاني لمن اتقى المعاصي في حجه قاله قتادة وقال ابن مسعود إنما مغفرة الله لمن اتقى الله في حجه والثالث لمن اتقى فيما بقي من عمره قاله أبوالعالية و إبراهيم
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام
قوله تعالى ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال أحدها أنها نزلت في الأخنس ابن شريق كان لين الكلام كافر القلب يظهر للنبي الحسن ويحلف له أنه يحبه ويتبعه على

دينه وهو يضمر غير ذلك هذا قول ابن عباس والسدي و مقاتل والثاني أنها نزلت فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه وهذا قول الحسن وقتادة وابن زيد والثالث أنها نزلت في سرية الرجيع وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو بالمدينة إنا قد اسلمنا فابعث لنا نفرا من أصحابك يعلمونا ديننا فبعث صلى الله عليه و سلم خبيب بن عدي ومرثدا الغنوي وخالد بن بكير وعبد الله بن طارق وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم بن ثابت فساروا نحو مكة فنزلوا بين مكة والمدينة ومعهم تمر فأكلوا منه فمرت عجوز فأبصرت النوى فرجعت إلى قومها وقالت قد سلك هذا الطريق أهل يثرب فركب سبعون منهم حتى احاطوا بهم فحاربوهم فقتلوا مرثدا وخالدا وابن طارق ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم فقتل بكل سهم رجلا من عظمائهم ثم قال اللهم اني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخر النهار ثم احاطوا به فقتلوه وأرادوا حز رأسه يبيعوه من سلافة بنت سعد وكان قتل بعض اهلها فنذرت لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر فأرسل الله تعالى رجلا من الدبر وهي الزنابير فحمته فلم يقدروا عليه فقال دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة فأمطرت كالعزالي فبعث الله الوادي فاحتمله فذهب به وأسروا خبيبا وزيدا فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا ليقتلوه لأنه قتل آباءهم فلما خرجوا به ليقتلوه قال دعوني أصلي ركعتين فتركوه فصلى ركعتين ثم قال لولا أن تقولوا جزع خبيب لزدت وأنشأ يقول

ولست أبالي حين اقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مصرعي ... وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع ...
فصلبوه حيا فقال اللهم إنك تعلم أنه ليس احد حولي يبلغ رسولك سلامي فجاءه رجل منهم يقال له أبو سروعة ومعه رمح فوضعه بين يدي خبيب فقال له خبيب اتق الله فما زاده ذلك إلا عتوا وأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه فجاءه سفيان بن حرب حين قدم ليقتله فقال يا زيد أنشدك الله أتحب أن محمدا مكانك وأنك في أهلك فقال والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ثم قتل وبلغ النبي الخبر فقال أيكم يحتمل خبيبا عن خشبته وله الجنة فقال الزبير انا وصاحبي المقداد فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنهار حتى وافيا المكان و إذا حول الخشبة أربعون مشركا نيام نشاوى و إذا هو رطب يتثنى لم يتغير فيه شيء بعد أربعين يوما فحمله الزبير على فرسه وسار فلحقه سبعون منهم فقذف الزبير خبيبا فابتلعته الارض وقال الزبير ما جرأكم علينا يا معشر قريش ثم رفع العمامة عن رأسه وقال انا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد اسدان رابضان يدفعان عن شبلهما فان شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم فانصرفوا وقدما على رسول صلى الله عليه و سلم و جبريل عنده فقال يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك
وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب ويح هؤلاء المقتولين لا في بيوتهم قعدوا ولا رسالة صاحبهم أدوا فأنزل الله تعالى في الزبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية وثلاث آيات بعدها وهذا الحديث بطوله مروي عن ابن عباس

قوله تعالى ويشهد الله على ما في قلبه فيه قولان أحدهما أنه يقول إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي والثاني أنه يقول اللهم اشهد علي بهذا القول وقرأ ابن مسعود ويستشهد الله بزيادة سين وتاء وقرا الحسن وطلحة بن مصرف وابن محيصن وابن عبلة ويشهد بفتح الياء الله بالرفع
قوله تعالى وهو ألد الخصام الخصام جمع خصم يقال خصم وخصام وخصوم قال الزجاج والألد الشديد الخصومة واشتقاقه من لديدي العنق وهما صفحتا العنق ومناه أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة غلبه في ذلك
وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد
قوله تعالى وإذا تولى فيه اربعة أقوال أحدها أنه بمعنى غضب روي عن ابن عباس وابن جريج والثاني أنه الانصراف عن القول الذي قاله قاله الحسن والثالث أنه من الولاية فتقديره إذا صار واليا قاله مجاهد و الضحاك والرابع أنه الانصراف بالبدن قاله مقاتل وابن قتيبة
وفي معنى سعى قولان أحدهما أنه بمعنى عمل قاله ابن عباس و مجاهد والثاني أنه من السعي بالقدم قاله أبو سليمان الدشقي وفي الفساد قولان أحدهما أنه الكفر والثاني الظلم والحرث الزرع والنسل نسل كل شيء من الحيوان هذا قول ابن عباس وعكرمة في آخرين وحكى الزجاج عن قوم أن الحرث النساء والنسل الأولاد قال وليس هذا بمنكر لأن المرأة تسمى حرثا
وفي معنى إهلاكه للحرث والنسل ثلاثة أقوال أحدها أنه اهلاك ذلك بالقتل والإحراق والافساد قاله الأكثرون والثاني أنه إذا ظلم كان الظلم سببا لقطع القطر

فيهلك الحرث والنسل قاله مجاهد وهو يخرج على قول من قال إنه من التولي والثالث أنه إهلاك ذلك بالضلال الذي يؤول إلى الهلاك حكاه بعض المفسرين
قوله تعالى والله لا يحب الفساد قال ابن عباس لا يرضى بالمعاصي وقد احتجت المعتزلة بهذه الآية فأجاب أصحابنا بأجوبة منها أنه لا يحبه دينا ولا يريده شرعا فأما أنه لم يرده وجودا فلا والثاني أنه لا يحبه للمؤمنين دون الكافرين والثالث أن الارادة معنى غير المحبة فان الانسان قد يتناول المر ويريد بط الجرح ولا يحب شيئا من ذلك و إذا بان في المعقول الفرق بين الأرادة والمحبة بطل ادعاؤهم التساوي بينهما وهذا جواب معتمد وفي معنى هذه الآية قوله تعالى ولايرضى لعباده الكفر الزمر 7
و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد
قوله تعالى أخذته العزة قال ابن عباس هي الحمية وأنشدوا ... أخذته عزة من جهله ... فتولى مغضبا فعل الضجر ...
ومعنى الكلام حملته الحمية على الفعل بالإثم وفي جهنم قولان ذكرهما ابن الانباري أحدهما أنها أعجمية لا تجر للتعريف والعجمة والثاني أنها اسم عربي ولم يجر للتأنيث والتعريف قال رؤبة ... ركبة جهنام بعيدة القعر ...
وقال الأعشي ... دعوت خليلي مسحلا ودعوا له ... جهنام جدعا للهجين المذمم ...
فترك صرفه يدل على أنه اسم أعجمي معرب
وفي المعنى الكلام قولان أحدها فحسبه جهنم جزاء عن إثمه والثاني فحسبه

جهنم ذلا من عزة والمهاد الفراش ومهدت لفلان إذا وطأت له ومنه مهد الصبي
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد
قوله تعالى ومن الناس من يشري نفسه اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على خمسة أقوال
أحدها أنها نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو معنى قول قمر وعلي رضي الله عنهما والثاني أنها نزلت في الزبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته وقد شرحنا القصة وهذا قول ابن عباس و الضحاك والثالث أنها نزلت في صهيب الرومي واختلفوا في قصته فروي أنه أقبل مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه و سلم فاتبعه نفر من قريش فنزل فانتثل كنانته وقال عد علمتم اني من ارماكم بسهم وايم الله لا تصلون الي حتى ارميكم بكل سهم معي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء فان شئتم دللتكم على مالي قالوا فدلنا على مالك نخل عنك فعاهدهم على ذلك فنزلت فيه هذه الآية فلما رآه النبي صلى الله عليه و سلم قال ربح البيع أبا يحيى وقرأ عليه القرآن هذا قول سعيد بن المسيب وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس وقال إن الذي تلقاه فبشره بما نزل فيه أبو بكر الصديق وذكر مقاتل أنه قال للمشركين انا شيخ كبير لا يضركم إن كنت معكم أو عليكم ولي عليكم حق لجواري فخذوا مالي غير راحلة واتركوني وديني فاشترط أن لا يمنع عن صلاة ولا هجرة فأقام ما شاء الله ثم ركب راحلته فأتى المدينة مهاجرا فلقيه أبو بكر فبشره وقال نزلت فيك هذه الآية وقال عكرمة نزلت في صهيب وابي ذر الغفاري فأما صهيب فأخذه أهله فافتدى بماله واما أبو ذر فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجرا والرابع أنها نزلت في المجاهدين

في سبيل الله قاله الحسن وابن زيد في آخرين والخامس أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين الله حتى ظهروا هذا قول قتادة و بشري كلمة من الأضداد يقال شري بمعنى باع وبمعنى اشترى فمعناها على قول من قال نزلت في صهيب معنى يشتري وعلى بقية الأقوال بمعنى يبيع
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين فان زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر و إلى الله ترجع الأمور
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة اقوال أحدها أنها نزلت فيمن اسلم من أهل الكتاب كانوا بعد إسلامهم يتقون السبت ولحم الجمل وأشياء يتقيها أهل الكتاب رواه أبو صالح عن ابن عباس والثاني أنها نزلت في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه و سلم أمروا بالدخول في الإسلام روي عن ابن عباس ايضا وبه قال الضحاك والثالث أنها نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها قاله مجاهد وقتادة
وفي السلم ثلاث لغات كسر السين وتسكين اللام وبها قرأ أبو عمرو وابن عامر في البقرة وفتحا السين في الأنفال وسورة محمد وفتح السين مع تسكين اللام وبها قرأ ابن كثير ونافع والكسائي في المواضع الثلاثة وفتح السين واللام وبها قرأ الأعمش في البقرة خاصة

وفي معنى السلم قولان أحدهما أنه الإسلام قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة و الضحاك والسدي وابن قتيبة و الزجاج في آخرين والثاني أنها الطاعة روي عن ابن عباس ايضا وهو قول أبي العالية والربيع وقال الزجاج كافة بمعنى الجميع وهو في اشتقاق اللغة ما يكف الشىء في آخره من ذلك كفه القميص وكل مستطيل فحرفه كفه بضم الكاف ويقال في كل مستدير كفه بكسر الكاف نحو كفة الميزان ويقال إنما سميت كفة الثوب لأنها تمنعه ان ينتشر وأصل الكف المنع وقيل لطرف اليد كف لأنها تكف بها عن سائر البدن ورجل مكفوف قد كف بصره أن ينظر واختلفوا هل قوله كافة يرجع إلى السلم أو إلى الداخلين فيه على قولين أحدهما أنه راجع إلى السلم فتقديره ادخلوا في جميع شرائع الإسلام وهذا يخرج على القول الاول الذي ذكرناه في نزول الآية والثاني أنه يرجع إلى الداخلين فيه فتقديره ادخلوا كلكم في الإسلام وبهذا يخرج على القول الثاني وعلى القول الثالث يحتمل قوله كافة ثلاثة أقوال أحدها أن يكون أمرا للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم والثاني أن يكون امر للمؤمنين بالدخول في جميع شرائعه و الثالث أن يكون أمرا لهم بالثبات عليه كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا آمنوا النساء 136 و خطوات الشيطان المعاصي وقد سبق شرحها و البينات الدلالات الواضحات وقال ابن جريج هي الإسلام والقرآن و وينظرون يمعنى ينتظرون
قوله تعالى إلا أن يأتيهم الله كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال المراد به قدرته وأمره قال وقد بينه في قوله تعالى أو يأتي أمر ربك الانعام 158

قوله تعالى في ظلل من الغمام أي بظلل والظلل جمع ظلة و الغمام السحاب الذي لا ماء فيه قال الضحاك في قطع من السحاب ومتى يكون مجىء الملائكة فيه قولان أحدهما أنه يوم القيامة وهو قول الجمهور والثاني أنه عند الموت قاله قتادة وقرا الحسن بخفض الملائكة قضي الأمر فرغ منه و إلى الله ترجع الامور أي تصير قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وعاصم ترجع بضم التاء وقرا ابن عامر وحمزة والكسائي بفتحها فان قيل فكأن الأمور كانت إلى غيره فعنه اربعة أجوبه أحدها أن المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب قاله الزجاج والثاني أنه لما عبد قوم غيره ونسبوا أفعاله إلى سواه ثم انكشف الغطاء يوم القيامة ردوا إليه ما أضافوه إلى غيره و الثالث أن العرب تقول قد رجع علي من فلان مكروه إذا صار إليه منه مكروه و إن لم يكن سبق قال الشاعر ... فان تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب ...
ذكرهما ابن الانباري ومما يشبه هذا قول لبيد ... وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ...
أراد يصير رمادا لا أنه كان رمادا وقال أمية بن أبي الصلت ... تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا ...
أي صار والرابع أنه لما كانت الأمور إليه قبل الخلق ثم أوجدهم فملكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم فان قيل قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله أن يأتيهم الله فما

الحكمة في أنه لم يقل و إليه ترجع الامور فالجواب أن إعادة اسمه أفخم و أعظم والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه وأنشدوا ... لا أرى الموت يسبق الموت شيئا ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا ...
فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم ذكره الزجاج
سل بني اسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فان الله شديد العقاب
قوله تعالى سل بني اسرائيل الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمعنى له وللمؤمنين قال الفراء أهل الحجاز يقولون سل بغير همز وبعض تميم يقول اسأل بالهمز وبعضهم يقول إسل بالألف وطرح الهمز والأولى أغربهن وبها جاء الكتاب وفي المراد بالسؤال قولان أحدهما أنه التقرير والإذكار بالنعم والثاني التوبيخ على ترك الشكر
والاية البينة العلامة الواضحة كالعصا والغمام والمن والسلوى والبحر وفي المراد بنعمة الله قولان أحدهما أنها الآيات التي ذكرناها قاله قتادة والثاني أنها حجج الله الدالة على أمر النبي صلى الله عليه و سلم قاله الزجاج
وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال أحدها أنه الكفر بها قاله أبوالعالية ومجاهد والثاني تغيير صفة النبي صلى الله عليه و سلم في التوراة قاله أبو سليمان الدمشقي والثالث تعطيل حجج الله بالتأويلات الفاسدة
زين للذين كفورا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب

قوله تعالى زين للذين كفروا الحياة الدنيا في نزولها ثلاثة أقوال أحدها أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه قاله ابن عباس والثاني نزلت في علماء اليهود قاله عطاء والثالث في عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين قاله مقاتل قال الزجاج وانما جاز في زين لفظ التذكير لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي إذ معنى الحياة ومعنى العيش واحد
و إلى من يضاف هذا التزيين فيه قولان أحدهما أنه يضاف إلى الله وقرأ أبي بن كعب والحسن و مجاهد وابن محيصن وابن أبي عبلة زين بفتح الزاي والياء على معنى زينها الله لهم والثاني أنه يضاف إلى الشيطان روي عن الحسن قال شيخنا علي ابن عبيد الله والتزيين من الله تعالى هو التركيب الطبيعي فانه وضع في الطبائع محبة المحبوب لصورة فيه تزينت للنفس وذلك من صنعه وتزيين الشيطان باذكار ما وقع من إغفاله مما مثله يدعو لى نفسه لزينته فالله تعالى يزين بالوضع والشيطان يزين بالإذكار
وما السبب في سخرية الكفار من المؤمنين فيه ثلاثة أقوال أحدها انهم سخروا منهم للفقر والثاني لتصديقهم بالآخرة و الثالث لاتباعهم للنبي ص - وقيل إنهم كانوا يوهمونهم أنكم على الحق سخرية منهم بهم
وفي معنى كونهم فوقهم ثلاثة أقوال أحدها أن ذلك على أصله لأن المؤمنين في عليين والكفار في سجين والثاني أن حجج المؤمنين فوق شبه الكافرين فهم المنصورون و الثالث في أن نعيم المؤمنين في الجنة فوق نعيم الكافرين في الدنيا
قوله تعالى والله يرزق من يشاء بغير حساب فيه قولان أحدهما أنه يرزق

من يشاء رزقا واسعا غير ضيق والثاني يرزق من يشاء بلا محاسبة في الآخرة
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
قوله تعالى كان الناس أمة واحدة في المراد بالناس هاهنا ثلاثة أقوال أحدها جميع بني آدم وهو قول الجمهور والثاني آدم وحده قاله مجاهد قال ابن الانباري وهذا الوجه جائز لأن العرب توقع الجمع على الواحد ومعنى الآية كان آدم ذا دين واحد فاختلف ولده من بعده و الثالث آدم وأولاده كانوا على الحق فاختلفوا حين قتل قابيل وهابيل ذكره ابن الانباري والأمة هاهنا الصنف والواحد على مقصد واحد
وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان أحدهما أنه الإسلام قاله أبي بن كعب وقتادة والسدي و مقاتل والثاني أنه الكفر رواه عطية عن ابن عباس
ومتى كان ذلك فيه خمسة أقوال أحدها أنه حين عرضوا على آدم وأقروا بالعبودية قاله أبي بن كعب والثاني في عهد ابراهيم كانوا كفارا قاله ابن عباس والثالث بين آدم و نوح وهو قول قتادة والرابع حين ركبوا السفينة كانوا على الحق قاله مقاتل والخامس في عهد آدم ذكره ابن الانباري فبعث الله النبيين مبشرين بالجنة و منذرين بالنار هذا قول الأكثرين وقال بعض السلف مبشرين لمن آمن

بك يا محمد ومنذرين لمن كذبك وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس والكتاب اسم جنس كما تقول كثر الدرهم في أيدي الناس وذكر بعضهم أنه في التوراة
وفي المراد بالحق ههنا قولان أحدهما أنه بمعنى الصدق والعدل والثاني أنه القضاء فيما اختلفوا فيه ليحكم بين الناس في الحاكم هاهنا ثلاثة أقوال أحدها أنه الله تعالى والثاني أنه النبي الذي انزل عليه الكتاب و الثالث الكتاب كقوله تعالى هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق الجاثية 29 وقرأ أبو جعفر ليحكم بضم الياء وفتح الكاف وقرا مجاهد لتحكم بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى فيما اختلفوا فيه يعني الدين
قوله تعالى وما اختلف فيه في هذه الهاء ثلاثة أقوال أحدها أنها تعود إلى محمد صلى الله عليه و سلم قاله ابن مسعود والثاني إلى الدين قاله مقاتل والثالث إلى الكتاب قاله أبو سليمان الدمشقي فأما هاء أوتوه فعائدة على الكتاب من غير خلاف وقال الزجاج ونصب بغيا على معنى المفعول له فالمعنى لم يوقعوا الاختلاف الا للبغي لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم وقال الفراء في اختلافهم وجهان أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض والثاني تبديل ما بدلوا
قوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه أي لمعرفة ما اختفلوا فيه أو تصحيح ما اختلفوا فيه
وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال أحدها أنه الجمعة جعلها اليهود السبت والنصارى الأحد فروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن

رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال نحن الآخرون السابقون يوم القيامة يبد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا واوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى والثاني أنه الصلاة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب والثالث أنه إبراهيم قالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى كان نصرانيا والرابع أنه عيسى جعلته اليهود لفرية وجعلته النصارى إلها والخامس أنه الكتب آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها والسادس أنه الدين وهو الأصح لأن جميع الاقوال داخلة في ذلك
قوله تعالى باذنه قال الزجاج إذنه علمه وقال غيره أمره قال بعضهم توفيقه
أن حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله إلا إن نصر الله قريب
قوله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة في سبب نزولها ثلاثة أقوال أحدها أن الصحابة أصابهم يوم الأحزاب بلاء وحصر فنزلت هذا الآية ذكره السدي عن أشياخه وهو قول قتادة والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم لما دخل المدينة هو وأصحابه اشتد بهم الضر فنزلت هذه الآية قاله عطاء و الثالث أن المنافقين قالوا للمؤمنين لو كان محمد نبيا لم يسلط عليكم القتل فأجابوهم من قتل منا دخل الجنة فقالوا لم تمنون انفسكم بالباطل فنزلت هذه

الآية قاله مقاتل وزعم أنها نزلت يوم احد قال الفراء أم حسبتم بمعنى أظننتم وقال الزجاج أم بمعنى بل وقد شرحنا أم فيما تقدم شرحا كافيا والمثل بمعنى الصفة و زلزلوا خوفوا وحركوا بما يؤذي وأصل الزلزلة في اللغة من زل الشىء عن مكانه فاذا قلت زلزلته فتأويله كررت زلزلته من مكانه وكل ما كان فيه ترجيع كررت فيه فاء الفعل تقول أقل فلان الشىء إذا رفعه من مكانه فاذا كرر رفعه ورده قيل قلقله فالمعنى أنه تكرر عليهم التحريك بالخوف قاله ابن عباس البأساء الشدة والبؤس والضراء البلاء والمرض وكل رسول بعث إلى أمته يقول متى نصر الله والنصر الفتح والجمهور على فتح لام حتى يقول وضمها نافع
فصل
ومعنى الآية أن البلاء والجهد بلغ بالأمم المتقدمة إلى أن استبطؤوا النصر لشدة البلاء وقد دلت على أن طريق الجنة إنما هو الصبر على البلاء قالت عائشة ما شبع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى مضى لسبيله وقال حذيفة اقر أيامي لعيني يوم أرجع إلى أهلي فيشكون الي الحاجة قيل ولم ذلك قال لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالخير وإن الله ليحمي المؤمن من الدنيا كما يحمي المريض أهله الطعام أخبرنا أبو بكر الصوفي قال أخبرنا أبو سعيد ابن أبي صادق قال أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال سمعت ابا الطيب ابن الفرخان يقول سمعت الجنيد يقول دخلت على سري السقطي وهو يقول

وما رمت الدخول عليه حتى ... حللت محله العبد الذليل ... وأغضيت الجفون على قذاها ... وصنت النفس عن قال وقيل ...
يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتمامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فان الله به عليم
قوله تعالى يسئلونك ماذا ينفقون في سبب نزولها قولان أحدهما أنها نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري وكان له مال كثير فقال يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق فنزلت هذا الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس والثاني أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم إن لي دينار فقال أنفقه على نفسك فقال إن لي دينارين فقال انفقها على أهلك فقال إن لي ثلاثة فقال أنفقها على خادمك فقال إن لي اربعة فقال أنفقها على والديك فقال إن لي خمسة فقال لأنفقها على قرابتك فقال إن لي ستة فقال أنفقها في سبيل الله وهو أحسنها فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عباس
قال الزجاج ماذا في اللغة على ضربين أحدهما أن تكون ذا بمعنى الذي و ينفقون صلته فيكون المعنى يسألونك أي شيء الذي ينفقون والثاني أن تكون ما مع ذا اسما واحدا فيكون المعنى يسألونك أي شيء ينفقون قال وكأنهم سألوا على من ينبغي أن يفضلوا وما وجه الذي ينفقون لأنهم يعلمون ما المنفق

وأعلمهم الله أن اولى من أفضل عليه الوالدان والأقربون والخير المال قاله ابن عباس في آخرين وقال ومعنى فللوالدين فعلى الوالدين
فصل
وأكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة قال ابن مسعود نسختها آية الزكاة وذهب الحسن إلى إحكامها وقال ابن زيد هي في النوافل وهذا الظاهر منم الآية لأن ظاهرها يقتضي الندب ولا يصح أن يقال إنها منسوخة إلا أن يقال إنها اقتضت وجوب النفقة على المذكورين فيها
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكروهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
قوله تعالى كتب عليكم القتال قال ابن عباس لما فرض الله على المسلمين الجهاد شق عليهم وكرهوه فنزلت هذه الآية و كتب بمعنى فرض في قول الجماعة قال الزجاج يقال كرهت الشىء أكرهه كرها وكرها وكراهة وكراهية وكل ما في كتاب الله من الكره فالفتح فيه جائز إلا أن ابا عبيد ذكر أن الناس مجتمعون على ضم هذا الحرف الذي فيه هذه الآية وإنما كرهوه لمشقته على النفوس لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى وقال الفراء الكره والكره لغتان وكأن النحويين يذهبون بالكره إلى ما كان منك مما لم تكره عليه فاذا أكرهت على الشىء استحبوا كرها بالفتح وقال ابن قتيبة الكره بالفتح معناه الإكراه والقهر وبالضم معناه المشقة ومن نظائر هذا الجهد الطاقة والجهد المشقة ومنهم من يجعلهما واحدا وعظم الشىء أكبره

وعظمه نفسه وعرض الشىء إحدى نواحيه وعرضه خلاف طوله والأكل مصدر أكلت والأكل المأكول وقال أبو علي هما لغتان كالفقر والفقر والضعف والضعف والدف والدف والشهد والشهد
قوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا قال ابن عباس يعنى الجهاد وهو خير لكم فتح وغنيمة أو شهادة وعسى أن تحبوا شيئا وهو القعود عنه وهو شر لكم لا تصيبون فتحا ولا غنيمة ولا شهادة والله يعلم أن الجهاد خير لكم وأنتم لا تعلمون حين أحببتم القعود عنه
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا الآية على ثلاثة أقوال
أحدها أنها من المحكم الناسخ للعفو عن المشركين والثاني أنها منسوخة لأنها أوجبت الجهاد على الكل فنسخ ذلك بقوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة التوبة 122 والثالث أنها ناسخة من وجه منسوخة من وجه
وقالوا إن الحال في القتال كانت على ثلاث مراتب الاولى المنع من القتال ومنه قوله تعالى الم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم النساء 77 والثانية أمر الكل بالقتال ومنه قوله تعالى انفروا خفافا وثقالا التوبة 41 ومثلها هذه الآية والثالثة كون القتال فرضا على الكفاية وهو قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة التوبة 122 فيكون الناسخ منها ايجاب القتال بعد المنع منه والمنسوخ منه وجوب القتال على الكل

يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونك حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
قوله تعالى يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه روى جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث رهطا واستعمل عليهم ابا عبيدة فلما انطلق ليتوجه بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث مكانه عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره ألا يقرأه إلا بمكان كذا وكذا وقال لا تكرهن احدا من أصحابك على المسير معك فلما صار إلى المكان قرأ الكتاب واسترجع وقال سمعا وطاعة لأمر الله ولرسوله فخبرهم الخبر وقرا عليهم الكتاب فرجع رجلان من أصحابه ومضى بقيتهم فأتوا ابن الحضرمي فقتلوه فلم يدروا ذلك اليوم أمن رجب أو من جمادى الآخرة فقال المشركون للمسلمين قتلتم في الشهر الحرام فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فحدثوه الحديث فنزلت هذه الآية فقال بعض المسلمين لئن كان أصابهم خير فما لهم أجر فنزلت إن الذين آمنوا والذين هاجروا إلى قوله رحيم البقرة 218 قال الزهري اسم ابن الحضرمي عمرو واسم الذي قتله عبد الله بن واقد الليثي قال ابن عباس كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يظنون تلك الليلة من جمادى وكانت اول رجب
وقد روى عطية عن ابن عباس أنها نزلت في شيئين أحدهما هذا والثاني

دخول النبي صلى الله عليه و سلم مكة في شهر حرام يوم الفتح حين عاب المشركون عليه القتال في شهر حرام
وفي السائلين النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك قولان أحدهما انهم المسلمون سألوه هل أخطؤوا ام أصابوا قاله ابن عباس وعكرمة و مقاتل والثاني انهم المشركون سألوه على وجه العيب على المسلمين قاله الحسن وعروة و مجاهد
والشهر الحرام شره رجب وكا يدعى الأصم لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيما له قتال فيه أي يسألونك عن قتال فيه قل قتال فيه كبير قال ابن مسعود و ابن عباس لا يحل قال القاضي أبو يعلى كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الاشهر فأعلمهم الله تعالى في هذه الآية ببقاء التحريم
فصل
اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم هل هو باق ام نسخ على قولين
أحدهما أنه باق روى ابن جريج أن عطاء كان يحلف بالله ما يحل للناس الآن أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزوا وما نسخت
والثاني أنه منسوخ قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار القتال جائز في الشهر الحرام وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم التوبة 5 وبقوله تعالى قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر التوبة 19 وهذا قول فقهاء الأمصار

قوله تعالى وصد عن سبيل الله هو مرفوع بالابتداء وخبر هذه الأشياء أكبر عند الله وفي المراد ب سبيل الله هاهنا قولان
أحدهما أنه الحج لأنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن مكة قاله ابن عباس والسدي عن أشياخه
والثاني أنه الإسلام قاله مقاتل وفي هاء الكناية في قوله وكفر به قولان أحدهما أنها ترجع إلى الله تعالى قاله السدي عن أشياخه وقتادة و مقاتل وابن قتبية والثاني أنها تعود إلى السبل قاله ابن عباس قال ابن قتيبة وخفض المسجد الحرام نسقا على قوله سبيل الله كأنه قال وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام
قوله تعالى وإخراج أهله منه لما آذوا رسول الله وأصحابه اضطروهم إلى الخروج فكأنهم أخرجوهم فأعلمهم الله أن هذه الأفعال أعظم من قتل كل كافر والفتنة هاهنا بمعنى الشرك قاله ابن عمر و ابن عباس و مجاهد وابن جبير وقتادة والجماعة والفتنة في القرآن على وجوه كثيرة قد ذكرتها في كتاب النظائر ولا يزالون يعني الكفار يقاتلونكم يعني المسلمين و حبطت بمعنى بطلت
إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم
قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هاجروا في سبب نزولها قولان
أحدهما أنه لما نزل القرآن بالرخصة لأصحاب عبد الله بن جحش في قتل ابن الحضرمي قال بعض المسلمين ما لهم أجر فنزلت هذه الآية وقد ذكرنا هذا في

سبب نزول قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام عن جندب بن عبد الله
والثاني أنه لما نزلت لهم الرخصة قاموا فقالوا يا رسول الله انطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس وقال هاجروا من مكة إلى المدينة وجاهدوا في طاعة الله ابن الحضرمي وأصحابه و رحمة الله مغفرته وجنته قال ابن الأنباري الهجرة عند العرب من هجران الوطن والأهل والولد والمهاجرون معناهم المهاجرون الاولاد والأهل فعرف مكان المفعول فأسقط قال الشعبي اول لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله بن جحش واول مغنم قسم في الإسلام مغنمه
يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون
قوله تعالى يسئلونك عن الخمر والميسر في سبب نزولها قولان أحدهما أن عمر بن الخطاب قال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية والثاني أن جماعة من الانصار جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وفيهم عمر ومعاذ فقالوا أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت هذه الآية
وفي تسمية الخمر خمرا ثلاثة أقوال أحدها أنها سميت خمرا لأنها تخامر العقل أي تخالطه والثاني لأنها تخمر العقل أي تستره والثالث لأنها تخمر أي تغطي ذكر هذه الاقوال محمد بن القاسم وقال الزجاج الخمر في اللغة ما ستر على العقل يقال دخل فلان في خمار الناس أي في الكثير الذي يستتر فيهم وخمار المرأة قناعها سمي خمارا لأنه يغطي

قال والخمر هاهنا هي المجمع عليها وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له خمر و أن يكون في التحريم بمنزلتها لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كله حرام وإنما ذكر الميسر من بينه وجعل كله قياسا على الميسر والميسر إنما يكون قمارا في الجزر خاصة فأما الميسر فقال ابن عباس وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير و مجاهد وقتادة في آخرين هو القمار قال ابن قتيبة يقال يسرت إذا ضربت بالقداح ويقال للضارب بالقداح ياسر و ياسرون ويسر وأيسار
وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزورا ويجزئونها أجزاء ثم يضربون عليها القداح فاذا قمر القامر جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة وهو النفع الذي ذكره الله وكانوا يتمادحون بأخذ القداح ويتسابون بتركها ويعيبون من لا ييسر
قوله تعالى قل فيهما إثم كبير قرأ الأكثرون كبير بالباء وقرا حمزة والكسائي بالثاء
وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال أحدها أن شربها ينقص الدين قاله ابن عباس والثاني أنه إذا شرب سكر وآذى الناس رواه السدي عن أشياخه و الثالث أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز قاله الزجاج
وفي إثم الميسر قولان أحدهما أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة قاله ابن عباس والثاني أنه يدعوا إلى الظلم ومنع الحق رواه السدي عن أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك

وأما منافع الخمر فمن وجهين أحدهما الربح في بيعها والثاني انتفاع الأبدان مع التذاذ النفوس وأما منافع الميسر فاصابة الرجل المال من غير تعب
وفي قوله تعالى وإثمهما أكبر من نفعها قولان أحدهما أن معناه وإثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم قاله سعيد بن جبير و الضحاك و مقاتل والثاني وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ايضا لأن الإثم الذي يحدث في اسبابها أكبر من نفعهما وهذا منقول عن ابن جبير ايضا واختلفوا بماذا كانت الخمرة مباحة على قولين أحدهما بقوله تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا النحل 67 قاله ابن جبير والثاني بالشريعة الاولى وأقر المسلمون على ذلك حتى حرمت
فصل
اختلف العلماء هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا على قولين أحدهما أنها تقتضي ذمها دون تحريمها رواه السدي عن أشياخه وبه قال سعيد بن جبير و مجاهد وقتادة و مقاتل وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة
والقول الثاني أن لها تأثيرا في التحريم وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثما كبيرا والإثم كله محرم بقوله والإثم والبغي الأعراف 33 هذا قول جماعة من العلماء وحكاه الزجاج واختاره القاضي أبو يعلى للعلة التي بيناها واحتج لصحته بعض أهل المعاني فقال لما قال الله تعالى قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وقع التساوي بين الأمرين فلما قال وإثمهما أكبر من نفعهما صار الغالب الإثم وبقي النفع مستغرقا في جنب الإثم فعاد الحكم للغالب المستغرق فغلب جانب الخطر

فصل
فأما الميسر فالقول فيه مثل القول في الخمر إن قلنا إن هذه الآية دلت على التحريم فالميسر حكمها حرام ايضا و إن قلنا إنها دلت على الكراهة فأقوم الاقوال أن نقول إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر
قوله تعالى ويسئلونك ماذا ينفقون قال ابن عباس إن الذي سأله عن ذلك عمرو ابن الجموح قال ابن قتيبة والمراد بالنفقة هاهنا الصدقة والعطاء
قوله تعالى قل العفو قرأ أبو عمرو برفع واو العفو وقرا الباقون بنصبها قال أبو علي ماذا في موضع نصب فجوابه العفو بالنصب كما تقول في جواب ماذا انفقت اى انفقت درهما هذا وجه نصب العفو ومن رفع جعل ذا بمنزلة الذي ولم يجعل ماذا اسما واحدا فاذا قال قائل ماذا أنزل ربكم فكانه قال ما الذي أنزل ربكم فجوابه قرآن قال الزجاج العفو في اللغة الكثرة والفضل يقال قد عفا القم إذا كثروا و العفو ما اتى بغير كلفة وقال ابن قتيبة العفو الميسور يقال خذ ما عفاك أي ما أتاك سهلا بلا إكراه ولا مشقة
وللمفسرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال
أحدها أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله رواه مقسم عن ابن عباس والثاني ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير رواه عطية عن ابن عباس والثالث أنه القصد بين الإسراف والإقتار قاله الحسن وعطاء وسعيد بن جبير والرابع أنه الصدقة المفروضة قاله مجاهد والخامس أنه مالا يتبين عليهم مقداره من قولهم عفا الأثر إذا خفي ودرس حكاه شيخنا عن طائفة من المفسرين

فصل
وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذا الآية فروى السدي عن أشياخه أنها نسخت بالزكاة وأبي نسخها آخرون وفصل الخطاب في ذلك أنا متى قلنا إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدق بفاضل المال أو قلنا إنه أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزكاة فالآية منسوخة بآية الزكاة ومتى قلنا إنها محمولة على الزكاة المفروضة كما قال مجاهد أو على الصدقة المندوب إليها فهي محكمة
قوله تعالى كذلك يبين الله قال الزجاج إنما قال كذلك وهو يخاطب جماعة لأن الجماعة معناها القبيل كأنه قال كذلك يا أيها القبيل وجائز أن تكون الكفا للنبي صلى الله عليه و سلم كأنه قال كذلك يا أيها النبي لأن الخطاب له مشتمل على خطاب أمته وقال ابن الأنباري الكاف في كذلك إشارة إلى ما بين من الإنفاق فكأنه قال مثل ذلك الذي بينه لكم في الانفاق يبين الآيات ويجوز أن يكون كذلك غير إشارة إلى ما قبله فيكون معناه هكذا قاله ابن عباس لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل ما بينهما فتعملون للباقي منهما
ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم
قوله تعالى ويسئلونك عن اليتامى في سبب نزولها قولان أحدهما أنه لما أنزل الله تعالى ولا تقربوا مال اليتمي إلا بالتي هي أحسن الاسراء 34 و إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما النساء 9 انطلق من كان عنده مال يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل الشىء من طعامه فيحبس له حتى

يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروه للنبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير و قتادة و مقاتل والثاني أن العرب كانوا يشددون في أمر اليتيم حتى لا يأكلون معه في قصعته ولا يستخدمون له خادما فسألوا النبي صلى الله عليه و سلم عن مخالطتهم فنزلت هذه الآية ذكره السدي عن اشياخه وهو قول الضحاك
وفي السائلين للنبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك قولاان أحدهما أن الذي سأله ثابت بن رفاعة الأنصاري قاله مقاتل والثاني عبد الله بن رواحة قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى قل إصلاح لهم خير قال ابن قتيبة معناه تثمير أموالهم والتنزه عن أكلها لمن وليها خير وإن تخالطوهم فاخوانكم أي فهم أخوانكم في ذلك حكم إخوانكم قال ابن عباس والمخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه ويأكل في قصعتك وتأكل في قصعته والله يعلم المفسد من المصلح يريد المتعمد اكل مال اليتيم من المتحرج الذي لا يألو إلا الإصلاح ولو شاء الله لأعنتكم قال ابن عباس أي لأحرجكم ولضيق عليكم وقال ابن الأنباري أصل العنت التشديد تقول العرب فلان يتعنت فلانا ويعنته أي يشدد عله ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه قال ثم نقلت إلى معنى الهلاك واشتقاق الحرف من قول العرب أكمة عنوت إذا كانتت شديدة شاقة المصعد فجعلت هذه اللفظة مستعملة في كل شدة
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم و لا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولبعد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم اولئك يدقون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة باذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون

قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن في سبب نزولها قولان
أحدهما أن رجلا يقال له مرثد بن أبي مرثد بعثه النبي صلى الله عليه و سلم إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها أسرى فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فلما أسلم اعرض عنها فأتته فقالت ويحك يا مرثد ألا تخلو فقال إن الإسلام قد حال بيني وبينك ولكن إن شئت تزوجتك إذا رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم استأذنته في ذلك فقالت له أبي تتبرم واستغاثت عليه فضربوه ضربا شديدا ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله أتحل لي أن أتزوجها فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وذكر مقاتل بن سليمان أنه أبو مرثد الغنوي
والثاني أن عبد الله بن رواحه كانت له أمة سوداء و أنه غضب عليها فلطمها ثم فزع فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره خبرها فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ما هي يا عبد الله فقال

يا رسول الله هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال يا عبد الله هذه مؤمنة فقال والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فعابه ناس من المسلمين وقالوا أنكح أمة وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن فنزلت هذه الآية رواه السدي عن أشياخه وقد ذكر بعض المفسرين أن قصة عناق وأبا مرثد كانت سببا لنزول قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وقصة ابن رواحه كانت سببا لنزول قوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة
فأما التفسير فقال المفضل أصل النكاح الجماع ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد نكاح وقد حرم الله عز و جل نكاح المشركات عقدا ووطءا
وفي المشركات هاهنا قولان أحدهما أنه يعم الكتابيات وغيرهن وهو قول الأكثرين والثاني أنه خاص في الوثنيات وهو قول سعيد بن جبير والنخعي وقتادة
وفي المراد بالأمة قولان أحدهما أنها المملوكة وهو قول الأكثرين فيكون المعنى ولنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرة مشركة والثاني أنها المرأة وإن لم تكن مملوكة كما يقال هذه أمة الله وهذا قول الضحاك والأول أصح
وفي قوله ولو اعجبتكم قولان أحدهما بجمالها وحسنها والثاني بحسبها ونسبها
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية فقال القائلون بأن المشركات الوثنيات هي محكمة وزعم بعض من نصر هذا القول أن اليهود والنصارى ليسوا بمشركين بالله وإن حجدوا بنبوة نبينا قال شيخنا وهو قول فاسد من وجهين أحدهما أن حقيقة الشرك ثابتة في حقهم حيث قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله والثاني أن كفرهم بمحمد صلى الله عليه و سلم يوجب أن يقولوا إن ما جاء به ليس من عند اله وإضافة ذلك إلى

غير الله شرك فأما القائلون بأنها عامة في جميع المشركات فلهم في ذلك قولان أحدهما أن بعض حكمها منسوخ بقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم المائدة 6 وبقي الحكم في غير أهل الكتاب محكما والثاني أنها ليست منسوخة ولا ناسخة بل هي عامة في جميع المشركات وما أخرج عن عمومها من اباحة كافرة فلدليل خاص وهو قوله تعالى والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم المائدة 6 فهذه خصصت عموم تلك من غير نسخ وعلى هذا عامة الفقهاء وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة منهم عثمان وطلحة وحذيفة وجابر و ابن عباس
قوله تعالى ولا تنكحوا المشركين أي لا تزوجوهم بمسلمة حتى يؤمنوا والكلام في قوله تعالى ولعبد مؤمن وفي قوله تعالى ولو أعجبكم مثل الكلام في أول الآية
قوله تعالى والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة باذنه قرأ الجمهور بخفض المغفرة وقرأ الحسن والقزاز عن أبي عمرو برفعها
يسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فاذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين
قوله تعالى ويسألونك عن المحيض روى ثابت عن أنس قال كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهن لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت فسئل النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فنزلت هذه الآية فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويكونوا معهن في البيوت وأن يفعلوا كل شيء ما عدا النكاح وقال ابن عباس جاء

رجل يقال له ابن الدحداحة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال كيف نصنع بالنساء إذا حضن فنزلت هذه الآية وفي المحيض قولان أحدهما أنه اسم للحيض قال الزجاج يقال قد حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا وقال ابن قتيبة المحيض الحيض والثاني أنه اسم لموضع الحيض كالمقيل فانه موضع القيلولة والمبيت موضع البيتوتة وذكر القاضي أبويعلى أن هذاظاهر كلام أحمد فأما أرباب القول الأول فأكدوه بإن في اللفظ ما يدل على قولهم وهو أنه وصفه بالأذى وذلك صفة لتفسير الحيض لا لمكانه واما أرباب القول الثاني فقالوا لا يمتنع أن يكون المحيض صفة للموضع ثم وصفه بما قاربه وجاوره كالعقيقة فإنها اسم لشعر الصبي وسميت بها الشاة التي تذبح عند حلق رأسه مجازا والرواية اسم للجمل وسميت المزادة راوية مجازا والأذى يحصل للواطىء بالنجاسة ونتن الريح وقيل يورث جماع الحائض علة بالغة في الألم فاعتزلوا النساء في المحيض المراد به اعتزال الوطء في الفرج لأن المحيض نفس الدم أو نفس الفرج ولا تقربوهن أي لا تقربوا جماعهن وهو تأكيد لقوله فاعتزلوا النساء
قوله تعالى حتى يطهرن قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم حتى يطهرن خفيفة وقرأ حمزة والكسائي وخلف و أبو بكر عن عاصم يطهرن بتشديد الطاء والهاء وفتحهما قال ابن قتيبة يطهرن ينقطع عنهن الدم يقال طهرت المرأة وطهرت إذا رأت الطهر وإن لم تغتسل بالماء ومن قرأ يطهرن

بالتشديد أراد يغتسلن بالماء والأصل يتطهرن فأدغمت التاء في الطاء قال ابن عباس و مجاهد حتى يطهرن من الدم فاذا تطهرن اغتسلن بالماء
قوله تعالى فأتوهن إباحة من حظر لا على الوجوب
قوله تعالى من حيث أمركم الله فيه اربعة أقوال
أحدها أن معناه من قبل الطهر لا من قبل الحيض قاله ابن عباس وأبو رزين وقتادة والسدي في آخرين
والثاني أن معناه فأتوهن من حيث أمركم الله أن لا تقربوهن فيه وهو محل الحيض قاله مجاهد وقال من نصر هذا القول إنما قال أمركم الله والمعنى نهاكم لأن النهي أمر بترك المنهي عنه و من بمعنى في كقوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة الجمعة 9
والثالث فأتوهن من قبل التزويج الحلال لا من قبل الفجور قاله ابن الحنفية والرابع أن معناه فاتوهن من الجهات التي يحل أن تقرب فيها المرأة ولا تقربوهن من حيث لا ينبغي مثل أن كن صائمات أو معتكفات أو محرمات وهذا قول الزجاج وابن كيسان وفي قوله تعالى إن الله يحب التوابين قولان أحدهما التوابين من الذنوب قاله عطاء و مجاهد في آخرين والثاني التوابين من إتيان الحيض ذكره بعض المفسرين
وفي قوله تعالى ويحب المتطهرين ثلاثة أقوال أحدها المتطهرين من الذنوب قاله مجاهد وسعيد بن جبير و أبوالعالية والثاني المتطهرين بالماء قاله عطاء و الثالث المتطهرين من إيتيان أدبار النساء روي عن مجاهد

فصل
أقل الحيض يوم وليلة في إحدى الروايتين عن أحمد والثانية يوم وقال أبو حنيفة أقله ثلاثة أيام وقال مالك وداود ليس لأقله حد وفي أكثره روايتان عن أحمد احداهما خمسة عشر يوما وهو قول مالك والشافعي والثانية سبعة عشريوما وقال أبو حنيفة أكثره عشرة أيام
والحيض مانع من عشرة أشياء فعل الصلاة ووجوبها وفعل الصوم دون وجوبه والجلوس في المسجد والاعتكاف والطواف وقراءة القرآن وحمل المصحف والاستمتاع فى الفرج وحصول نية الطلاق
نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين
قوله تعالى نساؤكم حرث لكم في سبب نزلها ثلاثة اقوال
أحدها أن اليهود أنكرت جواز إتيان المرأة إلا من بين يديها وعابت من يأتيها على غير تلك الصفة فنزلت هذه الآية روي عن جابر والحسن وقتادة والثاني أن حيا من قريش كانوا يتزوجون النساء بمكة ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات فلما قدموا المدينة تزوجوا من الأنصار فذهبوا ليفعلوا ذلك فأنكرنه وانتهى الحديث إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه مجاهد عن ابن عباس والثالث أن عمر بن الخطاب جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال هلكت حولت رحلي الليلة فنزلت هذه الآية رواه سعيد بن جبير عن ابن

عباس والحرث المزدرع وكنى به هاهنا عن الجماع فسماهن حرثا لأنهن مزدرع الأولاد كالأرض للزرع فان قيل النساء جمع فلم لم يقل حروث فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن القاسم الانباري النحوي أحدها أن يكون الحرث مصدرا في موضع الجمع فلزمه التوحيد كما تقول العرب إخوتك صوم وأولادك فطر يريدون صائمين ومفطرين فيؤدي المصدر بتوحيده عن اللفظ المجموع والثاني أن يكون أراد حروث لكم فاكتفى بالواحد من الجمع كما قال الشاعر ... كلوا في نصف بطونكم تعيشوا ...
أي في أنصاف بطونكم والثالث أنه إنما وحد الحرث لأن النساء شبهن به ولسن من جنسه والمعنى نساؤكم مثل حروث لكم
قوله تعالى أنى شئتم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه بمعنى كيف شئتم ثم فيه قولان أحدهما أن المعنى كيف شئتم مقبلة أو مدبرة وعلى كل حال إذا كان الإتيان في الفرج وهذا قول ابن عباس و مجاهد وعطية والسدي و ابن قتيبة في آخرين والثاني أنها نزلت في العزل قاله سعيد بن المسيب فيكون المعنى إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا

والقول الثاني أنه بمعنى إن شئتم ومتى شئتم وهو قول ابن الحنفية و الضحاك وروي عن ابن عباس أيضا و الثالث أنه بمعنى حيث شئتم وهذا محكي عن ابن عمر ومالك بن أنس وهو فاسد من وجوه أحدها أن سالم بن عبد الله لما بلغه أن نافعا تحدث بذلك عن ابن عمر قال كذب العبد إنما قال عبد الله يؤتون في فروجهن من أدبارهن و اما أصحاب مالك فانهم ينكرون صحته عن مالك والثاني أن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ملعون من أتى النساء في أدبارهن فدل على أن الآية لا يراد بها هذا
والثالث أن الآية نبهت على أنه محل الولد بقوله فأتوا حرثكم وموضع الزرع هو مكان الولد قال ابن الأنباري لما نص الله على ذكر الحرث والحرث به يكون النبات والولد مشبه بالنبات لم يجز أن يقع الوطء في محل لا يكون منه ولد

والرابع أن تحريم إتيان الحائض كان لعلة الأذى والأذى ملازم لهذا المحل لا يفارقه
قوله تعالى وقدموا لأنفسكم فيه اربعة أقوال أحدها أن معناه وقدموا لأنفسكم من العمل الصالح رواه أبو صالح عن ابن عباس والثاني وقدموا التسمية عند الجماع رواه عطاء عن ابن عباس والثالث وقدموا لأنفسكم في طلب الولد قاله مقاتل والرابع وقدموا طاعة الله واتباع أمره قاله الزجاج
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم
قوله تعالى ولا تجلعوا الله عرضة لأيمانكم في سبب نزولها اربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كان بينه وبين ختنة شيء فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه وجعل يقول قد حلفت بالله فلا يحل لي إلا أن تبر يميني فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
والثاني أن الرجل كان يحلف بالله أن لا يصل رحمه ولا يصلح بين الناس فنزلت هذه الآية قاله الربيع بن أنس
والثالث أنها نزلت في أبي بكر حين حلف لا ينفق على مسطح قاله ابن جريج والرابع نزلت في أبي بكر حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم قاله المقاتلان ابن حيان وابن سليمان
قال الفراء والمعنى ولا تجعلوا الله معترضا لأيمانكم وقال أبو عبيد نصبا لأيمانكم

كأنه يعني انكم تعترضونه في كل شيء فتحلفون به وفي معنى الآية ثلاثة أقوال أحدها أن معناها لا تحلفوا بالله أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس هذا قول ابن عباس و مجاهد وعطاء وابن جبير و إبراهيم و الضحاك وقتادة والسدي و مقاتل و الفراء و ابن قتيبة و الزجاج في آخرين والثاني أن معناها لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبروهم وتصلحوا بينهم بالكذب روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس والثالث أن معناها لا تكثروا الحلف بالله و إن كنتم بارين مصلحين فان كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه هذا قول ابن زيد
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم
قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم قال الزجاج اللغو في كلام العرب ما أطرح ولم يعقد عليه أمر ويسمى ما لا يعتد به لغوا وقال ابن فارس اشتقاق ذلك من قولهم لما لا يعتد به من اولاد الإبل في الدية وغيرها لغوا يقال منه لغا يلغو وتقول لغي بالأمر إذا لهج به وقيل إن اشتقاق اللغة منه أي يلهج صاحبها بها وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال أحدها أن يحلف على الشىء يظن أنه كما حلف ثم يتبين له أنه بخلافه والى هذا المعنى ذهب أبو هريرة و ابن عباس والحسن وعطاء والشعبي وابن جبير و مجاهد وقتادة والسدي عن أشياخه ومالك و مقاتل والثاني أنه لا والله وبلى والله من غير قصد لعقد اليمين وهو قول عائشة وطاووس وعروة والنخعي

والشافعي واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وكسب القلب عقدة وقصده وهذان القولان منقولان عن الإمام أحمد روى عنه ابنه عبد الله أنه قال اللغو عندي أن يحلف على اليمين يرى أنها كذلك ولا كفارة والرجل يحلف ولا يعقد قلبه على شيء فلا كفارة والثالث أنه يمين الرجل وهو غضبان رواه طاووس عن ابن عباس والرابع أنه حلف الرجل على معصية فليحنث وليكفر ولا إثم عليه قاله سعيد بن جبير والخامس أن يحلف الرجل على شيء ثم ينساه قاله النخعي وقول عائشة أصح الجميع قال حنبل سئل أحمد عن اللغو فقال الرجل يحلف فيقول لا والله وبلى والله لا يريد عقد اليمين فاذا عقد على اليمين لزمته الكفارة
قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلبوكم والله غفور حليم قال مجاهد أي ما عقدت عليه قلوبكم والحليم ذو الصفح الذي لا يستفزه غضب فيعجل و يستخفه جهل جاهل مع قدرته على العقوبة قال أبو سليمان الخطابي ولا يستحق اسم الحليم من سامح مع العجز عن المجازاة إنما الحليم الصفوح مع القدرة المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة وقد أنعم بعض الشعراء أبياتا في هذا المعنى فقال ... لا يدرك المجد أقوام و إن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام ... ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا صفح ذل ولكن صفح أحلام ...
قال ويقال حلم الرجل يحلم حلما يضم اللام في الماضي والمستقبل وحلم في النوم بفتح اللام يحلم حلما اللام في المستقبل والحاء في المصدر مضمومتان
فصل
الأيمان على ضربين ماض ومستقبل فالماضي على ضربين يمين محرمة وهي

اليمين الكاذبة وهي أن يقول والله ما فعلت وقد فعل أو لقد فعلت وما فعل ويمين مباحة وهي أن يكون صادقا في قوله ما فعلت أو لقد فعلت والمستقبلة على خمسة اقسام أحدها يمين عقدها طاعة والمقام عليها طاعة وحلها معصية مثل أن يحلف لأصلين الخمس ولأصومن رمضان أو لاشربت الخمر والثاني عقدها معصية والمقام عليها معصية وحلها طاعة وهي عكس الاولى والثالث يمين عقدها طاعة والمقام عليها طاعة وحلها مكروه مثل أن يحلف ليفعلن النوافل من العبادات والرابع يمين عقدها مكروه والمقام عليها مكروه وحلها طاعة وهي عكس التي قبلها والخامس يمين عقدها مباح والمقام عليها مباح وحلها مباح مثل أن يحلف لادخلت بلدا فيه من يظلم الناس ولا سلكت طريقا مخوفا ونحو ذلك
للذين يؤلون من نسائهم تربص اربعة اشهر فان فاؤوا فان الله غفور رحيم
قوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم قال ابن عباس كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا فأبت أن تعطيه حلف أن لا يقربها السنة والسنتين والثلاث فيدعها لا أيما ولا ذات بعل فلما كان الإسلام جعل الله ذلك اربعة أشهر فأنزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية وكان الرجل لا يريد المراة ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبدا فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر وأنزل هذه الآية قال ابن قتيبة يؤلون أي يحلفون يقال آليت من امرأتي اولى إيلاء إذا حلف لا يجامعها والاسم الألية وقال الزجاج يقال من الإيلاء آليت أولى إيلاء وألية وألوة وألوة وإلوة وهي بالكسر أقل اللغات قال كثير ... قيل الألايا حافظ ليمينه ... وإن بدرت منه الألية برت

وحكي ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال من بمعنى في أو على والتقدير يحلفون على وطء نسائهم فحذف الوطء وأقام النساء مقامه كقوله تعالى ما وعدتنا على رسلك آل عمران 194 أي على ألسنة رسلك وقيل في الكلام حذف تقيرده يؤلون يعتزلون من نسائهم والتربص الانتظار ولا يكون مؤليا إلا إذا حلف بالله أن لا يصيب زوجته أكثر من اربعة أشهر فان حلف على أربعة أشهر فما دون ذلك لم يكم مؤليا وهذا قول مالك و أحمد والشافعي وفاؤوا رجعوا ومعناه رجعوا إلى الجماع قاله علي و ابن عباس وابن جبير ومسروق والشعبي و إذا كان للمؤلي عذر لايقدر معه على الجماع فانه يقول متى قدرت جامعتها فيكون ذلك من قوله فيئة فمتى قدر فلم يفعل أمر بالطلاق فان لم يطلق طلق الحاكم عليه
قوله تعالى فان الله غفور رحيم قال علي و ابن عباس غفور لإثم اليمين
وإن عزموا الطلاق فان الله سميع عليم
قوله تعالى وإن عزموا الطلاق أي حققوه وفي عزم الطلاق قولان
أحدهما أنه إذا مضت الأربعة الأشهر استحق عليه أن يفيء أو يطلق وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر وسهل بن سعد وعائشة وطاووس و مجاهد والحكم وابي صالح وحكاه أبو صالح عن اثني عشر رجلا من الصحابة وهو قول مالك و أحمد والشافعي
والثاني أنه لا يفيء حتى يمضي أربعة أشهر فتطلق بذلك من غير أن يتكلم بطلاق واختلف أرباب هذا القول فيما يلحقها من الطلاق على قولين أحدهما طلقة بائنة روي عن عثمان وعلي و ابن عمر و زيد بن ثابت وقبيصة بن ذؤيب والثاني طلقة رجعية روي عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وابن شبرمة

قوله تعالى فان الله سميع عليم فيه قولان أحدهما سميع لطلاقه عليم بنيته والثأني سميع ليمينه عليم بها
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهم أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم
قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قرؤء سبب نزولها أن المرأة كانت إذا طلقت وهي راغبة في زوجها قالت انا حبلى وليست حبلى لكي يراجعها وإن كانت حبلى وهي كارهة قالت لست بحبلى لكي لا يقدر على مراجعتها فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا فنزل قوله تعالى ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة الطلاق 1 ثم نزلت والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء رواه أبو صالح عن ابن عباس
فأما التفسير فالطلاق التخلية قال ابن الأنباري هي من قول العرب أطلقت الناقة فطلقت إذا كانت مشدودة فأزلت الشد عنها وخليتها فشبه ما يقع للمرأة بذلك لأنها كانت متصلة الأسباب بالرجل وكانت الأسباب كالشد لها فلما طلقها قطع الأسباب ويقال طلقت المرأة وطلقت وقال غيره الطلاق من أطلقت الشئ من يدي إلا انهم لكثرة استعمالهم اللفظتين فرقوا بنهما ليكون التطليق مقصورا في الزوجات وأما القروء فيراد بها الأطهار ويراد بها الحيض يقال أقرأت المرأة إذا حاضت وأقرأت إذا طهرت قال النبي صلى الله عليه و سلم في المستحاضة تقعد أيام أقرائها يريد أيام حيضها وقال الأعشى

وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها غزيم عزائكا ... مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا ...
أراد بالقروء الأطهار لأنه لما خرج عن نسائه أضاع أطهارهن واختلف أهل اللغة في أصل القروء على قولين أحدهما أن أصله الوقت يقال رجع فلان لقرئه أي لوقته الذي كان يرجع فيه ورجع لقارئه أيضا قال الهذلي ... كرهت العقر عقر بني شليل ... إذا هبت لقارئها الرياح ...
فالحيض يأتي لوقت والطهر يأتي لوقت هذا قول ابن قتيبة والثاني أن أصله الجمع وقولهم قرأت القرآن أي لفظت به مجموعا والقرء اجتماع الدم في البدن وذلك إنما يكون في الطهر وقد يجوز أن يكون اجتماعه في الرحم وكلاهما حسن هذا قول الزجاج
واختلف الفقهاء في الأقراء على قولين أحدهما أنها الحيض روي عن عمر وعلي وابن مسعود و أبي موسى وعبادة بن الصامت و أبي الدرداء وعكرمة و الضحاك والسدي و سفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح و أبي حنيفة و أصحابه و أحمد بن حنبل رضي الله عنه فانه قال قد كنت أقول القروء الأطهار وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض والثاني أنها الأطهار روي عن زيد بن ثابت وابن عمر

وعائشة والزهري وأبان بن عثمان ومالك بن أنس والشافعي وأومأ إليه أحمد
ولفظ قوله تعالى والمطلقات يتربصن لفظ الخبر ومعناه الأمر كقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين وقد يأتي لفظ الأمر في معنى الخبر كقوله تعالى فليدد له الرحمن مدا مريم 75 والمراد بالمطلقات في هذه الآية البالغات المدخول بهن غير الحوامل
قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه الحمل قاله عمر و ابن عباس و مجاهد وقتادة و مقاتل و ابن قتيبة و الزجاج والثاني أنه الحيض قاله عكرمة وعطية والنخعي والزهري والثالث الحمل والحيض قاله ابن عمر وابن زيد
قوله تعالى إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر خرج مخرج الوعيد لهن والتوكيد قال الزجاج وهو كما تقول للرجل إن كنت مؤمنا فلا تظلم وفي سبب وعيدهم بذلك قولان احدهما أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة قاله ابن عباس والثاني لأجل إلحاق الولد بغير أبيه قاله قتادة وقيل كانت المرأة إذا رغبت في زوجها قالت إني حائض وقد طهرت و إذا زهدت فيه كتمت حيضها حتى تغتسل فتفوته
والبعولة الأزواج و ذلك إشارة إلى العدة قاله مجاهد والنخعي وقتادة في آخرين وفي الآية دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم اوله ولا يوجب تخصيصه لأن قوله تعالى والمطلقات يتربصن عام في المبتوتات والرجعيات وقوله

تعالى وبعولتهن أحق بردهن خاص في الرجعيات
قوله تعالى إن أرادوا إصلاحا قيل إن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة وتكرها فاذا قارب انقضاء عدتها راجعها ثم تركها مدة ثم طلقها فنهوا عن ذلك وظاهر الآية يقتضي أنه إنما يملك الرجعة على غير وجه المضارة بتطويل العدة عليها غير أنه قد دل قوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا على صحة الرجعة وإن قصد الضرار لأن الرجعة لو لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ضالما بفعلها
قوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وهو المعاشرة الحسنة والصحبة الجميلة روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن حق المرأة على الزوج فقال أن يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى ولا يضرب الوجه ولا يقبح ولا يهجر إلا في البيت وقال ابن عباس إني احب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي لهذه الآية
قوله تعالى وللرجال عليهن درجة قال ابن عباس بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال وقال مجاهد بالجهاد والميراث وقال أبو مالك يطلقها وليس لها من الأمر شيء وقال الزجاج تنال منه من اللذة كما ينال منها وله الفضل بنفقته وروى أبو هريرة

عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها وقالت ابنة سعيد بن المسيب ما كنا نكلم ازواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم
فصل
اختلف العلماء في هذه الآية هل تدخل في الآيات المنسوخات أم لا على قولين أحدهما أنها تدخل في ذلك واختلف هؤلاء في المنسوخ منها فقال قوم المنسوخ منها قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقالوا فكان يجب على كل مطلقة أن تعتد بثلاثة قروء فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن الطلاق 4 وحكم المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها الطلاق 1 وهذا مروي عن ابن عباس و الضحاك في آخرين وقال قوم أولها محكم والمنسوخ قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن قالوا كان الرجل إذا طلق امرأته كان أحق برجعتها سواء كان الطلاق ثلاثا أو دون ذلك فنسخ بقوله تعالى فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره والقول الثاني أن الآية كلها محكمة فأولها عام والآيات الواردة في العدد خصت ذلك من العموم وليس بنسخ و اما ما قيل في الارتجاع فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك أي في العدة قبل انقضاء القروءالثلاثة وهذا القول هو الصحيح
الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فان خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هن الظالمون

قوله تعالى الطلاق مرتان سبب نزولها أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه فقال رجل من الأنصار لامرأته والله لا أؤيك الي أبدا ولا أدعك تحلين مني فقالت كيف ذلك قال أطلقك فاذا دنا أجلك راجعتك فذهبت إلى النبي صلى الله عليه و سلم تشكو إليه ذلك فنزلت هذه الآية فاستقبلها الناس جديدا من كان طلق ومن لم يكن طلق رواه هشام بن عروة عن أبيه
فأما التفسير ففي قوله تعالى الطلاق مرتان قولان أحدهما أنه بيان لسنة الطلاق و أن يوقع في كل قرء طلقة قاله ابن عباس و مجاهد والثاني أنه بيان للطلاق الذي يملك معه الرجعة قاله عروة وقتادة و ابن قتيبة و الزجاج في آخرين
قوله تعالى فامساك بمعروف معناه فالواجب عليكم إمساك بمعروف وهو ما يعرف من إقامة الحق في إمساك المرأة وقال عطاء و مجاهد و الضحاك والسدي المراد بقوله تعالى فامساك بمعروف الرجعة بعد الثانية وفي قوله تعالى أو تسريح باحسان قولان أحدهما أن المراد به الطلقة الثالثة قاله عطاء و مجاهد و مقاتل والثاني أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدتها قاله الضحاك والسدي قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء وهذا هو الصحيح أنه قال عقيب الآية فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره والمراد بهذه الطلقة الثالثة بلا شك فيجب إذن أن يحمل قوله تعالى أو تسريح باحسان على تركها حتى تنقضي عدتها لأنه إن حمل على الثالثة وجب أن يحمل قوله تعالى فان طلقها على رابعة وهذا لا يجوز

فصل
الطلاف على أربعة أضرب
واجب ومندوب إليه ومحظور ومكروه فالواجب طلاق المؤلي بعد التربص إذا لم يفيء وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين إذا رأيا الفرقة والمندوب إذا لم يتفقا واشتد الشقاق بينهما ليتخلصا من الإثم والمحظور في الحيض إذا كانت مدخولا بها وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر والمكروه إذا كانت حالهما مستقيمة وكل واحد منهما قيم بحق صاحبه
قوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا نزلت في ثابت بن قيس بن شماس أتت زوجته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم أتردين عليه حديقته قالت نعم فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يأخذها ولا يزداد رواه عكرمة عن ابن عباس واختلفوا في اسم زوجته فقال ابن عباس جميلة ونسبها يحيى ابن أبي كثير فقال جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول وكناها مقاتل فقال أم حبيبة بنت عبد الله بن أبي وقال آخرون إنما هي جميلة أخت عبد الله بن أبي وروى يحيى بن سعيد عن عمرة روايتين إحداهما أنها حبيبة بنت سهل والثانية سهلة بنت حبيب

وهذا الخلع اول خلع كان في الإسلام والخوف في الآية بمعنى العلم قال أبو عبيد معنى قوله ألا يخافا يوقنا والحدود قد سبق بيان معناها
ومعنى الآية أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها لبغضها إياه وخاف الزوج أن يعتدي عليها لا متناعها عن طاعته جاز له أن يأخذ منها الفدية إذا طلبت ذلك هذا على قراءة الجمهور في فتح ياء يخافا وقرأ الحسن و مجاهد وابو جعفر وحمزة والأعمش يخافا بضم الياء
قوله تعالى فان خفتم قال قتادة هو خطاب للولاة فلا جناح عليها على المرأة فيما افتدت به وعلى الزوج فيما أخذ لأنه ثمن حقه وقال الفراء يجوز أن يراد الزوج وحده وإن كانا قد ذكرا جميعا كقوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الرحمن 22 و إنما يخرج من أحدهما وقوله نسيا حوتهما الكهف 61 و إنما نسي أحدهما
فصل
وهل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها فيه قولان أحدهما يجوز وبه قال عمر بن الخطاب وعثمان وعلي و ابن عباس والحسن و مجاهد و النخعي و الضحاك ومالك والشافعي والثاني لا يجوز وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي وطاووس وابن جبير والزهري واحمد بن حنبل وقد نقل عن علي والحسن أيضا وهل يجوز الخلع دون السلطان قال عمر وعثمان وعلي وابن عمر وطاووس وشريح والزهري يجوز وهو قول جمهور العلماء وقال الحسن وابن سيرين وقتادة لا يجوز إلا عند السلطان

فان طلقه فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون
قوله تعالى فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النضيري وقي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن القرظي وقال غير مقاتل إنها عائشة بن عبد الرحمن بن عتيك كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها فطلقها ثلاثا فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ثم طلقها فأتت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت إني كنت عند رفاعة فطلقني فأبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك
قوله تعالى فان طلقها يعني الزوج المطلق مرتين قال ابن عباس و مجاهد وقتادة هي الطلقة الثالثة واعلم أن الله تعالى عاد بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام في الطلاق
قوله تعالى فان طلقها يعني الثاني فلا جناح عليهما يعني المرأة والزوج الأول إن ظنا أن يقيما حدود الله قال طاووس ما فرض الله على كل واحد منهما من حسن العشرة والصحبة
قوله تعالى وتلك حدود الله يبينها قراءة الجمهور يبينها بالياء وقرأ الحسن و مجاهد والمفضل عن عاصم بالنون لقوم يعلمون قال الزجاج يعلمون أن أمر الله حق

و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعدتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم
قوله تعالى و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن قال ابن عباس كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها يفعل ذلك يضارها ويعضلها بذلك فنزلت هذه الآية والأجل هاهنا زمان العدة ومعنى البلوغ هاهنا مقاربة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه يقال بلغت المدينة إذا قاربتها وبلغتها إذا دخلها و إنما حمل العلماء هذا البلوغ على المقاربة لأنه ليس بعد انقضاء العدة رجعة
قوله تعالى فأمسكوهن بمعروف قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة المراد به الرجعة قبل انقضاء العدة
قوله تعالى وسرحوهن بمعروف وهو تركها حتى تنقضي عدتها والمعروف في الإمساك القيام بما يجب لها من حق والمعروف في التسريح أن لا يقصد إضرارها بأن يطيل عدتها بالمراجعة وهو معنى قوله ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا قاله الحسن و مجاهد وقتادة في آخرين وقال الضحاك إنما كنوا يضارون المرأة لتفتدي ومن يفعل ذلك الاعتداء فقد ظلم نفسه بارتكاب الإثم
قوله تعالى ولا تتخذوا آيات الله هزوا فيه قولان أحدهما أنه الرجل يطلق أو يراجع أو يعتق ويقول كنت لاعبا روي عن عمر و أبي الدرداء والحسن والثاني أنه المضار بزوجته في تطويل عدتها بالمراجعة والطلاق قاله مسروق و مقاتل

واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به قال ابن عباس احفظوا منته عليكم بالإسلام قال والكتاب القرآن والحكمة الفقه واتقوا الله في الضرار واعلموا أن الله بكل شيء به وبغيره عليم
واذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون
قوله تعالى و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن في سبب نزولها قولان أحدهما ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوج اخته من رجل من المسلمين فكانت عنده ما كانت فطلقها تطليقة ثم تركها ومضت العدة فكانت أحق بنفسها فخطبها مع الخطاب فرضيت أن ترجع إليه فخطبها إلى معقل فغضب معقل وقال أكرمتك بها فطلقتها لا والله لا ترجع إليك آخر ما عليك قال الحسن فعلم الله عز و جل حاجة الرجل إلى امرأته وحاجة المرأة إلى بعلها فنزلت هذه الآية فسمعها معقل فقال سمعا لربي وطاعة فدعا زوجها فقال أزوجك وأكرمك ذكر عبد الغني الحافظ عن الكلبي أنه سمى هذه المرأة فقال جميلة بنت يسار والثاني أن جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة فانقضت عدتها ثم رجع يريد رجعتها فأبى جابر وقال طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية وكانت المرأة تريد زوجها قد راضته فنزلت هذه الآية قال السدي

فأما بلوغ الأجل في هذه الآية فهو انقضاء العدة بخلاف التي قبلها قال الشافعي رضي الله عنه دل اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين
قوله تعالى فلا تعضلوهن خطاب للأولياء قال ابن عباس وابن جبير و ابن قتيبة في آخرين معناه لا تحبسوهن والعرب تقول تقول للشدائد معضلات وداء عضال قد أعيا قال أوس بن حجر ... وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمك إن ولي ويرضيك مقبلا ... ولكنه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا ...
وقالت ليلى الأخيلية ... إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها ... شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها ...
قال الزجاج وأصل العضل من قولهم عضلت الدجاجة فهي معضل إذا احتبس بيضها ونشب فلم يخرج وعضلت الناقة أيضا إذا احتبس ولدها في بطنها
قوله تعالى إذا تراضوا بينهم بالمعروف قال السدي و ابن قتيبة معناه إذا تراضى الزوجان بالنكاح الصحيح قال الشافعي وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوج إلا بولي
قوله تعالى ذلك يوعظ به قال مقاتل الإشارة إلى نهي الولي عن المنع قال الزجاج إنما قال ذلك ولم يقال ذلكم وهو يخاطب جماعة لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد والمعنى ذلك أيها القبيل

قوله تعالى ذلكم أزكى لكم يعني رد النساء إلى أزواجهن أفضل من التفرقة بينهم و وأطهر أي أنقى لقلوبكم من الريبة لئلا يكون هناك نوع محبة فيجتمعان على غير وجه صلاح
قوله تعالى والله يعلم وأنتم لا تعلمون فيه قولان أحدهما أن معناه يعلم ود كل واحد منهما لصحابه قاله ابن عباس و الضحاك والثاني يعلم مصالحكم عاجلا وآجلا قاله الزجاج في آخرين
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير
قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر كقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء البقرة 228 وقال القاضي أبو يعلى و هذا الأمر انصرف إلى الآباء لأن عليهم الاسترضاع لا إلى الوالدات بدليل قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وقوله تعالى فآتوهن أجورهن النساء 24 فلو كن متحتما على الوالدة لم تستحق الأجرة وهل هذا عام في جميع الوالدات فيه قولان أحدهما أنه خاص في المطلقات قاله سعيد بن جبير و مجاهد و الضحاك والسدي و مقاتل في آخرين والثاني أنه عام في الزوجات والمطلقات ولهذا نقول لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها سواء كانت مع الزوج أو مطلقة قاله القاضي أبو يعلى وأبو سليمان الدمشقي في آخرين والحول السنة وفي قوله كاملين قولان أحدهما أنه دخل للتوكيد

كقوله تعالى تلك عشرة كاملة البقرة 196 والثاني أنه لما جاز أن يقول حولين ويريد أقل منهما كما قال فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه البقرة 203 ومعلوم أنه يتعجل في يوم وبعض آخر وتقول العرب لم أر فلانا منذ يومين و إنما يريدون يوما وبعض آخر قال كاملين لتبيين أنه لا يجوز أن ينقص منهما وهذا قول الزجاج والفراء
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية فقال بعضهم هو محكم والمقصود منه بيان مدة الرضاع ويتعلق به أحكام منها أنه كمال الرضاع ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرضاع مدة الحولين والجبره الحاكم على ذلك ومنها أنه يثتب تحريم الرضاع في مدة الحولين ولا يثبت فيما زاد ونقل عن قتادة والربيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى فان أرادا فصالا عن تراض منهما قال شيخنا علي بن عبيد الله وهذا قول بعيد لأن الله تعالى قال في اولها لمن أراد أن يتم الرضاعة فلما قال في الثاني فان أرادا فصالا عن تراض منهما خير يين الإرادتين وذلك لا يعاض المدة المقدرة في التمام
قوله تعالى لمن أراد أن يتم الرضاعة أي هذا التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرضاعة وقرأ مجاهد بتاءين أن تتم الرضاعة وبالرفع وهي رواية الحلبي عن عبد الوارث وقد نبه ذكر التمام على نفي حكم الرضاع بعد الحولين وأكثر القراء على فتح راء الرضاعة وقرأ طلحة بن مصرف وابن أبي عبلة و أبو رجاء بكسرها قال الزجاج يقال الرضاعة بفتح الراء وكسرها والفتح اكثر ويقال ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرضاعة بالفتح ها هنا لا غير

قوله تعالى وعلى المولود له يعني الأب رزقهن وكسوتهن يعني المرضعات وفي قوله بالمعروف دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره إذ ليس من المعروف إلزام المعسر مالا يطيقه ولا الموسر النزر الطفيف وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث إذ لا يتوصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن إذ هو معتبر بالعادة
قوله تعالى لا تكلف نفس إلا وسعها أي إلا ما تطيقه لا تضار والدة بولدها قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبان عن عاصم لا تضار برفع الراء وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي بنصبها قال أبو علي من رفع فلأجل المرفوع قبله وهو لا تكلف فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ ومن نصب جعله أمرا وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف قال ابن قتيبة معناه لا تضارر فأدغمت الراء في الراء وقال سعيد بن جبير لا يحملن المطقة مضارة الزوج أن تلقي إليه ولده وقال مجاهد لا تأبى أن ترضعه ضرارا بأبيه ولا يضار الوالد بولده فيمنع امه أن ترضعه ليحزنها بذلك وقال عطاء وقتادة والزهري وسفيان والسدي في آخرين إذا رضيت بما يرضى به غيرها فهي أحق به وقرأ أبو جعفر لا تضار بتخفيفها وإسكانها
قوله تعالى وعلى الوارث فيه أربعة أقوال أحدها أنه وارث المولود وهو قوال عطاء و مجاهد و سعيد بن جبير وابن أبي ليلى وقتادة والسدي والحسن بن صالح و مقاتل في آخرين واختلف أرباب هذا القول فقال بعضهم هو وارث المولود من عصبته كائنا من كان وهذا مروي عن عمر وعطاء والحسن و مجاهد و إبراهيم وسفيان وقال بعضهم هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء روي عن ابن أبي ليلى وقتادة والحسن بن صالح واسحاق و أحمد بن حنبل وقال آخرون

هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود روي عن أبي حنيفة وابي يوسف ومحمد والقول الثاني أن المراد بالوارث هاهنا وارث الوالد روي عن الحسن والسدي والثالث أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر روي عن سفيان والرابع أنه أريد بالوارث الصبي نفسه والنفقة عليه فان لم يملك شيئا فعلي عصبته قاله الضحاك وقبيصة بن ذؤيب قال شيخنا علي بن عبيد الله وهذا القول لا ينافي قول من قال المراد بالوارث وارث الصبي لأن النفقة تجب للموروث على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه وفي قوله تعالى مثل ذلك ثلاثة أقوال أحدها أنه الإشارة إلى أجرة الرضاع والنفقة روي عن عمر وزيد بن ثابت والحسن وعطاء و مجاهد وابراهيم وقتادة وقبيصة بن ذؤيب والسدي واختاره ابن قتيبة والثاني أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضرار روي عن ابن عباس والشعبي والزهري واختاره الزجاج والثالث أنه إشارة إلى جميع ذلك روي عن سعيد بن جبير و مجاهد و مقاتل وابي سليمان الدمشقي واختاره القاضي أبو يعلى ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة و أن لا يضار فيجب أن يكون قوله مثل ذلك مشيرا إلى جميع ما على المولود له
قوله تعالى فان أرادا فصالا عن تراض الفصال الفطام قال ابن قتيبة يقال فصلت الصبي أمه إذا فطمته ومنه قيل للحوار إذا قطع عن الرضاع فصيل لأنه فصل عن امه وأصل الفصل التفريق قال مجاهد التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن تفطم وأبى فليس لها و إن أراد هو ولم ترد فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور يقول غير مسيئين إلى أنفسهما و إلى صبيهما
قوله تعالى و إن أردتم أن تسترضعوا أولادكم قال الزجاج أي لأولادكم قال مقاتل إذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها فلا حرج على الأب أن سترضع لولده

وفي قوله تعالى إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف قولان أحدهما إذا سلمتم ايها الآباء إلى أمهات الأولاد أجور ما أرضعن قبل امتناعهن قاله مجاهد والسدي والثاني إذا سلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف قاله سعيد بن جبير و مقاتل وقرأ ابن كثير ما أتيتم بالقصر قال أبو علي وجهه أن يقدر فيه ما أتيتم نقده أو سوقه فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فكأن التقدير ما آتيتموه ثم حذف الضمير من الصلة كما تقول أتيت جميلا أي فعلته
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فاذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير
قوله تعالى والذين يتوفون منكم أي يقبضون بالموت وقرأ المفضل عن عاصم يتوفون بفتح الياء في الموضعين قال ابن قتيبة هو من استيفاء العدد واستيفاء الشيء أن نستقصيه كله يقال توفيته واستوفيته كما يقاله تيقنت الخير واستنيقنته هذا الأصل ثم قيل للموت وفاة وتوف ويتربصن ينتظرن وقال الفراء و إنما قال وعشرا ولم يقل عشرة لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي و الأيام غلبو على الليالي حتى انهم ليقولون صمنا عشرا من شهر رمضان لكثرة تفليبهم الليالي على الايام فاذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بغير هاء والذكور بالهاءكقوله تعالى سخرها عليهم سبع ليال

وثمانية أيام حسوما الحاقة 7 فان قيل ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة فالجواب أنه يبين صحة الحمل بنفخ الروح فيه قاله سعيد بن المسيب و أبوالعالية ويشهد له الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم إن خلق احدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نظفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضفة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح
فصل
وهذه الآية ناسخة للتي تشابهها وهي تأتي بعد آيات وهي قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول البقرة 240 لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدة سنة وسنذكر ما يتعلق بها هنالك إن شاء الله فأما التي نحن في تفسيرها فقد روي عن ابن عباس أنه قال نسختها وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن الطلاف 4 والصحيح أنها عامة دخلها التخصيص لأن ظاهرها يقتضي وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا سواء كانت حاملا أو غير حامل غير أن قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن خص أولات الحمل وهي خاصة أيضا في الحرائر فإن الأمة عدتها شهران وخمسة أيام فبان أنها من العام الذي دخله التخصيص
قوله تعالى فاذا بلغن أجلهن يعني انقضاء العدة
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله انكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا

عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذوره واعلموا أن الله غفور رحيم
قوله تعالى ولا جناح عليكم فيه قولان أحدهما أن معناه فلا جناح على الرجال في تزويجهن بعد ذلك والثاني فلا جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهن إذا تزين وتزوجن قال أبو سليمان الدمشقي وهو خطاب لأوليائهن
قوله تعالى فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف فيه قولان أحدهما أنه التزين والتشوف للنكاح قاله الضحاك و مقاتل والثاني أنه النكاح قاله الزهري والسدي والخبير من أسماء الله تعالى ومعناه العالم بكنه الشيء المطلع على حقيقته والخبير في صفة المخلوقين إنما يتسعمل في نوع من العلم وهو الذي يتوصل إليه بالاجتهاد دون النوع المعلوم ببدائه العقول وعلم الله تعالى سواء فيما غمض ولطف وفيما تجلى وظهر
قوله تعالى ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدة والتعريض الإيماء والتلويح من غير كشف فهو إشارة بالكلام إلى ماليس له في الكلام ذكر والخطبة بكسر الخاء طلب النكاح والخطبة بضم الخاء مثل الرسالة التي لها اول وآخر قال ابن عباس التعريض أن يقول إني أريد أن أتزوج وقال مجاهد ان يقول إنك لجميلة و إنك لحسنة وإنك لإلى خير
قوله تعالى أو أكننتم في أنفسكم قال الفراء فيه لغتان كننت الشيء و أكننته

وقال ثعلب أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك وكنتته إذا سترته بشيء وقال ابن قتيبة أكننت الشيء إذا سترته ومنه هذه الآية وكننته إذا صنته ومنه قوله تعالى كأنهن بيض مكنون الصافات 49 قال بعضهم يجعل كننته وأكننته بمعنى
قوله تعالى علم الله أنكم ستذكرونهن قال مجاهد ذكره إياها في نفسه
قوله تعالى ولكن لا تواعدوهن سرا فيه أربعة أقوال أحدها أن المراد بالسر ها هنا النكاح قاله ابن عباس وأنشد بيت امرىء القيس ... ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يشهد السر أمثالي ...
وفي رواية يشهد اللهو قال الفراء ونرى أنه مما كنى الله عنه كقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط النساء 43 وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن السر الإفضاء بالنكاح المحرم وأنشد ... ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع ...
قال ابن قتيبة استعير السر للنكاح لأن النكاح يكون سرا فالمعنى لا تواعدوهن

بالتزويج وهن في العدة تصريحا إلا أن تقولوا قولا معروفا لا تذكرون فيه رفثا ولا نكاحا والثاني أن المواعدة سرا أن يقول لها إني لك محب وعاهديني أن لا تتزوجي غيري روي عن ابن عباس أيضا والثالث أن المراد بالسر الزنى قاله الحسن وجابر بن زيد و أبو مجلز و إبراهيم و قتادة و الضحاك والرابع أن المعنى لا تنكحوهن في عدتهن سرا فاذا حلت أظهرتم ذلك قاله ابن زيد وفي القول المعروف قولان أحدهما أنه التعريض لها وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وعطا والقاسم بن محمد والشعبي و مجاهد و إبراهيم وقتادة والسدي والثاني أنه إعلام وليها برغبته فيها وهو قول عبيدة
قوله تعالى و لاتعزموا عقدة النكاح قال الزجاج معناه لا تعزموا على عقدة النكاح وحذفت على استخفافا كما قالوا ضرب زيد الظهر والبطن معناه على الظهر والبطن حتى يبلغ الكتاب أجله أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله قال ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الفرض كقوله تعالى كتب عليكم الصيام البقرة 183 فيكون المعنى حتى يبلغ الفرض أجله قال ابن عباس و مجاهد والشعبي وقتادة والسدي بلوغ الكتاب أجله انقضاء العدة
قوله تعالى واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم قال ابن عباس من الوفاء فاحذروه أن تخالفوه في أمره والحليم قد سبق بيانه

لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة و متعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين
قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر و أبو عمرو تمسوهن بغير الف حيث كان وبفتح التاء وقرأ حمزة والكسائي وخلف تماسوهن بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب ثالث قال أبو علي وقد يراد بكل واحد من فاعل وفعل ما يراد بالآخر نقول طارقت النعل وعاقبت اللص قال مقاتل بن سليمان نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهرا فطلقها قبل أن يسمها فقال النبي صلى الله عليه و سلم هل متعتها بشيء قال لا قال متعها ولو بقلنسوتك ومعنى الآية ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة وقد تكون أو بمعنى الواو كقوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا الدهر 24
والمس النكاح والفريضة الصداق وقد دلت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمة مهر ومتعوهن أي اعطوهن ما يتمتعن به من اموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر والمتاع اسم لما ينتفع به فذلك معنى قوله تعالى على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وقرأ ابن كثير ونافع و أبو عمرو قدره باسكان الدال في الحرفين وقرأ ابن عامر وحمزة الكسائي بتحريك الحرفين وعن عاصم كالقرائتين وهما لغتان

فصل
وهل هذه المتعة واجبة أم مستحبة فيه قلان أحدهما واجبة واختلف أرباب هذا القول لأي المطلقات تجب على ثلاثة اقوال أحدها أنها واجبة لكل مطلقة روي عن علي والحسن و أبوالعالية والزهري والثاني انها تجب لكل مطلقة إلا المطقلة التي فرض لها صداقا ولم يمسها فإنه يجب لها نصف ما فرض روي عن ابن عمر والقاسم ابن محمد وشريح و إبراهيم والثالث أنها تجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهرا فان دخل بها فلا متعة ولها مهر المثل روي عن الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة و أحمد بن حنبل والثاني أن المتعة مستحبة ولا تجب على احد سواء سمي للمرأة أو لم يسم دخل بها أو لم يدخل وهو قول مالك والليث بن سعد والحكم وابن أبي ليلى واختلف العلماء في مقدار المتعة فنقل عن ابن عباس وسعيد بن المسيب أعلاها خادم وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلي فيها وري عن حماد وأبي حنيفة أنه قدر نصف صداق مثلها وعن الشافعي و أحمد أنه قدر يساره وإعساره فيكون مقدرا باجتهاد الحاكم ونقل عن أحمد المتعة بقدر ما تجزيء فيه الصلاة من الكسوة وهو درع وخمار وقواه تعالى متاعا بالمعروف أي بقدر الإمكان والحق الواجب وذكر المحسنين والمنفقين ضرب من التأكيد
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح و أن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير
قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن أي قبل الجماع وقد فرضتم

لهن أي أوجبتم لهن شيئا التزمتم به وهو المهر إلا أن يعفون يعني النساء وعفو المرأة ترك حقها من الصداق الوفي الذي بيده عقدة النكاح ثلاثة أقوال أحدها أنه الزوج وهو قول علي و ابن عباس وجبير بن مطعم وابن المسيب وابن جبير و مجاهد وشريح وجابر بن زيد و الضحاك ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس وابن شبرمة والشافعي و أحمد رضي الله عنهم في آخرين والثاني أنه الولي روي عن ابن عباس والحسن وعلقمة و طاووس والشعبي وابراهيم في آخرين والثالث أنه أبو البكر روي عن ابن عباس والزهري والسدي في آخرين فعلى القول الأول عفو الزوج أن يكمل لها الصداق وعلى الثاني عفو الولي ترك حقها إذا أبت روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء وعلى الثالث يكون قوله إلا أن يعفون يختص بالثيبات وقوله أو يعفو يختص أبا البكر قاله الزهري والأول أصح لأن عقدة النكاح خرجت من يد الولي فصارت بيد الزوج والعفو إنما يطلق على ملك الانسان وعفو الولي عفو عما لا يملك و لأنه قال ولا تنسوا الفضل بينكم والفضل فيه هبة الإنسان مال نفسه لا مال غيره
قوله تعالى و أن تعفوا أقرب للتقوى فيه قولان أحدهما أنه خطاب للزوجين جميعا روي عن ابن عباس و مقاتل والثاني أنه خطاب للزوج وحده قاله الشعبي وكان يقرأ وأن يعفو بالياء
قوله تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم خطاب للزوجين قال مجاهد هو إتمام الرجل الصداق وترك المرأة شطرها
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين
قوله تعالى حافظوا على الصلوات المحافظة المواظبة والمداومة والصلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود والمراد الصلوات الخمس

قوله تعالى والصلاة الوسطى قال الزجاج هذه الواو إذا جاءت مخصصة فهي دالة على فضل الذي تخصصه كقوله تعالى و جبريل وميكال البقرة 97 قال سعيد بن المسيب كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه ثم فيها خمسة أقوال أحدها أنها العصر روى مسلم في أفراده من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا وروى ابن مسعود وسمرة وعائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنها صلاة العصر وروى مسلم في أفراده من حديث البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر فقراناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي أيوب وابن عمر في رواية وسمرة بن جندب و أبي هريرة وابن عباس في رواية عطية و أبي سعيد الخدري وعائشة في رواية وحفصة والحسن وسعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء في رواية وطاووس و الضحاك والنخعي وعبيد ابن عمير وزر بن حبيش وقتادة وأبي حنيفة و مقاتل في آخرين وهو مذهب أصحابنا

والثاني انها الفجر روي عن عمر وعلي في رواية و أبي موسى ومعاذ وجابر بن عبدالله وابي أمامة و ابن عمر في رواية مجاهد و زيد بن أسلم و ابن عباس في رواية أبي رجاء العطاردي وعكرمة وجابر بن زيد و أنس بن مالك وعطاء وعكرمة وطاووس في رواة ابنه وعبد الله بن شداد و مجاهد و مالك والشافعي وروى أبوالعالية قال صليت مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الغداة فقلت لهم أيما الصلاة الوسطى فقالوا التي صليت قبل والثالث أنها الظهر روي عن ابن عمر و زيد بن ثابت و أسامة بن زيد و أبي سعيد الخدري وعائشة في رواية وروى ضميرة عن علي رضي الله عنه قال هي صلاة الجمعة وهي سائر الايام الظهر والرابع أنها المغرب روي عن ابن عباس وقبيصة بن ذؤيب والخامس أنها العشاء الأخيرة ذكره علي بن أحمد النيسابوري في تفسيره وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال أحدها أنها اوسط الصلوات محلا والثاني اوسطها مقدارا والثالث أفضلها ووسط الشيء خيره وأعدله ومنه قوله تعالى وكذلك جعناكم أمة وسطا البقرة 142 فان قلنا إن الوسطى بمعنى الفضلى جاز أن يدعي هذا كل ذي مذهب فيها و إن قلنا إنها أوسطها مقدارا فهي المغرب لأن أقل المفروضات ركعتان وأكثرها أربعا وإن قلنا إنها أوسطها محلا فللقائلين إنها العصر أن يقولوا قبلها صلاتان في النهار وبعدها صلاتان في الليل فهي الوسطى ومن قال هي الفجر فقال عكرمة هي وسط بين الليل والنهار وكذلك قال ابن الأنباري هي وسط بين الليل والنهار وقال وسمعت ابا العباس يعني ثعلبا يقول النهار عند العرب اوله طلوع الشمس قاله ابن الأنباري فعلى هذا صلاة الصبح من صلاة الليل قال وقال آخرون بل هي من صلاة النهار لأن أول وقتها اول وقت الصوم قال والصواب عندنا أن نقول الليل المحض خاتمته طلوع الفجر والنهار المحض أوله طلوع الشمس والذي بين طلوع الفجر وطلوع الشمس يجوز أن يسمى نهارا ويجوز

أن يسمى ليلا لما يوجد فيه من الظلمة والضوء فهذا قول يصح به المذهبان قال ابن الأنباري ومن قال هي الظهر قال هي وسط النهار فأما من قال هي المغرب فاحتج بأن أول صلاة فرضت الظهر فصارت المغرب وسطى ومن قال هي العشاء فانه قال هي بين صلاتين لاتقصران
قوله تعالى وقوموا لله قانتين المراد بالقيام هاهنا القيام في الصلاة فأما القنوت فقد شرحناه فيما تقدم وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال أحدها أنه الطاعة قاله ابن عباس والحسن و مجاهد وابن جبير والشعبي وطاووس و الضحاك وقتادة في آخرين والثاني أنه طول القيام في الصلاة روي عن ابن عمر والربيع بن أنس وعن عطاء كالقولين والثالث أنه الإمساك عن الكلام في الصلاة قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت الآية وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام
فان خفتم فرجالا أو ركبانا فاذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون
قوله تعالى فان خفتم فرجالا أي خفتم عدوا فصلوا رجالا وهو جمع راجل والركبان جمع راكب وهذا يدل على تأكيد أمر الصلاة لأنه أمر بفعلها على كل حال وقيل إن هذه الآية انزلت بعد التي في سورة النساء لإن الله تعالى وصف لهم صلاة الخوف في قوله و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة النساء 102 ثم نزلت هذه الآية فان خفتم أي خوفا أشد من ذلك فصلوا عند المسايفة كيف قدرتم فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى يوم

الخندق الظهر والعصر والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشفق فالجواب أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى فان خفتم فرجالا أو ركبانا قال أبو بكر الأثرم فقد بين الله أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ
قوله تعالى فاذا أمنتم فاذكروا الله في هذا الذكر قولان أحدهما أنه الصلاة فتقديره فصلوا كما كنتم تصلون آمنين والثاني أنه الثناء على الله والحمد له
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فان خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم
قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا روى ابن حيان أن هذه الآية نزلت في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة ومعه أبواه وامرأته وله أولاد فمات فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية فأعطى النبي صلى الله عليه و سلم أبويه وألاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئا غير أنه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا
قوله تعالى وصية لأزواجهم قرأ أبو عمرو وحمزة و ابن عامر وصية بالنصب وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وصية بالرفع وعن عاصم كالقراءتين قال أبو علي من نصب حمله على الفعل أي ليوصوا وصية ومن رفع فمن وجهين

أحدهما أن يجعل الوصية مبتدأ والخبر لأزواجهم والثاني أن يضمر له خبرا تقديره فعليهم وصية والمراد من قارب الوفاة فليوص لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى
قوله تعالى متاعا إلى الحول أي متعوهن إلى الحول ولا تخرجوهن والمراد بذلك نفقة السنة وكسوتها وسكناها فان خرجن أي من قبل أنفسهن فلا جناح عليكم يعني أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من معروف يعني التشوف إلى النكاح وفي ماذا رفع الجناح عن الرجال فيه قولان أحدهما أنه في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول والثاني في ترك منعهن من الخروج لأنه لم يكن مقامها الحول واجبا عليها بل كانت مخيرة في ذلك
فصل
ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات احدهم مكثت زوجته في بيته حولا ينفق عليها من ميراثه فاذا تم الحول خرجت إلى باب بيتها ومعها بعرة فرمت بها كلبا وخرجت بذلك من عدتها وكان معنى رميها بالعبرة أنها تقول مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة ثم جاء الإسلام فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية وهي قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يترصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا

ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين
قوله تعالى وللمطلقات متاع بالمعروف قد سبق الكلام في المتعة بما فيه كفاية
كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون
قوله تعالى كذلك يبين الله لكم آياته أي كما بين الذي تقدم من الأحكام يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون أي يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بين لكم وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة ألا ترى إلى قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة النساء 17 و إنما سموا جهالا لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون
قوله تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم معناه ألم تعلم قال ابن قتيبة وهذا على جهة التعجب كما تقول ألا ترى إلى ما يصنع فلان

قوله تعالى وهم ألوف فيه قولان أحدهما أن معناه وهم مؤتلفون قاله ابن زيد والثاني أنه من العدد وعليه العلماء واختلفوا في عددهم على سبعة أقوال أحدها انهم كانوا أربعة آلاف والثاني أربعين ألف والقولان عن ابن عباس والثالث تسعين ألفا قاله عطاء بن أبي رباح والرابع سبعة آلاف قاله أبو صالح والخامس ثلاثين ألفا قاله أبو مالك والسادس بضعة وثلاثين ألفا قاله السدي والسابع ثمانية آلاف قاله مقاتل وفي معنى حذرهم من الموت قولان أحدهما انهم فروا من الطاعون وكان قد نزل بهم قاله الحسن والسدي والثاني انهم أمروا بالجهاد ففروا منه قاله عكرمة و الضحاك وعن ابن عباس كالقولين
الاشارة إلى قصتهم
روى حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال كانت أمة من بني إسرائيل إذا وقع فيهم الوجع خرج أغنياؤهم وأقام فقراؤهم فمات الذين أقاموا ونجا الذين خرجوا فقال الأشراف لو أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا وقال الفقراء لو ظعنا كما ظعن هؤلاء سلمنا فأجمع رأيهم في بعض السنين على أن يظعنوا جميعا فظعنوا فماتوا وصاروا عظاما تبرق فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم فمر بهم نبي من الأنبياء فقال يا رب لو شئت أحييتهم فعبدوك وولدوا أولادا يعبدونك ويعمرون بلادك قال أو أحب إليك أن أفعل قال نعم فقيل له تكلم بكذا وكذا فتكلم به فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها إلى التي هي منها ثم قيل له تكلم بكذا وكذا فتكلم به فنظر إلى العظام تكسى لحما وعصبا ثم قيل له تكلم بكذا وكذا فنظر فاذا هم قعود يسبحون الله ويقدسونه وأنزل الله فيهم هذه الآيه وهذا الحديث يدل على بعد المدة التي مكثوا فيها أمواتا وفي بعض الأحاديث أنهم بقوا أمواتا سبعة أيام وقيل ثمانية أيام

وفي النبي الذي دعا لهم قولان أحدهما أنه حزقيل والثاني أنه شمعون فإن قيل كيف أميت هؤلاء مرتين وقد قال الله تعالى إلا الموتة الاولى الدخان 56 فالجواب أن موتهم بالعقوبة لم يفن اعمارهم فكان كقوله تعالى والتي لم تمت في منامها الزمر 42 وقيل كان إحياؤهم آية من آيات نبيهم وآيات الأنبياء نوادر لا يقاس عليها فيكون تقدير قوله تعالى إلا الموتة الاولى التي ليست من آيات الأنبياء ولا لأمر نادر وفي هذه القصة احتجاج على اليهود إذ أخبرهم النبي صلى الله عليه و سلم بأمر لم يشاهدوه وهم يعلمون صحته واحتجاج على المنكرين للبعث فدلهم عليه باحياء الموتى في الدنيا ذكر ذلك جميعه ابن الأنباري
قوله تعالى إن الله لذو فضل على الناس نبه عز و جل بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلة شكرهم
وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم
قوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله في المخاطبين بهذا قولان أحدهما انهم الذين أماتهم الله ثم أحياهم قاله الضحاك والثاني خطاب لأمة محمد صلى الله عليه و سلم فمعناه لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء فما ينفعكم الهرب واعملوا أن الله سميع لأقوالكم عليم بما تنطوي عليه ضمائركم
من ذا يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط و إلي ترجعون
قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قال الزجاج أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه وأصله في اللغة القطع ومنه أخذ المقراض فمعنى أقرضته قطعت له قطعة يجازيني عليها فإن قيل ما وجه تسمية الصدقة قرضا فالجواب من ثلاثة أوجه

أحدهما لأن هذا القرض يبدل بالجزاء والثاني لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة والثالث لتأكيد استحقاق الثواب به إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحق به فأما اليهود فانهم جهلوا هذا فقالوا أيستقرض الله منا وأما المسلمون فوثقوا بوعد الله وبادروا إلى معامتله قال ابن مسعود لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح و إن الله ليريد منا القرض فقال النبي صلى الله عليه و سلم نعم قال أرني يدك قال إني أقرضت ربي حائطي قال وحائطه فيه ستمائة نخلة ثم جاء إلى الحائط فقال يا أم الدحداح اخرجي من الحائط فقد أقرضته ربي وفي بعض الألفاظ فعمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواهم وتنفض ما في أكمامهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال أحدها أنه الخالص لله قاله الضحاك والثاني أن يخرج عن طيب نفس قاله مقاتل والثالث أن يكون حلالا قاله ابن المبارك والرابع أن يحتسب عند الله ثوابه والخامس أن لا يتبعه منا ولا أذى والسادس أن يكون من خيار المال
قوله تعالى فيضاعفه له قرأ أبو عمرو فيضاعفه بألف مع رفع الفاء كذلك في جميع القرآن إلا في سورة الأحزاب يضعف لها العذاب ضعفين وقرأ نافع وحمزة والكسائي جميع ذلك بالألف مع رفع الفاء وقرأ ابن كثير فيضعفه برفع الفاء من غير ألف في جميع القرآن وقرأ ابن عامر فيضعفه بغير ألف مشددة في جميع القرآن ووافقه عاصم على نصب الفاء في فيضاعفه إلا أنه أثبت الألف في جميع القرآن قال أبو علي للرفع وجهان أحدهما أن يعطفه على ما في الصلة وهو يقرض والثاني أن يستأنفه ومن نصب حمل الكلام على المعنى لأن المعنى أيكون قرض فحمل عليه فيضاعفه وقال ومعنى ضاعف وضعف واحد والمضاعفة الزيادة على الشيء

حتى يصير مثلين أو أكثر وفي الأضعاف الكثير قولان أحدهما أنها لا يحصى عددها قاله ابن عباس والسدي وروى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال إن الله يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة وقرأ هذه الآية ثم قال سمعت رسول صلى الله عليه و سلم يقول إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة والثاني أنها معلومة المقدار فالدرهم بسبعمائة كما ذكر في الآية التي بعدها قاله ابن زيد
قوله تعالى والله يقبض ويبسط قرأ ابن كثير و أبو عمرو وحمزة والكسائي يبسط و بسطة بالسين وقرأهما نافع بالصاد وفي معنى الكلام قولان أحدهما أن معناه يقتر على من يشاء في الرزق ويبسطه على من يشاء قاله ابن عباس والحسن وابن زيد والثاني يقبض يد من يشاء عن الإنفاق في سبيله ويبسط يد من يشاء بالإنفاق قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين
ألم تر إلى الملأ من بني اسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين
قوله تعالى ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل قال الفراء الملأ الرجال في كل

القرآن لا يكون فيهم امرأة وكذلك القوم والنفر والرهط وقال الزجاج الملأ هم الوجوه وذوو الرأي و إنما سموا ملأ لأنهم مليؤون بما يحتاج إليه منهم وفي نبيهم ثلاثة أقوال أحدها أنه شمويل قاله ابن عباس ووهب والثاني أنه يوشع بن نون قاله قتادة والثالث أنه نبي يقال له سمعون بالسين المهملة سمته امه بذلك لأنها دعت الله أن يرزقها غلاما فسمع دعاؤها فيه فسمته هذا قول السدي
وسيب سؤالهم ملكا أن عدوهم غلب عليهم
قوله تعالى نقاتل قراءة الجمهور بالنون والجزم و قرأ ابن أبي عبلة بالياء والرفع كناية عن الملك
قوله تعالى هل عسيتم قراءة الجمهور بفتح السين وقرأ نافع بكسرها هاهنا وفي سورة محمد وهي لغتان
قوله تعالى إن كتب عليكم القتال أي فرض ألا تقاتلوا أي لعلكم تجبنون
قوله تعالى وقد أخرجنا من ديارنا يعنون أخرج بعضنا وهم الذين سبوا منهم وقهروا فظاهره العموم ومعناه الخصوص
قوله تعالى تولوا أي أعرضوا عن الجهاد إلا قليلا وهم الذين عبروا النهر وسيأتي ذكرهم
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالون ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم

قوله تعالى وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ذكر أهل التفسير أن نبي بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكا فأتى بعصا وقرن فيه دهن وقيل له إن صاحبكم الذي يكون ملكا يكون طوله طول هذه العصا ومتى دخل عليك رجل فنشق الدهن فهو ملك فادهن به رأسه وملكه على بني إسرائيل فقاس القوم أنفسهم بالعصا فلم يكونوا على مقدارها قال عكرمة والسدي كان طالوت سقاء يسقي على حمار له فضل حماره فخرج يطلبه وقال وهب بل كان دباغا يعمل الأدم فضلت حمر لأبيه فأرسل مع غلام له في طلبها فمرا يبيت شمويل النبي صلى الله عليه و سلم فدخلا ليسألاه عن ضالتهما فنشق الدهن فقام شمويل فقاس طالوت بالعصا وكان على مقدارها فدهنه ثم قال له أنت ملك بني إسرائيل فقال طالوت أما علمت أن وسطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوتهم قال بلى قال فبأية آية قال بآية انك ترجع وقد وجد ابوك حمره فكان كما قال
قال الزجاج طالوت وجالوت وداود لا تصرف لأنها أسماء أعجمية وهي معارف فاجتمع فيها التعريف والعجمة
ومعنى قوله تعالى أنى له الملك من أي جهة يكون له الملك علينا قال ابن عباس انما قالوا ذلك لأنه كان في بني اسرائيل سبطان في أحدهما النبوة وفي الآخر الملك فلم يكن هو من أحد السبطين قال قتادة كانت النبوة في سبط لاوي والملك في سبط يهوذا
قوله تعالى ولم يؤت سعة من المال أي لم يؤت ما يتملك به الملك قال إن الله اصطفاه عليكم أي اختاره وهو افتعل من الصفوة والبسطة السعة قاله ابن قتيبة هو من قولك بسطت الشيء إذا كان مجموعا ففتحته ووسعته قال ابن عباس كان

طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه وهل كانت هذه الزيادة قبل الملك أم أحدثت له بعد الملك فيه قولان أحدهما قبل الملك قاله وهب والسدي والثاني بعد الملك قاله ابن زيد والمراد بتعظيم الجسم فضل القوة إذ العادة أن من كان أعظم جسما كان أكثر قوة والواسع الغني
وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى و آل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى وقال لهم نبيهم إن أية ملكه الآية العلامة فمعناه علامة تمليك الله إياه أن يأتيكم التابوت وهذا من مجاز الكلام لأن التابوت يؤتى به ولا يأتي ومثله فاذا عزم الأمر و إنما جاز مثل هذا لزوال اللبس فيه كما بينا في قوله تعالى فما ربحت تجارتهم البقرة 16 وروي عن ابن مسعود و ابن عباس انهم قالوا لنبيهم إن كنت صادقا فأتنا بآية تدل على أنه ملك فقال لهم ذلك وقال وهب خيرهم أي آية يريدون فقالوا أن يرد علينا التابوت قال ابن عباس كان التابوت من عود الشمشار عليه صفائح الذهب وكان يكون مع الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموه بين أيديهم يستنصرون به وفيه السكينة وقال وهب بن منبه كان نحوا من ثلاث أذرع في ذراعين قال مقاتل فلما تفرقت بنو إسرائيل وعصوا الأنبياء سلط الله عليهم عدوهم فغلبوهم عليه وفي السكينة سبعة أقوال أحدها أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان رواه أبو الأحوص عن علي رضي الله عنه والثاني أنها دابة بمقدار الهر لها عينان لها شعاع وكانوا إذا التقى الجمعان أخرجت يدها ونظرت إليهم فيهزم الجيش من الرعب رواه الضحاك عن ابن عباس وقال مجاهد السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان والثالث أنها طست من ذهب من الجنة تغسل فيه قلوب الأنبياء رواه أبو مالك عن

ابن عباس والرابع أنها روح من الله تتكلم كانوا إذا اختلفوا في شيء كلمتهم وأخبرتهم ببيان ما يريدون رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه والخامس أن السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها رواه ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح وذهب إلى نحوه الزجاج فقال السكينة من السكون فمعناه فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم والسادس أن السكنية معناها هاهنا الوقار رواه معمر عن قتادة والسابع أن السكينة الرحمة قاله الربيع بن أنس
وفي البقية تسعة أقوال أحدها أنها رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى وعصاه قاله ابن عباس وقتادة والسدي والثاني أنها رضاض الألواح قاله عكرمة ولم يذكر العصا وقيل إنما اتخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه والثالث أنها عصا موسى والسكينة قاله وهب والرابع عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ولوحان من التوراة والمن قاله أبو صالح والخامس أن البقية العلم والتوراة قاله مجاهد وعطاء بن أبي رباح والسادس أنها رضاض الألواح وقفيز من من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامته قاله مقاتل والسابع أنه قفيز من من ورضاض

الألواح حكاه سفيان الثوري عن بعض العلماء والثامن أنها عصا موسى والنعلان ذكره الثوري أيضا عن بعض أهل العلم والتاسع أن المراد بالبقية الجهاد في سبيل الله وبذلك أمروا قاله الضحاك
والمراد بآل موسى و آل هارون موسى وهارون وأنشد أبو عبيدة ... ولا تبك ميتا بعد ميت أحبة ... علي وعباس وآل بكر ...
يريد ابا بكر نفسه
قوله تعالى تحمله الملائكة قرأ الجمهور تحمله بالتاء وقرأ الحسن و مجاهد والأعمش بالياء وفي المكان الذي حملته منه الملائكة إليهم قولان أحدهما أنه كان مرفوعا مع الملائكة بين السماء والأرض منذ خرج عن بني اسرائيل قاله الحسن والثاني أنه كان في الارض
وفي أي مكان كان فيه قولان
أحدهما أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه قال ابن عباس أخذ التابوت قوم جالوت فدفنوه في متبرز لهم فأخذه الباسور فهلكوا ثم أخذه أهل مدينة أخرى فأخذهم بلاء فهلكوا ثم أخذه غيرهم كذلك حتى هلكت خمس مدائن فأخرجوه على بقرتين ووجهوهما إلى بني إسرائيل فساقتهما الملائكة
والثاني أنه كان في برية التيه خلفه فيها يوشع ولم يعلموا بمكانه حتى جاءت به الملائكة قاله قتادة
وفي كيفية مجيء الملائكة به قولان
أحدهما أنها جاءت به بأنفسها قال وهب قالوا لنبيهم اجعل لنا وقتا يأتينا فيه

فقال الصبح فلم يناموا ليلتهم ووافت به الملائكة مع الفجر فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين السماء والارض
والثاني أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين ذكر عن وهب أيضا فعلى القول الأول يكون معنى تحمله تقله وعلى الثاني يكون معنى حملها إياه تسببها في حمله قال الزجاج ويجوز في اللغة أن يقال حملت الشيء إذا كنت سببا في حمله
قوله تعالى إن في ذلك لآية لكم أي علامة تدل على تمليك طالوت قال المفسرون فلما جاءهم التابوت وأقروا له بالملك تأهب للخروج فأسرعوا في طاعته وخرجوا معه فذلك قوله تعالى
فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فانه مني إلا من إغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون انهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله والله مع الصابرين
قوله تعالى فلما فصل طالوت بالجنود أي خرج وشخص وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال أحدها سبعون ألفا قاله ابن عباس والثاني ثمانون ألفا قاله عكرمة والسدي والثالث مائة ألف قاله مقاتل قال وساروا في حر شديد فابتلاهم الله بالنهر والابتلاء الاختبار وفي النهر لغتان إحداهما تحريك الهاء وهي قراءة الجمهور والثاني تسكينها وبها قرأ الحسن و مجاهد وفي هذا النهر قولان أحدهما أنه نهر فلسطين قاله ابن عباس والسدي والثاني نهر بين الاردن وفلسطين قاله عكرمة وقتادة والربيع بن أنس ووجه الحكمة في ابتلائهم به أن يعلم طالوت من له نية في القتال منهم ومن ليس له نية

قوله تعالى ليس مني أي ليس من أصحابي
قوله تعالى إلا من اغترف غرفة قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو غرفة بفتح الغين وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بضمها قال الزجاج من فتح الغين اراد المرة الواحدة باليد ومن ضمها اراد ملء اليد وزعم مقاتل أن الغرفة كان يشرب منها الرجل ودابته وخدمه ويملأ قربته وقال بعض المفسرين لم يرد به غرفة الكف و إنما اراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك وفي عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان أحدهما انهم أربعة آلاف قاله عكرمة والسدي والثاني ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وهو الصحيح لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قاله لأصحابه يوم بدر انتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا
قوله تعالى لا طاقة لنا أي لا قوة لنا قال الزجاج يقال أطقت الشيء إطاقة وطاقة وطوقا مثل قولك أطعته إطاعة وطاعة وطوعا واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال أحدها انهم الذين شربوا أكثر من غرفة فانهم انصرفوا ولم يشهدوا وكانوا أهل شك ونفاق قاله ابن عباس والسدي والثاني انهم الذين قلت بصائرهم من المؤمنين قاله الحسن وقتادة وابن زيد والثالث أنه قول الذين جاوزوا معه و إنما قال ذلك بعضهم لبعض لما رأوا من قلتهم وهذا اختيار الزجاج
قوله تعالى قال الذين يظنون في هذا الظن قولان أحدهما أنه بمعنى اليقين قاله السدي في آخرين والثاني أنه الظن الذي هو التردد فان القوم توهموا لقلة عددهم

أنهم سيقتلون فيلقون الله قاله الزجاج في آخرين وفي الظانين هذا الظن قولان أحدهما انهم الثلاثمائة والثلاثة عشر قالوا للراجعين كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة قاله السدي والثاني انهم أولو العزم والفضل من الثلاثمائة والثلاثة عشر والفئة الفرقة قال الزجاج وإنما قيل لهم فئة من قولهم فأوت رأسه بالعصا و فأيته إذا شققته
قوله تعالى باذن الله قال الحسن بنصر الله
قوله تعالى والله مع الصابرين أي بالنصر والاعانة
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين
قوله تعالى ولما برزوا أي صاروا بالبراز من الارض وهو ما ظهر واستوى و أفرغ بمعنى اصبب وثبت أقدامنا أي قو قلوبنا لتثبيت أقدامنا و إنما تثبت الأقدام عند قوة القلوب قال مقاتل كان جالوت وجنوده يعبدون الأوثان
فهزموهم باذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين
قوله تعالى فهزموهم أي كسروهم وردوهم قال الزجاج أصل الهزم في اللغة كسر الشيء وثني بعضه على بعض يقال سقاء منهزم ومهزم إذا كان بعضه قد ثني على بعض مع جفاف وقصب منهزم قد كسر وشقق والعرب تقول هزمت على زيد أي عطفت عليه
قال الشاعر ... هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك ... فجودي علينا بالنوال و أنعمي

ويقال سمعت هزمة الرعد قال الأصمعي كأنه صوت فيه تشقق
ودواد هو نبي الله أبو سليمان وهو اسم أعجمي وقيل إن إخوة داود كانوا مع طالوت فمضى دواد لينظر إليهم فنادته أحجار خذني فأخذها وجاء إلى طالوت فقال مالي إن قتلت جالوت فقال ثلث ملكي وانكحك ابنتي فقتل جالوت
قوله تعالى وآتاه الله الملك يعني آتى داود ملك طالوت وفي المراد بالحكمة هاهنا قولان أحدهما أنها النبوة قاله ابن عباس والثاني الزبور قاله مقاتل قوله تعالى وعلمه مما يشاء فيه ثلاثة أقوال أحدها أنها صنعة الدروع والثاني الزبور والثالث منطق الطير
قوله تعالى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض قرأ الجمهور دفع الله بغير ألف هاهنا وفي الحج وقرأ نافع ويعقوب وأبان ولولا دفاع بألف فيهما قال أبو علي المعنيان متقاربان قال الشاعر ... ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... فاذا المنية أقبلت لا تدفع ...
وفي معنى الكلام قولان أحدهما أن معناه لولا أن الله يدفع بمن أطاعه عمن عصاه كما دفع عن المتخلفين عن طالوت بمن أطاعه لهلك العصاة بسرعة العقوبة قاله مجاهد والثاني أن معناه لولا دفع الله المشركين بالمسلمين لغلب المشركون على الارض فقتلوا المسلمين وخربوا المساجد قاله مقاتل ومعنى لفسدت الارض لهلك أهلها
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين
قوله تعالى تلك آيات الله نتلوها عليك أي نقص عليك من أخبار المتقدمين

وإنك لمن المرسلين حكمك حكمهم فمن صدقك فسبيله سبيل من صدقهم ومن عصاك فسبيله سبيل من عصاهم
الجزء الثالث تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد
قوله تعالى منهم من كلم الله يعني موسى عليه السلام وقرأ أبو المتوكل و أبو نهيك وابن السميفع منهم من كالم الله بألف خفيفة اللام ونصب اسم الله وفي المراد بقوله ورفع بعضهم درجات قولان أحدهما عنى بالمرفوع درجات محمدا صلى الله عليه و سلم فإنه بعث إلى الناس كافة وغيره بعث الى أمته خاصة هذا قول مجاهد والثاني أنه عنى تفضيل بعضهم على بعض فيما آتاه الله هذا قول مقاتل قال ابن جرير الطبري والدرجات حمع درجة وهي المرتبة وأصل ذلك مراقي السلم ودرجه ثم يستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب وقد تقدم تفسير البينات و روح القدس
قوله تعالى ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم أي من بعد الأنبياء وقال قتادة من بعد موسى وعيسى عليهما السلام قال مقاتل وكان بينهما ألف نبي
قوله تعالى ولكن اختلفوا يعني الأمم
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم هذه الآية تحث على الصدقات والإنفاق في وجوه الطاعات وقال الحسن أراد الزكاة المفروضة

قوله تعالى من قبل أن يأتي يوم يعني يوم القيامة لا بيع فيه قرأ ابن كثير و أبو عمرو لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة بالنصب من غير تنوين ومثله في إبراهيم لا بيع فيه وفي الطور لا لغو فيها ولا تأثيم وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي جميع ذلك بالرفع والتنوين قال ابن عباس لا فدية فيه وقيل إنما ذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة و أخذ البدل والخلة الصداقة وقيل إنما نفى هذه الأشياء لأنه عنى عن الكافرين وهذه الأشياء لا تنفعهم ولهذا قال والكافرون هم الظالمون
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم
قوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم روى مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله أعظم قال قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم قال فضرب صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر قال أبو عبيدة القيوم الذي لا يزول لاستقامة وصفه بالوجود حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه وقال الزجاج القيوم القائم بتدبير أمر الخلق وقال الخطابي القيوم هو القائم الدائم بلا زوال وزنه فيعول من القيام وهو نعت للمبالغة للقيام على الشيء ويقال هو القائم على كل شيء بالرعاية يقال قمت بالشيء إذا وليته بالرعاية والمصلحة وفي القيوم ثلاث لغات القيوم وبه قرأ الجمهور والقيام وبه قرأ عمر بن الخطاب وابن

مسعود وابن أبي عبلة والأعمش والقيم وبه قرأ أبو رزين وعلقمة وذكر ابن الانباري أنه كذلك في مصحف ابن مسعود قال وأصل القيوم القيووم فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن جعلتا ياء مشددة وأصل القيام القوام قال الفراء و أهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفيعال فيقولون للصواغ صياغ فأما السنة فهي النعاس من غير نوم ومنه الوسنان قال ابن الرقاع ... وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم ... وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم ...
قوله تعالى له ما في السموات وما في الارض قال بعض العلماء إنما لم يقل والأرضين لأنه قد سبق ذكر الجمع في السموات فاستغنى بذلك عن إعادته ومثله وجعل الظلمات والنور ولم يقل الأنوار
قوله تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه فيه رد على من قال ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى الزمر 3
قوله تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ظاهر الكلام يقتضي الإشارة إلى جميع الخلق وقال مقاتل المراد بهم الملائكة وفي المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ثلاثة أقوال أحدهما أن الذي بين أيديهم أمر الآخرة والذي خلفهم أمر الدنيا روي عن ابن عباس وقتادة والثاني أن الذي بين أيديهم الدنيا والذي خلفهم الآخرة قاله السدي عن أشياخه و مجاهد وابن جريج والحكم بن عتيبة والثالث ما بين ايديهم ما قبل خلقهم وما خلفهم ما بعد خلقهم قاله مقاتل

قوله تعالى ولا يحيطون بشئ قال الليث يقال لكل من أحرز شيئا لو بلغ علمه أقصاه قد أحاط به والمراد بالعلم هاهنا المعلوم وسع كرسيه أي احتمل وأطاق وفي المراد بالكرسي ثلاثة أقوال أحدها أنه كرسي فوق السماء السابعة دون العرش قال النبي صلى الله عليه و سلم ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في ارض فلاة وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والثاني ان المراد بالكرسي علم الله تعالى رواه ابن جبير عن ابن عباس والثالث أن الكرسي هو العرش قاله الحسن
قوله تعالى ولا يؤوده أي لا يثقله يقال آده الشيء يؤوده أودا وإيادا والأود الثقل وهذا قول ابن عباس وقتادة والجماعة والعلي العالي القاهر فعيل بمعنى فاعل وقال الخطابي وقد يكون من العلو الذي هو مصدر علا يعلوا فهو عال كقوله تعالى الرحمن على العرش استوى طه 5 ويكون ذلك من علاء المجد والشرف يقال منه علي يعلى علاء ومعنى العظيم ذو العظمة والجلال والعظم في حقه تعالى منصرف إلى عظم الشأن وجلال القدر دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم

قوله تعالى لا إكراه في الدين في سبب نزولها أربعة أقوال أحدها أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد تحلف لئن عاش لها ولد لتهودنه فلما أجليت يهود بني النضير كان فيهم ناس من أبناء الأنصار فقال الأنصار يا رسول الله أبناؤنا فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وقال الشعبي قالت الأنصار والله لنكرهن أولادنا على الإسلام فإنا إنما جعلناهم في دين اليهود إذ لم نعلم دينا أفضل منه فنزلت هذه الآية والثاني أن رجلا من الأنصار تنصر لهو ولدان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه و سلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصموا إلى النبي ص - فنزلت هذه الآية هذا قول مسروق والثالث أن ناسا كانوا مسترضعين في اليهود فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بني النضير قالوا والله ليذهبن معهم ولنذهبن بدينهم فمنعهم أهلوهم وأرادوا إكراهمم على الإسلام فنزلت هذه الآية والرابع أن رجلا من الانصار كان له غلام اسمه صبيح كان يكرهه على الإسلام فنزلت هذه الآية والقولان عن مجاهد
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية فذهب قوم إلى أنه محكم وانه من العام المخصوص فانه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام بل يخيرون بينه وبين أداء الجزية وهذا معنى ما روي عن ابن عباس و مجاهد وقتادة

وقال ابن الأنباري معنى الآية ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه ولم يشهد به القلب وتنطوي عليه الضمائر إنما الدين هو المنعقد بالقلب وذهب قوم إلى أنه منسوخ وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال فعلى قولهم يكون منسوخا بآية السيف وهذا مذهب الضحاك والسدي وابن زيد والدين هاهنا أريد به الإسلام والرشد الحق والغي الباطل وقيل هو الإيمان والكفر فاما الطاغوت فهو اسم مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد قال ابن قتيبة الطاغوت واحد وجمع ومذكر ومؤنث قال الله تعالى أولياؤهم الطاغوت وقال والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها الزمر 17 والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال أحدها أنه الشيطان قاله عمر و ابن عباس و مجاهد والشعبي والسدي و مقاتل في آخرين والثاني أنه الكاهن قاله سعيد بن جبير و أبوالعالية والثالث أنه الساحر قاله محمد بن سيرين والرابع أنه الأصنام قاله اليزيدي و الزجاج والخامس أنه مردة أهل الكتاب ذكره الزجاج أيضا
قوله تعالى فقد استمسك بالعروة الوثقى هذا مثل للإيمان شبه التمسك به بالتمسك بالعروة الوثيقة وقال الزجاج معنى الكلام فقد عقد لنفسه عقدا وثيقا والانفصام كسر الشيء من غير إبانه
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
قوله تعالى الله ولي الذين آمنوا أي متولي أمورهم يهديهم وينصرهم ويعينهم والظلمات الضلالة والنور الهدى والطاغوت الشياطين هنا قول ابن عباس وعكرمة في آخرين وقال مقاتل الذين كفروا هم اليهود والطاغوت كعب بن

الأشرف قال الزجاج والطاغوت هاهنا واحد في معنى جماعة وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة قال الشاعر
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض و أما جلدها فصليب ...
اراد جلودها فان قيل متى كان المؤمنون في ظلمة ومتى كان الكفار في نور فعنه ثلاثة أجوبه أحدها أن عصمة الله للمؤمنين عن مواقعة الضلال إخراج لهم من ظلام الكفر وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الذي يحيدون به عن الهدى إخراج لهم من نور الهدى و الإخراج مستعار هاهنا وقد يقال للممتنع من الشيء خرج منه وإن لم يكن دخل فيه قال تعالى إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله يوسف 37 وقال ومنكم من يرد إلى أرذل العمر النحل 70 وقد سبقت شواهد هذا في قوله تعالى وإلى الله ترجع الأمور البقرة 210 والثاني أن إيمان أهل الكتاب بالنبي قبل أن يظهر نور لهم وكفرهم به بعد أن ظهر خروج إلى الظلمات والثالث أنه لما ظهرت معجزات رسول الله صلى الله عليه و سلم كان المخالف له خارجا من نور قد علمه والموافق له خارجا من ظلمات الجهل إلى نور العلم
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتيه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال انا أحيي و أميت قال إبراهيم فان الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لايهدي القوم الظالمين
قوله تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه قد سبق معنى الم تر وحاج بمعنى خاصم وهو نمروذ في قول الجماعة قال ابن عباس ملك الارض شرقها وغربها

مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان بن داود وذو القرنين والكافران نمروذ وبختنصر قال ابن قتيبة معنى الآية حاج إبراهيم لأن الله آتاه الملك فأعجب بنفسه وملكه
قوله تعالى إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال بعضهم هذا جواب سؤال سابق غير مذكور تقديره أنه قال له من ربك فقال ربي الذي يحيي ويميت قال نمروذ انا أحيي وأميت قال ابن عباس يقول أترك من شئت و أقتل من شئت فان قيل لم انتقل إبراهيم إلى حجة اخرى وعدل عن نصرة الأولى فالجواب أن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمرا على ضعف فهمه فانه عراض اللفظ بمثله ونسي اختلاف الفعلين فانتقل إلى حجة أخرى قصدا لقطع المحاج لا عجزا عن نصرة الأولى
قوله تعالى فبهت الذي كفر أي انقطعت حجته فتحير وقرأ أبو رزين العقيلي وابن السميفع فبهت بفتح الباء والهاء وقرأ أبو الجوزاء ويحيى بن يعمر و أبو حيوة فبهت بفتح الباء وضم الهاء قال الكسائي ومن العرب من يقول بهت وبهت بكسر الهاء وضمها والله لا يهدي القوم الظالمين يعني الكافرين قال مقاتل لا يهديهم إلى الحجة وعنى بذكل نمروذ
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير
قوله تعالى أو كالذي مر على قرية قال الزجاج هذا معطوف على معنى الكلام الذي قبله معناه أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية وفي المراد بالقرية قولان أحدهما أنها بيت المقدس لما خربه بختنصر قاله وهب وقتادة والربيع بن

أنس والثاني أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت قاله ابن زيد وفي الذي مر عليها ثلاثة أقوال أحدها أنه عزير قاله علي بن أبي طالب و أبوالعالية وعكرمة وسعيد ابن جبير وناجية بن كعب وقتادة و الضحاك والسدي و مقاتل والثاني أنه أرمياء قاله وهب و مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير والثالث أنه رجل كافر شك في البعث نقل عن مجاهد أيضا والخاوية الخالية قاله الزجاج وقال ابن قتيبة الخاوية الخراب والعروش السقوف و أصل ذلك أن تسقط السقوف ثم تسقط الحيطان عليها قال أنى يحيي هذه الله أي كيف يحييها فان قلنا إن هذا الرجل نبي فهو كلام من يؤثر أن يرى كيفية الإعادة أو يستهو لها فيعظم قدرة الله وإن قلنا إنه كان رجلا كافرا فهو كلام شاك والأول أصح
قوله تعالى فأماته الله مائة عام ثم بعثه
الاشارة إلى قصته
روى ناجية بن كعب عن علي رضي الله عنه قال خرج عزير نبي الله من مدينته وهو رجل شاب فمر على قرية وهي خاوية على عروشها فقال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه وأول ما خلق الله منه عيناه فجعل ينظر إلى عظامه ينظم بعضها إلى بعض ثم كسيت لحما ونفخ فيها الروح قال الحسن قبضه الله اول النهار وبعثه آخر النهار بعد مائة سنة قال مقاتل ونودي من السماء كم لبثت قال قتادة فقال لبثت يوما ثم نظر فرأى بقية من الشمس فقال او بعض يوم فهذا يدل على أنه عزير وقال وهب بن منبه أقام أرميا بأرض مصر فأوحى الله إليه أن الحق بأرض إيلياء فركب حماره وأخذ معه سلة من عنب وتين ومعه سقاء جديد فيه ماء فلما

بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى والمساجد نظر إلى خراب لا يوصف فلما رأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ثم نزل منها منزلا وربط حماره وعلق سقاءه فألقى الله عليه النوم ونزع روحه مئة عام فلما مر منها سبعون عاما أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس عظيم فقال إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أعمر ما كانت فقال الملك أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداة العمل فأنظره ثلاثة أيام فانتدب ثلاثمئة قهرمان ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل وما يصلحه من أداة العمل فسار إليها قهارمته ومعهم ثلاثمئة ألف عامل فلما وقعوا في العمل رد الله روح الحياة في عيني أرميا وآخر جسده ميت فنظر اليها تعمر فلما تمت بعد ثلاثين سنة رد الله إليه الروح فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه ونظر إلى حماره واقفا كهئيته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة وقد أتى على ذلك ريح مائة عام وبرد مائة عام وحر مائة عام لم تتغير ولم تنتقص شيئا وقد نحل جسم أرميا من البلى فأنبت الله له لحما جديدا ونشز عظامه وهو ينظر فقال له الله انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال اعلم أن الله على كل شيء قدير وزعم مقاتل أن هذه القصة كانت بعد رفع عيسى عليه السلام
قوله تعالى كم لبثت قرأ ابن كثير ونافع وعاصم لبثت و لبثتم في كل القرآن باظهار التاء وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بالإدغام لبت قال أبو علي الفارسي من بين لبثت فلتباين المخرجين وذلك أن الظاء والذال والثاء من حيز

والطاء والتاء والدال من حيز فلما تباين المخرجان واختلف الحيزان لم يدغم ومن أدغمها أجراها مجرى المثلين لاتفاق الحرفين في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا واتفاقهما في الهمس ورأى الذي بينهما من الاختلاف يسيرا فأجراهما مجرى المثلين فأما طعامه وشرابه فقال وهب كان معه مكتل فيه عنب وتين وقله فيها ماء وقال السدي كان معه تين وعنب وشرابه من العصير لم يحمض التين والعنب ولم يختمر العصير
قوله تعالى لم يتسنه قرأ ابن كثير ونافع و أبو عمرو وعاصم وابن عامر يتسنة و اقتده و ما أغنى عني ماليه و سلطانيه و وماهيه باثبات الهاء في الوصل وكان حمزة يحذفهن في الوصل ووافقه الكسائي في حذف موضعين يتسنه و اقتده وكلهم يقف على الهاء ولم يختلفوا في كتابيه و حسابيه أنها بالهاء وصلا ووقفا فأما معنى لم يتسنه فقال ابن عباس والحسن وقتادة في آخرين لم يتغير وقال ابن قتيبة لم يتغير بمر السنين عليه واللفظ مأخوذ من السنه يقال سانهت النخلة إذا حملت عاما وحالت عاما
قوله تعالى وانظر إلى حمارك قال مقاتل انظر إليه وقد ابيضت عظامه وتفرقت أوصاله فأعاده الله
قوله تعالى ولنجعلك آية للناس اللام صلة لفعل مضمر تقديره فعلنا بك ذلك لنريك قدرتنا ولنجعلك آية للناس أي علما على قدرتنا فأضمر الفعل لبيان معناه قال ابن عباس مات وهو ابن أربعين سنة وابنه ابن عشرين سنة ثم بعث وهو ابن أربعين وابنه ابن عشرين ومائة ثم أقبل حتى اتى قومه في بيت المقدس فقال لهم انا عزير فقالوا

حدثنا آباؤنا أن عزيرا مات بأرض بابل فقال لهم انا هو أرسلني الله إليكم أجدد لكم توراتكم وكانت قد ذهبت وليس منهم احد يقرؤها فأملاها عليهم
قوله تعالى وانظر إلى العظام قيل أراد عظام نفسه وقيل عظام حماره وقيل هما جميعا
قوله تعالى كيف ننشزها قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو ننشرها بضم النون الأولى وكسر الشين وراء مضمومة ومعناه نحييها يقال أنشز الله الميت فنشرهم وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ننشزها بضم النون مع الزاي وهو من النشز الذي هو الارتفاع والمعنى نرفع بعضها إلى بعض للاحياء وقرأ الأعمش ننشزها بفتح النون ورفع الشين مع الزاي وقرأ الحسن وأبان عن عاصم ننشرها بفتح النون مع الراء كأنه من النشر عن الطي فكأن الموت طواها والإحياء نشرها
قوله تعالى فلما تبين له أي بان له إحياء الموتى قال أعلم قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وعاصم وابن عامر أعلم مقطوعة الألف مضمومة الميم والمعنى قد علمت ما كنت أعلمه غيبا مشاهدة وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف وسكون الميم على معنى الأمر والابتداء على قراءتهما بكسر الهمزة وظاهر الكلام أنه أمر من الله له وقال أبو علي نزل نفسه منزلة غيره فأمرها وخاطبها وقرأ الجعفي عن أبي بكر قال أعلم بكسر اللام على معنى الأمر باعلام الغير
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم

قوله تعالى و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى في سبب سؤاله هذا أربعة أقوال أحدها أنه رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع فسأل هذا السؤال وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة و الضحاك وعطاء الخراساني وابن جريج و مقاتل وما الذي كانت هذه الميتة فيه ثلاثة أقوال أحدها كان رجلا ميتا قاله ابن عباس والثاني كان جيفة حمار قاله ابن جريج و مقاتل والثالث كان حوتا ميتا قاله ابن زيد والثاني أنه لما بشر باتخاذ الله له خليلا سأل هذا السؤال ليعلم صحة البشارة ذكره السدي عن ابن مسعود و ابن عباس وروي عن سعيد بن جبير أنه لما بشر بذلك قال ما علامة ذلك قال أن يجيب الله دعاءك ويحيي الموتى بسؤالك فسأل هذا السؤال والثالث أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس وهو قول عطاء ابن أبي رباح والرابع أنه لما نازعه نمرود في إحياء الموتى سأل ذلك ليرى ما أخبر به عن الله وهذا قول محمد بن اسحاق
قوله تعالى أو لم تؤمن أي أولست قد آمنت أني أحيي الموتى وقال ابن جبير ألم توقن بالخلة
قوله تعالى بلى ولكن ليطمئن قلبي اللام متعلقة بفعل مضمر تقديره ولكن سألتك ليطمئن أو أرني ليطمئن قلبي ثم في المعنى أربعة أقوال أحدها لأعلم انك تجيبني إذا دعوتك قاله ابن عباس والثاني ليزداد قلبي يقينا قاله سعيد بن جبير وقال الحسن كان إبراهيم موقنا ولكن ليس الخبر كالمعاينة والثالث ليطمئن قلبي بالخلة روي عن ابن جبير أيضا والرابع أنه كان قلبه متعلقا برؤية إحياء الموتى فأراد ليطمئن قلبه بالنظر قاله ابن قتيبة وقال غيره كنت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته يدل على أنه لم يسأل لشك أنه قال أرني كيف تحيي الموتى وما قال هل تحيي الموتى

قوله تعالى فخذ أربعة من الطير في الذي أخذ سبعة أقوال أحدها أنها الحمامة والديك والكركي والطاووس رواه عبد الله بن هبيرة عن ابن عباس والثاني أنها الطاووس والديك والدجاجة السندية والأوزة رواه الضحاك عن ابن عباس وفي لفظ آخر رواه الضحاك مكان الدجاجه السندية الرأل وهو فرخ النعام والثالث أنها الشعانين وكانت قرباهم يومئذ رواه أبو صالح عن ابن عباس والرابع أنها الطاووس والنسر والغراب والديك نقل عن ابن عباس أيضا والخامس أنها الديك والطاووس والغراب والحمام قاله عكرمة و مجاهد وعطاء وابن جريج وابن زيد والسادس أنها ديك وغراب وبط وطاووس رواه ليث عن مجاهد والسابع أنها الديك والبطة والغراب والحمامة قاله مقاتل وقال عطاء الخراساني اوحى الله إليه أن خذ بطة وغرابا أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمر
قوله تعالى فصرهن إليك قرأ الجمهور بضم الصاد والمعنى أملهن إليك يقال صرت الشيء فانصار أي أملته فمال وأنشدوا ... الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور ...
فمعنى الكلام اجمعهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا فيه إضمار قطعهن قال ابن قتيبة أضمر قطعهن واكتفى بقوله ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا عن قوله قطعهن لأنه يدل عليه وهذا كما تقول خذ هذا الثوب واجعل على كل رمح عندك منه علما يريد قطعه وافعل ذلك وقرأ أبو جعفر وحمزة وخلف

والمفضل عن عاصم فصرهن إليك بكسر الصاد قال اليزيدي هما واحد وقال ابن قتيبة الكسر والضم لغتان قال الفراء أكثر العرب على ضم الصاد وحدثني الكسائي أنه سمع بعض بني سليم يقول صرته فأنا أصيره وروي عن ابن عباس ووهب وابي مالك وابي الأسود الدؤلي والسدي أن معنى المكسورة الصاد قطعهن وروي عن أبي عبيدة أنه قال معناه بالضم اجمعهن وبالكسر قطعهن
قوله تعالى ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا قال الزجاج معناه اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا وروي عوف عن الحسن قال اذبحهن ونتفهن ثم قطعهن أعضاءا ثم خلط بينهن جميعا ثم جزئها أربعة أجزاء وضع على كل جبل جزءا ثم تنحى عنهن فدعاهن فجعل يعدو كل عضو الى صاحبه حتى استوين كما كن ثم أتينه يسعين وقال قتادة أمسك رؤوسها بيده فجعل العظم يذهب إلى العظم والريشة إلى الريشة والبضعة إلى البضعة وهو يرى ذلك ثم دعاهن قأقبلن على أرجلهن يلقي لكل طائر رأسه وفي عدد الجبال التي قسمن عليها قولان أحدهما أنه قسمهن على أربعة أجبل قاله ابن عباس والحسن وقتادة وروي عن ابن عباس قال جعلهن أربعة أجزاء في أرباع الارض كأنه يعني جهات الإنسان الأربع والثاني أنه قسمهن سبعة أجزاء على سبعة أجبل قاله ابن جريج والسدي
قوله تعالى ثم ادعهن يأتينك سعيا قال ابن قتيبة يقال عدوا ويقال مشيا على أرجلهن ولا يقال لطير إذا طار سعى واعلم أن الله عزيز أي منيع لا يغلب حكيم فيما يدبر ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له ولد وقبل نزول الصحف عليه وهو ابن خمس وسبعين سنة
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم

قوله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله حدثنا عن ثعلب أنه قال إنما المثل والله أعلم للنفقة لا للرجال ولكن العرب إذا دل المعنى على ما يريدون حذفوا مثل قوله تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل فأضمره الحب لأن المعنى معلوم فكذلك هاهنا أراد مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم ونحو هذا قوله تعالى و لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم آل عمران 18 يريد بخل الباخلين فحذف البخل وفي المراد ب سبيل الله قولان أحدهما أنه الجهاد والثاني أنه جميع ابواب البر قال أبو سليمان الدمشقي والآية مردودة على قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم وقد أعلم الله عز و جل بضرب هذا المثل أن الحسنة في النفقة في سبيله تضاعف بسبعمائة ضعف وقال الشعبي نفقة الرجل على نفسه وأهل بيته تضاعف سبعمائة ضعف قال ابن زيد والله يضاعف لمن يشاء أي يزيد على السبعمائة
والذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قوله تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله قال ابن السائب و مقاتل نزلت في عثمان بن عفان في نفقته في غزوة تبوك وشرائه بئر رومة ركية بالمدينة تصدق بها على المسلمين وفي عبد الرحمن بن عوف حين تصدق بأربعة آلاف درهم وكانت

نف ماله وأما المن ففيه قولان أحدها أنه المن على الفقير ومثل أن يقول قد أحسنت إليك ونعشتك وهو قول الجمهور والثاني أنه المن على الله بالصدقة روي عن ابن عباس فان قيل كيف مدحهم بترك المن ووصف نفسه بالمنان فالجواب أنه يقال من فلان على فلان إذا أنعم عليه فهذا الممدوح قال الشاعر ... فمني علينا بالسلام فانما ... كلامك ياقوت ودر منظم ...
أراد بالمن الإنعام وأما الوجه المذموم فهو أن يقال من فلان على فلان إذا استعظم ما أعطاه وافتخر بذلك قال الشاعر في ذلك ... أنلت قليلا ثم أسرعت منة ... فنيلك ممنون كذاك قليل ...
ذكر ذلك أبو بكر الانباري وفي الأذى قولان أحدهما أنه مواجهة الفقير بما يؤذيه مثل أن يقول له أنت أبدا فقير وقد بليت بك وأراحني الله منك والثاني

أن يخبر باحسانه إلى الفقير من يكره الفقير إطلاعه على ذلك وكلا القولين يؤذي الفقير وليس من صفة المخلصين في الصدقة ولقد حدثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت الرجل وعياله ثم يعتقهم جميعا ولا يتعرف اليهم ولا يخبرهم من هو
قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم
قوله تعالى قول معروف أي قول جميل للفقير مثل أن يقول له يوسع الله عليك ومغفرة أي يستر على المسلم خلته وفاقته وقيل أراد بالمغفرة التجاوز عن السائل إن استطال على المسؤول وقت رده خير من صدقة يتبعها أذى وقد سبق بيانه
يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين
قوله تعالى لا تبطلوا صدقاتكم أي لا تبطلوا ثوابها كما تبطل ثواب صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله وهو المنافق فمثله أي مثل نفقته كمثل صفوان قال ابن قتيبه الصفوان الحجر والوابل أشد المطر والصلد الأملس وقال الزجاج الصفوان الحجر الأملس وكذلك الصفا وقال ثعلب الصلد النقي وروي عن ابن عباس وقتادة فتركه صلدا قالا ليس عليه شيء وهذا مثل ضربه الله تعالى للمرائي بنفقته لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء مما أنفق
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فان لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير
قوله تعالى ومثل الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضاة الله أي طلبا لرضاه وفي معنى التثبيت قولان أحدهما أنه الإنفاق على يقين وتصديق وهذا قول الشعبي وقتادة

والسدي في آخرين والثاني أنه التثبيت لارتياد محل الإنفاق فهم ينظرون اين يضعونها وهذا قول الحسن و مجاهد وابي صالح
قوله تعالى كمثل جنة الجنة البستان وقرأ مجاهد وعاصم الجحدري حبة بالحاء والربوة ما ارتفع وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وحمزة والكسائي بربوة بضم الراء وقرأ عاصم وابن عامر بفتح الراء وقرأ الحسن والأعمش بكسر الراء وقرأ ابن عباس وابو رزين برباوة بزيادة ألف وفتح الراء وقرأ أبي بن كعب وعاصم الجحدري كذلك إلا أنهما ضما الراء وكذلك خلافهم في المؤمنين قال الزجاج يقال ربوة وربوة وربوة ورباوة والموضع المرتفع من الارض إذا كان له ما يرويه من الماء فهو أكثر ريعا من السفل وقال ابن قتيبة الربوة الارتفاع وكل شيء ارتفع وزاد فقد ربا ومنه الربا في البيع
قوله تعالى فآتت أكلها قرأ ابن كثير ونافع أكلها والأكل بسكون الكاف حيث وقع ووافقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مؤنث مثل أكلها دائم فأما ما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى مكنى مثل أكل خمط فثقله أبو عمرو وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي جيمع ذلك مثقلا وأكلها أي ثمرها ضعفين أي مثلين فأما الظل فقال ابن قتيبة هو أضعف المطر وقال الزجاج هو المطر الدائم الصغار القطر الذي لا تكاد تسيل منه المثاعب قال ثعلب وهذا لفظ مستقبل وهو لأمر ماض فمعناه فان لم يكن أصابها وابل فطل ومعنى هذا المثل أن صاحب

هذه الجنة لا يخيب فإنها إن أصابها الطل حسنت وإن أصابها الوابل أضعفت فكذلك نفقة المؤمن المخلص والبصير من أسماء الله تعالى معناه المبصر قال الخطابي وهو فعيل بمعنى مفعل كقولهم أليم بمعنى مؤلم
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون
قوله تعالى أيود أحدكم هذه الآية متصلة بقوله تعالى لا تبطلوا صدقاتكم ومعنى أيود أيحب و إنما ذكر النخيل والأعناب لأنهما من أنفس ما يكون في البساتين وخص ذلك بالكبير لأنه قد يئس من سعي الشباب في اكسابهم
قوله تعالى وله ذرية ضعفاء أي ضعاف و إذا ضعفت الذرية كان أحنى عليهم وأكثر إشفاقا فأصابها يعني الجنة إعصار وهي ريح شديدة تهب بشدة فترفع إلى السماء ترابا كانه عمود
قال الشاعر ... إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا ...
أي لاقيت أشد منك فان قيل كيف جاز في الكلام أن يكون له جنة فأصابها ولم يقل فيصيبها أفيجوز أن يقال أتود أن يصيب مالا فضاع والمراد فيضيع فالجواب أن ذلك جائز في وددت لأن العرب تلقاها مرة أن ومرة لو

فيقولون وددت لو ذهبت عنا وددت أن تذهب عنا قاله الفراء وثعلب
فصل
وهذا الآية مثل ضربه الله تعالى في الحسرة بسلب النعمة عند شدة الحاجة وفيمن قصد به ثلاثة أقوال أحدها أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره قاله ابن عباس والثاني أنه مثل للمفرط في طاعة الله تعالى حتى يموت قاله مجاهد والثالث أنه مثل للمرائي في النفقة ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه قاله السدي
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما اخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم في سبب نزولها قولان أحدهما أن الأنصار كانوا إذا جذوا النخل جاء كل رجل بشيء من ذلك فعلقه في المسجد فيأكل منه فقراء المهاجرين وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو فيه الحشف والشيص

فيعلقه فنزلت هذه الآية هذا قول البراء بن عازب والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بزكاة الفطر فجاء رجل بتمر رديء فنزلت هذه الآية هذا قول جابر بن عبد الله وفي المراد بهذه النفقة قولان أحدهما أنها الصدقة المفروضة قاله عبيدة السلماني في آخرين والثاني أنها التطوع وفي المراد بالطيب هاهنا قولان أحدهما أنه الجيد الأنفس قاله ابن عباس والثاني أنه الحلال قاله أبو معقل في آخرين
قوله تعالى ولا تيمموا أي لا تقصدوا والتيمم في اللغة القصد قال ميمون ابن قيس الأعشى ... تيممت قيسا وكم دونه ... من الارض من مهمه ذي شزن ...
وفي الخبيث قولان أحدهما أنه الرديء قاله الأكثرون وسبب الآية يدل عليه والثاني أنه الحرام قاله ابن زيد
قوله تعالى ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه قال ابن عباس لو كان بعضكم يطلب من بعض حقا له ثم قضاه ذلك ولم يأخذه إلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض

حقه وقال ابن قتيبة أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء ويغمضه فسمي الترخص إغماضا ومنه قول الناس للبائع أغمض أي لا تشخص وكن كأنك لا تبصر وقال غيره لما كان الرجل إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى جميع ما يكره جعل التجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضا
قوله تعالى واعلموا أن الله غني قال الزجاج لم يأمركم بالتصدق عن عوز لكنه بلا أخباركم فهو حميد على ذلك يقال قد غني زيد يغنى غنى مقصورا إذا استغنى وقد غني القوم إذا نزلوا في مكان يغنيهم والمكان الذي ينزلون فيه مغنى والغواني النساء قيل إنما سمين بذلك لأنهن غنين بجمالهن وقيل بأزواجهن فأما الحميد فقال الخطابي هو بمعنى المحمود فعيل بمعنى مفعول
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم
قوله تعالى الشيطان يعدكم الفقر قال الزجاج يقال وعدته أعده وعدا وعدة وموعدا وموعدة وموعودا ويقال الفقر والفقر ومعنى الكلام يحملكم على أن تؤدوا في الصدقات الرديء يخوفكم الفقر بإعطاء الجيد ومعنى يعدكم الفقر أي بالفقر وحذفت الباء قال الشاعر ... أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب ...
وفي الفحشاء قولان أحدهما البخل والثاني المعاصي قال ابن عباس والله يعدكم مفغرة لفحشائكم وفضلا في الرزق

يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب
قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء في المراد بهذه الحكمة احد عشر قولا أحدها أنها القرآن قاله ابن مسعود و مجاهد و الضحاك و مقاتل في آخرين والثاني معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره ونحو ذلك رواه على بن ابي طلحة عن ابن عباس والثالث النبوة رواه أبو صالح عن ابن عباس والرابع الفهم في القرآن قاله أبوالعالية وقتادة و إبراهيم والخامس العلم والفقه رواه ليث عن مجاهد والسادس الإصابه في القول رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد والسابع الورع في دين الله قاله الحسن والثامن الخشية لله قاله الربيع بن أنس والتاسع العقل في الدين قاله ابن زيد والعاشر الفهم قاله شريك والحادي عشر العلم والعمل لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا جمعهما قاله ابن قتيبة
قوله تعالى ومن يؤت الحكمة قرأ يعقوب بكسر تاء يؤت ووقف عليها بهاء والمعنى ومن يؤته الله الحكمة وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء
قوله تعالى وما يذكر قال الزجاج أي وما يتفكر فكرا يذكره به ما قص من آيات القرآن إلا ذوو العقول قال ابن قتيبة أولو بمعنى ذوو وواحد اولو ذو وأولات ذات
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه وما للظالمين من أنصار
قوله تعالى أو نذرتم من نذر النذر ما اوجبه الإنسان على نفسه وقد يكون مطلقا ويكون معلقا بشرط فان الله يعلمه قال مجاهد يحصيه وقال الزجاج يجازى عليه وفي المراد بالظالمين هاهنا قولان أحدهما انهم المشركون قاله مقاتل الثاني

المنفقون بالمن والأذى والرياء والمنذرون في المعصية قاله أبو سليمان الدمشقي والأنصار المانعون فمعناه مالهم مانع يمنعهم من عذاب الله
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعلمون خبير
قوله تعالى إن تبدوا الصدقات فنعما هي قال ابن السائب لما نزل قوله تعالى وما أنفقتم من نفقة قالوا يا رسول الله صدقة السر أفضل أم العلانية فنزلت هذه الآية قال الزجاج يقال بدا الشيء يبدو إذا ظهر وأبديته إبداء إذا أظهرته وبدا لي بداء إذا تغير رأيي عما كان عليه
قوله تعالى فنعما هي في نعم اربع لغات نعم بفتح النون وكسر العين مثل علم ونعم بكسرها ونعم بفتح النون وتسكين العين ونعم بكسر النون وتسكين العين وأما قوله فنعما هي فقرا نافع في غير رواية ورش وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل فنعما بكسر النون والعين ساكنة وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص ونافع في رواية ورش ويعقوب بكسر النون والعين وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف فنعما بفتح النون وكسر العين وكلهم شددوا الميم وكذلك خلافهم في سورة النساء قال الزجاج ما في تأويل الشيء أي فنعم الشيء هي وقال أبو علي نعم الشيء إبداؤها وقوله تعالى فهو خير لكم يعني الإخفاء واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها وفي الفريضة قولان أحدهما أن إظهارها

أفضل قاله ابن عباس في آخرين واختاره القاضي أبو يعلى وقال الزجاج كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن فأما اليوم فالناس يسيؤون الظن فاظهارها أحسن والثاني إخفاؤها أفضل قاله الحسن وقتادة و يزيد بن أبي حبيب وقد حمل أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة وحملوا وإن تخفوها على النافلة وهذا قول عجيب و إنما فضلت صدقة السر لمعنيين أحدهما يرجع إلى المعطي وهو بعده عن الرياء وقربه من الإخلاص والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية والثاني يرجع إلى المعطى وهو دفع الذل عنه باخفاء الحال لأنه في العلانية ينكسر
قوله تعالى ويكفر عنكم من سيئاتكم قرأ ابن كثير و أبو عمر وابو بكر عن عاصم ونكفر عنك بالنون والرفع والمعنى ونحن نكفر عنكم ويجوز أن يكون مستأنفا وقرأ نافع وحمزة والكسائي ونكفر بالنون وجزم الراء قال أبو علي وهذا على حمل الكلام على موضع قوله فهو خير لكم لأن قوله فهو خير لكم في موضع جزم ألا ترى أنه لو قال وإن تخفوها يكون أعظم لأجركم لجزم ومثله لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن المنافقون 10 حمل قوله و أكن على موضع فأصدق وقرأ ابن عامر ويكفر بالياء والرفع وكذلك عن حفص عن عاصم على الكناية عن الله عز و جل وقرأ أبان عن عاصم وتكفر بالتاء المرفوعة وفتح الفاء مع تسكين الراء
قوله تعالى من سيئاتكم في من قولان أحدهما أنها زائدة والثاني أنها داخلة للتبعيض قال أبو سليمان الدمشقي ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون

قوله تعالى ليس عليك هداهم في سبب نزولها قولان أحدهما أن المسلمين كرهوا أن يتصدقوا على أقربائهم من المشركين فنزلت هذه الآية هذا قول الجمهور والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن جبير والخير في الآية اريد به المال قاله ابن عباس و مقاتل ومعنى فلأنفسكم أي فلكم ثوابه
قوله تعالى وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله قال الزجاج هذا خاص للمؤمنين أعلمهم الله أنه قد علم أن مرادهم ما عنده و إذا أعلمهم بصحة قصدهم فقد أعلمهم بالجزاء عليه
قوله تعالى يوف إليكم أي توفون أجره ومعنى الآية ليس عليك أن يهتدوا فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام فان تصدقتم عليهم أثبتم و الآية محمولة على صدقة التطوع إذ لا تجوز أن يعطى الكافر من الصدقة المفروضة شيئا
للفقراء الذين احصورا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فان الله به عليم
قوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لما حثهم على الصدقات والنفقات دلهم على خير تصدق عليه وقد تقدم تفسير الإحصار عند قوله فان أحصرتم البقرة11 وفي المراد ب الذين أحصروا أربعة أقوال أحدها انهم أهل الصفة حبسوا انفسهم على طاعة الله ولم يكن لهم شيء قاله ابن عباس و مقاتل والثاني انهم فقراء المهاجرين قاله مجاهد

والثالث انهم قوم حبسوا انفسهم على الغزو فلا يقدرون على الاكتساب قاله قتادة والرابع انهم قوم أصابتهم جراحات مع النبي صلى الله عليه و سلم فصاروا زمنى قاله سعيد بن جبير واختاره الكسائي وقال أحصروا من المرض ولو أراد الحبس لقال حصروا و إنما الإحصار من الخوف أو المرض والحصر الحبس في غيرهما وفي سبيل الله قولان أحدهما أنه الجهاد والثاني الطاعة وفي الضرب في الارض قولان أحدهما أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم نقل عن ابن عباس والثاني الكسب قاله قتادة وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال أحدها الفقر قاله ابن عباس والثاني أمراضهم قاله ابن جبير و ابن زيد والثالث التزامهم بالجهاد قاله الزجاج
قوله تعالى يحسبهم الجاهل قرأ ابن كثير ونافع و أبو عمرو والكسائي يحسبهم و يحسبن بكسر السين في جميع القرآن وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وابو جعفر بفتح السين في الكل قاله أبو علي فتح السين أقيس لأن الماضي إذا كان على فعل نحو حسب كان المضارع على يفعل مثل فرق يفرق وشرب يشرب والكسر حسن لموضع السمع قاله ابن قتيبة لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخبر فكأنه قال يحسبهم من لا يخبر أمرهم والتعفف ترك السؤال يقال عف عن الشيء وتعفف والسيما العلامة التي يعرف بها الشيء وأصله من السمة وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال أحدها تجملهم قاله ابن عباس والثاني خشوعهم قاله مجاهد والثالث أثر الفقر عليهم قاله السدي والربيع بن أنس وهذا يدل على أن للسيما حكما يتعلق بها قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار

الحرب ولا يعرف أمره ينظر إلى سيماه فان كان عليه سيما الكفار من عدم الختان حكم له بحكمهم فلم يدفن في مقابر المسلمين ولم يصل عليه و إن كان عليه سيما المسلمين حكم هل بحكمهم وأما الإلحاف فهو الإلحاح قال ابن قتيبة يقال ألحف في المسألة إذا ألح وقال الزجاج معنى ألحف شمل بالمسألة ومنه اشتقاق اللحاف لأنه يشمل الانسان بالتغطية فان قيل فهل كانوا يسألون غير ملحفين فالجواب أن لا و إنما معنى الكلام أنه لم يكن منهم سؤال فيكون إلحاف
قال الأعشى ... لا يغمز الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر ...
معناه ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزها لذلك قال الفراء ومثله أن تقول قلما رأيت مثل هذا الرجل ولعلك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه فهم لا يسألون الناس إلحافا ولا غير إلحاف و إلى نحو هذا ذهب الزجاج و ابن الأنباري في آخرين
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال أحدها أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله عز و جل رواه حنش الصنعاني عن ابن عباس

وهو قول أبي الدرداء و ابي أمامه ومكحول والأوزاعي في آخرين والثاني نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه فانه كان معه أربعة دراهم فأنفق في الليل درهما وبالنهار درهما وفي السر درهما وفي العلانية درهما رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال مجاهد و ابن السائب و مقاتل والثالث أنها نزلت في علي وعبد الرحمن بن عوف فان عليا بعث بوسق من تمر إلى أهل الصفة ليلا وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهارا رواه الضحاك عن ابن عباس
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
قوله تعالى الذين يأكلون الربا الربا أصله في اللغة الزيادة ومنه الربوة والرابية و أربى فلان على فلان زاد وهذا الوعيد يشمل الآكل والعامل به و إنما خص الآكل بالذكر لأنه معظم المقصود وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه
قوله تعالى لا يقومون قال ابن قتيبة أي يوم البعث من القبور والمس الجنون يقال رجل ممسوس فالناس إذا خرجوا من قبورهم اسرعوا كما قال تعالى يوم يخرجون من الأجداث سراعا المعارج 43 إلا أكله الربا فانهم يقومون ويسقطون لأن الله أربى الربا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإسراع وقال سعيد بن جبير تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة

قوله تعالى ذلك أي هذا الذي ذكر من عقابهم بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وقيل إن ثقيفا كانوا اكثر العرب ربا فلما نهوا عنه قالوا إنما هو مثل البيع
قوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه قال الزجاج كل تأنيث ليس بحقيقي فتذكيره جائز ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبران عن معنى واحد
قوله تعالى فله ما سلف أي ما أكل من الربا
وفي قوله تعالى وأمره إلى الله قولان أحدهما أن الهاء ترجع إلى المربي فتقديره إن شاء عصمه منه وإن شاء لم يفعل قاله سعيد بن جبير و مقاتل والثاني أنها ترجع إلى الربا فمعناه يعفو الله عما شاء منه ويعاقب على ما شاء منه قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى ومن عاد قاله ابن جبير من عاد إلى الربا مستحلا محتجا بقوله تعالى إنما البيع مثل الربا
يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قوله تعالى يمحق الله الربا فيه قولان أحدهما أن معنى محقه تنقيصه واضمحلاله ومنع محاق الشهر لنقصان الهلال فيه روي هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير والثاني أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها رواه الضحاك عن ابن عباس
قوله تعالى ويربي الصدقات قال ابن جبير يضاعفها والكفار الذي يكثر فعل ما يكفر به والأثيم المتمادي في ارتكاب الإثم المصر عليه

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا في نزولها ثلاثة أقوال أحدها أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف وفي بني المغيرة من بني مخزوم وكان بنو المغيرة يأخذون الربا من ثقيف فلما وضع الله الربا طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم فنزلت هذه الآية والتي بعدها هذا قول ابن عباس والثاني أنها نزلت في عثمان بن عفان والعباس كانا قد أسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال صاحب التمر إن أخذتما مالكما لم يبق لي ولعيالي ما يكفي فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعف لكما ففعلا فلما حل الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فنهاهما فنزلت هذه الآية هذا قول عطاء وعكرمة والثالث أنها نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية وكانا يسلفان في الربا فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه و سلم ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس هذا قول السدي قال ابن عباس وعكرمة والضحاك إنما قال ما بقي من الربا لأن كل ربا كان قد ترك فلم يبق إلا ربا ثقيف وقال قوم الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه وقبض بعضه في كفره ثم أسلم فيجب عليه أن يترك ما بقي ويعفى له عما مضى فأما المراباة بعد الإسلام فمردوده فيما قبض ويسقط ما بقي

فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون
قوله تعالى فان لم تفعلوا فأذنوا قرأ ابن كثير ونافع و أبو عمرو وابن عامر فأذنوا مقصورة مفتوحة الذال وقرأ حمزة و أبو بكر عن عاصم فآذنوا بمد الألف وكسر الذال قال الزجاج من قرأ فأذنوا بقصر الألف وفتح الذال فالمعنى أيقنوا ومن قرأ بمد الألف وكسر الذال فمعناه أعلموا كل من لم يترك الربا أنه حرب قال ابن عباس يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب

قوله تعالى و إن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون أي التي أقرضتموها لا تظلمون فتأخذون أكثر منها ولا تظلمون فتنقصون منها والجمهور على فتح تاء تظلمون الأولى وضم تاء تظلمون الثانية وروى المفضل عن عاصم ضم الأولى وفتح الثانية
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة و أن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون
قوله تعالى و إن كان ذو عسرة ذكر ابن السائب و مقاتل أنه لم نزل قوله تعالى وذروا ما بقي من الربا قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة هاتوا رؤوس أموالنا وندع لكم الربا فشكا بنو المغيرة العسرة فنزلت هذا الآية فأما العسرة فهي الفقر والضيق والجمهور على تسكين السين وضمها أبو جعفر هاهنا وفي ساعة العسرة وقرأ الجمهور بفتح سين الميسرة وضمها نافع وتابعه زيد عن يعقوب على ضم السين إلا أنه زاد فكسر الراء وقلب التاء هاء ووصلها بباء قال الزجاج ومعنى و إن كان وإن وقع والنظرة التأخير فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الربا إذا كان المطالب معسرا وأعلمهم أن الصدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى وان تصدقوا والأكثرون على تشديد الصاد وخففها عاصم مع تشديد الدال وسكنها ابن أبي عبلة مع ضم الدال فجعله من الصدق
وإن كان ذو عسرة فنظره إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون
قوله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله قرأ أبو عمرو بفتح تاء ترجعون وضمها الباقون قاله ابن عباس و أبو سعيد الخدري وسعيد بن جبير وعطية و مقاتل في آخرين هذه آخر آية نزلت من القرآن قال ابن عباس وتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم بعدها بأحد وثمانين

يوما وقال ابن جريج توفي بعدها بتسع ليال وقال مقاتل بسبع ليال قوله تعالى ثم توفي كل نفس ما كسبت أي تعطى جزاء ما كسبت
يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فان كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فانه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين قال الزجاج يقال داينت الرجل إذا عاملته فأخذت منه بدين وأعطيته
قال الشاعر ... داينت أروى والديون تقضى ... فماطلت بعضا وأدت بعضا ...
والمعنى إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى فاكتبوه فأمر الله تعالى بكتابة الدين وبالإشهاد حفظا منه للأموال وللناس من الظلم لأن من كانت عليه البينة قل تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في السلم خاصة فان قيل ما الفائدة في قوله بدين وتداينتم يكفي عنه فالجواب أن تداينتم يقع على معنيين أحدهما المشاراة والمبايعة والإقراض والثاني المجازاة بالأفعال فالأول يقال فيه الدين بفتح الدال والثاني يقال منه الدين بكسر الدال قال تعالى يسألون أيان يوم القيامة الذاريات12 أي يوم الجزاء
وأنشدوا ... دناهم كما دانوا

فدل قوله بدين على المراد بقوله تداينتم ذكره ابن الأنباري فأما العدل فهو الحق قال قتادة لا تدعن حقا ولا تزيدن باطلا
قوله تعالى ولا يأب كاتب أي يمتنع أن يكتب كما علمه الله وفيه قولان أحدهما كما علمه الله الكتابة قاله سعيد بن جبير وقال الشعبي الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد والثاني كما أمره الله به الحق قاله الزجاج
قوله تعالى وليملل الذي عليه الحق قال سعيد بن جبير يعني المطلوب يقول ليمل ما عليه من حق الطالب على الكاتب ولا يبخس منه شيئا أي لا ينقص عند الإملاء قال شيخنا أبو منصور اللغوي يقال أمللت أمل وأمليت أملي لغتان فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال لأن المحل يطيل قوله على الكاتب ويكرره
قوله تعالى فان كان الذي عليه الحق سفيها في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال أحدها أنه الجاهل بالأموال والجاهل بالإملاء قاله مجاهد وابن جبير والثاني أنه الصبي والمرأة قاله الحسن والثالث أنه الصغير قاله الضحاك والسدي والرابع أنه المبذر قاله القاضي أبو يعلى وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال أحدها أنه العاجر والأخرس ومن به حمق قاله ابن عباس وابن جبير والثاني أنه الأحمق قاله مجاهد والسدي والثالث أنه الصغير قاله القاضي أبو يعلى
قوله تعالى أو لا يستطيع أن يمل هو قاله ابن عباس لا يستطيع لعيه وقال ابن جبير لا يحسن أن يمل ما عليه وقال القاضي أبو يعلى هو المجنون
قوله تعالى فليملل وليه في هاء الكناية قولان أحدها أنها تعود إلى الحق فتقديره فليملل ولي الحق هذا قول ابن عباس وابن جبير والربيع بن أنس و مقاتل

واختاره ابن قتيبة والثاني أنها تعود إلى الذي عليه الحق وهذا قول الضحاك وابن زيد واختاره الزجاج وعاب قول الأولين فقال كيف يقبل قول المدعي وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد والقول قوله وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضا والعدل الإنصاف وقي قوله تعالى من رجالكم قولان أحدهما أنه يعني الأحرار قاله مجاهد والثاني أهل الإسلام وهذا اختيار الزجاج والقاضي أبي يعلى ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية
قوله تعالى فان لم يكونا رجلين أراد فان لم يكن الشهيدان رجلين فرجل وامرأتان ولم يرد به إن لم يوجد رجلان
قوله تعالى ممن ترضون من الشهداء قال ابن عباس من أهل الفضل والدين قوله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ذكر الزجاج أن الخليل وسيبويه وسائر النحويين الموثوق بعلمهم قالوا معناه استشهدوا امرأتين لأن تذكر إحداهما الأخرى ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى وقرأ حمزة إن تضل بكسر الألف والضلال هاهنا النسيان قاله ابن عباس و الضحاك والسدي والربيع و مقاتل و أبو عبيدة و ابن قتيبة وأما قوله فتذكر فقرأ ابن كثير و أبو عمرو بالتخفيف مع نصب الراء وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف وقرأ الباقون بالنصب وتشديد الكاف فمن شدد أراد الإدكار عند النسيان وفي قراءة من خفف قولان أحدهما أنها بمعنى المشددة أيضا وهذا قول الجمهور قال الضحاك والربيع بن أنس والسدي ومعنى القراءتين واحد والثاني أنها بمعنى تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر وهذا مذهب سفيان بن عيينة وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه واختاره القاضي أبو يعلى وقد رده جماعة منهم ابن قتيبة قال أبو علي ليس مذهب ابن عيينة بالقوي لأنهن لو بلغن ما بلغن لم تجز شاهدتهن إلا أن يكون معهن رجل ولأن الضلال هاهنا النسيان فينبغي أن يقابل بما يعادله وهو التذكير

قوله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا قال قتادة كان الرجل يطوف في الحواء العظيم فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه منهم احد فنزلت هذه الآية و إلى ماذا يكون هذا الدعاء فيه ثلاثة أقوال أحدها إلى تحمل الشهادة و إثباتها في الكتاب قاله ابن عباس وعطية وقتادة والربيع والثاني إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها قاله سعيد بن جبير وطاووس و مجاهد وعكرمة وعطاء والشعبي وأبو مجلز و الضحاك وابن زيد ورواه الميموني عن أحمد ابن حنبل والثالث إلى تحملها و إلى أدائها روي عن ابن عباس والحسن واختاره الزجاج قال القاضي أبو يعلى إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره فأما إن كان قد تحملها جماعة لم تتعين عليه وكذلك في حال تحملها لأنه فرض على الكفاية كالجهاد فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه
قوله تعالى ولا تسأموا أي لا تملوا وتضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله أي إلى محل أجله ذلكم أقسط عند الله أي أعدل وأقوم للشاهدة لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا عليه وأدنى أي أقرب ألا ترتابوا أي لا تشكوا إلا أن تكون الأموال تجارة أي إلا أن تقع تجارة وقرأ عاصم تجارة بالنصب على معنى إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل فأباح ترك الكتاب فيها توسعة لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول أو مشروب
قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه

فصل
وهذا الآية تتضمن الأمر باثبات الدين في كتاب وإثبات شهادة في البيع والدين واختلف العلماء هل هذا أمر وجوب أم على وجه الاستحباب فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب فعلى هذا هو محكم وذهبت طائفة إلى أن الكتاب والإشهاد واجبان روي عن ابن عمر وابي موسى و مجاهد وابن سيرين وعطاء و الضحاك و أبي قلابة والحكم وابن زيد ثم اختلف هؤلاء هل هذا الحكم باق أم منسوخ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته
قوله تعالى ولا يضار كاتب ولا شهيد قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من يضار وسكونها وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال أحدها أن معناه لا يضار بأن يدعي وهو

مشغول هذا قول ابن عباس و مجاهد وعكرمة والسدي والربيع بن أنس والفراء و مقاتل وقال الربيع كان احدهم يجيء إلى الكاتب فيقول اكتب لي فيقول إني مشغول فيلزمه ويقول إنك قد أمرت بالكتابه فيضاره ولا يدعه وهو يجد غيره وكذلك يفعل الشاهد فنزلت ولا يضار كاتب ولا شهيد والثاني أن معناه النهي للكاتب أن يضار من يكتب له بان يكتب غير ما يمل عليه وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه هذا قول الحسن وطاووس وقتادة وابن زيد واختاره ابن قتيبة و الزجاج واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى وإن تفعلوا فانه فسوق بكم قال ولا يسمى من دعا كاتبا ليكتب وهو مشغول أو شاهد فاسقا إنما يسمى من حرف الكتاب أو كذب في الشهادة فاسقا والثالث أن معنى المضارة امتناع الكاتب أن يكتب والشهادة أن يشهد وهذا قول عطاء في آخرين
قوله تعالى وإن تفعلوا يعني المضارة
وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم
قوله تعالى وإن كنتم على سفر إنما خص السفر لأن الأغلب عدم الكاتب والشاهد فيه ومقصود الكلام إذا عدمتم التوثق بالكتاب والاشهاد فخذوا الرهن
قوله تعالى فرهان قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعبد الوارث فرهن بضم الراء والهاء من غير ألف وأسكن الهاء عبد الوارث ووجهه التخفيف وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزه والكسائي فرهان بكسر الراء وفتح الهاء وإثبات

الألف قال ابن قتيبة من قرأ فرهان أراد جمع رهن ومن قرأ فرهن أراد جمع رهان فكأنه جمع الجمع
قوله تعالى مقبوضة يدل على أن من شرط لزوم الرهن القبض وقبض الرهن أخذه من راهنه منقولا فان كان مما لا ينقل كالدور والأرضين فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه
قوله تعالى فان أمن بعضكم بعضا أي فان وثق رب الدين بأمانة الغريم فدفع ماله بغير كتاب ولا شهود ولا رهن فليؤد الذي اؤتمن وهو المدين أمانته وليتق الله ربه أن يخون من ائتمنه
قوله تعالى فانه آثم قلبه قال السدي عن أشياخه فانه فاجر قلبه قال القاضي أبو يعلى إنما أضاف الإثم إلى القلب لأن المآثم تتعلق بعقد القلب وكتمان الشهادة إنما هو قد النية لترك أدائها
لله ما في السموات وما في الارض و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه بحاسبكم به الله فيفغر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير
قوله تعالى وإن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اما إبداء ما في النفس فانه العمل بما أضمره العبد أو النطق وهذا مما يحاسب عليه العبد ويؤاخذ به وأما ما يخفيفه في نفسه فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين أحدهما أنه عام في جميع المخفيات وهو قول الاكثرين واختلفوا هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذه أم منسوخ على قولين أحدهما أنه منسوخ بقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها البقرة 286 هذا قول ابن مسعود و أبي هريرة وابن عباس في رواية والحسن والشعبي وابن سيرين

وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد و مقاتل والثاني أنه ثابت في المؤاخذه على العموم فيؤاخذ به من يشاء ويغفره لمن يشاء وهذا مروي عن ابن عمر والحسن واختاره أبو سليمان الدمشقي والقاضي أبو يعلى وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال هذه الآية لم تنسخ ولكن الله عز و جل إذا جمع الخلائق يقول لهم اني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفرلهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله تعالى يحسابكم به الله يقول يخبركم به الله و أما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله تعالى فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء

والأكثرون على تسكين راء فيغفر وباء يعذب منهم ابن كثير ونافع وابو عمرو وحمزة والكسائي و إنما جزموا لإتباع هذا ما قبله وهو يحاسبكم وقرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم ويعقوب برفع الراء والباء فيهما فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأول قال ابن الأنباري وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله العبد يوم القيامة على ما كان حدث به نفسه في الدنيا ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء قال والذي نختاره أن تكون الآية محكمة لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي وقد روي عن عائشة أنها قالت أما ما أعلنت فالله يحاسبك به وأما ما أخفيت فما عجلت لك به العقوبة في الدنيا والقول الثاني أنه أمر خاص في نوع من المخفيات ولأرباب هذا القول فيه قولان أحدهما أنه كتمان الشهادة قاله ابن عباس في روايه وعكرمة والشعبي والثاني أنه الشك واليقين قاله مجاهد فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكتة وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير
قوله تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه قال أبو بكر النقاش معناه كفتاه عن قيام الليل

وقيل إنهما نزلتا على سبب وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال لما أنزل اله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحسابكم به الله اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم جثوا على الركب فقالوا قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها آمن الرسول قال الزجاج لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ختمها بتصديق نبيه والمؤمنين وقرأ ابن ابن عباس وكتابه فقيل له في ذلك فقال كتاب أكثر من كتب ذهب به إلى اسم الجنس كما تقول كثر الدرهم في أيدي الناس وقد وافق ابن عباس وفي قراءته حمزة والكسائي وخلف وكذلك في التحريم وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وكتبه هاهنا بالجمع وفي التحريم بالتوحيد وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين
قوله تعالى لا نفرق بين أحد من رسله قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنى على حرفين مثل رسلنا و رسلكم باسكان السين وثقل ما عدا ذلك وعنه في قوله تعالى على رسلك روايتان التخفيف والتثقيف وقرأ الباقون كل ما في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل ومعنى قوله لا نفرق بين احد من رسله أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب آمنوا ببعض وكفروا ببعض وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء وفتح الراء
قوله تعالى غفرانك أي نسألك غفرانك والمصير المرجع

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين
قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الوسع الطاقة قاله ابن عباس وقتادة ومعناه لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته كتكليف الزمن السعي والأعمى النظر فأما تكليف ما يستحيل من المكلف لالفقد الآلات فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان فالآية محمولة على القول الأول ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية ربنا لا تحملنا مالا طاقة لنا به فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعا كان السؤال عبثا وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم وان تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا الكهف 57 وقال ابن الأنباري المعنى لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وان كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه فخاطب العرب على حسب ما تعقل فان الرجل منهم يقول للجل يبغضه ما أطيق النظر إليك وهو مطيق لذلك لكنه يثقل عليه ومثله قوله تعالى ما كانوا يستطيعون السمع
قوله تعالى لها ما كسبت قال ابن عباس لها ما كسبت من طاعة وعليها ما اكتسبت من معصية قال أبو بكر النقاش فقوله لها دليل على الخير و عليها دليل على الشر وقد ذهب قوم إلى أن كسبت لمرة ومرات و اكتسبت لا يكون إلا لشيء بعد شيء وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد كقوله عز و جل فمهل الكافرين أمهلهم رويدا الطارق 17
قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا هذا تعليم من الله للخلق أن يقولوا ذلك قال ابن

الأنباري والمراد بالنسيان هاهنا الترك مع العمد لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته والخطأ أيضا هاهنا من جهة العمد لا من جهة السهو يقال أخطأ الرجل إذا تعمد كما يقال أخطأ إذا غفل وفي الإصر قولان أحدهما أنه العهد قاله ابن عباس و مجاهد و الضحاك والسدي و الثاني الثقل أي لا تثقل علينا من الفروض ما ثقلته على بني اسرائيل قاله ابن قتيبة
قوله تعالى ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به فيه خمسة أقوال أحدهما أنه ما يصعب ويشق من الأعمال قاله الضحاك والسدي وابن زيد والجمهور والثاني أنه المحبة

رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم والثالث الغلمة قاله مكحول والرابع حديث النفس ووساوسها والخامس عذاب النار
قوله تعالى أنت مولانا أي أنت ولينا فانصرنا أي أعنا وكان معاذ إذا فرغ من هذه السورة قال آمين

سورة آل عمران
ذكر أهل التفسير أنها مدنية و أن صدرا من اولها نزل في وفد نجران قدموا النبي صلى الله عليه و سلم في ستين راكبا فيهم العاقب والسيد فخاصموه في عيسى فقالوا إن لم يكن ولد الله فمن أبوه فنزلت فيهم صدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها
بسم الله الرحمن الرحيم
آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه و أنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفقران
قوله تعالى نزل عليك الكتاب يعني القرآن بالحق يعني العدل مصدقا لما بين يديه من الكتب وقيل إنما قال في القرآن نزل بالتشديد وفي التوراة والانجيل أنزل لأن كل واحد منهما أنزل في مرة واحدة و أنزل القرآن في مرات كثيرة فأما التوراة فذكر ابن قتيبة عن الفراء أنه يجلعها من وري الزند يرى إذا خرجت ناره وأوريته يريد أنها ضياء قال ابن قتيبة وفيه لغة اخرى ورى يري ويقال وريت بك زنادي والانجيل من نجلت الشيء إذا أخرجته وولد الرجل نجله كأنه هو استخرجه يقال قبح الله ناجليه أي والديه وقيل للماء يقطر من البئر نجل يقال قد استنجل الوادي إذا ظهر نزوزه وإنجيل إفعيل من ذلك كأن الله أظهر به عافيا من الحق دارسا قال شيخنا أبو منصور اللغوي والانجيل أعجمي معرب قاله وقال بعضهم إن كان عربيا فاشتقاقه من النجل وهو ظهور الماء على وجه الارض واتساعه ونجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم وقيل هو إفعيل من النجل وهو الأصل فالإنجيل أصل لعلوم وحكم وفي الفرقان

هاهنا قولان أحدهما أنه القرآن قاله قتادة والجمهور قال أبو عبيدة سمي القرآن فرقانا لأنه فرق بين الحق والباطل والمؤمن والكافر والثاني أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه قاله أبو سليمان الدمشقي وقال السدي في الآية تقديم وتأخير تقديره وأنزل التوراة والانجيل والفقران فيه هدى للناس
إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام
قوله تعالى إن الذين كفروا بآيات الله قال ابن عباس يريد وفد نجران النصارى كفروا بالقرآن وبمحمد والانتقام المبالغة في العقوبة
إن الله لايخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم
قوله تعالى إن الله لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء قال أبو سليمان الدمشقي هذا تعريض بنصارى أهل نجران فيما كانوا ينطوون عليه من كيد النبي صلى الله عليه و سلم وذكر التصوير في الأرحام تنبيه على أمر عيسى
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ريتا وما يذكر إلا أولو الألباب
قوله تعالى منه آيات محكمات المحكم المتقن المبين وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال أحدها أنه الناسخ قاله ابن مسعود و ابن عباس وقتادة والسدي في آخرين والثاني أنه الحلال والحرم روي عن ابن عباس و مجاهد والثالث أنه ما علم العلماء تأويله روي عن جابر بن عبد الله والرابع أنه الذي لم ينسخ قاله الضحاك والخامس أنه مالم تتكرر ألفاظه قاله ابن زيد والسادس أنه ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان ذكره

القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد وقال الشافعي و ابن الأنباري هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والسابع أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة والثامن أنه الامر والنهي والوعد والوعيد والحلال والحرام ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى و أم الكتاب أصله قاله ابن عباس وابن جبير فكأنه قال هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الاحكام ومجمع الحلال والحرام وفي المتشابه سبعة أقوال أحدها أنه المنسوخ قاله ابن مسعود و ابن عباس وقتادة والسدي في آخرين والثاني أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل كقيام الساعة روي عن جابر بن عبد الله والثالث أنه الحروف المقطعة كقوله ألم ونحو ذلك قاله ابن عباس والرابع أنه ما اشتبهت معانيه قاله مجاهد والخامس أنه ما تكررت ألفاظه قاله ابن زيد والسادس أنه ما احتمل من التأويل وجوها وقال ابن الأنباري المحكم ما لا يحتمل التأويلات ولا يخفى على مميز والمتشابه الذي تعتوره تأويلات والسابع أنه القصص والأمثال ذكره القاضي أبو يعلى فإن قيل فما فائدة إنزال المتشابه والمراد بالقرآن البيان والهدى فعنه أربعة أجوبه أحدها أنه لما كان كلام العرب على ضربين أحدهما الموجز الذي لا يخفى على سامعه ولا يحتمل غير ظاهره والثاني المجاز والكنايات ولإشارات والتلويحات وهذا الضرب الثاني هو المستحلى عند العرب والبديع في كلامهم أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين ليتحقق عجزهم عن الاتيان بمثله فكأنه قال عارضوه بأي الضربين شئتم ولو نزل كله محكما واضحا لقالوا هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية أو تعريض أو تشبيه كان أفصح وأغرب

قال امرؤ القيس ... وما ذرفت عيناك إلا لنضر بي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل ...
فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه فحلا هذا عند كل سامع ومنشد وزاد في بلاغته وقال امرؤ القيس أيضا ... رمتني بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل فلم أننصر ...
وقال أيضا ... فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا ونا ء بكلكل ...
فجعل لليل صلبا وصدرا على جهة التشبيه نحسن بذلك شعره وقال غيره ... من كميت أجادها طابخاها لم تمت كل موتها في القدور ...
أراد بالطابخين الليل والنهار على جهة التشبيه وقال آخر ... تبكي هاشما في كل فجر ... كما تبكي على الفنن الحمام

قاله آخر ... عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفتح بمنطقها فما ...
فجعل لها غناء وفما على جهة الاستعارة والجواب الثاني أن الله تعالى انزله مختبرا به عباده ليقف المؤمن عنده ويرده إلى عالمه فيعظم بذلك ثوابه ويرتاب به المنافق فيداخله الزيغ فيستحق بذلك العقوبة كما ابتلاهم بنهر طالوت والثالث أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردهم المتشابه إلى المحكم فيطول بذلك فكرهم ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم فيثابون على تعبهم كما يثابون على سائر عباداتهم ولو جعل القرآن كله محكما لاستوى فيه العالم والجاهل ولم يفضل العالم على غيره ولماتت الخواطر و إنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم وقد قال الحكماء عيب الغنى أنه يورث البلادة وفضل الفقر أنه يبعث على الحيلة لأنه إذا احتاج احتال والرابع أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلمون ويمرنوهم على انتزاع الجواب لأنهم إذا قدروا على الغامض كانوا على الواضح أقدر فلما كان ذلك حسنا عند العلماء جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة و ابن الأنباري
قوله تعالى فأما الذين في قلبوهم زيغ في الزيغ قولان أحدهما أنه الشك قاله مجاهد والسدي والثاني أنه الميل قاله أبو مالك وعن ابن عباس كالقولين وقيل هو الميل عن الهدى وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال أحدها انهم الخوارج قاله الحسن والثاني المنافقون قاله ابن جريج والثالث وفد نجران من النصارى قاله الربيع والرابع اليهود طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجمل قاله ابن السائب
قوله تعالى فيتبعون ما تشابه منه قال ابن عباس يحيلون المحكم على المتشابه

والمتشابه على المحكم ويلبسون وقال السدي يقولون مابال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ثم نسخت وفي المراد بالفتنة ها هنا ثلاثة أقوال أحدها أنها الكفر قاله السدي والربيع و مقاتل و ابن قتيبة والثاني الشبهات قاله مجاهد والثالث إفساد ذات البين قاله الزجاج وفي التأويل وجهان أحدهما أنه التفسير والثاني العاقبة المنتظرة والراسخ الثابت يقال رسخ يرسخ رسوخا وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا فيه قولان أحدهما انهم لا يعلمونه و انهم مستأنفون وقد روى طاووس عن ابن عباس أنه قرأ ويقول الراسخون في العلم آمنا به و إلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود و أبي بن كعب و ابن عباس وعروة وقتادة وعمر بن عبد العزيز و الفراء وابو عبيدة وثعلب و ابن الأنباري والجمهور قال ابن الأنباي في قراءةعبد الله إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم وقي قراءة أبي و ابن عباس ويقول الراسخون وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء استأثر بعلمها كقوله تعالى قل إنما علمها عند الله الأعراف 187 وقوله تعالى وقرونا بين ذلك كثيرا الفرقان 38 فأنزل الله تعالى المجمل ليؤمن به المؤمن فيسعد ويكفر به الكافر فيشقى والثاني انهم يعلمون فهم داخلون في الاستثناء وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال أنا ممن يعلم تأويله وهذا قول مجاهد والربيع و اختاره ابن قتيبة وابو سليمان الدمشقي قال ابن الأنباري الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه أن الله لا يخلف الميعاد
قوله تعالى ربنا لا تزغ قلوبنا أي يقولون ربنا لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ هديتنا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن يعمر والجحدري لا تزغ بفتح التاء قلوبنا برفع الباء ولدنك بمعنى عندك والوهاب الذي يجود بالعطاء من غير

استثابة والمخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم ولا ولدا لعقيم والله تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار
قوله تعالى لن تغني عنهم أموالهم أي لن تدفع لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا وكذلك الأولاد فأما في الآخرة فلا ينفع الكافر ماله ولا ولده و قوله تعالى من الله أي من عذابه
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب
قوله تعالى كدأب آل فرعون في الدأب قولان أحدهما أنه العادة فمعناه كعادة آل فرعون يريد كفر اليهود ككفر من قبلهم قاله ابن قتيبة وقال ابن الأنباري و الكاف في كدأب متعلقة بفعل مضمر كأنه قال كفرت اليهود ككفر آل فرعون والثاني أنه الاجتهاد فمعناه أن دأب هؤلاء وهو اجتاهدهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي صلى الله عليه و سلم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام قاله الزجاج
قل للذين كفروا ستفلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد
قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر ستغلبون وتحشرون بالتاء و يرونهم بالياء وقرأ نافع ثلاثتهن بالتاء وقرأهن حمزة
والكسائي بالياء وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال أحدها أن يهود المدينة

لما رأوا وقعة بدر هموا بالإسلام وقالوا هذا هو النبي الذي نجده في كتابنا لا ترد له راية ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى فلما كانت أحد شكوا وقالوا ما هو به ونقضوا عهدا كان بينهم وبين النبي وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فقالوا تكون كلمتنا واحدة فنزلت هذا الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس والثاني أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر فحقق الله وعده يوم بدر روي عن ابن عباس و الضحاك والثالث أن أبا سفيان في جماعة من قومه جمعوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم بعد وقعة بدر فنزلت هذه الآية قاله ابن السائب
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله و اخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار
قوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال أحدها انهم المؤمنون روي عن ابن مسعود والحسن والثاني الكفار فيكون معطوفا على الذي قبله وهو يتخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفا والثالث انهم اليهود ذكره الفراء و ابن الأنباري وابن جرير فان قيل لم قال قد كان لكم ولم يقل قد كانت لكم فالجواب من وجهين أحدهما أن ما ليس بمؤنث حقيقي يجوز تذكيره والثاني أنه رد المعنى إلى البيان فمعناه قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى وترك اللفظ وأنشدوا ... إن امرءا غره فنكن واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور ...
وقد سبق معنى الآية والفئة وكل مشكل تركت شرحه فانك تجده فيما سبق والمراد بالفئتين النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه ومشركو قريش يوم بدر قاله قتادة

والجماعة وفي قوله تعالى يرونهم مثليهم قولان أحدهما يرونهم ثلاثة أمثالهم قاله الفراء واحتج بأنك إذا قلت عندي ألف دينار و أحتاج إلى مثليه فانك تحتاج إلى ثلاثة آلاف والثاني أن معناه يرونهم ومثلهم قال الزجاج وهو الصحيح
قوله تعالى رأي العين أي في رأي العين قال ابن جرير جاء هذا على مصدر رأيته يقال رأيته يقال رأيته رأيا ورؤية واختلفوا في الفئة الرائية على ثلاثة أقوال هي التي ذكرناها في قوله تعالى قد كان لكم آية فان قلنا إن الفئة الرائية المسلمون فوجهه أن المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين فرأوهم على ما هم عليه ثم نصرهم الله وكذلك إن قلنا إنهم اليهود وإن قلنا إنهم المشركون فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر وقد قرأ نافع ترونهم بالتاء قال ابن الأنباري ذهب إلى أن الخطاب لليهود قال الفراء ويجوز لمن قرأ يرونهم بالياء أن يجعل الفعل لليهود وإن كان قد خاطبهم في قوله تعالى قد كان لكم آية لأن العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب وقد شرحنا هذا في الفاتحة وغيرها فان قيل كيف يقال إن المشركين استكثروا والمسلمين وان المسلمين استكثروا المشركين وقد بين قوله تعالى وإذ بريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم الأنفال 44 أن الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى فالجواب انهم استكثروهم في حال واستقلوهم في حال فان

قلنا إن الفئة الرائية المسلمون فانهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ماهم عليه ثم قلل الله المشركين في أعينهم حتى اجترأوا عليهم فنصرهم الله بذلك السبب قال ابن مسعود نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا وقال في رواية اخرى لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين قال أراهم مئة فأسرنا منهم رجلا فقلت كم كنتم قال ألفا وإن قلنا إن الفئة الرائية المشركون فانهم استقلوا المسلمين في حال فاجترؤوا عليهم واستكثروهم في حال فكان ذلك سبب خذلانهم وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ قالوا للمسلمين كم كنتم قالوا كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر قالوا ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا
قوله تعالى والله يؤيد أي يقوي إن في ذلك في الإشارة قولان أحدهما أنها ترجع إلى النصر والثاني إلى رؤية الجيش مثليهم والعبرة الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدية إلى العلم وهي من العبور كأنه طريق يعبر به ويتوصل به إلى المراد وقيل العبرة الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم والأبصار العقول والبصائر
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب
قوله تعالى زين للناس حب الشهوات قرأ أبو رزين العقيلي وابو رجاء العطاردي و مجاهد وابن محيصن زين بفتح الزاي حب بنصب الباء وقد سبق في البقرة بيان التزيين والقناطير جمع قنطار قال ابن دريد ليست النون فيه أصليه وأحسب أنه معرب واختلف العلماء هل هو محدود أم لا فيه قولان أحدهما أنه محدود ثم فيه

أحد عشر قولا أحدها أنه ألف ومئتا أوقيه رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و سلم وبه قال معاذ بن جبل وابن عمر وعاصم بن أبي النجود والحسن في رواية والثاني أنه اثنا عشر ألف اوقية رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن أبي هريرة كالقولين وفي رواية عن أبي هريرة أيضا اثنا عشر أوقية والثالث أنه ألف ومئتا دينار ذكره الحسن ورواه العوفي عن ابن عباس والرابع أنه اثنا عشر الف درهم أو ألف دينار رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وروي عن الحسن و الضحاك كهذا القول والذي قبله والخامس أنه سبعون الف دينار روي عن ابن عمر و مجاهد والسادس ثمانون ألف درهم أو مئة رطل من الذهب روي عن سعيد بن المسيب وقتادة والسابع أنه سبعة آلاف دينار قاله عطاء والثامن ثمانية آلاف مثقال قاله السدي والتاسع أنه ألف مثقال ذهب أو فضة قاله الكلبي والعاشر أنه ملء مسك ثور ذهبا قاله أبو نضرة وابو عبيدة والحادي عشر القنطار رطل من الذهب أو الفضة حكاه ابن الأنباري والقول الثاني أن القنطار ليس بمحدود وقال الربيع بن أنس القنطار المال الكثير بعضه على بعض وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحد وهذا اختيار ابن جرير الطبري قاله ابن الأنباري قال بعض اللغويين القنطار العقدة الوثيقة المحكمه من المال وفي معنى المقنطرة تسعة ثلاثة أقوال أحدها أنها المضعفة قال ابن عباس القناطير ثلاثة والمقنطرة وهذا قول الفراء والثاني أنها المكملة كما تقول مبدرة وألف مؤلفة وهذا قول ابن قتيبة والثالث أنها المضروبة حتى صارت دنانير ودراهم قاله السدي وفي المسومة ثلاثة أقوال

أحدها أنها الراعية رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير و مجاهد في رواية و الضحاك والسدي والربيع و مقاتل قال ابن قتيبة يقال سامت الخيل وهي سائمة إذا رعت و أسمتها وهي مسامة وسومتها فهي مسومة إذا رعيتها والمسومة في غير هذا المعلمة في الحرب بالسومة وبالسيماء أي بالعلامة والثاني أنها المعلمة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة واختاره الزجاج وعن الحسن كالقولين وفي معنى المعلمة ثلاثة أقوال أحدها أنها معلمة بالشية وهو اللون الذي يخالف سائر لونها روي عن قتادة والثاني بالكي روي عن المؤرج والثالث أنها البلق قاله ابن كيسان والثالث أنها الحسان قاله ابن عكرمة و مجاهد فأما الأنعام فقال ابن الأنباري هي الإبل والبقر والغنم واحدها نعم وهو جمع لا واحد له من لفظه والمآب المرجع وهذه الأشياء المذكورة قد تحسن نية العبد بالتلبس بها فيثاب عليها و إنما يتوجه الذم إلى سوء القصد فيها وبها
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد
قوله تعالى قل أؤنبكئم بخير من ذلك روى عطاء بن السائب عن أبي بكر بن حفص قال لما نزل قوله تعالى زين للناس حب الشهوات قال عمر يارب الآن حين زينتها فنزلت قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ووجه الآية أنه خبر أن ما عنده خير مما في الدنيا و إن كان محبوبا ليتركوا ما يحبون لما يرجون فأما الرضوان فقرأ عاصم إلا حفصا و أبان بن يزيد عنه برفع الراء في جميع القرآن واستثنى يحيى والعليمي كسر الراء في المائدة في قوله تعالى من اتبع رضوانه المائدة 16 وقرأ الباقون بكسر الراء والكسر لغة قريش قال الزجاج يقال رضيت الشيء أرضاه رضى ومرضاة ورضوانا ورضوانا والله بصير بالعباد يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا فهو يجازيهم على أعمالهم

الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار
قوله تعالى الصابرين أي على طاعة الله عز و جل وعن محارمه والصادقين في عقائدهم وأقوالهم والقانتين بمعنى المطيعين لله والمنفقين في طاعته وقال ابن قتيبة يعني بالنفقة الصدقة وفي معنى استغفارهم قولان أحدهما أنه الاستغفار المعروف باللسان قاله ابن مسعود والحسن في آخرين والثاني أنه الصلاة قاله مجاهد وقتادة و الضحاك و مقاتل في آخرين فعلى هذا إنما سميت الصلاة استغفارا لأنهم طلبوا بها المغفرة فأما السحر فقال إبراهيم بن السري السحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر فوصفهم الله بهذه الطاعات ثم وصفهم بأنهم لشدة خوفهم يستغفرون
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم
قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشام قدما النبي صلى الله عليه و سلم فلما أبصرا المدنية قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي صلى الله عليه و سلم عرفاه بالصفة فقالا أنت محمد قال نعم قالا وأحمد قال نعم قالا نسألك عن شهادة فان أخبرتنا بها آمنا

بك وصدقناك فقال سلاني فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت هذه الآية فأسلما قاله ابن السائب وقال غيره هذه الآية رد على نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام وقد سبق ذكر خبرهم في أول السورة وقال سعيد بن جبير كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما وكان لكل حي من العرب صنم أو صنمان فلما نزلت هذا الآية خرت الأصنام سجدا وفي معنى شهد الله قولان أحدهما أنه بمعنى قضى وحكم قاله مجاهد و الفراء و أبو عبيدة والثاني بمعنى بين قاله ثعلب و الزجاج قال ابن كيسان شهد الله بتدبيره العجيب و أموره المحكمات عند خلقه أنه لا إله إلا هو وسئل بعض الأعراب ما الدليل على وجود الصانع فقال إن البعرة تدل على البعير وآثار القدم تدل على المسير فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلان على الصانع الخبير وقرأ ابن مسعود و أبي بن كعب وابن السميفع وعاصم الجحدري شهداء الله بضم الشين وفتح الهاء والدال وبهمزة مرفوعة بعد المد وخفض الهاء من اسم الله تعالى قائما بالقسط أي بالعدل قال جعفر الصادق و إنما كرر لا إله إلا هو لأن الأولى وصف وتوحيد والثاني رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلا هو
إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فان الله سريع الحساب
قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام الجمهور على كسر إن إلا الكسائي فانه فتح الألف وهي قراءة ابن مسعود و ابن عباس وأبي رزين و أبي العالية وقتادة قال أبو سليمان الدمشقي لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية نزلت هذه الآية قال الزجاج الدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه و أن يكون

عادتهم وبه يجزيهم وقال شيخنا علي بن عبيد الله الدين ما التزمه العبد لله عز و جل قال ابن قتيبة و الإسلام الدخول في السلم أي في الانقياد والمتابعة ومثله الاستسلام يقال سلم فلان لأمرك واستسلم وأسلم كما تقول أشتي الرجل أي دخل في الشتاء وأربع دخل في الربيع وفي الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال أحدها انهم اليهود قاله الربيع والثاني انهم النصارى قاله محمد بن جعفر بن الزبير والثالث انهم اليهود والنصارى قاله ابن السائب وقيل الكتاب هاهنا اسم جنس بمعنى الكتب وفي الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال أحدها دينهم والثاني أمر عيسى والثالث دين الإسلام وقد عرفوا صحته والرابع نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وقد عرفوا صفته
قوله تعالى إلا من بعد ما جاءهم العلم أي الإيضاح لما اختلفوا فيه بغيا بينهم قال الزجاج معناه اختلفوا للبغي لا لقصد البرهان وقد ذكرنا في البقرة معنى سريع الحساب
فان حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فان أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فانما عليك البلاغ والله بصير بالعباد
قوله تعالى فان حاجوك أي جادلوك وخاصموك قال مقاتل يعني اليهود وقال ابن جرير يعني نصارى نجران في أمر عيسى وقال غيرهما اليهود والنصارى فقل أسلمت وجهي لله قال الفراء معناه أخلصت عملي وقال الزجاج قصدت بعبادتي إلى الله
قوله تعالى ومن اتبعن أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة وابن شنبوذ عن قنبل ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء قال الزجاج والأحب إلى اتباع المصحف وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى ومن اتبعن و لئن أخرتن و ربي أكرمن و ربي أهانن فهو على ضربين أحدهما ما كان مع النون فان

كان رأس آية فأهل اللغة يجيزون حذف الياء ويسمون أواخر الآي الفواصل كما اجازوا ذلك في الشعر
قال الأعشى ... ومن شانيء كاسف باله ... إذا ما انتسبت له أنكرن ... وهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين ...
فأما إذا لم يكن آخر آية أو قافية فالأكثر إثبات الياء وحذفها جيد أيضا خاصة مع النونات لأن أصل اتبعني اتبعي ولكن النون زيدت لتسلم فتحة العين فالكسرة مع النون تنوب عن الياء فاما إذا لم تكن النون نحو غلامي وصاحبي فالأجود إثباتها وحذفها عند عدم النون جائز على قلته تقول هذا غلام قد جاء غلامي وغلامي بفتح الياء وإسكانها فجاز الحذف لأن الكسرة تدل عليها
قوله تعالى وقل للذين أوتوا الكتاب يريد اليهود والنصارى والأميين بمعنى مشركي العرب وقد سبق في البقرة شرح هذا الاسم
قوله تعالى ءأسلمتم قال الفراء هو استفهام ومناه الأمر كقوله تعالى فهل أنتم منتهون المائدة 91

فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية فذهبت طائفة إلى أنها محكمة و أن المراد بها تسكين نفس النبي صلى الله عليه و سلم عند امتناع من لم يجبه لأنه كان يحرص على إيمانهم ويتألم من تركهم الإجابة وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الاقتصار على التبليغ وهذا منسوخ بآيه السيف
إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت اعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين
قوله تعالى إن الذين يكفرون بآيات الله قال أبو سليمان الدمشقي عنى بذلك اليهود والنصارى قال ابن عباس والمراد بآيات الله محمد والقران وقد تقدم في البقرة شرح قتلهم الأنبياء والقسط والعدل وقرأ الجمهور ويقتلون الذين يأمرون بالقسط وقرأ حمزة ويقاتلون بألف وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني اسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا

في آخر النهار فهم الذين ذركهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم و إنما وبخ بهذا اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم لأنهم تولوا أولئك ورضوا بفعلهم فبشرهم بمعنى أخبرهم وقدتقدم شرحه في البقرة ومعنى حبطت بطلت
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون
قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب في سبب نزولها أربعة أقوال أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله فقال رجلان منهم على أي دين أنت فقال على ملة إبراهيم قالا فانه كان يهوديا قال فهلموا إلى التوراة فأبيا عليه فنزلت هذه الآية رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني أن رجلا من اليهود وامرأة زنيا فكرهوا رجمهما لشرفهما فرفعوا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه و سلم رجاء أن يكون عنده رخصة فحكم عليها بالرجم فقالوا جرت علينا يا محمد ليس علينا الرجم فقال بيني وبينكم التوراة فجاء ابن صوريا فقرأ من التوراة فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها فقال ابن سلام قد جاوزها ثم قام فقرأها فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم باليهوديين فرجما فغضب اليهود فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا اليهود إلى الإسلام فقال نعمان بن أبي

أوفى هلم نحاكمك إلى الأحبار فقال بل إلى كتاب الله فقال بل إلى الأحبار فنزلت هذه الآية قاله السدي والرابع أنها نزلت في جماعة من اليهود دعاهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام فقالوا نحن أحق بالهدى منك وما أرسل الله نبيا إلا من بني اسرائيل قال فأخرجوا التوارة فإني مكتوب فيها أني نبي فأبوا فنزلت هذه الآية قاله مقاتل بن سليمان
فأما التفسير فالنصيب الذي أوتوه العلم الذي علموه من التوراة وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان أحدهما أنه التوراة رواه عكرمة عن ابن عباس وهو قول الأكثرين والثاني أنه القرآن رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول الحسن وقتادة وفي الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال أحدها ملة إبراهيم والثاني حد الزنى رويا عن ابن عباس والثالث صحة دين الإسلام قاله السدي والرابع صحة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم قاله مقاتل فان قيل التولي هو الإعراض فما فائدة تكريره فالجواب من أربعة أوجه أحدها التأكيد والثاني أن يكون المعنى يتولون عن الداعي ويعرضون عما دعا إليه والثالث يتولون بأبدانهم ويعرضون عن الحق بقلوبهم والرابع أن يكون الذين تولوا علماءهم والذين أعرضوا أتباعهم قاله ابن الأنباري

ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون
قوله تعالى ذلك بأنهم قالوا يعني الذي حملهم على التولي والإعراض انهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وقد ذكرناها في البقرة و يفترون يختلقون وفي الذي اختلقوه قولان أحدهما أنه قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودات قاله مجاهد و الزجاج والثاني قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه قاله قتادة و مقاتل
فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون
قوله تعالى فكيف إذا جمعناهم معناه فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم أي لجزاء يوم أو لحساب يوم وقيل اللام بمعنى في
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير
قوله تعالى قل اللهم مالك الملك في سبب نزولها ثلاثة أقوال أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم لما فتح مكة ووعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود هيهات فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس وأنس بن مالك والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته فنزلت هذه الآية حكاه قتادة والثالث أن اليهود قالوا والله لا نطيع رجلا جاء ينقل النبوة من بني اسرائيل إلى غيرهم فنزلت هذه الآية قاله أبو سليمان الدمشقي فأما التفسير فقال الزجاج قال الخليل وسيبويه وجميع النحويين الموثوق بعلمهم اللهم بمعنى يا الله والميم المشددة زيدت عوضا من ياء لأنهم لم يجدوا

يا مع هذه الميم في كلمة ووجدوا اسم الله عز و جل مستعملا ب يا إذا لم تذكر الميم فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة يا في أولها والضمة التي في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد قال ابو سليمان الخطابي ومعنى مالك الملك أنه بيده يؤتيه من يشاء قال وقد يكون معناه مالك الملوك ويحتمل أن يكون معناه وارث الملك يوم لا يدعيه مدع كقوله تعالى الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان26
قوله تعالى تؤتي الملك من تشاء في هذا الملك قولان أحدهما أنه النبوة قاله ابن جبير و مجاهد والثاني أنه المال والعبيد والحفدة ذكره الزجاج وقال مقاتل تؤتي الملك من تشاء يعني محمدا وأمته وتنزع الملك ممن تشاء يعني فارس والروم وتعز من تشاء محمدا وأمته وتذل من تشاء فارس والروم وبماذا يكون هذا العز والذل فيه ثلاثة أقوال أحدها العز بالنصر والذل بالقهر والثاني العز بالغنى والذل بالفقر والثالث العز بالطاعة والذل بالمعصية
قوله تعالى بيدك الخير قال ابن عباس يعني النصر والغنيمة وقيل معناه بيدك الخير والشر فاكتفى بأحدهما لأنه المرغوب فيه
تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب
قوله تعالى تولج الليل في النهار أي تدخل ما نقصت من هذا في هذا وقال ابن عباس و مجاهد ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر قال الزجاج يقال ولج الشيء يلج ولوجا وولجا وولجة
قوله تعالى وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبوبكر عن عاصم وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي و لبلد ميت الأعراف 57 و أو من كان ميتا الأنعام 122 و وإن يكن ميتة

الأنعام 139 و الأرض الميتة يس 33 كله بالتخفيف وقرأ نافع وحمزة والكسائي وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي و لبلد ميت و إلى بلد ميت وخفف حمزة والكسائي غير هذه الحروف وقرأ نافع أومن كان ميتا و الأرض المية و لحم أخيه ميتا الحجرات 12 وخفف في سائر القرآن ما لم يمت وقال أبو علي الأصل التثقيل والمخفف محذوف منه وما مات ومالم يمت في هذا الباب مستويان في الاستعمال وأنشدوا ... ومنهل فيه الغراب ميت ... سقيت منه القوم واستقيت ...
فهذا قد مات وقال آخر ... ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء ...
فخفف ما مات وشدد مالم يمت وكذلك قوله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون الزمر 30 ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال أحدها أنه إخراج الإنسان حيا من النطفة وهي ميتة وإخراج النطفة من الإنسان وكذلك إخراج الفرخ من البيضة وإخراج البيضة من الطائر هذا قول ابن مسعود و ابن عباس و مجاهد وابن جبير والجمهور والثاني أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس وهو قول الحسن وعطاء والثالث أنه إخراج السنبلة الحية من الحبة الميتة والتخلة الحية من النواة الميتة والنواة الميتة من النخلة الحية قاله السدي وقال الزجاج يخرج النبات الغض من الحب اليابس والحب اليابس من النبات الحي الناس

قوله تعالى بغير حساب أي بغير تقتير قال الزجاج يقال للذي ينفق موسعا فلان ينفق بغير حساب كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقا
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه و إلى الله المصير
قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء في سبب نزولها أربعة أقوال أحدها أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود فقال يوم الأحزاب يا رسول الله إن معي خمسمائة من الهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية رواه الضحاك عن ابن عباس والثاني أنها نزلت في عبد الله بن أبي و أصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر من النبي صلى الله عليه و سلم فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث أن قوما من اليهود كانوا يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك وقالوا اجتنبوا هؤلاء اليهود فأبوا فنزلت هذا الآية روي عن ابن عباس أيضا والرابع أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم الله عز و جل عن ذلك هذا قول المقاتلين ابن سليمان و ابن حيان فأما التفسير فقال الزجاج معنى قوله تعالى من دون المؤمنين أي لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن أي لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين وهذا كلام جرى على المثل في المكان كما تقول زيد دونك ولست تريد المكان ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان والخسة كالاستفال في المكان ومعنى فليس من الله في شيء أي فالله بريء منه
قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة قرأ يعقوب والمفضل عن عاصم تقية بفتح

التاء من غير ألف قال مجاهد إلا مصانعة في الدنيا قال أبوالعالية التقاة باللسان لا بالعمل
فصل
والتقية رخصة وليست بعزيمة قال الإمام أحمد وقد قيل إن عرضت على السيف تجيب قال لا وقال اذا أجاب العالم تقية والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق وسنشرح هذا المعنى في النحل عند قوله تعالى إلا من اكره النحل 106 إن شاء الله
قل إن تخفوا ما صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير
قوله تعالى قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه قال ابن عباس يعني أتخاذ الكافرين أولياء
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد
قوله تعالى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا قال الزجاج نصب اليوم بقوله ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم قال ابن الأنباري يجوز أن يكون متعلقا بالمصير والتقدير والى الله المصير يوم تجد ويجوز أن يكون متعلقا بفعل مضمر والتقدير اذكر يوم نجد وفي كيفية وجود العمل وجهان أحدهما وجوده مكتوبا في الكتاب والثاني وجود الجزاء عليه والأمد الغاية

قال الطرماح ... كل حي مستكمل عدة العم ... ومود إذا انقضى أمده ...
يريد غاية أجله
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم
قوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله في سبب نزولها أربعة أقوال أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم وقف على قريش وقد نصبوا أصنامهم يسجدون لها فقال يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم فقالوا يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى فنزلت هذه الآية رواه الضحاك عن ابن عباس والثاني أن اليهود قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه فنزلت هذه الآية فعرضها النبي صلى الله عليه و سلم عليهم فلم يقبلوها رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث أن ناسا قالوا إنا لنحب ربنا حبا شديدا فأحب الله أن يجعل لحبه علما فأنزل هذه الآية قاله الحسن وابن جريج والرابع أن نصارى نجران قالوا إنما تقول هذا في عيسى حبا لله وتعظيما له فنزلت هذه الآية ذكره ابن اسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير واختاره أبو سليمان الدمشقي
قل أضيعوا الله والرسول فان تولوا فان الله لا يحب الكافرين
قوله تعالى قل أطيعوا الله والرسول في سبب نزولها ثلاثة أقوال أحدها أن

عبد الله بن أبي قال لأصحابه إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم فنزلت هذا الآية هذا قول ابن عباس والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا اليهود إلى الإسلام فقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه ونحن أشد حبا لله مما تدعونا إليه فنزلت قل إن كنتم تحبون الله ونزلت هذه الآية هذا قول مقاتل والثالث أنها نزلت في نصارى نجران قاله أبو سليمان الدمشقي
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم و آل عمران على العالمين
قوله تعالى إن الله اصطفى آدم قال ابن عباس قالت اليهود نحن أبناء إبراهيم واسحاق ويعقوب ونحن على دينهم فنزلت هذه الآية قال الزجاج ومعنى اصطفاهم في اللغة اختارهم فجعلهم صفوة خلقة وهذا تمثيل بما يرى لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي فاذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عيانا فنحن نعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر فكذلك صفوة الله من خلقه وفيه ثلاث لغات صفوة وصفوة وصفوة و صفوة تاما وأما آدم فعربي وقد ذكرنا اشتقاقه في البقرة و أما نوح فأعجمي معرب قال أبو سليمان الدمشقي اسم نوح السكن و إنما سمي نوحا لكثرة نوحه وفي سبب نوحه خمسة أقوال احدها أنه كان ينوح على نفسه قاله يزيد الرقاشي والثاني أنه كان ينوح لمعاصي اهله وقومه والثالث لمراجعته ربه في ولده والرابع لدعائه على قومه بالهلاك والخامس أنه مر بكلب مجذوم فقال اخسأ يا قبيح فأوحى الله إليه أعبتني يا نوح أم عبت الكلب وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال أحدها أنه من كان على دينه قاله ابن عباس والحسن والثاني انهم اسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط قاله مقاتل والثالث أن المراد آل إبراهيم هو نفسه كقوله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون البقرة 248 ذكره بعض أهل التفسير وفي عمران

قولان أحدهما أنه والد مريم قاله الحسن ووهب والثاني أنه والد موسى وهارون قاله مقاتل وفي آله ثلاثة أقوال أحدها أنه عيسى عليه السلام قاله الحسن والثاني أن آله موسى وهارون قاله مقاتل والثالث أنه المراد ب آله نفسه ذكره بعض المفسرين و إنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء كلهم من نسلهم وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال أحدها أن المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان قاله ابن عباس واختاره الفراء والدمشقي والثاني اصطفاهم بالنبوة قاله الحسن و مجاهد و مقاتل والثالث اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم والمراد ب العالمين عالمو زمانهم كما ذكرنا في البقرة
ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم
قوله تعالى ذرية بعضها من بعض قال الزجاج نصبها على البدل والمعنى اصطفى ذرية بعضها من بعض قال ابن الأنباري و إنما قال بعضها لأن لفظ الذرية مؤنث ولو قال بعضهم ذهب إلى معنى الذرية وفي معنى هذه البعضية قولان أحدهما أن بعضهم من بعض في التناصر والدين لا في التناسل وهو معنى قول ابن عباس وقتادة والثاني أنه في التسلسل لأن جميعهم ذرية آدم ثم ذرية نوح ثم ذرية إبراهيم ذكره بعض أهل التفسير قال أبو بكر النقاش ومعنى قوله ذرية بعضها من بعض أن الأبناء ذرية للآباء والآباء ذرية للأبناء كقوله تعالى حملنا ذريتهم في الفلك المشحون يس 41 فجعل الآباء ذرية للأبناء وإنما جاز ذلك لأن الذرية مأخوذة من ذرأ الله الخلق فسمي الولد للوالد ذرية لأنه ذرىء منه وكذلك يجوز أن يقال للأب ذرية للابن لأن ابنه ذرئ منه فالفعل يتصل به من الوجهين ومثله يحبونهم كحب الله البقرة 165 فأضاف الحب إلى الله والمعنى كحب المؤمن لله ومثله ويطعمون الطعام على حبه الدهر 8 فأضاف الحب للطعام

إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم
قوله تعالى إذ قالت امرأة عمران في إذ قولان أحدهما أنها زائدة واختاره أبو عبيدة و ابن قتيبة والثاني أنها أصل في الكلام وفيها ثلاثة أقوال أحدها أن المعنى اذكر إذ قالت امرأة عمران قاله المبرد والاخفش والثاني أن العامل في إذ قالت معنى الاصطفاء فيكون المعنى اصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران واصطفاهم إذ قالت الملائكة يا مريم هذا اختيار الزجاج والثالث أنها من صلة سميع تقديره والله سميع إذ قالت وهذا اختيار ابن جرير الطبري قال ابن عباس واسم امرأة عمران حنة وهي أم مريم وهذا عمران بن ماتان وليس عمران أبي موسى وليست هذه مريم اخت موسى وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة والمحرر العتيق قال ابن قتيبة يقال أعتقت الغلام وحررته سواء وأرادت أي نذرت أن أجعل ما في بطني محررا من التعبيد الدنيا ليعبدك وقال الزجاج كان على اولادهم فرضا أن يطيعوهم في نذرهم فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادما في متعبدهم وقال ابن اسحاق كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت فرأت طائرا يطعم فرخا له فدعت الله أن يهب لها ولدا وقالت اللهم لك علي إن رزقتني ولدا أن اتصدق به على بيت المقدس فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل قال القاضي أبو يعلى والنذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا فانه إذا نذر الإنسان أن ينشيء ولده الصغير على عبادة الله وطاعته و أن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين صح النذر
فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى و إني سميتها مريم و إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم

قوله تعالى والله أعلم بما وضعت قرأ ابن عامر وعاصم إلا حفصا ويعقوب بما وضعت باسكان العين وضم التاء وقرأ الباقون بفتح العين وجزم التاء قال ابن قتيبة من قرأ بجزم التاء وفتح العين فيكون في الكلام تقدير و تأخير تقديره إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى والله أعلم بما وضعت ومن قرأ بضم التاء فهو كلام متصل من كلام أم مريم
قوله تعالى وليس الذكر كالأنثى من تمام اعتذارها ومعناه لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر من خدمته المسجد والإقامة فيه لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس قال السدي ظنت أن ما في بطنها غلام فلما وضعت جارية اعتذرت ومريم اسم أعجمي وفي الرجيم قولان أحدهما الملعون قاله قتادة والثاني أنه المرجوم بالحجارة كما تقول قتيل بمعنى مقتول قاله أبو عبيدة فعلى هذا سمي رجيما لأنه يرمى بالنجوم
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب
قوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن قرأ مجاهد فتقبلها بسكون اللام ربها بنصب الباء وأنبتها بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدعاء قال الزجاج الأصل في العربيه فتقبلها بتقبل حسن ولكن قبول محمول على قبلها قبولا يقال قبلت الشيء قبولا ويجوز قبولا إذا رضيته وأنبتها نباتا حسنا أي جعل نشوءها نشوءا حسنا وجاء نباتا على غير لفظ أنبت على معنى نبتت نباتا حسنا وقال ابن الأنباري لما كان أنبت يدل على نبت حمل الفعل على المعنى فكأنه قال وأنبتها فنبتت هي نباتا حسنا

قال امرؤ القيس ... فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي اذلال ...
أراد أي رياضه فلما دل رضت على اذللت حمله على المعنى وللمفسرين في معنى النبات الحسن قولان أحدهما أنه كمال النشوء قال ابن عباس كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام والثاني أنه ترك الخطايا قال قتاده حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم
قوله تعالى وكفلها قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر وكفلها بفتح الفاء خفيفه وزكرياء مرفوع ممدود وروى أبو بكر عن عاصم تشديد الفاء ونصب زكرياء وكان يمد زكرياء في كل القرآن في رواية أبي بكر وروى حفص عن عاصم تشديد الفاء وزكريا مقصور في كل القرآن وكان حمزه والكسائي يشددان وكفلها ويقصران زكريا في كل القرآن فأما زكريا فقال الفراء فيه ثلاث لغات أهل الحجاز يقولون هذا زكريا قد جاء مقصور وزكرياء ممدود واهل نجد يقولون زكري فيجرونه ويلقون الألف وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال زكريا اسم أعجمي يقال زكري وزكرياء ممدود وزكريا مقصور وقال غيره وزكري بتخفيف الياء فمن قال زكرياء بالمد قال في التثنيه زكرياوان وفي الجمع زكرياوون ومن قال زكريا بالقصر قال في التثنيه زكريان كما

تقول مدنيان ومن قال زكري بتخفيف الياء قال في التثنيه زكريان الياء خفيفه وفي الجمع زكرون بطرح الياء
الاشارة إلى كفالة زكريا مريم
قال السدي انطلقت بها أمها في خرقها وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم فقال زكريا وهو نبيهم يومئذ انا أحقكم بها عندي أختها فأبوا وخرجوا إلى نهر الأردن فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها فجرت الأقلام وثبت قلم زكريا فكفلها قال ابن عباس كانوا سبعة وعشرين رجلا فقالوا نطرح أقلامنا فمن صعد قلمه مغالبا للجرية فهو أحق بها فصعد قلم زكريا فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه وعلى قول السدي بوقوفه في جريان الماء وقال مقاتل كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحدا وكانت اذا حاضت أخرجها إلى منزلة تكون مع أختها أم يحيى فاذا طهرت ردها إلى بيت المقدس والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة وقد ذهب قوم الى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة لأجل أن أمها ماتت وكانت خالتها عنده فلما بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها و إنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة لأجل سنة أصابتهم فقال محمد بن إسحاق كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده فقالوا ونحن أيضا كذلك فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا فخرج السهم على جريج النجار وكان فقيرا وكان يأتيها باليسير فينمي فدخل زكريا فقال ما هذا على قدر نفقة جريج فمن اين هذا قالت هو من عند الله والصحيح ما عليه الأكثرون و أن القوم تشاحوا على كفالتها لأنها كانت بنت سيدهم وإمامهم عمران كذلك قال قتادة في آخرين و أن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها فأما المحراب فقال أبو عبيدة

المحراب سيد المجالس ومقدمها وأشرفها وكذلك هو من المسجد وقال الأصمعي المحراب هاهنا الغرفة وقال الزجاج المحراب في اللغة الموضع العالي الشريف
قال الشاعر ... ربة محراب إذا جئتها ... لم ألقها أو أرتقي سلما ...
قوله تعالى وجد عندها رزقا قال ابن عباس ثمار الجنة فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف وهذا قول الجماعة
قوله تعالى أنى لك هذا أي من اين قال الربيع بن أنس كان زكريا إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب فاذا دخل وجد عندها رزقا وقال الحسن لم ترتضع ثديا قط وكان يأتيها رزقها من الجنة فيقول زكريا أنى لك هذا فتقول هو من عند الله فتكلمت وهي صفيرة وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئرا وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون قوله لها أنى لك هذا لاستكثار ما يرى عندها وماعليه الجمهور أصح والحساب في اللغة التقتير والتضييق
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء
قوله تعالى هنالك دعا زكريا ربه قال المفسرون لما عاين زكريا هذه الآية العجيبة من رزق الله تعالى مريم الفاكهة في غير حينها طمع في الولد على الكبر و من لدنك بمعنى من عندك والذرية تقال للجمع وتقال للواحد والمراد بها هاهنا الواحد قال الفراء و إنما قال طيبة لتأنيث الذرية والمراد بالطيبة النقية الصالحة والسميع بمعنى السامع وقيل أراد مجيب الدعاء

فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين
قوله تعالى فنادته الملائكة قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابو عمرو وابن عامر فنادته بالتاء وقرأ حمزة والكسائي فناداه بألف ممالة قال ابو علي هو كقوله تعالى وقال نسوة يوسف 20 وقرأ علي وابن مسعود و ابن عباس فناداه بألف وفي الملائكة قولان أحدهما جبريل وحده قال السدي و مقاتل ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع تقول ركبت في السفن وسمعت هذا من الناس والثاني انهم جماعة من الملائكة وهو مذهب قوم منهم ابن جرير الطبري وفي المحراب قولان أحدهما أنه المسجد والثني أنه قبلة المسجد وفي تسمية محراب الصلاة محرابا ثلاثة أقوال أحدها لانفراد الإمام فيه وبعده من الناس ومنه قولهم فلان حرب لفلان إذا كان بينهما مباغضة وتباعد ذكره ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد والثاني أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن و أشرف المسجد مقام الإمام والثالث أنه من الحرب فالمصلي محارب للشيطان
قوله تعالى أن الله يبشرك بغلام قرأ الاكثرون بفتح الألف على معنى فنادته الملائكة بأن الله فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها وقرأ ابن عامر وحمزة بكسر إن فأضمر القول والتقدير فنادته فقالت إن الله يبشرك وقرأ ابن كثير و أبو عمرو يبشرك بضم الياء وفتح الباء والتشديد في جميع القرآن إلا في حم عسق يبشر الله عباده الشورى 23 فأنهما فتحا الياء وضما الشين وخففاها فأما نافع وابن عامر وعاصم فشدد كل القرآن وقرأ حمزة يبشر خفيفا في كل القرآن إلا قوله تعالى فبم تبشرون الحج 54 وقرأ الكسائي يبشر مخففة في

خمسة مواضع في آل عمران في قصة زكريا وقصة مريم وفي بني اسرائيل وفي الكهف وفي حم عسق قال الزجاج وفي يبشرك ثلاث لغات أحدها يبشرك بفتح الباء وتشديد الشين والثانية يبشرك باسكان الباء وضم الشين والثالثة يبشرك بضم الياء و إسكان الباء فمعنى يبشرك بالتشديد و يبشرك بضم الياء البشارة ومعنى يبشرك بفتح الياء يسرك ويفرحك يقال بشرت الرجل أبشره إذا أفرحته وبشر الرجل يبشر إلا فرح
وأنشد الأخفش والكسائي ... و إذا لقيت الباهشين إلى العلى ... غبرا أكفهم بقاع ممحل ... فأعنهم وابشر بما بشروا به ... و إذا هم نزلوا بضنك فانزل ...
فهذا على بشر يبشر إذا فرح وأصل هذا كله أن بشة الإنسان تنبسط عند السرور ومنه قولهم يلقاني ببشر أي بوجه منبسط وفي معنى تسميته يحيى خمسة أقوال أحدها لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه قاله ابن عباس والثاني لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان قاله قتادة والثالث لأنه أحياه بين شيخ وعجوز قاله مقاتل والرابع لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها قاله الزجاج والخامس لأن الله أحياه بالطاعة

فلم يعص ولم يهم قاله الحسن بن الفضل وفي الكلمة قولان أحدهما أنها عيسى وسمي كلمة لأنه بالكلمة كان وهي كن وهذا قول ابن عباس والحسن و مجاهد وقتادة والسدي و مقاتل وقيل إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر وقتل يحيى قبل رفع عيسى والثاني أن الكلمة كتاب الله وآياته وهو قول أبي عبيدة في آخرين ووجهه أن العرب تقول أنشدني فلان كلمة أي قصيدة وفي معنى السيد ثمانية أقوال أحدها أنه الكريم على ربه قاله ابن عباس و مجاهد والثاني أنه الحليم التقي روي عن ابن عباس أيضا وبه قال الضحاك والثالث أنه الحكيم قاله الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء وابو الشعثاء والربيع و مقاتل والرابع أنه الفقيه العالم قاله سعيد بن المسيب والخامس أنه التقي رواه سالم عن ابن جبير والسادس أنه الحسن الخلق رواه أبو روق عن الضحاك والسابع أنه الشريف قاله ابن زيد والثامن أنه الذي يفوق قومه في الخير قاله الزجاج وقال ابن الأنباري السيد ها هنا الرئيس والإمام في الخير فأما الحصور فقال ابن قتيبة هو الذي لا يأتي النساء وهو فعول بمعنى مفعول كانه محصور عنهن أي محبوس عنهن وأصل الحصر الحبس ومما جاء على فعول بمعنى مفعول ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب وهيوب بمعنى مهيب واختلف المفسرين لماذا كان لا يأتي النساء على أربعة أقوال أحدها أنه لم يكن له ما يأتي به النساء فروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا قاله ثم دلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يده إلى الأرض فأخذ عودا صغيرا ثم قال وذلك أنه لم يكن له ماللرجال إلا مثل هذا العود ولذلك سماه الله سيدا وحصورا وقال سعيد بن المسيب كان له كالنواة

والثاني أنه كان لا ينزل الماء قاله ابن عباس و الضحاك والثالث أنه كان لا يشتهي النساء قاله الحسن وقتادة والسدي والرابع أنه كان يمنع نفسه من شهواتها ذكره الماوردي
قوله تعالى ونبيا من الصالحين قال ابن الأنباري معناه من الصالحي الحال عند الله
قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء
قوله تعالى قال رب أنى يكون لي غلام أي كيف يكون
قال الكميت ... أنى ومن أين آبك الطرب ...
قال العلماء منهم الحسن و ابن الأنباري وابن كيسان كأنه قال من أي وجه يكون لي الولد أيكون بازالة العقر عن زوجتي ورد شبابي أم يأتي ونحن على حالنا فكان ذلك على سبيل الاستعلام لا على وجه الشك قال الزجاج يقال غلام بين الغلومية وبين الغلامية وبين الغلومة قال شيخنا أبو منصور اللغوي الغلام فعال من الغلمة وهي شدة شهوة النكاح ويقال للكهل غلام
قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج

غلام إذا هز القناة سقاها ...
وكأن قولهم للكهل غلام أي قد كان مرة غلاما وقولهم للطفل غلام على معنى التفاؤل أي سيصير غلاما قال وقيل الغلام الطار الشارب ويقال للجارية غلامة قال الشاعر ... يهان لها الغلامة والغلام ...
قوله تعالى وقد بلغني الكبر أي وقد بلغت الكبر قال الزجاج كل شيء بلغته فقد بلغك وفي سنة يؤمئذ ستة أقوال أحدها أنه كن ابن مائة وعشرين سنة وامرأته بنت ثمان وتسعين سنة قاله ابن عباس والثاني أنه كان ابن بضع وسبعين سنة قاله قتادة والثالث ابن خمس وسبعين قاله مقاتل والرابع ابن سبعين حكاه فضيل ابن غزوان والخامس ابن خمس وستين والسادس ابن ستين حكاهما الزجاج قال اللغويون والعاقر من الرجال والنساء الذي لا يأتيه الولد و إنما قال عاقر ولم يقل عاقرة لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث والمذكر فيه كالمستعار فأجري مجرى طالق حائض هذا قول الفراء
قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار

قوله تعالى رب اجعل لي آية أي علامة على وجود الحمل وفي علة سؤاله آية قولان أحدهما أن الشيطان جاءه فقال هذا الذي سمعت من صوت الشيطان ولو كان من وحي الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك غيره فسأل الآية قاله السدي عن أشياخه والثاني أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر وليتعجل السرور لأن شأن الحمل لا يتحقق بأوله فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام فأما الرمز فقال الفراء الرمز بالشفتين والحاجبين والعينين وأكثره في الشفتين قال ابن عباس جعل يكلم الناس بيده و إنما منع من مخاطبة الناس ولم يحبس عن الذكر لله تعالى وقال ابن زيد كان يذكر الله ويشير إلى الناس وقال عطاء بن السائب اعتقل لسانه من غير مرض وجمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آية على وجود الحمل وقال قتادة والربيع بن أنس كان ذلك عقوبة له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة
قوله تعالى وسبح قال مقاتل صل قال الزجاج يقال فرغت من سبحتي أي من صلاتي وسميت الصلاة تسبيحا لأن التسبيح تعظيم الله وتبرئته من السوء فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرئه من السوء
قوله تعالى بالعشي العشي من حين نزول الشمس إلى آخر النهار والإبكار ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضحى قال الشاعر ... فلا الظل في برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي يذوق ...
قال الزجاج يقال أبكر الرجل يبكر إبكارا وبكر يبكر تبكيرا وبكر يبكر

في كل شيء تقدم فيه
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين
قوله تعالى وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك قال جماعة من المفسرين المراد بالملائكة جبريل وحده وقد سبق معنى الاصطفاء وفي المراد بالتطهير هاهنا أربعة أقوال احدها أنه التطهير من الحيض قاله ابن عباس وقال السدي كانت مريم لا تحيض وقال قوم من الحيض والنفاس والثاني من مس الرجال روي عن ابن عباس أيضا والثالث من الكفر قاله الحسن و مجاهد والرابع من الفاحشة والإثم قاله مقاتل وفي هذا الاصفاء الثاني أربعة أقوال أحدها أنه تأكيد للأول والثاني أن الأول للعبادة والثاني لولادة عيسى عليه السلام والثالث أن الاصطفاء الأول اختيار مبهم وعموم يدخل فيه صوالح من النساء فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين والرابع أنه لما أطلق الاصطفاء الاول أبان بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال قال ابن عباس والحسن وابن جريج اصطفاها على عالمي زمانها قال ابن الأنباري وهذا قول الاكثرين
يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين
قوله تعالى يا مريم اقنتي لربك قد سبق شرح القنوت في البقرة وفي المراد به ها هنا أربعة أقوال أحدها أنه العبادة قاله الحسن والثاني طول القيام في الصلاة قاله

مجاهد والثالث الطاعة قاله قتادة والسدي وابن زيد والرابع الإخلاص قاله سعيد بن جبير وفي تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال أحدها أن الواو لا تقتضي الترتيب و إنما تؤذن بالجمع فالركوع مقدم قاله الزجاج في آخرين والثاني أن المعنى استعملي السجود في حال والركوع في حال لا أنها يجتمعان في ركعة فكأنه حث لها على فعل الخير والثالث أنه مقدم ومؤخر والمعنى اركعي واسجدي كقوله تعالى إني متوفيك ورافعك إلي آل عمران 55 ذكرهما ابن الأنباري والرابع أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السجود على الركوع ذكره أبو سليمان الدمشقي قال مقاتل ومعناه اركعي مع المصلين قراء بيت المقدس قال مجاهد سجدت حتى قرحت
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين
قوله تعالى ذلك من أنباء الغيب ذلك إشارة على ما تقدم من قصة زكرياء ويحيى وعيسى ومريم و الأنباء الأخبار والغيب ما غاب عنك والوحي كل شيء دللت به من كلام أو كتاب أو إشارة أو رسالة قاله ابن قتيبة والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم ب الوجوه والنظائر مونقة وفي الأقلام ثلاثة أقوال أحدها أنها التي يكتب بها قاله ابن عباس وابن جبير والسدي والثاني أنها العصي قاله الربيع بن أنس والثالث أنها القداح وهو اختيار ابن قتيبة وكذلك قال الزجاج هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة و إنما قيل للسهم

القلم لأنه يقلم أي يبرى وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته ومنه القلم الذي يكتب به لأنه قلم مرة بعد مرة ومنه قلمت أظفاري قال ومعنى أيهم يكفل مريم لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم وهو الضمان للقيام بأمرها ومعنى لديهم عندهم وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفا وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال أحدها أنه قول الله له كن فكان قاله ابن عباس وقتادة والثاني أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى حكاه أبو سليمان والثالث أن الكلمة اسم لعيسى وسمي كلمة لأنه كان عن الكلمة وقال القاضي أبو يعلى لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى وفي تسميته بالمسيح ستة أقوال أحدها أنه لم يكن لقدمه أخمص والأخص ما يتجافى عن الأرض من باطن القدم رواه عطاء عن ابن عباس والثاني أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ رواه الضحاك عن ابن عباس والثالث أنه مسح بالبركة قاله الحسن وسعيد والرابع أن معنى المسيح الصديق قاله مجاهد وابراهيم النخعي وذكره اليزيدي قال أبو سليمان الدمشقي ومعنى هذا أن الله مسحه فطهره من الذنوب والخامس أنه كان يمسح الأرض أي يقطعها ذكره ثعلب وبيانه أنه كان كثير السياحة والسادس أنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن قاله أبو سليمان الدمشقي وحكاه ابن القاسم وقال ابو عبيد المسيح في كلام العرب على معنيين أحدهما المسيح الدجال والأصل فيه الممسوح لأنه ممسوح احد العينين والمسيح عيسى وأصله بالعبرانية مشيحا بالشين فلما عربته العرب أبدلت من شينه سينا كما قالوا موسى وأصله بالعبرانية موشى قاله ابن الأنباري و إنما بدأ بلقبه فقال المسيح عيسى بن مريم لأن المسيح أشهر من عيسى لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه به وعيسى قد يقع على عدد كثير فقدمه لشهرته ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم فأما قوله عيسى بن مريم فانما نسبه إلى أمخ لينفي ما قال عنه الملحدون من النصارى إذ أضافوه إلى الله تعالى

قوله تعالى وجيها قال ابن زيد التوجيه في كلام العرب المحبب المقبول وقال ابن قتيبة الوجيه ذوالجاه وقال الزجاج هو ذو المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة يقال قد وجه الرجل يوجه وجاهة ولفلان جاه عند الناس أي منزلة رفيعة
قوله تعالى ومن المقربين قال قتادة عند الله يوم القيامة والمهد مضجع الصبي في رضاعه وهو مأخوذ من التمهيد وهو التوطئه وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان أحدهما لتبرئه أمه مما قذفت به والثاني لتحقيق معجزته الدالة على نبوته قال ابن عباس تكلم ساعة في مهده ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق وكهلا قال ابن ثلاثين سنة ارسله الله تعالى فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله وقال وهب بن منبه جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة فمكث في نبوته ثلاث سنين ثم رفعه الله قال ابن الأنباري كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين ومن اربى علهيا فقد دخل في الكهولة والكهل عند العرب الذي قد جاوز الثلاثين و إنما سمي الكهل كهلا لاجتماع قوته وكمال شبابه وهو من قولهم قداكتهل النبات وقال ابن فارس الكهل الرجل حين وخطه الشيب فان قيل قد علم أن الكهل يتكلم فعنه ثلاثة اجوبة أحدها أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره أي أنه يبلغ الكهولة وقد روي عن ابن عباس أنه قال وكهلا قال ذلك بعد نزوله من السماء والثاني أنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه و أن الايام تنقله من حال إلى حال ولو كان إلها لم يدخل عليه هذا التغير ذكره ابن جرير الطبري والثالث أن المراد بالكهل الحليم قاله مجاهد
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون
قوله تعالى قالت رب أنى يكون لي ولد في علة قولها هذا قولان أحدهما أنها قالت هذا تعجبا واستفهاما لا شكا وإنكارا على ما أشرنا إليه في قصة زكريا وعلى هذا

الجمهور والثاني أن الذي خاطبها كان جبريل وكانت تظنه آدميا يريد بها سوءا ولهذا قالت أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا مريم 18 فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله لأنها لم تعلم أنه ملك فلذلك قالت أنى يكون لي ولد قاله ابن الأنباري
قوله تعالى ولم يمسسني أي ولم يقربني زوج والمس الجماع قاله ابن فارس وسمي البشر بشرا لظهورهم والبشرة ظاهر جلد الإنسان وأبشرت الارض أخرجت نباتها وبشرت الأديم إذا قشرت وجهه وتباشير الصبح اوائله قال يعني جبريل كذلك الله يخلق ما يشاء أي بسبب وبغير سبب وباقي الآية مفسر في البقرة
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل
قوله تعالى ويعلمه الكتاب قرأ الأكثرون ونعلمه بالنون وقرأ نافع وعاصم بالياء فعطفاه على قوله يبشرك وفي الكتاب قولان أحدهما أنه كتب النبيين وعلمهم قاله ابن عباس والثاني الكتابة قاله ابن جريج و مقاتل قال ابن عباس والحكمة الفقه وقضاء النبيين
ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطيين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا باذن اله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى باذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى ورسولا قال الزجاج ينتصب على وجهين أحدهما ونجعله رسولا والاختيار عندي ويكلم الناس رسولا
قوله تعالى أني أخلق قرأ الأكثرون أني بالفتح فجعلوها بدلا من آية فكأنه قال قد جئتكم بأني أخلق لكم وقرأ نافع بالكسر قال أبو علي يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مستأنفا والثاني أنه فسر الآية بقوله إني أخلق أي أصور وأقدر

قال ابن عباس أخذ طينا وصنع منه خفاشا ونفخ فيه فاذا هو يطير ويقال لم يصنع غير الخفاش ويقال إن بني إسرائيل نعتوه بذلك لأن الخفاش عجيب الخلق وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لهم ماذا تريدون قالوا الخفاش فسألوه أشد الطير خلقا لأنه يطير بغير ريش وقال وهب كان الذي صنعه يطير ما دام الناس ينظرونه فاذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليميز فعل الخلق من فعل الخالق والأكثرون قرؤوا فيكون طيرا وقرأ نافع هاهنا وفي المائدة طائرا قال أبو علي حجة الجمهور قوله تعالى كهيئة الطير ولم يقل كهيئة الطائر ووجهة قراءة نافع أنه أراد يكون ما أنفخ فيه أو ما اخلقه طائرا وفي الأكمه أربعة أقوال أحدها أنه الذي يولد أعمى رواه الضحاك عن ابن عباس وسعيد عن قتادة وبه قال اليزيدي و ابن قتيبة و الزجاج والثاني أنه الأعمى ذكره ابن جريج عن ابن عباس ومعمر عن قتادة وبه قال الحسن والسدي وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه هو الذي يولد أعمى وهو الذي يعمى و إن كان بصيرا والثاث أنه الأعمش قاله عكرمة والرابع أنه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل قاله مجاهد و الضحاك والأبرص الذي به وضح وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام علم الطب فأراهم المعجزة من جنس ذلك إلا أنه ليس في الطب إبراء الأكمه والأبرص وكان ذلك دليلا على صدقه قال وهب ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا و إنما كان يداويهم بالدعاء وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموت وعن ابن عباس أن الاربعة كلهم بقي حتى ولد له إلا سام بن نوح
قوله تعالى وأنبئكم بما تأكلون قال سعيد بن جبير كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون ويقول للغلام يا غلام إن أهلك قد هيئوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه وقال مجاهد بما أكلتم البارحة و بما خبأتم منه وعلى هذا المفسرون إلا أن

قتادة كان يقول وأنبئكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم وما تدخرون منها وكان اخذ عليهم أن يأكلوا منها ولا يدخروا فلما خانوا مسخوا خنازير
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم
قوله تعالى ومصدقا لما بين يدي قال الزجاج نصب مصدقا على الحال أي وجئتكم مصدقا و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم قال قتادة كان قد حرم عليهم موسى الابل والثروب وأشياء من الطير فأحلها عيسى
قوله تعالى و جئتكم بآية أي بآيات تعلمون بها صدقي و إنما وحد لأن الكل من جنس واحد من ربكم أي من عند ربكم
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال ن أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون
قوله تعالى فلما أحس عيسى أي علم قال شيخنا أبو منصور اللغوي يقال أحسست بالشيء وحسست به وقول الناس في المعلومات محسوسات خطأ إنما الصواب المحسات فأما المحسوسات فهي المقتولات يقال حسه إذا قتله والأنصار الأعوان و إلى بمعنى مع في قول الجماعة قال الزجاج و إنما حسنت في موضع مع لأن إلى غاية و مع تضم الشئ بالشئ قال ابن الأنباري ويجوز أن

يكون المعنى من أنصاري إلى أن أبين أمر الله واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريين فقا لم لما كفر به قومه وأرادوا قتله استنصر الحواريين وقال غيره لما كفروا به وأخرجوه من قريتهم استنصر الحواريين وقيل استنصرهم لإقامة الحق وإظهار الحجة والجمهور على تشديد ياء الحواريين وقرأ الجوني والجحدري و أبو حيوة الحواريون بتخفيف الياء وفي معنى الحواريين ستة أقوال أحدها انهم الخواص الأصفياء قال ابن عباس الحواريون أصفياء عيسى وقال الفراء كانوا خاصة عيسى وقال الزجاج الحواريون في اللغة الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب وكذلك الدقيق الحواري إنما سمي بذلك لأنه ينقى من لباب البر وخالصه قال حذاق اللغويين الحواريون صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في تصديقهم ونصرتهم ويقال عين حوراء إذا اشتد بياضها وخلص واشتد سوادها ولا يقال امرأة حوراء إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء والثاني انهم البيض الثياب روى سعيد بن جبير عن ابن عباس انهم سموا بذلك لبياض ثيابهم والثالث انهم القصارون سموا بذلك لأنهم كانوا يحورون الثياب أي يبيضونها قال الضحاك و مقاتل الحواريون هم القصارون قال اليزيدي ويقال للقصارين الحواريون لأنهم يبيضون الثيباب ومنه سمي الدقيق الحوارى والعين الحوراء النقية المحاجر والرابع الحواريون المجاهدون
وأنشدوا ... ونحن أناس يملأ البيض هامنا ... ونحن حواريون حين نزاحف

جماجنا يوم اللقاء تراسنا ... إلى الموت نمشي ليس فينا تحانف ...
والخامس الحواريون الصيادون والسادس الحواريون الملوك حكى هذه الاقوال الثلاثة ابن الأنباري قال ابن عباس وعدد الحواريين اثنا عشر رجلا وفي صناعتهم قولان أحدهما انهم كانوا يصطادون السمك رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس والثاني انهم كانوا يغسلون الثياب قاله الضحاك و أبو أرطاة
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
قوله تعالى ربنا آمنا بما أنزلت هذا قول الحواريين والذي أنزل الانجيل والرسول عيسى وفي المراد بالشاهدين خمسة أقوال أحدها انهم محمد صلى الله عليه و سلم وأمته من المؤمنين رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث انهم الأنبياء لأن كل نبي شاهد أمته قاله عطاء والرابع أن الشاهدين الصادقون قاله مقاتل والخامس انهم الذين شهدوا للأنبياء بالتصديق فمعنى الآية صدقنا واعترفنا فاكتبنا مع من فعل فعلنا هذا قول الزجاج
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين
قوله تعالى ومكروا ومكر الله قال الزجاج المكر من الخلق خبث وخداع ومن الله عز و جل المجازاة فسمي باسم ذلك لأنه مجازاة عليه كقوله تعالى الله يستهزئ بهم البقرة 15 والله خير الماكرين آل عمران 54 لأن مكره مجازاة ونصر للمؤمنين قال ابن عباس ومكرهم أن اليهود أرادوا قتل عيسى فدخل خوخة فدخل رجل منهم فألقى عليه شبه عيسى ورفع عيسى إلى السماء فلما خرج إليهم ظنوه عيسى فقتلوه

إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذي اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون
قوله تعالى إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك قال ابن قتيبة التوفي من استيفاء العدد يقال توفيت واستوفيت كما يقال تيقنت الخبر واستيقنته ثم قيل للموت وفاة وتوف وأنشد أبو عبيدة ... إن بني الأدرد ليسوا من أحد ... ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد ... ولا توفاهم قريش في العدد ...
أي لا تجعلهم وفاء لعددها والوفاء التمام وفي هذا التوفي قولان أحدهما أنه الرفع إلى السماء والثاني أنه الموت فعلى القول الاول يكون نظم الكلام مستقيما من غير تقديم و لاتأخير ويكون معنى متوفيك قابضك من الأرض وافيا تاما من غير أن ينال منك اليهود شيئا هذا قول الحسن وابن جريج و ابن قتيبة واختاره الفراء ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم المائدة 117 أي

رفعتني إلى السماء من غير موت لأنهم إنما بدلوا بعد رفعه لا بعد موته وعلى القول الثاني يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره إني رافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد ذلك هذا قول الفراء و الزجاج في آخرين فتكون الفائدة في إعلامه بالتوفي تعريفه أن رفعه إلى السماء لا يمنع من موته قال سعيد بن المسيب رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وقال مقاتل رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان وقيل عاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين ويقال ماتت قبل رفعه
قوله تعالى ومطهرك من الذين كفروا فيه قولان أحدهما أنه رفعه من بين اظهرهم والثاني منعهم من قبله وفي الذين اتبعوه قولان أحدهما انهم المسلمون من امة محمد صلى الله عليه و سلم لأنهم صدقوا بنبوته و أنه روح الله وكلمته هذا قول قتادة والربيع وابن السائب والثاني انهم النصارى فهم فوق اليهود واليهود مستذلون مقهورون قاله ابن زيد
قوله تعالى فيما كنتم فيه تخلتفون يعني الدين
فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين
قوله تعالى فأما الذين كفروا قيل هم اليهود والنصارى وعذابهم في الدنيا بالسيف والجزية وفي الآخرة بالنار
وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين
قوله تعالى فيوفيهم أجورهم قرأ الأكثرون بالنون وقرأ الحسن وقتادة وحفص عن عاصم فيوفيهم بالياء معطوفا على قوله تعالى إذ قال الله يا عيسى
ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم

قوله تعالى ذلك نتلوه عليك يعني ما جرى من القصص من الآيات يعني الدلالات على صحة رسالتك إذ كانت أخبارا لا يعلمها أمي والذكر الحكيم قال ابن عباس هو القرآن قال الزجاج معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وإبانة الفوائد منه
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم قال أهل التفسير سبب نزول هذه الآية مخاصمة وفد نجران من النصارى للنبي صلى الله عليه و سلم في أمر عيسى وقد ذكرناه في أول السورة فأما تشبيه عيسى بآدم فلأنهما جميعا من غير أب
قوله تعالى خلقه من تراب يعني آدم قال ثعلب وهذا تفسير لأمر آدم وليس بحال
قوله تعالى ثم قال له يعني لآدم وقيل لعيسى كن فيكون أي فكان فأريد بالمستقبل الماضي كقوله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين أي ماتلت الشياطين
الحق من ربك فلا تكن من الممترين
قوله تعالى الحق من ربك قال الزجاج الحق مرفوع على خبر ابتداء محذوف المعنى الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحق من ربك فلا تكن من الممترين أي الشاكين والخطاب للنبي خطاب للخلق لأنه لم يشك
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين

قوله تعالى فمن حاجك فيه في هاء فيه قولان أحدهما أنها ترجع إلى عيسى والثاني إلى الحق والعلم البيان والإيضاح
قوله تعالى فقل تعالوا قال ابن قتيبة تعالى تفاعل من علوت ويقال للاثنين من الرجال والنساء تعاليا وللنساء تعالين قال الفراء أصلها من العلو ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها صارت عندهم بمنزلة هلم حتى استجازوا أن يقولوا للرجل وهو فوق شرف تعالى أي اهبط و إنما أصلها الصعود قا المفسرون أراد بأبنائنا فاطمة والحسن والحسين وروى مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص قال لما نزلت هذه الآية تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي
قوله تعالى وأنفسنا فيه خمسة اقوال احدها أراد علي بن أبي طالب قاله الشعبي والعرب تخبر عن ابن العم بانه نفس ابن عمه والثاني أراد الاخوان قاله ابن قتيبة والثالث أراد أهل دينه قاله أبو سليمان الدمشقي والرابع أراد الأزواج والخامس أراد القرابة القريبة ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري فأما الابتهال فقال ابن قتيبة هو التداعي باللعن يقال عليه بهلة الله وبهلته أي لعنته وقال الزجاج معنى الابتهال في اللغة المبالغة في الدعاء وأصله الالتعان يقال بهله الله أي لعنه وأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجة قال جابر بن عبد الله قدم وفد نجران فيهم السيد والعاقب فذكر الحديث إلى أن قال فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه أن يفادياه فغدا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل اليهما فأبيا أن يجيباه فأقرا له بالخراج فقال

والذي يعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهم نارا
إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم
قوله تعالى وما من إله إلا الله قال الزجاج دخلت من هاهنا توكيدا ودليلا على نفي جميع ما ادعى المشركون من الآلهة
فان تولوا فان الله عليم بالمفسدين
قوله تعالى فان تولوا فيه ثلاثة أقوال أحدها عن الملاعنة قاله مقاتل والثاني أنه عن البيان الذي أتى به النبي صلى الله عليه و سلم قاله الزجاج والثالث عن الإقرار بوحدانية الله وتنزيهه عن الصاحبة والولد قاله أبو سليمان الدمشقي وفي الفساد هاهنا قولان أحدهما أنه العمل بالمعاصي قاله مقاتل والثاني الكفر ذكره الدمشقي
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
قوله تعالى قل يا أهل الكتاب فيه ثلاثة أقوال أحدها انهم اليهود قاله قتادة وابن جريج والربيع بن أنس والثاني وفد نجران الذين حاجوا في عيسى قاله السدي و مقاتل والثالث أهل الكتابين جميعا قاله الحسن وقال ابن عباس نزلت في القسيسين والرهبان فبعث بها النبي صلى الله عليه و سلم إلى جعفر و أصحابه بالحبشة فقرأها جعفر والنجاشي جالس وأشراف الحبشة فأما الكلمة فقال المفسرون هي لا إله إلا الله فان قيل

فهذه كلمات فلم قال كلمة فعنه جوابان أحدهما أن الكلمة تعبر عن ألفاظ وكلمات قال اللغويون ومعنى كلمة كلام فيه شرح قصة وإن طال تقول العرب قال زهير في كلمته يراد في قصيدته
قالت الخنساء ... وقافيه مثل حد السنا ... ن تبقى ويذهب من قالها ... تقد الذؤابة من يذبل ... أبت أن تزايل أوعالها ... نطقت ابن عمرو فسهلتها ... ولم ينطق الناس أمثالها ...
فأوقعت القافية على القصيدة كلها والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة من البيت و إنما سميت قافية لإن الكلمة تتبع البيت وتقع آخره فسميت قافية من قول العرب قفوت فلانا إذا اتبعته و إلى هذا الجواب يذهب الزجاج وغيره والثاني أن المراد بالكلمة كلمات فاكتفى بالكلمة من كلمات كما قال علقمة بن عبدة ... بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب ...
أراد وأما جلودها فاكتفى بالواحد من الجمع ذكره والذي قبله ابن الأنباري
قوله تعالى سواء بيننا وبينكم قال الزجاج يعني بالسواء العدل وهو من استواء الشئ ويقال للعدل سواء وسواء وسواء

قال زهير بن أبي سلمى ... أروني خطة لاضيم فيها ... يسوي بيننا فيها السواء ... فان تدعوا السواء فليس بيني ... وبينكم بني حصن بقاء ...
قال وموضع أن في قوله تعالى ألا تعبدوا إلا الله خفض على البدل من كلمة المعنى تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله وجائز أن يكون أن في موضع رفع كأن قائلا قال ما الكلمة فأجيب فقيل هي ألا نعبد إلا الله
قوله تعالى ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فيه ثلاثة أقوال أحدها أن سجود بعضهم لبعض قاله عكرمة والثاني لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله قاله ابن جريج والثالث أن نجعل غير الله ربا كما قالت النصارى في المسيح قاله مقاتل و الزجاج
يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما انزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون
قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم قال ابن عباس والحسن والسدي اجتمع عند الني صلى الله عليه و سلم نصارى نجران وأحبار اليهود فقال هؤلاء ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقال هؤلاء ما كان إلا نصارنيا فنزلت هذه الآية
ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم و أنتم لا تعلمون

قوله تعالى ها أنتم قرأ ابن كثير هأنتم مثل هعنتم فأبدل من همزة الاستفهام الهاء أراد أأنتم وقرأ نافع و أبو عمرو وهانتم ممدودا استفهام بلا همزة وقرأ عاصم وابن عامر و حمزة والكسائي ها أنتم ممدودا بن يونس الأرموي ومحمد ابن عبد المنعم ومهموزا ولم يختلفوا في مد هؤلاء و أولاء
قوله تعالى فيما لكم به علم فيه قولان أحدهما أنه ما راوا وعاينوا قاله قتادة والثاني ما أمروا به ونهوا عنه قاله السدي فأما الذي ليس لهم به علم فهو شأن إبراهيم عليه السلام وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وسبعون سنة وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة وقال ابن إسحاق كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة وقد سبق في البقرة معنى الحنيف
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين
قوله تعالى إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه في سبب نزولها قولان أحدهما أن رؤساء اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك و أنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد فنزلت هذه الآية ومعناها أحق الناس بدين إبراهيم الذين اتبعوه على دينه وهذا النبي صلى الله عليه و سلم على دينه قاله ابن عباس والثاني أن عمرو بن العاص أراد أن يغضب النجاشي على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فقال للنجاشي إنهم ليشتمون عيسى فقال النجاشي ما يقول صاحبكم في عيسى فقالوا يقول إنه عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم فأخذ النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين فقال والله ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يزن هذا القذى ثم قال أبشروا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم

قال عمرو بن العاص ومن حزب إبراهيم قال هؤلاء الرهط وصاحبهم فأنزل الله يوم خصومتهم على النبي صلى الله عليه و سلم هذه الآية هذا قول عبد الرحمن بن غنم
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون
قوله تعالى ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل وعمار بن ياسر تركتما دينكما واتبعتما دين محمد فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس والطائفة اسم لجماعة مجتمعين على ما اجتمعوا عليه من دين ورأي ومذهب وغير ذلك و في هذه الطائفة قولان أحدهما انهم اليهود قاله ابن عباس والثاني اليهود والنصارى قاله أبو سليمان الدمشقي والضلال الحيرة وفيه هاهنا قولان أحدهما أنه الاستنزال عن الحق إلى الباطل وهو قول ابن عباس و مقاتل والثاني الإهلاك ومنه أإذا ضللنا في الأرض السجدة 10 قاله ابن جرير والدمشقي وفي قوله وما يشعرون قولان أحدهما وما يشعرون أن الله يدل المؤمنين على حالهم والثاني وما يشعرون أنهم يضلون أنفسهم
يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون
قوله تعالى لم تكفرون بآيات الله قال قتادة يعني محمدا والإسلام وأنتم تشهدون أن بعث محمد في كتابكم ثم تكفرون به
يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون
قوله تعالى لم تلبسون الحق بالباطل قال اليزيدي معناه لم تخلطون الحق بالباطل قال ابن فارس واللبس اختلاط الأمر وفي الأمر لبسة أي ليس بواضح

وفي الحق والباطل أربعة أقوال أحدها أن الحق إقرارهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه و سلم والباطل كتمانهم بعض أمره والثاني الحق إيمانهم بالنبي صلى الله عليه و سلم غدوة والباطل كفرهم به عشية رويا عن ابن عباس والثالث الحق التوراة والباطل ما كتبوه فيها بأيديهم قاله الحسن وابن زيد والرابع الحق الإسلام والباطل اليهودية والنصرانية قاله قتادة
قوله تعالى وتكتمون الحق قال قتادة كتموا الإسلام وكتموا محمدا صلى الله عليه و سلم وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون
قوله تعالى وقالت طائفة من أهل الكتاب في سبب نزلوها قولان أحدهما أن طائفة من اليهود قالوا إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا و إذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم اعلم منا فينقلبون عن دينهم رواه عطية عن ابن عباس وقال الحسن والسدي تواطأ اثنا عشر حبرا من اليهود فقال بعضهم لبعض ادخلوا في دين محمد باللسان اول النهار واكفروا آخره وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمد ليس بذلك فيشك أصحابه في دينهم ويقولون هم أهل الكتاب وهم اعلم منا فيرجعون إلى دينكم فنزلت هذه الآية و إلى هذا المعنى ذهب الجمهور والثاني أن الله تعالى صرف نبيه إلى الكعبة عند صلاة الظهر فقال قوم من علماء اليهود آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار يقولون آمنوا بالقبلة التي صلوا إليها الصبح واكفروا بالتي صلوا إليها آخر النهار لعلهم يرجعون إلى قبلتكم رواه أبو صالح عن ابن عباس قال مجاهد وقتادة و الزجاج في آخرين وجه النهار أوله
وأنشد الزجاج ... من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسرا يندبنه ... قد قمن قبل تبلج الأسحار ...
ولا تؤمنوا إلا لن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى احد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم
قوله تعالى و لاتؤمنوا إلا لمن تبع دينكم اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال أحدها أن معناه و لا تصدقوا إلا من تبع دينكم ولا تصدقواأن يؤتى أحد مما أوتيتم من العلم وفلق البحر والمن والسلوى وغير ذلك ولا تصدقوا أن يجادلوكم عند ربكم لأنكم أصح دينا منهم فيكون هذا كله من كلام اليهود بينهم وتكون اللام في لمن صلة ويكون قوله تعالى قل إن الهدى هدى الله كلاما معترضا بين كلامين هذا معنى قول مجاهد والأخفش والثاني أن كلام اليهود تام عند قوله لمن تبع دينكم والباقي من قول الله تعالى لا يعترضه شيء من قولهم وتقديره قل يا محمد إن الهدى هدى الله أن يؤتى احد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد إلا أن تجادلكم اليهود بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم هذا معنى قول الحسن وسعيد بن جبير قال الفراء

معنى أن يؤتى أن لا يؤتى والثالث أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره ولا تؤمنوا أن يؤتى احد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم فأخرت أن وهي مقدمة في النية على مذهب العرب في التقديم والتأخير ودخلت اللام على جهة التوكيد كقوله تعالى عسى أن يكون ردف لكم النمل 72 أي ردفكم
وقال الشاعر ... ما كنت أخدع للخليل بخلة ... حتى يكون لي الخليل خدوعا ...
أراد ما كنت أخدع الخليل
وقال الآخر ... يذمون الدنيا وهم يحلبونها ... أفاويق حتى ما يدر لها ثعل ...
أراد يذمون الدنيا ذكره ابن الأنباري والرابع أن اللام غير زائدة والمعنى لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاء به إلا لليهود فانكم إن قلتم ذلك للمشركين كان عونا لهم على تصديقه قاله الزجاج وقال ابن الأنباري لا تؤمنوا أن محمدا وأصحابه على حق إلالمن تبع دينكم مخافة أن يطلع على عنادكم الحق ويحاجوكم به عند ربكم فعلى هذا يكون معنى الكلام لا تقروا بأن يؤتى احد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وقد ذكر هذا المعنى مكي بن أبي طالب النحوي وقرأ ابن كثير أان يؤتى بهمزتين الأولى مخففة والثانية ملينة على الاستفهام مثل أانتم أعلم قال ابو علي ووجهها أن أن في موضع رفع بالابتداء وخبره يصدقون به أو يعترفون به أو يذكرونه لغيركم ويجوز أن يكون

موضع أن نصبا فيكون المعنى أتشيعون أو أتذكرون أن يؤتى احد ومثله في المعنى أتحدثونهم بما فتح الله عليكم البقرة 76 وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف إن يؤتى بكسر الهمزة على معنى ما يؤتى وفي قوله تعالى أو يحاجوكم عند ربكم قولان أحدهما أن معناه ولا تصدقوا انهم يحاجوكم عند ربكم لأنهم لا حجة لهم قاله قتادة والثاني أن معناه حتى يحاجوكم عند ربكم على طريق التعبد كما يقال لا يلقاه أو تقوم الساعة قاله الكسائي
قوله تعالى إن الفضل بيد الله قال ابن عباس يعني النبوة والكتاب والهدى يؤتيه من يشاء لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى احد مثل ما أوتيتم
يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم
قوله تعالى يختص برحمته من يشاء في الرحمة ثلاثة أقوال أحدها أنها الإسلام قاله ابن عباس و مقاتل والثاني النبوة قاله مجاهد والثالث القرآن والإسلام قاله ابن جريج
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم نم إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون
قوله تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار قال ابن عباس أودع رجل ألفا ومئتي أوقيه من ذهب عبد الله بن سلام فأداهما إليه فمدحه الله بهذا الياة وأودع رجل فنحاص بن عازوراء دينارا فخانه و أهل الكتاب اليهود وقد سبق الكلام في القنطار وقيل إن الباء في قوله بقنطار بمعنى على فأما الدينار فقرأت على

شيخنا أبي منصور اللغوي قال الدينار فارسي معرب وأصله دنار وهو وإن كان معربا فليس تعرف له العرب اسما غير الدينار فقد صار كالعربي ولذلك ذكره الله تعالى في كتابه لأنه خاطبهم بما عرفوا واشتقوا منه فعلا فقالوا رجل مدنر كثير الدنانير وبرذون مدنر أشهب مستدير النقش ببياض وسواد فان قيل لم خص أهل الكتاب بأن فيهم خائنا وأمينا والخلق على ذلك فالجواب انهم يخونون المسليمن استحلالا لذلك وقد بينه في قوله تعالى ليس علينا في الأميين سبيل فحذر منهم وقال مقاتل الأمانة ترجع إلى من أسلم منهم والخيانة إلى من لم يسلم وقيل إن الذين يؤدون الأمانة النصارى والذين لا يؤدونها اليهود
قوله تعالى إلا مادمت عليه قائما قال الفراء أهل الحجاز يقولون دمت ودمتم ومت ومتم وتميم يقولون مت و دمت بالكسر ويجتمعون في يفعل يدوم و يموت وفي هذا القيام قولان أحدهما أنه التقاضي قاله مجاهد وقتادة و الفراء و ابن قتيبة و الزجاج قال ابن قتيبة والمعنى مادمت مواظبا بالاقتضاء له والمطالبة وأصل هذا أن المطالب بالشيء يقوم فيه ويتصرف والتارك له يقعد عنه قال الأعشى ... يقوم على الرغم في قومه ... فيعفوا إذا شاء أو ينتقم ...
أي يطالب بالذخل ولا يقعد عنه قال تعالى ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة آل عمران 113 أي علامة غير تاركة وقال تعالى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت الرعد 33 أي آخذ لها بما كسبت والثاني أنه القيام حقيقة فتقديره إلا ما دمت قائما على رأسه فانه يعترف بأمانته فاذا ذهبت ثم جئت جحدك قاله السدي
قوله تعالى ذلك يعني الخيانة والسبيل الإثم والحرج ونظيره ما على

المحسنين من سبيل التوبة 91 قال قتادة إنما استحل اليهود أموال المسلمين لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب
قوله تعالى ويقولون على الله الكذب قال السدي يقولون قد أحل الله لنا أموال العرب
قوله تعالى وهم يعلمون قولان أحدهما يعلمون أن الله قد أنزل في التوراة الوفاء وأداء الأمانة والثاني يقولون الكذب وهم يعلمون أنه كذب
بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين
قوله تعالى بلى رد الله عز و جل عليهم قولهم ليس علينا في الأميين سبيل بقوله بلى قال الزجاج وهو عندي وقف التمام ثم استأنف فقال من أوفى بعهده ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله بلى من أوفى والعهد ما عاهدهم الله عز و جل عليه في التوراة وفي هاء عهده قولان أحدهما أنها ترجع إلى الله تعالى والثاني إلى الموفي
إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم
قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا في سبب نزولها ثلاثة أقوال أحدها أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض فجحده اليهودي فقدمه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له ألك بينة قال لا قال لليهودي أتحلف فقال

الأشعث إذا يحلف فيذهب بمالي فنزلت هذه الآية أخرجه البخاري ومسلم والثاني أنها نزلت في اليهود عهد الله إليهم في التوراة تبيين صفة النبي صلى الله عليه و سلم فجحدوا وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا هذا قول عكرمة و مقاتل والثالث أن رجلا أقام سلعته في السوق اول النهار فلما كان آخره جاء رجل يساومه فحلف لقد منعها اول النهار من كذا ولولا المساء لما باعها به فنزلت هذا الآية هذا قول الشعبي و مجاهد فعلى القول الأول والثالث العهد لزوم الطاعة وترك المعصية وعلى الثاني ما عهده إلى اليهود في التوارة واليمين الحلف و إن قلنا إنها في اليهود والكفار فان الله لا يكلمهم يوم القيامة أصلا وإن قلنا إنها في العصاة فقد روي عن ابن عباس أنه قال لا يكلمهم الله كلام خير ومعنى ولا ينظر إليهم أي لا يعطف عليهم بخير مقتا لهم قال الزجاج تقول فلان لا ينظر إلى فلان ولا يكلمه معناه أنه غضبان عليه
قوله تعالى ولا يزكيهم أي لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم
وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون
قوله تعالى وإن منهم لفريقا اختلفوا فيمن نزلت على قولين أحدهما أنها نزلت في اليهود رواه عطية عن ابن عباس والثاني في اليهود والنصارى رواه الضحاك عن ابن عباس

قوله تعالى وإن هي كلمة مؤكدة واللام في قوله لفريقا بتوكيد زائد على توكيد إن قال ابن قتيبة ومعنى يلوون ألسنتهم يقلبونها بالتحريف والزيادة والألسنة جمع لسان قال أبو عمرو واللسان يذكر ويؤنث فمن ذكره جمعه ألسنه ومن أنثه جمعه ألسنا وقال الفراء اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكرا وتقول العرب سبق من فلان لسان يعنون به الكلام فيذكرونه
وأنشد ابن الأعرابي ... لسانك معسول ونفسك شحة ... وعند الثريا من صديقك مالكا ...
وأنشد ثعلب ... ندمت على لسان كان مني ... فليت بأنه في جوف عكم ...
والعكم العدل ودل بقوله كان مني على أن اللسان الكلام
وأنشد ثعلب ... أتتني لسان بني عامر ... أحاديثها بعد قول نكر ...
فأنث اللسان لأنه عنى الكلمة والرسالة
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون

قوله تعالى ما كان لبشر في سبب نزولها ثلاثة أقوال أحدها أن قوما من رؤساء اليهود والنصارى قالوا يا محمد أتريد أن نتخذك ربا فقال معاذالله ما بذلك بعثني فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس والثاني أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم ألا نسجد لك قال لا فانه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فنزلت هذه الآية قاله الحسن البصري والثالث أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى قاله الضحاك و مقاتل وفيمن عنى ب البشر قولان أحدهما محمد صلى الله عليه و سلم والكتاب القرآن قاله ابن عباس وعطاء والثاني عيسى والكتاب الإنجيل قاله الضحاك و مقاتل والحكم الفقه والعلم قاله قتادة في آخرين قال الزجاج ومعنى الآية لا يجتمع لرجل نبوة والقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله لأن الله لا يصطفي الكذبة
قوله تعالى ولكن كونوا أي ولكن يقول لهم كونوا فحذف القول لدلالة الكلام عليه
فأما الربانيون فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها وقال ابن عباس وابن جبير هم الفقهاء المعلمون وقال قتادة وعطاء هم الفقهاء العلماء الحكماء قاله ابن قتيبة واحدهم رباني وهم العلماء المعلمون وقال أبو عبيد أحسب الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية وذلك أن ابا عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين قال ابو عبيد و إنما عرفها الفقهاء و أهل العلم قال وسمعت رجلا عالما بالكتب يقول هم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي وحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين الرباني منسوب إلى الرب لأن العلم مما يطاع الله به فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة كما قالوا رجل لحياني إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية

قوله تعالى بما كنتم تعلمون الكتاب قرأ ابن كثير ونافع و أبو عمرو تعلمون باسكان العين ونصب اللام وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي تعلمون مثقلا وكلهم قرؤوا تدرسون خفيفة وقرأ ابن مسعود و ابن عباس وابو رزين وسيعد بن جبير وطلحة بن مصرف و أبو حيوه تدرسون بضم التاء مع التشديد والدراسة القراءة قال الزجاج ومعنى الكلام ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدي العلماء والحكماء لأن العالم إنما يستحق هذا الاسم إذا عمل بعلمه ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
قوله تعال ولا يأمركم أن قرأ ابن عامر وحمزة وخلف ويعقوب وعاصم في بعض الروايات عنه وعبد الوارث عن أبي عمرو واليزيدي في اختياره بنصب الراء وقرأ الباقون برفع الراء فمن نصب كان المعنى وما كان لبشر أن يأمركم ومن رفع قطعه مما قبله قال ابن جريج ولا يأمركم محمد
و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا و انا معكم من الشاهدين
قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبين قال الزجاج موضع إذ نصب المعنى واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله قال ابن عباس والميثاق العهد وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان أحدهما أنه تصديق محمد صلى الله عليه و سلم روي عن علي و ابن عباس وقتادة والسدي والثاني أنه أخذ ميثاق الأول من الأنبياء ليؤمنن بما جاء به الآخر منهم قاله

طاووس قال مجاهد والربيع بن أنس هذه الآية خطأ من الكتاب وهي في قراءة ابن مسعود وإذأخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب واحتج الربيع بقوله تعالى ثم جاءكم رسول وقال بعض أهل العلم إنما أخذ الميثاق على النبيين و أممهم فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع وهذا معنى قول ابن عباس و الزجاج
واختلف العلماء في لام لما فقرأ الاكثرون لما بفتح اللام والتخفيف وقرأ حمزة مثلها إلا أنه كسر اللام وقرأ سعيد بن جبير لما مشددة الميم فقراءة ابن جبير معناها حين آتيتكم وقال الفراء في قراءة حمزة يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم ثم جعل قوله لتؤمنن به من الأخذ قال الفراء ومن نصب اللام جعلها زائدة و ما هاهنا بمعنى الشرط والجزاء فالمعنى لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئا من كتاب وحكمة قال ابن الأنباري اللام في قوله تعالى لما آتيتكم على قراءة من شدد أو كسر جواب لأخذ الميثاق قال لأن أخذ الميثاق يمين وعلى قراءة من خففها معناها القسم وجواب القسم اللام في قوله لتؤمنن به و إنما خاطب فقال آتيتكم بعد أن ذكر

النبيين وهم غيب لأن في الكلام معنى قول وحكاية فقال مخاطبا لهم لما آتيتكم وقرأ نافع آتيناكم بالنون والألف
قوله تعالى ثم جاءكم رسول قال علي رضي الله عنه ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وقال غيره أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا والإصر هاهنا العهد في قول الجماعة قال ابن قتيبة أصل الإصر الثقل فسمي العهد إصرا لأنه منع من الأمر الذي أخذ له وثقل وتشديد وكلهم كسر ألف إصري وروى أبو بكر عن عصام ضمة قال ابو علي يشبه أن يكون الضم لغة
قوله تعالى قال فاشهدوا قال ابن فارس الشهادة الإخبار بما شوهد وفيمن خوطب بهذا قولان أحدهما أنه خطاب للنبيين ثم فيه قولان أحدهما أنه معناه فاشهدوا على أممكم قاله علي بن أبي طالب والثاني فاشهدوا على أنفسكم قاله مقاتل والثاني أنه خطاب للملائكة قاله سعيد بن المسيب فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور
فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها و إليه يرجعون
قوله تعالى أفغير دين الله يبغون قرأ ابوعمرو يبغون بالياء مفتوحة و إليه ترجعون بالتاء مضمومة وقرأها الباقون بالياء في الحرفين وروى حفص عن عاصم يبغون و يرجعون بالياء فيهما وفتح الياء وكسر الجيم يعقوب على أصله قال ابن عباس اختصم أهل الكتابين فزعمت كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم فقال النبي صلى الله عليه و سلم كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا والله لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية والمراد بدين الله دين محمد صلى الله عليه و سلم وله أسلم انقاد وخضع طوعا وكرها الطوع الانقياد بسهولة والكره الانقياد بمشقة وإباء من النفس

وفي معنى الطوع والكره ستة أقوال أحدها أن إسلام الكل كان يوم الميثاق طوعا وكرها رواه مجاهد عن ابن عباس والأعمش عن مجاهد وبه قال السدي والثاني أن المؤمن يسجد طائعا والكافر يسجد ظله وهو كاره روي عن ابن عباس ورواه ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد والثالث أن الكل أقروا له بأنه الخالق وإن أشرك بعضهم فاقراره بذلك حجة عليه في إشراكه هذا قول أبوالعالية ورواه منصور عن مجاهد والرابع أن المؤمن أسلم طائعا والكافر أسلم مخافة السيف هذا قول الحسن والخامس أن المؤمن أسلم طائعا والكافر أسلم حين رأى بأس الله فلم ينفعه في ذلك الوقت هذا قول قتادة والسادس أن إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في تتجبلتهم لا يقدرأحد أن يمتنع من جبلة جبله عليها ولا على تغييرها هذا قول الزجاج وهو معنى قول الشعبي انقاد كلهم له
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
قوله تعالى كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم في سبب نزولها ثلاثة أقوال أحدها أن رجلا من الانصار ارتد فلحق بالمشركين فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى إلا الذين تابوا فكتب بها قومه إليه فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك منه وخلى عنه

رواه عكرمة ابن عباس وذكر مجاهد والسدي أن اسم ذلك الرجل الحارث بن سويد والثاني أنها نزلت في عشرة رهط ارتدوا فيهم الحارث بن سويد فندم فرجع رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مقاتل والثالث أنها في أهل الكتاب عرفوا النبي صلى الله عليه و سلم ثم كفروا به رواه عطية عن ابن عباس وقال الحسن هم اليهود والنصارى وقيل إن كيف هاهنا لفظها لفظ الاستفهام ومعناها الجحد أي لا يهدي الله هؤلاء
خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فان الله غفور رحيم
قوله تعالى خالدين فيها قال الزجاج أي في عذاب اللعنة ولا هم ينظرون أي يؤخرون عن الوقت قال ومعنى أصلحوا أي اظهروا انهم كانوا على ضلال وأصلحوا ما كانوا أفسدوه وغروا به من تبعهم ممن لا علم له
فصل
وهذه الآية استثنت من تاب ممن لم يتب وقد زعم قوم أنها نسخت ما تضمنته الآيات قبلها من الوعيد وليس بنسخ
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون

قوله تعالى إن الذين كفروا بعد إيمانهم اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال أحدها أنها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد فانهم قالوا نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون قاله ابن عباس و مقاتل والثاني أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والانجيل ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن قاله الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والثالث أنها نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته ثم ازدادوا كفرا باقامتهم على كفرهم قاله أبو العالية قال الحسن كلما نزلت آية كفروا بها فازداوا كفرا وفي علة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال أحدها انهم ارتدوا وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم قاله ابن عباس والثاني انهم قوم تابوا من الذنوب في الشرك ولم يتوبوا من الشرك قاله أبوالعالية والثالث أن معناه لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت وهو قول الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي والرابع لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر قاله مجاهد
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين
قوله تعالى إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم لما فتح مكة دخل من كان من أصحاب الحارث بن سويد حيا في الإسلام فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافرا قال الزجاج وملء الشيء مقدار ما يملؤه قال سيبويه والخليل والملء بفتح الميم الفعل تقول ملأت الشيء أملؤه ملأ المصدر بالفتح لا غير والملاءة التي تلبس ممدودة والملاوة من الدهر القطعة الطويلة

منه يقولون ابل جديدا وتمل حبيبا أي عش معه دهرا طويلا و ذهبا منصوب على التمييز وقال ابن فارس ربما أنث الذهب فقيل ذهبة ويجمع على الأذهاب
قوله تعالى ولو افتدى به قال الفراء الواو هاهنا قد يستغنى عنها ولو حذفت كان صوابا كقوله تعالى وليكون من الموقنين الأنعام 75 قال الزجاج هذا غلط لأن فائدة الواو بينة فليست مما يلقى قال النحاس قال أهل النظر من النحويين في هذه الآية الواو ليست مقحمة وتقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا تبرعا ولو افادى افتدى
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فان الله به عليم
قوله تعالى لن تنالوا البر في البر أربعة أقوال أحدها أنه الجنة قاله ابن عباس و مجاهد والسدي في آخرين قال ابن جرير فيكون المعنى لن تنالوا بر الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم والثاني التقوى قاله عطاء و مقاتل والثالث الطاعة قاله عطية والرابع الخير الذي يستحق به الأجر قاله ابو روق قال القاضي أبو يعلى لم يرد نفي الأصل و إنما نفي وجود الكمال فكأنه قال لن تنالوا البر الكامل
قوله تعالى حتى تنفقوا مما تحبون فيه قولان أحدهما أنه نفقة العبد من ماله وهو صحيح شحيح رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم والثاني أنه الانفاق من محبوب

المال قاله قتادة والضحاك وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال أحدها أنها الصدقة المفروضة قاله ابن عباس والحسن والضحاك والثاني أنها جميع الصدقات قاله ابن عمر والثالث أنها جميع النفقات التي يبتغي بها وجه الله تعالى سواء كانت صدقة أو لم تكن نقل عن الحسن واختاره القاضي أبو يعلى وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه و سلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس فلما نزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة فقال يا رسول الله إن الله يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي الي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها حيث أراك الله فقال صلى الله عليه و سلم بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح شك الرواي وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال لا أجد شيئا أحب إلى من جاريتي رميثه فهي حرة لوجه الله ثم قال

لولا أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها فأنكحها نافعا فهي أم ولده وسئل أبو ذر أي الأعمال أفضل فقال الصلاة عماد الإسلام والجهاد سنام العمل والصدقة شيء عجب ثم قال السائل يا ابا ذر لقد تركت شيئا هو اوثق عمل في نفسي لا أراك ذكرته قال ما هو قال الصيام فقال قربة وليس هناك وتلا قوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قال الزجاج ومعنى قوله تعالى فان الله به عليم أي يجازي عليه
كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل إلا ما حرم اسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التورية فأتوا بالتورية فاتلوها إن كنتم صادقين
قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أنا على ملة إبراهيم فقالت اليهود كيف و أنت تأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها فقال كان ذلك حلا لإبراهيم فقالوا كل شيء نحرمه نحن فانه كان محرما على نوح و إبراهيم حتى انتهى إلينا فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم قاله أبو روق وابن السائب والطعام اسم للمأكول قال ابن قتيبة والحل الحلال ومثله الحرم والحرام واللبس واللباس وفي الذي حرمه على نفسه ثلاثة أقوال أحدها لحوم الإبل وألبانها روي عن النبي صلى الله عليه و سلم ورواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول الحسن وعطاء ابن أبي رباح

و أبي العالية في آخرين والثاني أنه العروق رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو قول مجاهد وقتادة و الضحاك والسدي في آخرين والثالث أنه زائدتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما على الظهر قاله عكرمة وفي سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال أحدها أنه طال به مرض شديد فنذر لئن شفاه الله ليحرمن احب الطعام والشراب إليه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم والثاني أنه اشتكى عرق النسا فحرم العروق قاله ابن عباس في آخرين والثالث أن الأطباء وصفوا له حين أصابه النسا اجتناب ما حرمه فحرمه رواه الضحاك عن ابن عباس والرابع أنه كان إذا أكل ذلك الطعام أصابه عرق النسا فيبيت وقيذا فحرمه قاله أبو سليمان الدمشقي واختلفوا هل حرم ذلك باذن الله أو باجتهاده على قولين واختلفوا بماذا ثبت تحريم الطعام الذي حرمه على اليهود على ثلاثة أقوال أحدها أنه حرم عليهم بتحريمه ولم يكن محرما في التوراة قاله عطية وقال ابن عباس قال يعقوب لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد والثاني انهم وافقوا اباهم يعقوب في تحريمه لا أنه حرم عليهم بالشرع ثم أضافوا تحريمه إلى الله فأكذبهم الله بقوله قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين هذا قول الضحاك والثالث أن الله حرمه عليهم بعد التوراة لا فيها وكانوا إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم عليهم به طعام طيب أو صب عليهم عذاب هذا قول ابن السائب قال ابن عباس فأتوا بالتوراة فاتلوها هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها

فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون
قوله تعالى فمن افترى يقول اختلق على الله الكذب من بعد ذلك أي من بعد البيان في كتبهم وقيل من بعد مجيئكم بالتوارة وتلاوتكم إياها
قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
قوله تعالى قل صدق الله الصدق الإخبار بالشيء على ما هو به وضده الكذب واختلفوا أي خبر عنى بهذه الآية على قولين أحدهما أنه عنى قوله تعالى ما كان ابراهيم يهوديا قاله مقاتل وابو سليمان الدمشقي والثاني أنه عنى قوله تعالى كل الطعام كان حلا قاله ابن السائب
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين
قوله تعالى إن أول بيت وضع للناس قال مجاهد افتخر المسلمون واليهود فقالت اليهود بيت المقدس افضل من الكعبة وقال المسلمون الكعبة أفضل فنزلت هذه الآية وفي معنى كونه أول قولان أحدهما أنه أول بيت كان في الأرض واختلف أرباب هذا القول كيف كان أول بيت على ثلاثة أقوال أحدها أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الارض فخلقه قبلها بألفي عام ودحاها من تحته فروى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال كانت الكعبة حشفة على وجه الماء عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة وقال ابن عباس وضع البيت في الماء على أربعة اركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة ثم دحيت الأرض من تحت البيت وبهذا القول يقول ابن عمر وابن عمرو وقتادة و مجاهد والسدي في آخرين والثاني أن آدم استوحش حين أهبط فأوحى الله إليه أن ابن لي بيتا في الأرض فاصنع حوله نحو ما رايت ملائكتي تصنع حول عرشي فبناه رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث أنه أهبط مع آدم فلما

كان الطوفان رفع فصار معمورا في السماء وبنى إبراهيم على أثره رواه شيبان عن قتادة القول الثاني أنه أول بيت وضع للناس للعبادة وقد كانت قبله بيوت هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وعطاء بن السائب في آخرين فأما بكة فقال الزجاج يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقا من البك يقال بك الناس بعضهم بعضا أي دفع واختلفوا في تسميتها بكة على ثلاثة أقوال أحدها لازدحام الناس بها قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة و الفراء و مقاتل والثاني لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله روي عن عبد الله ابن الزبير وذكره الزجاج والثالث لأنها تضع من نخوة المتجبرين يقال بككت الرجل أي وضعت منه ورددت نخوته قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي وقطرب واتفقوا على أن مكة اسم لجميع البلدة واختلفوا في بكة على أربعة أقوال أحدها أنه اسم للبقعة التي فيها الكعبة قاله ابن عباس و مجاهد وابو مالك وابراهيم وعطية والثاني أنها ما حول البيت ومكة ما وراء ذلك قاله عكرمة والثالث أنها المسجد والبيت ومكة اسم للحرم كله قاله الزهري وضمرة بن حبيب والرابع أن بكة هي مكة قاله الضحاك و ابن قتيبة واحتج ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم يقال سمد رأسه وسبد رأسه إذا استأصله وشر لازم ولازب
قوله تعالى مباركا قال الزجاج هو منصوب على الحال المعنى الذي استقر بمكة في حال بركته
قوله تعالى وهدى أي وذا هدى ويجوز أن يكون هدى في موضع رفع

المعنى وهو هدى فأما بركته ففيه تغفر الذنوب وتضاعف الحسنات ويأمن من دخله
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من طاف بالبيت لم يرفع قدما ولم يضع أخرى إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة
قوله تعالى وهدى للعالمين في الهدى هاهنا اربعة أقوال أحدها أنه بمعنى القبلة فتقديره وقبلة العالمين والثاني أنه بمعنى الرحمة والثالث أنه بمعنى الصلاح لأن من قصده صلحت حاله عند ربه والرابع أنه بمعنى البيان والدلالة على الله تعالى بما فيه من الايات التي لا يقدر عليها غيره حيث يجتمع الكلب والظبي في الحرم فلا الكلب يهيج الظبي ولا الظبي يستوحش منه قاله القاضي أبو يعلى
فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين
قوله تعالى فيه آيات بينات الجمهور يقرؤون آيات وروى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ فيه آية بينة مقام إبراهيم وبها قرأ مجاهد والاية مقام إبراهيم فأما من قرأ آيات فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الآيات مقام ابراهيم و أمن من دخله فعلى هذا يكون الجمع معبرا عن التثنية وذلك جائز في اللغة كقوله تعالى وكنا لحكمهم شاهدين الانبياء 78 وقال أبو رجاء كان الحسن يعدهن و انا أنظر إلى أصابعه مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت وقال ابن جرير في

الكلام إضمار تقديره منهم مقام إبراهيم قال المفسرون الآيات فيه كثيرة منها مقام إبراهيم ومنها أمن من دخله ومنها امتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض منها به وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخرابه إلى غير ذلك قال القاضي أبو يعلى والمراد بالبيت هاهنا الحرم كله لأن هذه الآيات موجودة فيه ومقام إبراهيم ليس في البيت والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر فأثرث قدماه فيه فكان ذلك دليلا على قدرة الله وصدق إبراهيم
قوله تعالى ومن دخله كان آمنا قال القاضي أبو يعلى لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر وتقديره ومن دخله فأمنوه وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله وفيمن جنى فيه بعد دخوله إلا أن الإجماع انقعد على أن من جنى فيه لا يؤمن لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجا منه ثم لجأ إلى الحرم وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال احمد في رواية المروذي إذا قتل أو قطع يدا أو أتى حدا في غير الحرم ثم دخله لم يقم عليه الحد ولم يقتص منه ولكن لا يبايع ولا يشارى ولا يؤاكل حتى يخرج فان فعل شيئا من ذلك في الحرم استوفي منه وقال أحمد في رواية حنبل إذا قتل خارج الحرم ثم دخله لم يقتل وإن كانت الجناية دون النفس فانه يقام عليه الحد وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال مالك والشافعي يقام عليه جميع ذلك في النفس وفيما دون النفس
وفي قوله تعالى ومن دخله كان آمنا دليل على أنه لا يقام عليه شيء من ذلك وهو مذهب ابن عمر و ابن عباس وعطاء والشعبي وسعيد بن جبير وطاووس
قوله تعالى ولله على الناس حج البيت الاكثرون على فتح حاء الحج وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسرها قال مجاهد لما أنزل قوله تعالى

ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه آل عمران 85 قال أهل الملل كلهم نحن مسلمون فنزلت هذه الآية فحجه المسلمون وتركه المشركون وقالت اليهود لا نحجه ابدا
قوله تعالى من استطاع إليه سبيلا قال النحويون من استطاع بدل من الناس وهذا بدل البعض من الكل كما تقول ضربت زيدا رأسه وقد روي عن ابن مسعود وابن عمر وأنس وعائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل ما السبيل فقال من وجد الزاد والراحلة
قوله تعالى ومن كفر فيه خمسة أقوال أحدها أن معناه من كفر بالحج فاعتقده غير واجب رواه مقسم عن ابن عباس وابن جريج عن مجاهد وبه قال الحسن

وعطاء وعكرمة و الضحاك و مقاتل والثاني من لم يرج ثواب حجه ولم يخف عقاب تركه فقد كفر به رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وابن أبي نجيح عن مجاهد والثالث أنه الكفر بالله لا بالحج وهذا المعنى مروي عن عكرمة و مجاهد والرابع أنه إذا أمكنه الحج حتى مات وسم بين عينيه كافر هذا قول ابن عمر والخامس أنه أراد الكفر بالآيات التي انزلت في ذكر البيت لأن قوما من المشركين قالوا نحن نكفر بهذه الآيات هذا قول ابن زيد
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون
قوله تعالى قل يا أهل الكتاب قال الحسن هم اليهود والنصارى فأما آيات الله فقال ابن عباس هي القرآن ومحمد صلى الله عليه و سلم وأما الشهيد فقال ابن قتيبة هو بمعنى الشاهد وقال الخطابي هو الذي لا يغيب عنه شيء كأنه الحاضر الشاهد
قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن قال مقاتل دعت اليهود حذيفة وعمار بن ياسر إلى دينهم فنزلت هذه الآية وفي المراد بأهل الكتاب هاهنا قولان أحدهما انهم اليهود والنصارى قاله الحسن والثاني اليهود قاله زيد بن أسلم و مقاتل قال ابن عباس لم تصدون عن سبيل الله الإسلام والحج وقال قتادة لم تصدون عن نبي الله وعن الإسلام قال السدي كانوا إذا سئلوا هل تجدون محمدا في كتبكم قالوا لا فصدوا عنه الناس
قوله تعالى تبغونها قال اللغويون الهاء كناية عن السبيل والسبيل يذكر ويؤنث وأنشدوا ... فلا تبعد فكل فتى أناس ... سيصبح سالكا تلك السبيلا

ومعنى تبغونها تبغون لها تقول العرب ابغني خادما يريدون ابتغه لي فاذا أرادوا ابتغ معي واعني على طلبه قالوا ابغني ففتحوا الألف ويقولون وهبتك درهما كما يقولون وهبت لك قال الشاعر ... فتولى غلامهم ثم نادى ... أظليما أصيدكم أم حمارا ...
أراد أصيد لم ومعنى الآية يلتمسون لسبيل الله الزيغ والتحريف ويريدون رد الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج ويطلبون العدول عن القصد هذا قول الفراء و الزجاج واللغويين قال ابن جرير خرج هذا الكلام على السبيل والمعنى لأهله كأن المعنى تبغون لأهل دين الله ولمن هو على سبيل الحق عوجا أي ضلالا قال أبو عبيدة العوج بكسر العين في الدين والكلام والعمل والعوج بفتحها في الحائط والجذع وقال الزجاج العوج بكسر العين فيما لا ترى له شخصا وما كان له شخص قلت عوج بفتحها تقول في أمره ودينه عوج وفي العصا عوج وروى ابن الأنباري عن ثعلب قال العوج عند العرب بكسر العين في كل ما لا يحاط به والعوج بفتح العين في كل مالا يحصل فيقال في الأرض عوج وفي الدين عوج لأن هذين يتسعان ولا يدركان وفي العصا عوج وفي السن عوج لأنهما يحاط بهما ويبلغ كنههما وقال ابن فارس العوج بفتح العين في كل منتصب كالحائط والعوج ما كان في بساط أو ارض أو دين أو معاش
قوله تعالى وانتم شهداء فيه قولان أحدهما أن معناه وانتم شاهدون بصحة ما صددتم عنه وبطلان ما أنتم فيه وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وقتادة والاكثرين والثاني أن معنى الشهداء هاهنا العقلاء ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين

يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين
سبب نزولها أن الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية فلما جاء النبي صلى الله عليه و سلم أطفأ تلك الحرب بالإسلام فبينما رجلان أوسي وخزرجي يتحدثان ومعهما يهودي جعل اليهودي يذكرهما أيامهما والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا فنادى كل واحد منهما بقومه فخرجوا بالسلاح فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فأصلح بينهم فنزلت هذه الآية قاله مجاهد وعكرمة والجماعة قال المفسرون والخطاب بهذه الآية للأوس والخرزج قال زيد بن أسلم وعنى بذلك الفريق شاس بن قيس اليهودي وأصحابه قال الزجاج ومعنى طاعتهم تقليدهم
وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم
قوله تعالى ومن يعتصم بالله
قال ابن قتيبة أي يمتنع وأصل العصمة المنع قال الزجاج ويعتصم جزم ب من والجواب فقد هدي
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
قال عكرمة نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا وأصلح النبي صلى الله عليه و سلم بينهم وفي حق تقاته ثلاثة أقوال أحدها أن يطاع الله فلا يعصى و أن يذكر فلا ينسى و أن يشكر فلا يكفر رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم وهو قول ابن مسعود والحسن وعكرمة وقتادة و مقاتل والثاني أن يجاهد في الله حق الجهاد و أن لا يأخذ العبد فيه

لومة لائم وأن يقوموا له بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس والثالث أن معناه اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه قاله الزجاج
فصل
واختلف العلماء هل هذا الكلام محكم أو منسوخ على قولين أحدهما أنه منسوخ وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد والسدي و مقاتل قالوا لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين فنسخها قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم التغابن 16 والثاني أنها محكمة رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهو قول طاووس قال شيخنا علي بن عبد الله والاختلاف في نسخها وإحكامها يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها فالمعتقد نسخها يرى أن حق تقاته الوقوف على جميع ما يجب له ويستحقه وهذا يعجز الكل عن الوفاء به فتحصيله من الواحد ممتنع والمعتقد إحكامها يرى أن حق تقاته أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته فكان قوله تعالى ما استطعتم مفسرا ل حق تقاته لا ناسخا ولا مخصصا
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون
قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا قال الزجاج اعتصموا استمسكوا فأما الحبل ففيه ستة أقوال أحدها أنه كتاب الله القرآن رواه شقيق عن ابن مسعود

وبه قال قتادة و الضحاك والسدي والثاني أنه الجماعة رواه الشعبي عن ابن مسعود والثالث أنه دين الله قاله ابن عباس وابن زيد و مقاتل و ابن قتيبة وقال ابن زيد هو الإسلام والرابع عهد الله قاله مجاهد وعطاء وقتادة في رواية و أبو عبيد واحتج له الزجاج بقول الأعشى ... و إذا تجوزها حبال قبيلة ... أخذت من الاخرى إليك حبالها ...
وأنشد ابن الأنباري ... فلو حبلا تناول من سليمى ... لمد بحبلها حبلا متينا ...
والخامس أنه الإخلاص قاله أبوالعالية والسادس أنه أمر الله وطاعته قاله مقاتل بن حيان قال الزجاج وقوله جميعا منصوب على الحال أي كونوا مجتمعين على الاعتصام به وأصل تفرقوا تتفرقوا إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد والمحذوفة هي الثانية لأن الاولى دليلة على الاستقبال فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال وهو مجزوم بالنهي والأصل ولا تتفرقون فحذفت النون لتدل على الجزم
قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم اختلفوا فيمن أريد بهذا الكلام على قولين أحدهما انهم مشركو العرب كان القوي يستبيح الضعيف قاله الحسن وقتادة والثاني الأوس والخزرج كان بينهم حرب شديد قاله ابن إسحاق والأعداء جمع عدو قال ابن فارس وهو من عدا إذا ظلم

قوله تعالى فأصبحتم أي صرتم قال الزجاج وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه والعرب تقول فلان يتوخى مسار فلان أي ما يسره والشفا الحرف واعلم أن هذا مثل ضربه الله لإشرافهم على الهلاك وقربهم من العذاب كأنه قال كنتم على حرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر قال السدي فأنقذكم منها محمد صلى الله عليه و سلم
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون
قوله تعالى ولتكن منكم أمة قال الزجاج معنى الكلام ولتكونوا كلكم امة تدعون إلى الخير وتأمرون بالمعروف ولكن من هاهنا تدخل لتحض المخاطبين من سائر الأجناس وهي مؤكدة أن الامر للمخاطبين ومثله فاجتنبوا الرجس من الأوثان الحج 20 معناه اجتنبوا الأوثان فانها رجس ومثله قول الشاعر ... أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النوفل الزفر ...
وهو النوفل الزفر لأنه وصفه باعطاء الرغائب والنوفل الكثير الإعطاء للنوافل والزفر الذي يحمل الأثقال ويدل على أن الكل أمروا بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر قال ويجوز أن يكون أمر منهم فرقة لأن الدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون

إليه وليس الخلق كلهم علماء والعلم ينوب بعض الناس فيه عن بعض كالجهاد فأما الخير ففيه قولان
أحدهما أنه الإسلام قاله مقاتل
والثاني العمل بطاعة الله قاله أبو سليمان الدمشقي و اما المعروف فهو ما يعرف كل عاقل صوابه وضده المنكر وقيل المعروف هاهنا طاعة الله والمنكر معصيته
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم
قوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا فيهم قولان
أحدهما انهم اليهود والنصارى قاله ابن عباس والحسن في آخرين
والثاني انهم الحرورية قاله أبو أمامة
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
قوله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه قرأ أبو رزين العقيلي و أبو عمران الجوني و أبو نهيك تبيض وتسود بكسر التاء فيهما وقرأ الحسن والزهري وابن محيصن و أبو الجوزاء تبياض وتسواد بألف ومدة فيهما وقرأ أبو الجوزاء

وابن يعمر فأما الذين اسوادت وابياضت بألف ومدة قال الزجاج أخبر الله بوقت ذلك العذاب فقال يوم تبيض وجوه قال ابن عباس تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة وفي الذين اسودت وجوههم خمسة أقوال
أحدها انهم كل من كفر بالله بعد إيمانه يوم الميثاق قاله أبي بن كعب
والثاني انهم الحرورية قاله أبو أمامة واسحاق الهمذاني
والثالث اليهود قاله ابن عباس
والرابع انهم المنافقون قاله الحسن والخامس انهم أهل البدع قاله قتادة
قوله تعالى أكفرتم قال الزجاج معناه فيقال لهم أكفرتم فحذف القول لأن في الكلام دليلا عليه كقوله تعالى واسماعيل ربنا تقبل منا البقرة 127 أي ويقولان ربنا تقبل منا ومثله من كل باب سلام عليكم الرعد 25 26 والمعنى يقولون سلام عليكم والألف لفظها لفظ الاستفهام ومعناها التقرير والتوبيخ فان قلنا إنهم جميع الكفار فانهم آمنوا يوم الميثاق ثم كفروا و إن قلنا إنهم الحرورية و أهل البدع فكفرهم بعد إيمانهم مفارقة الجماعة في الاعتقاد و إن قلنا اليهود فانهم آمنوا بالنبي قبل مبعثه ثم كفروا بعد ظهوره وإن قلنا المنافقون فانهم قالوا بألسنتهم وأنكروا بقلوبهم
قوله تعالى فذوقوا العذاب أصل الذوق إنما يكون بالفم وهذا استعارة منه فكأنهم جعلوا ما يتعرف ويعرف مذوقا على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التطعم تقول العرب قد ذقت من إكرام فلان ما يرغبني في قصده يعنون عرفت ويقولون ذق الفرس فاعرف ما عنده

قال تميم بن مقبل ... أو كاهتزاز رديني تذاوقه ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا ...
وقال الآخر ... و إن الله ذاق حلوم قيس ... فلما راء خفتها قلاها ...
يعنون بالذوق العلم وفي كتاب الخليل كل ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه
و أما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون
قوله تعالى وأما الذين ابيضت وجوههم قال ابن عباس هم المؤمنون ورحمة الله جنته قال ابن قتيبة وسمى الجنة رحمة لأن دخولهم إياها كان برحمته وقال الزجاج معناه في ثواب رحمته قال وأعاد ذكر فيها توكيدا

تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين
قوله تعالى وما الله يريد ظلما للعالمين قال بعضهم معناه لا يعاقبهم بلا جرم وقال الزجاج أعلمنا أنه يعذب من عذبه باستحقاق
ولله ما في السموات وما في الأرض و إلى الله ترجع الأمور كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون
قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس سبب نزولها أن مالك بن الضيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة و أبي بن كعب ومعاذ بن جبل ديننا خير مما تدعونا إليه ونحن افضل منكم فنزلت هذه الآية هذا قول عكرمة و مقاتل وفيمن أريد بهذه الآية أربعة أقوال
أحدها انهم أهل بدر والثاني انهم المهاجرون والثالث جميع الصحابة
والرابع جميع امة محمد صلى الله عليه و سلم نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى قال الزجاج وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم

وهو يعم سائر أمته
وفي قوله تعالى كنتم قولان
أحدهما أنها على أصلها والمراد بها الماضي ثم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه كنتم في اللوح المحفوظ
والثاني أن معناه خلقتم ووجدتم ذكرهما المفسرون
والثالث أن المعنى كنتم مذكنتم ذكره ابن الأنباري والثاني أن معنى كنتم انتم كقوله تعالى وكان الله غفورا رحيما النساء 96
ذكره الفراء و الزجاج قال ابن قتيبة وقد ياتي الفعل على بنية الماضي وهو راهن أو مستقبل كقوله تعالى كنتم ومعناه أنتم ومثله وإذ قال الله يا عيسى المائدة 116 أي وإذ يقول ومثله أتى أمر الله النحل 1 أي سيأتي ومثله كيف نكلم من كان في المهد صبيا مريم 29 أي من هو في المهد ومثله وكان

الله سميعا بصيرا النساء 134 أي والله سميع بصير ومثله فتثير سحابا فسقناه فاطر 9 أي فنسوقه
وفي قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس قولان
أحدهما أن معناه كنتم خير الناس للناس قال أبو هريرة يأتون بهم في السلاسل حتى يدخلوهم في الإسلام
والثاني أن معناه كنتم خير الامم التي أخرجت
وفي قوله تعالى تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر قولان
أحدهما أنه شرط في الخيرية وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطاب ومجاهد و الزجاج
والثاني أنه ثناء من الله عليهم قاله الربيع بن أنس قال أبوالعالية والمعروف التوحيد والمنكر الشرك قال ابن عباس و أهل الكتاب اليهود والنصارى
قوله تعالى منهم المؤمنون من أسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه وأكثرهم الفاسقون يعني الكافرين وهم الذين لم يسلموا
لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون
قوله تعالى لن يضروكم إلا أذى قال مقاتل سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا إلى عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم فنزلت هذه الآية قال ابن عباس والأذى قولهم عزير ابن الله التوبة 30 و المسيح ابن الله التوبة 30 و ثالث ثلاثة المائدة 73 وقال الحسن

هو الكذب على الله ودعاؤهم المسلمين إلى الضلالة وقال الزجاج هو البهت والتحريف ومقصود الآية إعلام المسلمين بأنه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إياهم إلى الضلال وإسماعهم الكفر ثم وعدهم النصر عليهم في قوله وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
قوله تعالى أين ما ثقفوا معناه أدركوا ووجدوا وذلك انهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد من أهل المكان وأداء جزية قال الحسن أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لنجبيهم الجزية وأما الحبل فقال ابن عباس وعطاء و الضحاك وقتادة والسدي وابن زيد الحبل العهد قال بعضهم ومعنى الكلام إلا بعهد يأخذونه من المؤمنين بإذن الله قال الزجاج وما بعد الاستثناء في قوله تعالى إلا بحبل من الله ليس من الأول و إنما المعنى انهم أذلاء إلا انهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه وقد سبق في البقرة تفسير باقي الآية
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون
قوله تعالى ليسوا سواء في سبب نزولها قولان
أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم احتبس عن صلاة العشاء ليلة حتى ذهب ثلث الليل

ثم جاء فبشرهم فقال إنه لا يصلي هذه الصلاة احد من أهل الكتاب فنزلت هذه الآية قاله ابن مسعود
والثاني أنه لما أسلم ابن سلام في جماعه من اليهود قال احبارهم ما آمن بمحمد إلا أشرارنا فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس و مقاتل وفي معنى الآية قولان
أحدهما ليس أمة محمد واليهود سواء هذا قول ابن مسعود والسدي
والثاني ليس اليهود كلهم سواء بل فيهم من هو قائم بأمر الله هذا قول ابن عباس وقتادة وقال الزجاج الوقف التام ليسوا سواء أي ليس أهل الكتاب متساوين وفي معنى قائمة ثلاثة أقوال
أحدها أنها الثابتة على أمر الله قاله ابن عباس وقتادة
والثاني أنها العادلة قاله الحسن و مجاهد وابن جريج
والثالث أنها المستقيمة قاله أبو عيبد و الزجاج قال الفراء ذكر أمة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى والكلام مبني على أخرى لأن سواء لا بد لها من اثنين وقد تستجيز العرب إضمار احد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه قال أبو ذؤيب ... عصيت إليها القلب إني لأمره ... سميع فما أدري أرشد طلابها

ولم يقل أم لا ولا أم غي لأن الكلام معروف المعنى
وقال آخر ... وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير ايهما يليني ... أألخير الذي انا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني ...
ومثله قوله تعالى أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما الزمر 9 ولم يذكر ضده لأن في قوله قل هي يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الزمر 9 دليلا على ما أضمر من ذلك وقد رد هذا القول الزجاج فقال قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق فأعلم الله أن منهم أمة قائمة فما الحاجة إلى أن يقال وأمة غير قائمة و إنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم وهو الكفر والمشاقة فذكر من كان منهم مباينا لهؤلاء قال و آناء الليل ساعاته وواحد الآناء إنى قال ابن فارس يقال مضى من الليل إني وإتيان والجمع الآناء واختلف المفسرون هل هذه الآناء معينة من الليل أم لا على قولين
أحدهما أنها معينة ثم فيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها صلاة العشاء قاله ابن مسعود و مجاهد
والثاني أنها ما بين المغرب والعشاء رواه سفيان عن منصور
والثالث جوف الليل قاله السدي=

2.   زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

والثاني أنها ساعات الليل من غير تعيين قاله قتادة في آخرين
وفي قوله تعالى وهم يسجدون قولان
أحدهما أنه كناية عن الصلاة قاله مقاتل و الفراء و الزجاج
والثاني أنه السجود المعروف وليس المراد انهم يتلون في حال السجود ولكنهم جمعوا الأمرين التلاوة والسجود
يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين
قوله تعالى وما يفعلوا من خير فلن يكفروه قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم تفعلوا وتكفروه بالتاء في الموضعين على الخطاب لقوله تعالى كنتم خير أمة قال قتادة فلن تكفروه لن يضل عنكم وقرأ قوم منهم حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وعبد الوارث عن أبي عمرو يفعلوا ويكفروا بالياء فيهما إخبارا عن الأمة القائمة وبقية أصحاب أبي عمرو يخبرون بين الياء والتاء
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا اولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون
قوله تعالى مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا اختلفوا فيمن انزلت على أربعة أقوال

أحدها أنها في نفقات الكفار وصدقاتهم قاله مجاهد
والثاني في نفقة سفلة اليهود على علمائهم قاله مقاتل
والثالث في نفقة المشركين يوم بدر
والرابع في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين ذكر هذين القولين أبو الحسن الماوردي وقال السدي إنما ضرب الإنفاق مثلا لأعمالهم في شركهم وفي الصر ثلاثة أقوال
أحدها أنه البرد قاله الاكثرون
و الثاني أنه النار قاله ابن عباس وقال ابن الأنباري و إنما وصفت النار بأنها صر تصويتها عند الالتهاب
والثالث أن الصر التصويت والحركة من الحصى والحجارة ومنه صرير النعل ذكره ابن الأنباري والحرث الزرع وفي معنى ظلموا أنفسهم قولان
أحدهما ظلموها بالكفر والمعاصي ومنع حق الله تعالى
والثاني بأن زرعوا في غير وقت الزرع
قوله تعالى وما ظلمهم الله قال ابن عباس أي ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه و إنما أنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حق الله منه وهذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في الآخرة وحدثنا عن ثعلب قال بدأ الله تعالى هذه الآية بالريح والمعنى على الحرث كقوله تعالى كمثل الذي ينعق بما لا يسمع و إنما المعنى على المنعوق به وقريب منه قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن فخبر عن الازواج وترك الذين كأنه قال أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن فبدأ بالذين ومراده بعد الأزواج وأنشد

لعلي إن مالت بي الريح ميلة ... على ابن أبي ديان أن يتندما ...
فخبر عن ابن أبي ديان وترك نفسه و إنما أراد لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي الريح ميلة وقد يبدأ بالشيء والمراد التأخير كقوله تعالى ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة الزمر60 والمعنى ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة يوم القيامة
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم قال ابن عباس و مجاهد نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والجوار والرضاع والحلف فنهوا عن مباطنتهم قال الزجاج البطانة الدخلاء الذين يستبطنون أمره وينبسط إليهم يقال فلان بطانة لفلان أي مداخل له مؤانس ومعنى لا يألونكم لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يضركم
قوله تعالى ودوا ما عنتم أي ودوا عنتكم وهو ما نزل بكم من مكروه وضر يقال فلان يعنت فلانا أي يقصد إدخال المشقة والأذى عليه وأصل هذا من قولهم أكمة عنوت إذا كانت طويلة شاقة المسلك قال ابن قتيبة ومعنى من دونكم أي من غير المسلمين والخبال الشر
قوله تعالى قد بدت البغضاء من أفواههم قال ابن عباس أي قد ظهر لكم منهم

الكذب والشتم ومخالفة دينكم قال القاضي أبو يعلى وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة باهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة ولهذا قال أحمد لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب وروي عن عمر أنه بلغه أن ابا موسى استكتب رجلا من أهل الذمة فكتب إليه يعنفه وقال لا تردوهم إلى العز بعد إذ أذلهم الله
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله و إذا لقوكم قالوا آمنا و إذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور
قوله تعالى ها أنتم أولاء تحبونهم قال ابن عباس كان عامة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود فنزلت هذه الآية والخطاب بهذه الآية للمؤمنين قال ابن قتيبة ومعنى الكلام ها أنتم يا هؤلاء فأما تحبونهم فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال
أحدها أنها الميل اليهم بالطباع لموضع القرابة والرضاع والحلف وهذا المعنى منقول عن ابن عباس
والثاني أنها بمعنى الرحمة لهم لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشديد وهذا المعنى منقول عن قتادة
والثالث أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان روي عن أبي العالية
والرابع أنها بمعنى إرادة الإسلام لهم وهم يريدون المسلمين على الكفر وهذا قول المفضل و الزجاج والكتاب بمعنى الكتب قاله الزجاج

قوله تعالى و إذا لقوكم قالوا آمنا هذه حالة المنافقين وقال مقاتل هم اليهود والأنامل أطراف الأصابع قال ابن عباس والغيظ الحنق عليكم وقيل هذا من مجاز الكلام ضرب مثلا لما حل بهم و إن لم يكن هناك عض على أنملة ومعنى موتوا بغيظكم ابقوا به حتى تموتوا و إنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئما قال ابن جرير هذا أمر من الله تعالى لنبيه أن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله كمدا من الغيظ
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط
قوله تعالى إن تمسسكم حسنة قال قتادة وهي الألفة والجماعة والسيئة الفرقة والاختلاف وإصابة طرف من المسلمين وقال ابن قتيبة الحسنة النعمة والسيئة المصيبة
قوله تعالى وإن تصبروا فيه قولان أحدهما على أذاهم قاله ابن عباس
والثاني على أمر الله قاله مقاتل
وفي قوله تعالى وتتقوا قولان
أحدهما الشرك قاله ابن عباس والثاني المعاصي قاله مقاتل
قوله تعالى لا يضركم قرأ ابن كثير ونافع و ابو عمرو يضركم بكسر الضاد وتخفيف الراء وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي لا يضركم بضم الضاد وتشديد الراء قال الزجاج الضر والضير بمعنى واحد فأما الكيد فقال ابن قتيبة هو المكر قال أبو سليمان الخطابي والمحيط الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه وأحاط علمه بالأشياء كلها
وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم

قوله تعالى وإذ غدوت من أهلك قال المفسرون في هذا الكلام تقديم وتأخير تقديره ولقد نصركم الله ببدر وإذ غدوت من أهلك وقال ابن قتيبة توىء من قولك بوأتك منزلا إذا أفدتك إياه أو أسكنتكه ومعنى مقاعد للقتال المعسكر والمصاف واختلفوا في أي يوم كان ذلك على ثلاثة أقوال
أحدها أنه يوم أحد قاله عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود و ابن عباس والزهري وقتادة والسدي والربيع وابن اسحاق وذلك أنه خرج يوم أحد من بيت عائشة إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال والثاني أنه يوم الأحزاب قاله الحسن ومجاهد ومقاتل
والثالث يوم بدر نقل عن الحسن أيضا قال ابن جرير والأول أصح لقوله تعالى إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أحد
قوله تعالى والله سميع عليم قال أبو سليمان الدمشقي سميع لمشاورتك إياهم في الخروج ومرادهم للخروج عليم بما يخفون من حب الشهادة
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون
قوله تعالى إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا قال الزجاج كنت النبوئة في ذلك الوقت وتفشلا تجبنا ويخورا والله وليهما أي ناصرهما قال جابر بن عبد الله نحن هم بنو سلمة وبنو حارثة وما نحب أن لو لم يكن ذلك لقول الله والله وليهما وقال الحسن هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك فعصمهما الله وقيل لما رجع عبد الله ابن أبي في أصحابه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه فعصمهما الله

فصل
فأما التوكل فقال ابن عباس هو الثقة بالله وقال ابن فارس هو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك ويقال فلان وكله تكلة أي عاجز يكل أمره إلى غيره وقال غيره هو تفعل من الوكالة يقال وكلت أمري إلى فلان فتوكل به أي ضمنه وقام به وأنا متوكل عليه وقال بعضهم هو تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره
ولقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون
قوله تعالى ولقد نصركم الله ببدر في تسمية بدر قولاان
أحدهما أنها بئر لرجل اسمه بدر قاله الشعبي
والثاني أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه ذكره الواقدي عن أشياخه
قوله تعالى وأنتم أذلة أي لقلة العدد والعدد لعلكم تشكرون أي لتكونوا من الشاكرين
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين
قوله تعالى إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم قال الشعبي قال كرز بن جابر لمشركي مكة إني أمدكم بقومي فاشتد ذلك على المسلمين فنزلت هذه الآية وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان
أحدهما يوم بدر قاله ابن عباس وعكرمة و مجاهد وقتادة

والثاني يوم أحد وعدهم فيه بالمدد إن صبروا فلما لم يصبروا لم يمدوا روي عن عكرمة و الضحاك و مقاتل والأول أصح والكافية مقدار سد الخلة والاكتفاء الاقتصار على ذلك والإمداد إعطاء الشيء بعد الشيء
قوله تعالى منزلين قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي وشددها ابن عامر
بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين
قوله تعالى ويأتوكم من فورهم هذا فيه قولان
أحدهما أن معناه من وجههم وسفرهم هذا قاله ابن عباس والحسن وقتادة و مقاتل و الزجاج
والثاني من غضبهم هذا قاله عكرمة و مجاهد و الضحاك في آخرين قال ابن جرير من قال من وجههم أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر ومن قال من غضبهم أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر وأصل الفور ابتداء الأمر يؤخذ فيه يقال فارت القدر إذا ابتدأ مافيها بالغليان ثم اتصل وقال ابن فارس الفور الغليان يقال فارت القدر تفور وفار غضبه إذا جاش ويقولون فعله من فوره أي قبل أن يسكن

وفي يوم فورهم قولان
أحدهما أنه يوم بدر قاله قتادة
والثاني يوم أحد قال مجاهد و الضحاك كانوا غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا
قوله تعالى مسومين قرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم بكسر الواو والباقون بفتحها فمن فتح الواو أراد أن الله سومها ومن كسرها أراد أن الملائكة سومت أنفسها وقال الأخفش سومت خيلها وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يوم بدر سوموا فان الملائكة قد سومت ونسب الفعل اليها فهذا دليل الكسر قال ابن قتيبة ومعنى مسومين معلمين بعلامة الحرب وهو من السيماء مأخوذ والسومة العلامة التي يعلم بها الفارس نفسه قال علي رضي الله عنه وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في أذنابها ونواصيها وقال أبو هريرة العهن الأحمر وقال مجاهد كانت أذناب خيولهم مجزوزة وفيها العهن وقال هشام بن عروة كانت الملائكة على خيل بلق وعليهم عمائم صفر وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال حضرت انا وابن عم لي بدرا ونحن على شركنا فأقبلت سحابة فلما دنت من الخيل سمعنا فيها حمحمة الخيل وسمعنا فارسا يقول أقدم حيزوم فأما صاحبي فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم انتعشت وقال أبو داود المازني إني لأتبع يوم بدر رجلا من المشركين لأضربه

فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أن غيري قد قتله
وفي عدد الملائكة يوم بدر خسمة أقوال
أحدها خمسة آلاف قاله الحسن وروى جبير بن مطعم عن علي رضي الله عنه قال بينا أنا أمتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة وكان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله وكنت عن يساره وهزم الله أعداءه
والثاني أربعة آلاف قاله الشعبي والثالث ألف قاله مجاهد
والرابع تسعة آلاف ذكره الزجاج

والخامس ثمانية آلاف ذكره بعض المفسرين
وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم
قوله تعالى وما جعله الله يعني المدد إلا بشرى أي إلا بشارة تطيب أنفسكم ولتطمئن قلوبكم به فتسكن في الحرب ولا تجزع والأكثرون على أن هذا المدد يوم بدر وقال مجاهد يوم أحد وروي عنه ما يدل على أن الله أمدهم في اليومين بالملائكة جميعا غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر
قوله تعالى وما النصر إلا من عند الله أي ليس بكثرة العدد والعدد
ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين
قوله تعالى ليقطع طرفا معناه نصركم ببدر ليقطع طرفا قال الزجاج أي ليقتل قطعة منهم وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان
أحدهما في يوم بدر قاله الحسن وقتادة والجمهور
والثاني يوم أحد قتل منهم ثمانية وعشرون قاله السدي
قوله تعالى أويكبتهم فيه سبعة أقوال
أحدها أن معناه يهزمهم قاله ابن عباس و الزجاج
والثاني يخزيهم قاله قتادة و مقاتل
والثالث يصرعهم قاله أبو عبيد واليزيدي وقال الخليل هو الصرع على الوجه
والرابع يهلكهم قاله أبو عبيدة والخامس يلعنهم قاله السدي
والسادس يظفر عليهم قاله المبرد

والسابع يغيظهم قاله النضر بن شميل واختاره ابن قتيبة وقال ابن قتيبة أهل النظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال كأن الأصل فيه يكبدهم أي يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ وشدة العداوة ومنه يقال فلان قد أحرق الحزن كبده وأحرقت العداوة كبده والعرب تقول العدو اسود الكبد قال الأعشى ... فما أجشمت من إتيان قوم ... هم الأعداء والأكباد سود ...
كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة اسودت ومنه يقال للعدو كاشح لأنه يخبأ العداوة في كشحه والكشح الخاصرة و إنما يريدون الكبد لأن الكبد هناك قال الشاعر ... وأضمر أضغانا علي كشوحها ...
والتاء والدال متقاربتا المخرج والعرب تدغم احداهما في الاخرى وتبدل احداهما من الاخرى كقولهم هرت الثوب وهرده إذا خرقه وكذلك كبت العدو وكبده ومثله كثير
قوله تعالى فينقلبوا خائبين قال الزجاج الخائب الذي لم ينل ما أمل وقال غيره الفرق بين الخيبة واليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد الامل واليأس قد يكون من غير أمل

ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فانهم ظالمون
قوله تعالى ليس لك من الأمر شيء في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه فقال كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز و جل فنزلت هذه الآية أخرجه مسلم في أفراده من حديث أنس وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع
والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم لعن قوما من المنافقين فنزلت هذه الآية قاله ابن عمر
والثالث أن النبي صلى الله عليه و سلم هم بسب الذين انهزموا يوم أحد فنزلت هذه الآية فكف عن ذلك نقل عن ابن مسعود و ابن عباس
والرابع أن سبعين من أهل الصفة خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم عصية وذكوان فقتلوا جميعا فدعا النبي صلى الله عليه و سلم عليهم أربعين يوما فنزلت هذه الآية قاله مقاتل ابن سليمان

والخامس أن النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى حمزة ممثلا به قال لأمثلن بكذا وكذا منهم فنزلت هذه الآية قاله الواقدي وفي معنى الآية قولان
أحدهما ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء
والثاني ليس لك من النصر والهزيمة شيء وقيل إن لك بمعنى إليك
قوله تعالى أو يتوب عليهم قال الفراء في نصبه وجهان إن شئت جعلته معطوفا على قوله تعالى ليقطع طرفا وإن شئت جعلت نصبه على مذهب حتى كما تقول لا أزال معك حتى تعطيني ولما نفى الأمر عن نبيه أثبت أن جميع الأمور إليه بقوله تعالى ولله ما السموات وما في الأرض
ولله ما في ما السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا قال أهل التفسير هذه الآية نزلت

في ربا الجاهلية قال سعيد بن جبير كان الرجل يكون له على الرجل المال فاذا حل الأجل فيقول أخر عني وأزيدك على مالك فتلك الأضعاف المضاعفة

واتقوا النار التي أعدت للكافرين
قوله تعالى واتقوا النار التي أعدت للكافرين قال ابن عباس هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا قال الزجاج والمعنى اتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا
وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات و الأرض أعدت للمتقين
قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم كلهم أثبت الواو في وسارعوا إلا نافعا وابن عامر فانهما لم يذكراها وقال أبو علي وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام فمن قرأ بالواو عطف وسارعوا على وأطيعوا ومن حذفها فلأن الجملة الثانية متلبسة بالأولى فاستغنت عن العطف ومعنى الآية بادروا إلى ما يوجب المغفرة وفي المراد بموجب المغفرة هاهنا عشرة أقوال
أحدها أنه الاخلاص قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه
والثاني أداء الفرائض قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه
والثالث الإسلام قاله ابن عباس

والرابع التكبيرة الاولى من الصلاة قاله أنس بن مالك
والخامس الطاعة قاله سعيد بن جبير والسادس التوبة قاله عكرمة
والسابع الهجره قاله أبوالعالية والثامن الجهاد قاله الضحاك
والتاسع الصلوات الخمس قاله يمان والعاشر الأعمال الصالحة قاله مقاتل
قوله تعالى وجنة عرضها السموات والأرض قال ابن قتيبة أراد بالعرض السعة ولم يرد العرض الذي يخالف الطول والعرب تقول بلاد عريضة أي واسعة وقال النبي صلى الله عليه و سلم للمنهزمين يوم أحد لقد ذهبتم فيها عريضة
قال الشاعر ... كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل ...
قال وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطول و إذا عرض الشيء اتسع و إذا لم يعرض ضاق ودق وقال سعيد بن جبير لو ألصق بعضهن إلى بعض كانت الجنة في عرضهن
الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين
قوله تعالى الذين ينفقون في السراء والضراء قال ابن عباس في العسر واليسر ومعنى الآية انهم رغبوا في معاملة الله فلم يبطرهم الرخاء فينسيهم ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا
قوله تعالى والكاظمين الغيظ قال الزجاج يقال كظمت الغيظ إذا

أمسكت على ما في نفسك منه وكظم البعير على جرته إذا رددها في حلقه وقال ابن الأنباري الأصل في الكظم الإمساك على غيظ وغم وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى
قوله تعالى والعافين عن الناس فيه قولان
أحدهما أنه العفو عن المماليك قاله ابن عباس والربيع
والثاني أنه على إطلاقه فهم يعفون عمن ظلمهم قاله زيد بن أسلم و مقاتل
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفورا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين
قوله تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمرا فضمها وقبلها ثم ندم فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عباس

والثاني أن أنصاريا وثقفيا آخى النبي صلى الله عليه و سلم بينها فخرج الثقفي مع النبي صلى الله عليه و سلم في بعض مغازيه فكان الأنصاري يتعهد أهل الثقفي فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها فدخل ولم يستأذن فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبله ثم ندم فأدبر راجعا فقالت سبحان الله خنت أمانتك وعصيت ربك ولم تصب حاجتك قال فخرج يسيح في الجبال ويتوب إلى الله من ذنبه فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله فخرج يطلبه حتى دل عليه فندم على صنيعه فوافقه ساجدا يقول ذنبي ذنبي قد خنت أخي فقال له يا فلان انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاسأله عن ذنبك لعل الله أن يجعل لك مخرجا فرجع إلى المدينة فنلزت هذه الآية بتوبته رواه أبو صالح عن ابن عباس وذكره مقاتل
والثالث أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان احدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه و سلم ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأ هذه الآية والتي قبلها هذا قول عطاء واختلفوا هل هذه الآية نعت للمنفقين في السراء والضراء أم لقوم آخرين على قولين
أحدهما أنها نعت لهم قاله الحسن
والثاني أنها لصنف آخر قاله ابو سليمان الدمشقي
والفاحشة القبيحة وكل شيء جاوز قدره فهو فاحش وفي المراد بها هاهنا قولان
أحدهما أنها الزنى قاله جابر بن زيد والسدي و مقاتل
والثاني أنها كل كبيرة قاله جماعة من المفسرين

واختلفوا في الظلم المذكور بعدها فلم يفرق قوم بينه وبين الفاحشة وقالوا الظلم للنفس فاحشة أيضا وفرق آخرون فقالوا هو الصغائر وفي قوله تعالى ذكروا الله قولان
أحدهما أنه ذكر اللسان وهو الاستغفار قاله ابن مسعود وعطاء في آخرين
والثاني أنه ذكر القلب ثم فيه خمسة أقوال
أحدها أنه ذكر العرض على الله قاله الضحاك
والثاني أنه ذكر السؤال عنه يوم القيامة قاله الواقدي
والثالث ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا قاله ابن جرير
والرابع ذكر نهي الله لهم عنه
والخامس ذكر غفران الله ذكر القولين أبو سليمان الدمشقي
فأما الإصرار فقال الزجاج هو الإقامة على الشىء وقال ابن فارس هو العزم على الشىء والثبات عليه وللمفسرين في المراد بالاصرار ثلاثة أقوال
أحدها أنه مواقعة الذنب عند الاهتمام به وهذا مذهب مجاهد
والثاني أنه الثبوت عليه من غير استغفار وهذا مذهب قتادة وابن اسحاق

والثالث أنه ترك الاستغفار منه وهذا مذهب السدي وفي معنى وهم يعلمون ثلاثة أقوال
أحدها وهم يعلمون أن الإصرار يضر وان تركه أولى من التمادي قاله ابن عباس والحسن
والثاني يعلمون أن الله يتوب على من تاب قاله مجاهد و أبو عمارة
والثالث يعلمون انهم قد أذنبوا قاله السدي و مقاتل
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين

قوله تعالى قد خلت من قبلكم سنن السنن جمع سنة وهي الطريقة وفي معنى الكلام قولان
أحدهما قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع فانظروا ماذا صنعنا بالمكذبين منهم وهذا قول ابن عباس
والثاني قد مضت قبلكم سنن الله في إهلاك من كذب من الأمم فاعتبروا بهم وهذا قول مجاهد وفي معنى فسيروا في الأرض قولان
أحدهما أنه السير في السفر قاله الزجاج إذا سرتم في أسفاركم عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم والثاني أنه التفكر ومعنى فانظروا اعتبروا والعاقبة آخر الأمر
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
قوله تعالى هذا بيان للناس قال سعيد بن جبير هذه الآية أول ما نزل من آل عمران وفي المشار إليه ب هذا قولان
أحدهما أنه القرآن قاله الحسن وقتادة و مقاتل
والثاني أنه شرح أخبار الأمم السالفة قاله ابن اسحاق والبيان الكشف عن الشىء وبان الشىء اتضح وفلان أبين من فلان اي أفصح قال الشعبي هذا بيان للناس من العمى وهدى من الضلالة وموعظة من الجهل
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى ولا تهنوا ولا تحزنوا سبب نزولها أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أنهزموا يوم أحد أقبل خالد بن الوليد يخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل فقال

النبي صلى الله عليه و سلم اللهم لا يعلون علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك فنزلت هذه الآيات قاله ابن عباس قال ابن عباس و مجاهد ولا تهنوا أي ولا تضعفوا وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال
أحدها أنه قتل إخوانهم من المسلمين قاله ابن عباس
والثاني أنه هزيمتهم يوم أحد وقتلهم قاله مقاتل
والثالث أنه ما أصاب النبي صلى الله عليه و سلم من شجه وكسر رباعيته ذكره الماوردي
والرابع أنه ما فات من الغنيمة ذكره علي بن أحمد النيسابوري
قوله تعالى وأنتم الأعلون قال ابن عباس يقول أنتم الغالبون فآخر لكم
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين
قوله تعالى إن يمسسكم قرح قال ابن عباس أصابهم يوم أحد قرح فشكوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ما لقوا فنزلت هذه الآية فأما المس فهو الإصابة وقرأ ابن كثير و أبو عمرو وابن عامر ونافع قرح بفتح القاف وقرأ حمزة والكسائي و أبو بكر عن عاصم قرح بضم القاف واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا فقال أبو عبيد القرح بالفتح الجراح والقتل والقرح بالضم ألم الجراح وقال الزجاج هما في اللغة بمعنى واحد ومعناه الجراح وألمها قال ومعنى نداولها أي نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون فأما إذا أطاعوا فهم منصورون قال

ومعنى ليعلمه الله أي ليعلم واقعا منهم لأنه عالم قبل ذلك و إنما يجازي على ما وقع وقال ابن عباس معنى العلم هاهنا الرؤية
قوله تعالى ويتخذ منكم شهداء قال أبو الضحى نزلت في قتلى أحد قال ابن جريج كان المسلمون يقولون ربنا أرنا يوما كيوم بدر نلتمس فيه الشهادة فاتخذ منهم شهداء يوم أحد قال ابن عباس والظالمون هاهنا المنافقون وقال غيره هم الذين انصرفوا يوم أحد مع ابن أبي المنافق
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين
قوله تعالى وليمحص الله الذين آمنوا قال الزجاج معنى الكلام جعل الله الايام مداولة بين الناس ليمحص المؤمنين ويمحق الكافرين وفي التمحيص قولان
أحدهما أنه الابتلاء والاختبار وأنشدوا ... رأيت فضيلا كان شيئا ملففا ... فكشفه التمحيص حتى بدا ليا ...
وهو قول الحسن و مجاهد والسدي و مقاتل و ابن قتيبة في آخرين
والثاني أنه التنقية والتخليص وهو قول الزجاج وحكي عن المبرد قال يقال محص الحبل محصا إذا ذهب منه الوبر حتى تخلص ومعنى قولهم اللهم محص عنا ذنوبنا أذهبها عنا وذكر الزجاج عن الخليل أن التمحيص التخليص يقال محصت الشىء أمحصه محصا إذا أخلصته فعلى القول الأول التمحيص ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم وعلى الثاني هو تنقيتهم من الذنوب بذلك قال الفراء معنى الآية وليمحص الله بالذنوب عن الذين آمنوا

قوله تعالى ويمحق الكافرين فيه أربعة أقوال
أحدها يهلكهم قاله ابن عباس والثاني يذهب دعوتهم قاله مقاتل
والثالث ينقصهم ويقللهم قاله الفراء
والرابع يحبط أعمالهم ذكره الزجاج
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه و أنتم تنظرون
قوله تعالى ولقد كنتم تمنون الموت قال ابن عباس لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة رغبوا في ذلك فتمنوا قتالا يستشهدون فيه فيلحقون باخوانهم فأراهم الله يوم أحد فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم فنزل فيهم ولقد كنتم تمنون الموت يعني القتال من قبل أن تلقوه أي من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد فقد رأيتموه يومئذ قال الفراء و ابن قتيبة أي رأيتم أسبابه وهي السيف ونحوه من السلاح وفي معنى و وأنتم تنظرون ثلاثة أقوال
أحدها تنظرون إلى السيوف قاله ابن عباس
والثاني أنه ذكر للتوكيد قاله الأخفش وقال الزجاج معناه فقد رأيتموه و انتم بصراء كما تقول رأيت كذا وكذا وليس في عينك علة أي رأيته رؤية حقيقة

والثالث أن معناه وأنتم تنظرون ما تمنيتم وفي الآية إضمار أي فقد رأيتموه و انتم تنظرون فلم انهزمتم
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين
قوله تعالى وما محمد إلا رسول قال ابن عباس صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد فقال قوم لئن كان قتل لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا ولو كان محمد حيا لم نهزم فترخصوا في الفرار فنزلت هذه الآية وقال الضحاك قال قوم من المنافقين قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول فنزلت هذه الآية وقال قتادة قال أناس لو كان نبيا ما قتل وقال ناس من علية أصحاب رسول الله قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى تلحقوا به فنزلت هذه الآية ومعنى الآية أنه يموت كما ماتت قبله الرسل إفان مات على فراشه أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء أتنقلبون على أعقابكم أي ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر وهذا على سبيل المثل يقال لكل من رجع عما كان عليه قد انقلب على عقبيه وأصله رجعة القهقرى والعقب مؤخر القدم
قوله تعالى فلن يضر الله شيئا أي لن ينقص الله شيئا برجوعه و إنما يضر نفسه وسيجزي أي يثيب الشاكرين وفيهم ثلاثة أقوال
أحدها انهم الثابتون على دينهم قاله علي رضي الله عنه وقال كان أبو بكر أمير الشاكرين
والثاني انهم الشاكرون على التوفيق والهداية و الثالث على الدين

وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين
قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله في الإذن قولان
أحدهما أنه الأمر قاله ابن عباس والثاني الإذن نفسه قاله مقاتل
قال الزجاج ومعنى الآية وما كانت نفس لتموت إلا باذن الله
قوله تعالى كتابا مؤجلا توكيد والمعنى كتب الله ذلك كتابا مؤجلا أي كتابا ذا أجل والأجل الوقت المعلوم ومثله في التوكيد كتاب الله عليكم النساء 24 لأنه لما قال حرمت عليكم امهاتكم النساء 22 دل على أنه مفروض فأكد بقوله كتاب الله عليكم النساء 24 وكذلك قوله تعالى صنع الله النمل 88 لأنه لما قال وترى الجبال تحسبها جامدة النمل 88 دل على أنه خلق الله فأكد بقوله صنع الله
قوله تعالى ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها أي من قصد بعمله الدنيا أعطي منها قليلا كان أو كثيرا ومن قصد الاخرة بعمله أعطي منها وقال مقاتل عنى بالآية من ثبت يوم أحد ومن طلب الغنيمة
فصل
وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الاسراء 18 والصحيح أنه محكم لأنه لا يؤتى أحد شيئا إلا بقدرة الله ومشيئته
ومعنى قوله تعالى نؤته منها أي ما نشاء وما قدرنا له ولم يقل ما يشاء هو

وكأين من نبي قاتل مع ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين
قوله تعالى وكأين من نبي قرأ الجمهور وكأين في وزن كعين وقرأ ابن كثير وكائن في وزن كاعن قال الفراء أهل الحجاز يقولون كأين مثل كعين ينصبون الهمزة ويشددون الياء وتميم يقولون وكائن كأنها فاعل من كئت وأنشدني الكسائي ... وكائن ترى يسعى من الناس جاهدا ... على ابن غدا منه شجاع وعقرب ...
وقال آخر ... وكائن أصابت مؤمنا من مصيبة ... على الله عقباها ومنه ثوابها ...
وقال ابن قتيبة كائن بمعنى كم مثل قوله وكأين من قريةعتت عن أمر ربها الطلاق 8 وفيها لغتان كأين بالهمزة وتشديد الياء وكائن على وزن قائل وبائع وقد قرىء بهما جميعا في القرآن والأكثر والأفصح تخفيفها قال الشاعر ... وكائن أرينا الموت من ذي تحية ... إذا ما ازدرانا أو أصر لمأثم
وقال الآخر ... وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم ...
قوله تعالى قاتل معه ربيون قرأ ابن كثير ونافع أبو عمرو وأبان والمفضل

كلاهما عن عاصم قتل بضم القاف وكسر التاء من غير ألف وقرأ الباقون قاتل بألف وقرأ ابن مسعود و أبورزين و أبو رجاء والحسن وابن يعمر وابن جبير وقتادة وعكرمة وأيوب ربيون بضم الراء وقرأ ابن عباس وأنس وابو مجلز و أبوالعالية والجحدري بفتحها فعلى حذف الألف يحتمل وجهين
أحدهما أن يكون قتل للنبي وحده ويكون المعنى وكأين من نبي قتل ومعه ربيون فما وهنوا بعد قتله
والثاني أن يكون قتل للربيين ويكون فما وهنوا لمن بقي منهم وعلى إثبات الألف يكون المعنى أن القوم قاتلوا فما وهنوا وفي معنى الربيين خمسة أقوال
أحدها انهم الألوف قاله ابن مسعود و ابن عباس في رواية واختاره الفراء
والثاي الجماعات الكثيرة رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة و الضحاك وقتادة والسدي والربيع واختاره ابن قتيبة
والثالث انهم الفقهاء والعلماء رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال الحسن واختاره اليزيدي و الزجاج والرابع أنهم الاتباع قاله ابن زيد
والخامس أنهم المتألهون العارفون بالله تعالى قاله ابن فارس
قوله تعالى فما وهنوا فيه قولان
أحدهما أنه الضعف قاله ابن عباس و ابن قتيبة والثاني أنه العجز قاله قتادة
قال ابن قتيبة والاستكانه الخشوع والذل ومنه أخذ المسكين وفي معنى الكلام قولان
أحدهما فما وهنوا بالخوف وما ضعفوا بنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع

والثاني فما وهنوا لقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانوا لما أصابهم
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين
قوله تعالى وما كان قولهم يعني الربيين إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا أي لم يكن قولهم غير الاستغفار والإسراف مجاوزة الحد وقيل أريد بالذنوب الصغائر وبالإسراف الكبائر
قوله تعالى وثبت اقدامنا قال ابن عباس على القتال وقال الزجاج معناه ثبتنا على دينك فإن الثابت على دينه ثابت في حربه
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين
قوله تعالى فآتاهم الله ثواب الدنيا فيه قولان
أحدهما أنه النصر قاله قتادة والثاني الغنيمة قاله ابن جريج وروي عن ابن عباس أنه قال النصر والغنيمة
وفي حسن ثواب الآخرة قولان احدهما أنه الجنة
والثاني الأجر والمغفرة وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدو
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا قال ابن عباس نزلت في قول ابن أبي للمسلين لما رجعوا من أحد لو كان نبيا ما أصابه الذي أصابه وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم المنافقون على قول ابن عباس و مقاتل
والثاني أنهم اليهود والنصارى قاله ابن جريج
و الثالث أنهم عبدة الأوثان قاله السدي قالوا وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم ومعنى يردوكم على أعقابكم يصرفوكم إلى الشرك فتنقلبوا خاسرين بالعقوبة
بل الله مولكم وهو خير الناصرين قوله تعالى بل الله مولاكم أي وليكم ينصركم عليهم فاستغنوا عن موالاة الكفار
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين
قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب قال السدي لما ارتحل المشركون يوم أحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق وقالوا قتلتموهم حتى إذا لم يبق الا الشرذمة تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم فقذف الله في قلوبهم الرعب ونزلت هذه الآية والإلقاء القذف والرعب الخوف قرأ ابن كثير ونافع وعاصم و أبو عمرو

وحمزة الرعب ساكنة العين خفيفة وقرأ ابن عامر والكسائي ويعقول و أبو جعفر مضمومة العين مثقله أين وقعت والسلطان هاهنا الحجة في قول الجماعة والمأوى المكان الذي يؤوى إليه والمثوى المقام والثوى الإقامة قال ابن عباس والظالمون هاهنا الكافرون
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم باذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين
قوله تعالى ولقد صدقكم الله وعده قال محمد بن كعب القرظي لما رجع النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه من أحد قال قوم منهم من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت هذه الآية وقال المفسرون وعد الله تعالىالمؤمنين النصر بأحد فنصرهم فلماخالفوا وطلبوا الغنيمة هزموا وقال ابن عباس ما نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم في موطن ما نصر في أحد فأنكر ذلك عليه فقال بيني وبينكم كتاب الله إن الله يقول ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه فأما الحس فهو القتل قاله ابن عباس والحسن و مجاهد والسدي والجماعة وقال ابن قتيبة تحسونهم أي تستأصلونهم بالقتل يقال سنة حسوس إذا أتت على كل شيء وجراد محسوس إذا قتله البرد
وفي قوله تعالى باذنه ثلاثة أقوال

أحدها بأمره قاله ابن عباس والثاني بعلمه قاله الزجاج
و الثالث بقضائه قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى حتى إذا فشلتم قال الزجاج أي جبنتم وتنازعتم أي اختلفتم من بعد ما أراكم ما تحبون يعني النصرة وقال الفراء فيه تقديم وتاخير معناه حتى إذا تناعزعم في الأمر فشلتم وعصيتم وهذه الواو زائدة كقوله تعالى فلما أسلما وتله للجبين وناديناه الصافات 103 معناه ناديناه فأما تنازعهم فان بعض الرماة قال قد انهزم المشركون فما يمنعنا من الغنيمة وقال بعضهم بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فترك المركز بعضهم وطلب الغنيمة وتركوا مكانهم فذلك عصيانهم وكان النبي صلى الله عليه و سلم قد أوصاهم لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم
قوله تعالى منكم من يريد الدنيا قال المفسرون هم الذين طلبوا الغنيمة وتركوا مكانهم ومنكم من يريد الآخرة وهم الذين ثبتوا وقال بان مسعود ما كنت أظن أحدا من أصحاب محمد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية
قوله تعالى صرفكم عنهم أي ردكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم ليبتليكم أي ليختبركم فيبين الصابر من الجازع
قوله تعالى ولقد عفا عنكم فيه قولان
أحدهما عفا عن عقوبتكم قاله ابن عباس
والثاني عفا عن استئصالكم قاله الحسن وكان يقول هؤلاء مع رسول الله في سبيل الله غضاب لله يقاتلون في سبيل الله نهوا عن شيء فضيعوه فما تركوا حتى غموا بهذا الغم والفاسق اليوم يتجرم كل كبيرة ويركب كل داهية ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم

قوله تعالى والله ذو فضل على المؤمنين فيه قولان
أحدهما إذ عفا عنهم قاله ابن عباس والثاني إذ لم يقتلوا جميعا قاله مقاتل
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون
قوله تعالى إذ تصعدون ولا تلوون قال المفسرون إذ متعلقة بقوله تعالى ولقد عفا عنكم وأكثر القراء على ضم التاء وكسر العين من قوله تصعدون وهو من الإصعاد وروى أبان عن ثعلب عن عاصم فتحها وهي قراءة الحسن و مجاهد وهو من الصعود قال الفراء الإصعاد في ابتداء الأسفار والمخارج تقول أصعدنا من بغداد إلى خراسان فاذا صعدت على سلم أو درجة قلت صعدت ولا تقول أصعدت وقال الزجاج كل من ابتدأ مسيرا من مكان فقد أصعد فأما الصعود فهو من أسفل إلى فوق ومن فتح التاء ومعين أراد الصعود في الجبل وللمفسرين في معنى الآية قولان
أحدهما أنه صعودهم في الجبل قاله ابن عباس و مجاهد
والثاني أنه الإبعاد في الهزيمة قاله قتادة و ابن قتيبة و تلوون بمعنى تعرجون
وقوله تعالى على أحد عام وقد روي عن ابن عباس أنه أريد به النبي صلى الله عليه و سلم قال والنبي صلى الله عليه و سلم يناديهم من خلفهم إلى عباد الله أنا رسول الله وقرأت عائشة وأبو مجلز وأبو الجوزاء وحميد على أحد بضم الألف والحاء يعنون الجبل
قوله تعالى فأثابكم أي جازاكم قال الفراء الإثابة هاهنا بمعنى عقاب ولكنه كما قال الشاعر

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا ...
المحدرجة السياط والسود فيما يقال القيود
قوله تعالى غما بغم في هذه الباء أربعة أقوال
أحدها أنها بمعنى مع والثاني بمعنى بعد
و الثالث بمعنى على فعلى هذه الثلاثة الاقوال يتعلق الغمان بالصحابة وللمفسرين في المراد بهذين الغمين خمسة أقوال
أحدها أن الغم الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل والثاني إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم قاله ابن عباس و مقاتل
والثاني أن الأول فرارهم الأول والثاني فرارهم حين سمعوا أن محمد قد قتل قاله مجاهد
والثالث أن الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح والثاني حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه و سلم قد قتل قاله قتادة
والرابع أن الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح والثاني إشراف أبي سفيان عليهم قاله السدي
والخامس أن الأول اشراف خالد بن الوليد عليهم والثاني إشراف أبي سفيان عليهم ذكره الثعلبي

والقول الرابع أن الباء بمعنى الجزاء فتقديره غمكم كما غممتم غيركم فيكون أحد الغمين للصحابة وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين ويكون الغم الذي جوزوا لأجله لغيرهم وفي المراد بغيرهم قولان
أحدهما أنهم المشركون غموهم يوم بدر قاله الحسن
والثاني أنه النبي صلى الله عليه و سلم غموه حيث خالفوه فجوزوا على ذلك بأن غمو بما أصابهم قاله الزجاج
قوله تعالى لكيلا تحزنوا في لا قولان
أحدهما أنها باقية على أصلها ومعناها النفي فعلى هذا في معنى الكلام قولان
أحدهما فأثابكم غما أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم وقد روي أنهم لما سمعوا أن النبي قد قتل نسوا ما أصابهم وما فاتهم
والثاني أنه متصل بقوله ولقد عفا عنكم فمعنى الكلام عفا عنكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم لأن عفوه يذهب كل غم
والقول الثاني أنها صلة ومعنى الكلام لكي تحزنوا على ما فاتكم واصابكم عقوبة لكم في خلافكم ومثها قوله تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله الحديد 29 أي ليعلم هذا قول المفضل قال ابن عباس والذي فاتهم الغنيمة والذي أصابهم القتل والهزيمة
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله

لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور
قوله تعالى ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة قال ابن قتيبة الأمنة الأمن يقال وقعت الأمنة في الأرض وقال الزجاج معنى الآية أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمنا تنامون معه لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام و نعاسا منصوب على البدل من أمنة يقال نعس الرجل ينعس نعاسا فهو ناعس وبعضهم يقول نعسان قال الفراء قد سمعتها ولكني لا أشتهيها قال العلماء النعاس أخف النوم وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان
أحدهما أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا فالمنة بزوال الخوف لأن الخائف لا ينام والثاني قواهم بالاستراحة على القتال
قوله تعالى يغشى طائفة منكم قرأ ابن كثير ونافع و أبو عمرو وعاصم وابن عامر يغشى بالياء مع التفخيم وهو يعود إلى النعاس وقرأ حمزة والكسائي وخلف تغشى بالتاء مع الإمالة وهو يرجع إلى الأمنةفأما الطائفة التي غشيها النوم فهم المؤمنون والطائفة الذين أهمتهم انفسهم المنافقون أهمهم خلاص أنفسهم فذهب النوم عنهم قال أبو طلحة كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه ثم يسقط وآخذه من النعاس وجعلت انظر وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حجفته

من النعاس وقال الزبير ارسل الله علينا النوم فما منا رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفطتها منه
قوله تعالى يظنون بالله غير الحق فيه أربعة أقوال
أحدها أنهم ظنوا أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنهم كذبوا بالقدر رواه الضحاك عن ابن عباس
و الثالث أنهم ظنوا أن محمدا قد قتل قاله مقاتل
والرابع ظنوا أن أمر النبي صلى الله عليه و سلم مضمحل قاله الزجاج
قوله تعالى ظن الجاهلية قال ابن عباس أي كظن الجاهلية
قوله تعالى يقولون هل لنا من الأمر من شيء لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الجحد تقديره ما لنا من الأمر من شيء قال الحسن قالوا لو كان الأمر إلينا ما خرجنا و إنما أخرجنا كرها وقال غيره المراد بالأمر النصر والظفر قالوا إنما النصر للمشركين قل إن الأمر كله أي النصر والظفر والقضاء والقدر لله والاكثرون قرؤوا إن الأمر كله لله بنصب اللام وقرأ أبو عمرو برفعها قال أبو علي حجة من نصب أن كله بمنزلة أجمعين في الإحاطة والعموم فلو قال إن الأمر

أجمع لم يكن إلا النصب وكله بمنزلة أجمعين ومن رفع فلآنه قد ابتدأ به كما ابتدأ بقوله تعالى وكلهم آتية
قوله تعالى يخفون في أنفسهم في الذي أخفوه ثلاثة أقوال
أحدها أنه قولهم لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا
والثاني أنه إسرارهم الكفر والشك في أمر الله
و الثالث الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد
قال أبو سليمان الدمشقي والذي قال هل لنا من الأمر من شيء عبد الله ابن أبي والذي قال لو كان لنا من الأمر من شيء معتب بن قشير
قوله تعالى قل لو كنتم في بيوتكم أي لو تخلفتم لخرج منكم من كتب عليه القتل ولم ينجه القعود والمضاجع المصارع بالقتل قال الزجاج ومعنى برزوا صاروا إلى براز وهو المكان المنكشف ومعنى وليبتلي الله ما في صدوركم أي ليختبره بأعمالكم لأنه قد علمه غيبا فيعلمه شهادة
قوله تعالى وليمحص الله ما في قلوبكم قال قتادة أراد ليظهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة وإظهار سرائر المنافقين وهذا التمحيص خاص للمؤمنين وقال غيره أراد بالتمحيص إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله ولرسوله وللمؤمنين فهو خطاب للمنافقين
قوله تعالى والله عليم بذات الصدور أي بما فيها وقال ابن الأنباري معناه عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة كما تقول العرب لقيته ذات يوم فيؤنثون لأن مقصدهم لقيته مرة في يوم

إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم
قوله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان الخطاب للمؤمنين وتوليهم فرارهم من العدو والجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين وذلك يوم أحد واستزلهم طلب زللهم قال ابن قتيبة هو كما تقول استعجلت فلانا أي طلبت عجلته واستعملته طلبت عمله والذي كسبوا يريد به الذنوب وفي سبب فرارهم يؤمئذ قولان
أحدها أنهم سمعوا أن النبي صلى الله عليه و سلم قد قتل فترخصوا في الفرار قاله ابن عباس في آخرين
و الثاني أن الشيطان أذكرهم خطاياهم فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها قاله الزجاج
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا أي كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق وقيل إخوانهم في النسب قال الزجاج و إنما قال إذا ضربوا ولم يقل إذ ضربوا لأنه يريد شأنهم هذا أبدا تقول فلان إذا حدث صدق و إذا ضرب صبر و إذا لما يستقبل إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى قال المفسرون ومعنى ضربوا في الأرض ساروا وسافروا و غزى جمع غازي وفي الكلام محذوف تقديره إذا ضربوا في الأرض فماتوا أوغزوا فقتلوا
قوله تعالى ليجعل الله ذلك قال ابن عباس ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم سلموا حسرة في قلوبهم أي حزنا قال ابن فارس الحسرة التلهف على الشيء الفائت
قوله تعالى والله يحيي ويميت أي ليس تحرز الانسان يمنعه من أجله
قوله تعالى والله بما تعملون بصير قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعملون بالياء وقرأ الباقون بالتاء قال أبو علي حجة من قرأ بالياء أن قبلها غيبة وهو قوله تعالى وقالوا لإخوانهم ومن قرأ بالتاء فحجته لا تكونوا كالذين كفروا
ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون
قوله تعالى ولئن قتلتم اللام في لئن لام القسم تقديره والله لئن قتلتم في الجهاد أو متم في إقامتكم قرأ ابن كثير و أبو عمرو وابن عامر و أبو بكر عن عاصم مت و متم ومتنا برفع الميم في جميع القرآن وروى حفص عن عاصم أو متم ولئن متم برفع الميم في هذين دون باقي القرآن وقرأ نافع وحمزة والكسائي كل ما في القرآن بالكسر

قوله تعالى لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون أي من أعراض الدنيا التي تتركون الجهاد لجمعها وقرأ حفص عن عاصم يجمعون بالياء ومعناه خير مما يجمع غيركم مما تركوا الجهاد لجمعه قال ابن عباس خير مما يجمع المنافقون في الدنيا
ولئن متم أو قتلتم لإلي الله تحشرون
قوله تعالى ولئن متم أي في إقامتكم أو قتلتم في جهادكم لإلى الله تحشرون وهذا تخويف من القيامة والحشر الجمع مع سوق
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظنا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين
قوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم قال الفراء و ابن قتيبة و الزجاج ما هاهنا صلة ومثله فبما نقضهم ميثاقهم قال ابن الأنباري دخول ما هاهنا يحدث توكيدا
قال النابغة ... المرء يهوى أن يعي ... ش وطول عيش ما يضره ...
فأكد بذكر ما وفيمن تتعلق به هذه الرحمة قولان
أحدهما أنها تتعلق بالنبي صلى الله عليه و سلم والثاني بالمؤمنين

قال قتادة ومعنى لنت لهم لأن جانبك وحسن خلقك وكثر احتمالك قال الزجاج والفظ الغليظ الجانب السىء الخلق يقال فظظت تفظ فظاظة وفظظا والفظ ماء الكرش والفرث و إنما سمي فظا لغلظ مشربه فأما الغليظ القلب فقيل هو القاسي القلب فيكون ذكر الفظاظة والغلظ وإن كانا بمعنى واحد توكيدا وقال ابن عباس الفظ في القول والغليظ القلب في الفعل
قوله تعالى لانفضوا أي تفرقوا وتقول فضضت عن الكتاب ختمه إذا فرقته عنه فاعف عنهم أي تجاوز عن هفواتهم وسل الله المغفرة لذنوبهم وشاورهم في الأمر معناه استخرج آراءهم واعلم ما عندهم ويقال إنه من شرت العسل

وأنشدوا ... وقاسمها بالله حقا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها ...
قال الزجاج يقال شاورت الرجل مشاورة وشورا وما يكون عن ذلك اسمه المشورة وبعضهم يقول المشورة ويقال فلان حسن الصورة والشورة أي حسن الهيئة واللباس ومعنى قولهم شاورت فلانا أظهرت ما عنده وما عندي وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل وعسل مشار قال الأعشى ... كأن القرنفل والزنجبيل ... باتا بفيها وأريا مشارا

والأرى العسل واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي تام التدبير على ثلاثة أقوال
أحدها ليستن به من بعده وهذا قول الحسن وسفيان بن عيينة
و الثاني لتطيب قلوبهم وهو قول قتادة والربيع وابن إسحاق و مقاتل قال الشافعي رضي الله عنه نظير هذا قوله صلى الله عليه و سلم البكر تستأمر في نفسها إنما أراد استطابة نفسها فانها لو كرهت كان للأب أن يزوجها وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أمر بذبحه
و الثالث للاعلام ببركة المشاورة وهو قول الضحاك ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر فلم يلم نفسه ومنها أنه قد يعزم على أمر فيبين له الصواب في قول غيره فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح قال علي رضي الله عنه الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم وقال بعض الحكماء ما استنبط الصواب بمثل المشاورة ولا حصنت النعم بمثل المواساة ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر واعلم أنه إنما أمر

النبي صلى الله عليه و سلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي وعمهم بالذكر والمقصود أرباب الفضل والتجارب منهم وفي الذي أمر بمشاورتهم فيه قولان حكاهما القاضي أبو يعلى
أحدهما أنه أمر الدنيا خاصة والثاني أمر الدين والدنيا وهو أصح
وقد قرأ ابن مسعود و ابن عباس وشاورهم في بعض الأمر
قوله تعالى فإذا عزمت قال ابن فارس العزم عقد القلب على الشىء ويريد أن يفعله وقد قرأ أبو رزين و أبو مجلز و أبوالعالية وعكرمة والجحدري فاذا عزمت بضم التاء فأما التوكل فقد سبق شرحه
ومعنى الكلام فاذا عزمت على فعل شيء فتوكل على الله لا على المشاورة
إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون
قوله تعالى إن ينصركم الله قال ابن فارس النصر العون والخذلان ترك العون وقيل الكناية في قوله من بعده تعود إلى خذلانه
وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون
قوله تعالى وما كان لنبي أن يغل في سبب نزولها سبعة أقوال

أحدها أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر فقال ناس لعل النبي صلى الله عليه و سلم أخذها فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس
و الثاني أن رجلا غل من غنائم هوازن يوم حنين فنزلت هذه الآية رواه الضحاك عن ابن عباس
و الثالث أن قوما من أشراف الناس طلبوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخصهم بشىء من الغنائم فنزلت هذه الآية نقل عن ابن عباس أيضا
و الرابع أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث طلائعا فغنم النبي صلى الله عليه و سلم غنيمة ولم يقسم للطلائع فقالوا قسم الفيء ولم يقسم لنا فنزلت هذه الآية قاله الضحاك
و الخامس أن قوما غلوا يوم بدر فنزلت هذه الآية قاله قتادة
والسادس أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا نخاف أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم من أخذ شيئا فهو له فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا أظننتم أنا نغل فنزلت هذه الآية قاله ابن السائب و مقاتل
والسابع أنها نزلت في غلول الوحي قاله القرظي وابن اسحاق
وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتم فسألوه أن يطوي ذلك فنزلت هذه الآية

واختلف القراء في يغل فقرا ابن كثير وعاصم و أبو عمرو بفتح الياء وضم الغين ومعناها يخون وفي هذه الخيانة قولان
أحدهما خيانة المال على قول الأكثرين
والثاني خيانة الوحي الوحب على قول القرظي وابن اسحاق وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الغين ولها وجهان
أحدهما أن يكون المعنى يخان ويجوز أن يكون يلفى خائنا يقال أغللت فلانا أي وجدته غالا كما يقال أحمقته وجدته أحمق وأحمدته وجدته محمودا قاله الحسن و ابن قتيبة
والثاني يخون قاله الفراء وأجازه الزجاج ورده ابن قتيبة فقال لو أراد يخون لقال يغلل كما يقال يفسق ويخون ويفجر
وقيل اللام في قوله لنبي منقولة ومعنى الآية وما كان النبي ليغل ومثله ما كان لله أن يتخذ من ولد مريم 36 أي ما كان الله ليتخذ ولدا
وهذه الآية من الطف التعريض إذ قد ثبتت براءة ساحة النبي صلى الله عليه و سلم من الغلول فدل على أن الغلول في غيره ومثله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين سبأ 25 وقد ذكر عن السدي نحو هذا
قوله تعالى ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة الغلول أخذ شيء من المغنم خفية ومنه الغلالة وهي ثوب يلبس تحت الثياب والغلل وهو الماء الذي يجري بين الشجر والغل وهو الحقد الكامن في الصدر وأصل الباب الاختفاء وفي إتيانه بما غل ثلاثة أقوال

أحدها أنه يأتي بما غله يحمله ويدل عليه ما روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فاقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك الرغاء صوت البعير والثغاء صوت الشاة والنفس ما يغل من السبي والرقاع الثياب والصامت المال
والقول الثاني أنه يأتي حاملا إثم ما غل
والثالث أنه يرد عوض ما غل من حسناته والقول الأول أصح لمكان الأثر الصحيح

قوله تعالى ثم توفى كل نفس ما كسبت أي تعطى جزاء ما كسبت
أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير
قوله تعالى أفمن اتبع رضوان الله اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين
أحدهما أن معناها أفمن اتبع رضوان الله فلم يغل كمن باء بسخط من الله حين غل هذا قول سعيد بن جبير و الضحاك والجمهور
والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر المسلمين باتباعه يوم أحد اتبعه المؤمنون وتخلف جماعة من المنافقين فأخبر الله بحال من تبعه ومن تخلف عنه هذا قول الزجاج
هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون
قوله تعالى هم درجات قال الزجاج معناه هم ذوو درجات وفي معنى درجات قولان
أحدهما أنها درجات الجنة قاله الحسن
والثاني أنها فضائلهم فبعضهم أفضل من بعض قاله الفراء و ابن قتيبة
وفيمن عنى بهذا الكلام قولان
أحدهما أنهم الذين اتبعوا رضوان الله والذين باؤوا بسخط من الله فلمن اتبع رضوان الله الثواب ولمن باء بسخطه العذاب هذا قول ابن عباس
والثاني أنهم الذين اتبعوا رضوان الله فقط فانهم يتفاوتون في المنازل هذا قول سعيد بن جبير و أبي صالح و مقاتل

لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين
قوله تعالى لقد من الله علىالمؤمنين أي أنعم عليهم و أنفسهم جماعتهم وقيل نسبهم وقرأ الضحاك وأبو الجوزاء من أنفسهم بفتح الفاء وفي وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال
أحدها لكونه معروف النسب فيهم قاله ابن عباس وقتادة
والثاني لكونهم قد خبروا أمره وعلموا صدقه قاله الزجاج
والثالث ليسهل عليهم التعلم منه لموافقة لسانه للسانهم قاله أبو سليمان الدمشقي
والرابع لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم قاله الماوردي
وهل هذه الآية خاصة أم عامة فيه قولان
احدهما أنها خاصة للعرب روي عن عائشة والجمهور
والثاني أنها عامة لسائر المؤمنين فيكون المعنى أنه ليس بملك ولا من غير بني آدم وهذا اختيار الزجاج وقد سبق في البقرة بيان باقي الآية

أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير أحدهما أنها خاصة للعرب روي عن عائشة والجمهور
والثاني أنها عامة لسائر المؤمنين فيكون المعنى أنه ليس بملك ولا من غير نبي آدم وهذا اختيار الزجاج وقد سبق في البقرة بيان ناقي الآية أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير
قوله تعالى أو لما أصابتكم مصيبة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يوم أحد عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى قل هو من عند أنفسكم قال بأخذكم الفداء
قوله تعالى أو لما قال الزجاج هذه واو النسق دخلت عليها ألف الاستفهام فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها ومثل ذلك قول القائل تكلم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له أو هو ممن يقول ذلك فأما المصيبة فما أصابهم يوم أحد وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر لانهم قتل منهم سبعون فقتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين وهذا قول ابن عباس و الضحاك وقتادة والجماعة إلا أن الزجاج قال قد أصبتم يوم أحد مثلها ويوم بدر مثلها فجعل المثلين في اليومين
قوله تعالى أنى هذا قال ابن عباس من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون
قوله تعالى قل هو من عند أنفسكم فيه ثلاثة أقوال

أحدها أن معناه بأخذكم الفداء يوم بدر قاله عمر بن الخطاب وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك للناس فقالوا عشائرنا وإخواننا بل نأخذ منهم الفداء ويستشهد منا عدتهم فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر فعلى هذا يكون المعنى قل هو بأخذكم الفداء واختياركم القتل لأنفسكم
والثاني أنه جرى ذلك بمعصية الرماة يوم أحد وتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس و مقاتل في آخرين
والثالث أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أحد فانه أمرهم بالتحصن فيها فقالوا بل نخرج قاله قتادة والربيع قال مقاتل إن الله على كل شيء من النصر والهزيمة قدير
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون
قوله تعالى وما أصابكم يوم التقى الجمعان الجمعان النبي وأصحابه و أبو سفيان وأصحابه وذلك في يوم أحد وقد سبق ذكر ما أصابهم

قوله تعالى فبإذن الله فيه ثلاثة أقوال
أحدها أمره والثاني قضاؤه رويا عن ابن عباس والثالث علمه قاله الزجاج
قوله تعالى وليعلم المؤمنين أي ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلة صبرهم قال ابن قتيبة والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع وهو جحر من جحرته يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه قال الزيادي عن الأصمعي ولليربوع أربعة أجحرة النافقاء وهو الذي يخرج منه كثيرا ويدخل منه كثيرا والقاصعاء سمي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر ثم يقصع ببعضه كأنه يسد به فم الجحر ومنه يقال جرح فلان قد قصع بالدم إذا امتلأ ولم يسل والداماء سمي بذلك لأنه يخرج التراب من فم الجحر ثم يدم به فم الجحر كأنه يطليه به ومنه يقال ادمم قدرك بشحم أي اطلها به والراهطاء ولم يذكر اشتقاقه و إنما يتخذ هذه الجحر عددا فاذا أخذ عليه بعضها خرج من بعض قال أبو زيد فشبه المنافق به لأنه يدخل في الإسلام بلفظه ويخرج منه بعقدة كما يدخل اليربوع من باب ويخرج من باب قال ابن قتيبة والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام قال ابن عباس والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبي وأصحابه قال موسى بن عقبة خرج النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد ومعه المسلمون وهم ألف رجل والمشركون ثلاثة آلاف فرجع عنه ابن أبي في ثلاثمئة فأما القتال فمباشرة الحرب وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال
أحدها أنه التكثير بالعدد رواه مجاهد عن ابن عباس وهو قول الحسن وعكرمة و الضحاك والسدي وابن جريج في آخرين

والثاني أن معناه ادفعوا عن أنفسكم وحريمكم رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول مقاتل والثالث أنه بمعنى القتال أيضا قاله ابن زيد
قوله تعالى لو نعلم قتالا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما أسلمناكم ذكره ابن اسحاق
والثاني لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم
والثالث إنما معناه أن هناك قتلا وليس بقتال ذكرهما الماوردي
قوله تعالى هم للكفر أي إلى الكفر أقرب منهم للايمان أي إلى الايمان و إنما قال يومئذ لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الايمان
قوله تعالى يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فيه وجهان ذكرهما المارودي
أحدهما ينطقون بالإيمان وليس في قلوبهم إلا الكفر
والثاني يقولون نحن أنصار وهم أعداء وذكر في الذي يكتمون وجهين
أحدهما أنه النفاق والثاني العداوة
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين
قوله تعالى الذين قالوا لإخوانهم قال ابن عباس نزلت في عبد الله بن أبي وفي إخوانهم قولان
أحدهما أنهم إخوانهم في النفاق قاله ابن عباس

والثاني إخوانهم في النسب قاله مقاتل فعلى الأول يكون المعنى قالوا لإخوانهم المنافقين لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا وعلى الثاني يكون المعنى قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد لو أطاعونا ما قتلوا
قوله تعالى وقعدوا يعني القائلين قعدوا عن الجهاد
قوله تعالى فادرؤوا أي فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين أن الحذر لا ينفع مع القدر
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون
قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا قرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت في شهداء أحد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول سعيد بن جبير وابي الضحى
والثاني أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله تعالى وقالوا ربنا أعلم

إخواننا فنزلت هذه الآية والتي بعدها رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو قول مقاتل
و الثالث أنها نزلت في شهداء بئر معونة روى محمد بن إسحاق عن أشياخ له أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من خيار المسلمين إلى أهل نجد فلما نزلوا بئر معونة خرج حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ينظر فيه عامر وخرج رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشق الآخر فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم قال أنس بن مالك فأنزل الله تعالى فيهم بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم رفعت فنزلت هذه الآية ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا

فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال
أحدها أن الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم وقد ذكرناه عن ابن عباس
والثاني أن رجلا قال يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا فنزلت قاله مقاتل
والثالث أن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور تحسروا وقالوا نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور فنزلت هذه الآية ذكره علي بن أحمد النيسابوري
فأما التفسير فمعنى الآية لا تحسبنهم أمواتا كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله وقد بينا هذا المعنى في البقرة وذكرنا أن معنى حياتهم أن ارواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها قال مجاهد يرزقون من ثمر الجنة
فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون

قوله تعالى فرحين قال ابن قتيبة الفرح المسرة فأما الذي آتاهم الله فما نالوا من كرامة الله ورزقه والاستبشار السرور بالبشارة بالذين لم يحلقوا بهم من خلفهم إخوانهم من المسلمين وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال
أحدها أن الله تعالى ما أخبر بكرامة الشهداء أخبر الشهداء بأني قد أنزلت على نبيكم واخبرته بأمركم فاستبشروا وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة قاله سعيد بن جبير
والثاني يستبشرون باخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة يقولون إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل قاله قتادة
والثالث أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه و وأهله وفيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا فيستبشر بقدومه كما يستبشر أهل الغائب به هذا قول السدي و الهاء والميم في قوله تعالى أن لا خوف عليهم تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم قال الفراء معناه يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا حزن وفي ماذا يرتفع الخوف والحزن عنهم فيه قولان
أحدهما لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم ولا يحزنون على ما خلفوا من اموالهم
والثاني لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة
يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين
قوله تعالى قى يستبشرون بنعمة من الله و فضل قال مقاتل برحمة ورزق
قوله تعالى وأن الله قرأ الجمهور بالفتح على معنى ويستبشرون بأن الله وقرأ الكسائي بالكسر على الاستئناف

الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم
قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول في سبب نزولها قولان
أحدهما أن المشركين لما انصرفوا يوم أحد ندب النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه لاتباعهم ثم خرج بمن انتدب معه فلقي أبو سفيان قوما فقال إن لقيتم محمدا فأخبروه اني في جمع كثير فلقيهم النبي صلى الله عليه و سلم فسألهم عنه فقالوا لقيناه في جمع كثير ونراك في قلة فأبى إلا أن يطلبه فسبقه أبو سفيان فدخل مكة فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس والجمهور
والثاني أن أبا سفيان لما أراد الانصراف عن أحد قال يا محمد موعد بيننا وبينك موسم بدر فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان ثم ألقى الله في قلبه الرعب فبدا له الرجوع فلفي نعيم بن مسعود فقال إني قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى وهذا عام جدب لا يصلح لنا فثبطهم عنا وأعلمهم أنا في جمع كثير فلقيهم فخوفهم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل وخرج النبي صلى الله عليه و سلم بأصحابه حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان فنزل قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول الآيات وهذه المعنى مروي عن مجاهد وعكرمة والاستجابة الإجابة وأنشدوا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب ...
أي فلم يجبه
وفي المراد النبي صلى الله عليه و سلم وخروجه وندب الناس للخروج ثلاثة أقوال
أحدها ليرهب العدو باتباعهم والثاني لموعد أبي سفيان
و الثالث لأنه بلغه عن القوم أنهم قالوا أصبتم شوكتهم ثم تركتموهم وقد سبق الكلام في القرح
قوله تعالى للذين أحسنوا منهم أي أحسنوا بطاعة الرسول واتقوا مخالفته
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
قوله تعالى الذين قال لهم الناس في المراد بالناس ثلاثة أقوال
أحدها أنهم ركب لقيهم أبو سفيان فضمن لهم ضمانا لتخويف النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه قاله ابن عباس وابن اسحاق
والثاني أنه نعيم بن مسعود الأشجعي قاله مجاهد وعكرمة و مقاتل في آخرين

و الثالث أنهم المنافقون لما رأوا النبي صلى الله عليه و سلم يتجهمز نهوا المسلمين عن الخروج وقالوا إن أتيتموهم في ديارهم لم يرجع منكم أحد هذا قول السدي
قوله تعالى إن الناس قد جمعوا لكم يعني أبا سفيان وأصحابه
قوله تعالى فزادهم إيمانا قال الزجاج زادهم ذلك التخويف ثبوتا في دينهم وإقامة على نصرة نبيهم وقالوا حسبنا الله أي هو الذي يكفينا أمرهم فأما الوكيل فقال الفراء الوكيل الكافي واختاره ابن القاسم وقال ابن قتيبة هو الكفيل قال ووكيل الرجل في ماله هو الذي كفله له وقام به وقال الخطابي الوكيل الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم وحقيقته أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه وحكى ابن الأنباري أن قوما قالوا الوكيل الرب
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم
قوله تعالى فانقلبوا بنعمة من الله الانقلاب الرجوع وفي النعمة ثلاثة أقوال
أحدها أنها الأجر قاله مجاهد والثاني العافية قاله السدي

و الثالث الإيمان والنصر قاله الزجاج وفي الفضل ثلاثة أقوال
أحدها ربح التجارة قاله مجاهد والسدي وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان قال الزهري لما استنفر النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر خرجوا ببضائع لهم وقالوا إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا إليه وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا وكانت بدر متجرا يوافى كل عام فانطلقوا فقضوا حوائجهم واخلف أبو سفيان الموعد
والثاني أنهم أصابوا سرية بالصفراء فرزقوا منها قاله مقاتل
و الثالث أنه الثواب ذكره الماوردي
قوله تعالى لم يمسسهم سوء قال ابن عباس لم يؤذهم أحد واتبعوا رضوان الله في طلب القوم والله ذو فضل أي ذو من بدفع المشركين عن المؤمنين
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى إنما ذلكم الشيطان قال الزجاج معناه ذلك التخويف كان فعل الشيطان سوله للمخوفين
وفي قوله تعالى يخوف اولياءه قولان
أحدهما أن معناه يخوفكم بأوليائه قاله الفراء واستدل بقوله تعالى لينذر بأسا شديدا الكهف 4 أي ببأس وبقوله تعالى لينذر يوم التلاق غافر 15 أي بيوم التلاق وقال الزجاج معناه يخوفكم من أوليائه بدليل قوله تعالى فلا تخافوهم وخافون
وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة و إبراهيم و ابن قتيبة

وأنشد ابن الأنباري في ذلك ... وايقنت التفرق يوم قالوا ... تقسم مال أربد بالسهام ...
أراد أيقنت بالتفرق قال فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه قال والذي نختاره في الآية أن المعنى يخوفكم أولياءه تقول العرب قد أعطيت الأموال يريدون أعطيت القوم الأموال فيحذفون القوم ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني فهذا أشبه من ادعاء باء ما عليها دليل ولا تدعوا اليها ضرورة
والثاني أن معناه يخوف أولياءه المنافقين المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين قاله الحسن والسدي وذكره الزجاج
قوله تعالى فلا تخافوهم يعني اولياء الشيطان وخافون في ترك أمري وفي إن قولان
أحدهما أنها بمعنى إذ قاله ابن عباس و مقاتل
والثاني أنها للشرط وهو قول الزجاج في آخرين
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم
قوله تعالى ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر قرأ نافع يحزنك ليحزنني وليحزن بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن إلا في الأنبياء لا يحزنهم الفزع الأنبياء 103 فانه فتح الياء وضم الزاي وقرأ الباقون كل ما في القرآن بفتح الياء وضم الزاي قال أبو علي يشبه أن يكون نافع تبع في سورة الأنبياء أثرا أو أحب أن يأخذ بالوجهين وفي الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال

أحدها أنهم المنافقون ورؤساء اليهود قاله ابن عباس
والثاني المنافقون قاله مجاهد والثالث كفار قريش قاله الضحاك
والرابع قوم ارتدوا عن الإسلام ذكره الماوردي
وقيل معنى مسارعتهم في الكفر مظاهرتهم للكفار ونصرهم إياهم فان قيل كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر فالجواب لا يحزنك فعلهم فانك منصور عليهم
قوله تعالى إنهم لن يضروا الله شيئا فيه قولان
أحدهما لن ينقصوا الله شيئا بكفرهم قاله ابن عباس و مقاتل
والثاني لن يضروا أولياء الله شيئا قاله عطاء قال ابن عباس والحظ النصيب والآخرة الجنة ولهم عذاب عظيم في النار
إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم
قوله تعالى إن الذين اشتروا الكفر بالايمان قال مجاهد المنافقون آمنوا ثم كفروا وقد سبق في البقرة معنى الاشتراء
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين
قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها في اليهود والنصارى والمنافقين قاله ابن عباس
والثاني في قريظة والنضير قاله عطاء والثالث في مشركي مكة قاله مقاتل

والرابع في كل كافر قاله أبو سليمان الدمشقي
وقرأ ابن كثير و أبو عمرو ونافع ولا يحسبن الذين كفروا آل عمران 178 ولا يحسبن الذين يبخلون آل عمران 180 ولا يحسبن الذين يفرحون آل عمران 188 بالياء وكسر السين ووافقهم ابن عامر غير أنه فتح السين وقرأهن حمزة بالتاء وقرأ عاصم والكسائي كل ما في هذه السورة بالتاء غير حرفين ولا يحسبن الذين كفروا ولا يحسبن الذين يبخلون فانهما بالياء إلا أن عاصما فتح السين وكسرها الكسائي ولم يختلفوا في ولا تحسبن الذين قتلوا أنها بالتاء ونملي لهم أي نطيل لهم في العمر ومثله واهجرني مليا قال ابن الأنباري واشتقاق نملي لهم من الملوة وهي المدة من الزمان يقال ملوة من الدهر وملوة وملوة وملاوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد ومنه قولهم البس جديدا وتمل حبيبا أي لتطل أيامك معه
قال متمم بن نويرة ... بودي لو أني تمليت عمره ... بمالي من مال طريف وتالد ...
وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم
قوله تعالى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه في سبب نزولها خمسة أقوال

أحدها أن قريشا قالت تزعم يا محمد أن من اتبعك فهو في الجنة ومن خالفك فهو في النار فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
والثاني أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فنزلت هذه الآية هذا قول أبيالعالية
والثالث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عرضت علي أمتي وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤوا وقالوا فنحن معه ولا يعرفنا فنزلت هذه الآية هذا قول السدي
والرابع أن اليهود قالت يا محمد قد كنتم راضين بديننا فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم فنزلت هذه الآية هذا قول عمر مولى غفرة
والخامس أن قوما من المنافقين ادعوا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين فأظهر الله نفاقهم يوم أحد وأنزل هذه الآية هذا قول أبي سليمان الدمشقي
وفي المخاطب بهذه الآية قولان
أحدهما أنهم الكفار والمنافقون وهو قول ابن عباس و الضحاك
والثاني أنهم المؤمنون فيكون المعنى ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق قال الثعلبي وهذا قول أكثر أهل المعاني
قوله تعالى حتى يميز الخبيث من الطيب قرأ ابن كثير ونافع و أبو عمرو وابن

عامر حتى يميز و ليميز الله الخبيث بفتح الياء والتخفيف وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب يميز بالتشديد وكذلك في الأنفال 37 ليميز الله الخبيث
قال أبو علي مزت وميزت لغتان قال ابن قتيبة ومعنى يميز يخلص فأما الطيب فهو المؤمن وفي الخبيث قولان
أحدهما أنه المنافق قاله مجاهد وابن جريج
والثاني الكافر قاله قتادة والسدي وفي الذي وقع به التمييز بينهم ثلاثة أقوال
أحدها أنه الهجرة والقتال قاله قتادة وهو قول من قال الخبيث الكافر
والثاني أنه الجهاد وهو قول من قال هو المنافق قال مجاهد فيميز الله يوم أحد بين المؤمنين والمنافقين حيث أظهروا النفاق وتخلفوا
والثالث أنه جميع الفرائض والتكاليف فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار فاذا جاءت التكاليف بان أمره هذا قول الكسائي ابن كيسان
وفي المخاطب بقوله وما كان الله ليطلعكم على الغيب قولان
أحدهما أنهم كفار قريش فمعناه ما كان الله ليبين لكم المؤمن من الكافر لأنهم طلبوا ذلك فقالوا أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن هذا قول ابن عباس
والثاني أنه النبي صلى الله عليه و سلم فمعناه وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب قاله السدي ويجتبي بمعنى يختار قاله الزجاج وغيره فمعنى الكلام على القول الأول أن الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا الأنبياء الذين اجتباهم وعلى القول الثاني أن الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل

هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات و الأرض والله بما تعملون خبير
قوله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم وهو قول ابن مسعود و أبي هريرة و ابن عباس في رواية أبي صالح والشعبي و مجاهد وفي رواية السدي في آخرين
والثاني أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه و سلم ونبوته رواه عطية عن ابن عباس وابن جريج عن مجاهد واختاره الزجاج
قال الفراء ومعنى الكلام لا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم فاكتفى بذكر يبخلون من البخل كما تقول قدم فلان فسررت به أي سررت بقدومه
قال الشاعر ... إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف ...
يريد جرى إلى السفه والذي آتاهم الله على قول من قال البخل بالزكاة هو المال وعلى قول من قال البخل بذكر صفة النبي صلى الله عليه و سلم هو العلم

قوله تعالى هو إشارة إلى البخل وليس مذكورا ولكنه مدلول عليه ب يبخلون وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال
أحدها أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع يفر منه وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة وهذا مذهب ابن مسعود ومقاتل
والثاني أنه يجعل طوقا من نار رواه منصور عن مجاهد و إبراهيم
و الثالث أن معنى تطويقهم به تكليفهم أن يأتوا به رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
والرابع أن معناه يلزم أعناقهم إثمه قاله ابن قتيبة
قوله تعالى ولله ميراث السموات والارض قال ابن عباس يموت أهل السموات وأهل الأرض ويبقى رب العالمين قال الزجاج خوطب القوم بما يعقلون لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثا إذا كان ملكا له وقال ابن الأنباري معنى الميراث

انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به فلما مات الخلق وانفرد عز و جل صار ذلك له وراثة
قوله تعالى والله بما تعملون خبير قرأ ابن كثير و أبو عمرو يعملون بالياء إتباعا لقوله تعالى سيطوقون وقرأ الباقون بالتاء لأن قبله وإن تؤمنوا وتتقوا
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق
قوله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير في سبب نزولها قولان
أحدهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود فوجدهم قد اجتمعوا على رجل منهم اسمه فنحاص فقال أبو بكر اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله فقال والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأخبره أبو بكر بما قال فجحد فنحاص فنزلت هذه الآية ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا آل عمران 186 هذا قول ابن عباس و إلى نحوه ذهب مجاهد وعكرمة والسدي و مقاتل
والثاني أنه لما نزل قوله من ذا الذي يقرض الله قرضا البقرة 245 قالت اليهود إنما يستقرض الفقير من الغني فنزلت هذه الآية هذا قول الحسن وقتادة
وفي الذين قالوا إن الله فقير أربعة أقوال

أحدها أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي قاله ابن عباس و مقاتل
والثاني حيي بن أخطب قاله الحسن و قتادة
و الثالث أن جماعة من اليهود قالوه قال مجاهد صك أبو بكر رجلا من الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء لم يستقرضنا وهو غني
والرابع أنه النباش بن عمرو اليهودي ذكره أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى سنكتب ما قالوا قرأ حمزة وحده سيكتب بياء مضمومة وقتلهم بالرفع و يقول بالياء وقرأ الباقون سنكتب ما قالوا بالنون وقتلهم بالنصب ونقول بالنون وقرأ ابن مسعود ويقال وقرأ الأعمش وطلحة و يقول
وفي معنى سنكتب ما قالوا قولان
أحدهما سنحفظ عليهم ما قالوا قاله ابن عباس
والثاني سنأمر الحفظة بكتابته قاله مقاتل
قوله تعالى وقتلهم الأنبياء أي ونكتب ذلك فان قيل هذا القائل لم يقتل نبيا قط فالجواب أنه رضي بفعل متقدميه لذلك كما بينا في قوله تعالى ويقتلون النبيين بغير الحق قال الزجاج ومعنى عذاب الحريق عذاب محرق أي عذاب بالنار لأن العذاب قد يكون بغير النار
ذلك بما قدمت أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد
قوله تعالى ذلك إشارة إلى العذاب والذي قدمت أيديهم الكفر والخطايا

الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين
قوله تعالى الذين قالوا إن الله عهد إلينا قال ابن عباس نزلت في كعب ابن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وجماعة من اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا إن الله عهد إلينا أي أمرنا في التوراة أن لا نؤمن لرسول أي لا نصدق رسولا يزعم أنه رسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قال ابن قتيبة والقربان ما تقرب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره و إنما طلبواالقربان لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين وكان نزول النار علامة القبول قال ابن عباس كان الرجل يتصدق فاذا قبلت منه نزلت نار من السماء فأكلته وكانت نارا لها دوي وحفيف وقال عطاء كان بنو اسرائيل يذبحون لله فيأخذون اطايب اللحم فيضعونها في وسط البيت تحت السماء فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه فتنزل نار فتأخذ ذلك القربان فيخر النبي ساجدا فيوحي الله إليه ما يشاء قال ابن عباس قل يا محمد لليهود قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات أي بالآيات وبالذي سألتم من القربان
فان كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
قوله تعالى فان كذبوك فقد كذب رسل من قبلك معناه لست بأول رسول كذب قال أبو علي وقرأ ابن عامر وحده بالبينات والزبر بزيادة باء وكذلك في مصاحف أهل الشام ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد ووجه قراءة الجمهور

أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل تقول مررت بزيد وعمرو فتستغني عن تكرير الباء وقال الزجاج والزبر جمع زبور والزبور كل كتاب ذي حكمة
قوله تعالى والكتاب المنير قال أبو سليمان يعني به الكتب النيرة بالبراهين والحجج
كل نفس ذائقة الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت قال ابن عباس لما نزل قوله قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم السجدة11 قالوا يا رسول الله إنما نزل في بني آدم فأين ذكر الموت في الجن والطير والأنعام فنزلت هذه الآية وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير وتزهيد في الدنيا وتنبيه على اغتنام الأجل
وفي قوله تعالى إنما توفون أجوركم يوم القيامة بشارة للمحسنين وتهديد للمسيئين
قوله تعالى فمن زحزح قال ابن قتيبة نجي وأبعد فقد فاز قال الزجاج تأويل فاز تباعد عن المكروه ولقي ما يحب يقال لمن نجا من هلكة ولمن لقي ما يغتبط به قد فاز

قوله تعالى وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور يريد أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب قال سعيد بن جبير هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة فأما من يشتغل بطلب الآخرة فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها
لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الأمور
قوله تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي وعبد الله بن رواحة فغشي المجلس عجاجة الدابة فخمر ابن أبي أنفه بردائه وقال لا تغبروا علينا فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم دعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أبي إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا في مجالسنا وقال ابن رواحة اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله فانا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود فنزلت هذه الآية رواه عروة عن أسامة بن زيد

والثاني أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه أشد الأذى فنزلت هذه الآية قاله كعب بن مالك الأنصاري
و الثالث أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق وبين فنحاص اليهودي وقد سبق ذكره عن ابن عباس
والرابع أنها نزلت في النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر الصديق قاله أبو صالح عن ابن عباس واختاره مقاتل وقال عكرمة نزلت في النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر الصديق وفنحاص اليهودي

والخامس أنها نزلت في كعب بن الأشرف كان يحرض المشركين على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه في شعره وهذا مذهب الزهري
قال الزجاج ومعنى لتبلون لتختبرن أي توقع عليكم المحن فيعلم المؤمن حقا من غيره و النون دخلت مؤكدة مع لام القسم وضمت الواو لسكونها وسكون النون وفي البلوى في الأموال قولان
أحدهما ذهابها ونقصانها والثاني ما فرض فيها من الحقوق
وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال
أحدها المصائب والقتل والثاني ما فرض من العبادات
و الثالث الأمراض والرابع المصيببة بالأقارب والعشائر
وقال عطاء هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم وباعوا رباعهم وعذبوهم
قوله تعالى ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والذين أشركوا مشركو العرب وإن تصبروا على الأذى وتتقوا الله بمجانبة معاصيه
قوله تعالى فان ذلك من عزم الأمور أي ما يعزم عليه لظهور رشدة
فصل
والجمهور على إحكام هذه الآية وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السيف
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون

قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب فيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم اليهود قاله ابن عباس وابن جبير والسدي و مقاتل فعلى هذا الكتاب التوراة
والثاني أنهم اليهود والنصارى والكتاب التوراة والانجيل
و الثالث أنهم جميع العلماء فيكون الكتاب اسم جنس
قوله تعالى لتبيننه للناس
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابو بكر والمفضل عن عاصم وزيد عن يعقوب ليبيننه للناس ولا يكتمونه بالياء فيهما وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بالتاء فيهما وفي هاء الكناية في لتبيننه وتكتمونه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى النبي محمد صلى الله عليه و سلم وهذا قول من قال هم اليهود
والثاني أنها ترجع إلى الكتاب قاله الحسن وقتادة وهو أصح لأن الكتاب أقرب المذكروين و لأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمد صلى الله عليه و سلم وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا
قوله تعالى فنبذوه قال الزجاج أي رموا به يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به قد جعلت هذا الأمر بظهر قال الفرزدق ... تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ... بظهر ولا يعيا على جوابها

معناه لا تكونن حاجتي مهملة عندك مطرحة وفي هاء فنبذوه قولان
أحدهما أنها تعود إلى الميثاق والثاني إلى الكتاب
قوله تعالى واشتروا به يعني استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به ووعدهم عليه الجنة ثمنا قليلا أي عرضا يسيرا من الدنيا
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم
قوله تعالى ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا وقرأ أهل الكوفة لا تحسبن بالتاء وفي سبب نزولها ثمانية أقوال
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل اليهود عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره وأروه أنهم قد أخبروه به واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه فنزلت هذه الآية

والثاني أنها نزلت في قوم من اليهودفرحوا بما يصيبون من الدنيا وأحبوا أن يقول الناس إنهم علماء وهذا القول والذي قبله عن ابن عباس
والثالث أن اليهود قالوا نحن على دين إبراهيم وكتموا ذكر محمد صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن جبير
والرابع أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها أن محمدا ليس بنبي فاثبتوا على دينكم فاجتمعت كلمتهم على الكفر به ففرحوا بذلك وقالوا نحن أهل الصوم والصلاة وأولياء الله فنزلت هذه الآية هذا قول الضحاك والسدي
والخامس أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا نحن على رأيكم ونحن لكم ردء وهم مستمسكون بضلالتهم فأرادوا أن يحمدهم نبي لله بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية قاله قتادة
والسادس أن ناسا من اليهود جهزوا جيشا إلى النبي صلى الله عليه و سلم واتفقوا عليهم فنزلت هذه الآية قاله إبراهيم النخعي
والسابع أن قوما من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلى الله عليه و سلم ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها فحمدوهم وأبطنوا خلاف ما أظهروا فنزلت هذه الآية ذكره الزجاج
والثامن أن رجالا من المنافقين كانوا يتخلفون عن الغزو مع النبي صلى الله عليه و سلم فاذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية قاله

أبو سعيد الخدري وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين وما قبله من الأقوال يدل على انها في اليهود
وفي الذي أتوا ثمانية أقوال
أحدها أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق
والثاني تبديلهم التوراة والثالث إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب
والرابع إضلالهم الناس والخامس اجتماعهم على تكذيب النبي
والسادس نفاقهم باظهار ما في قلوبهم ضده
والسابع اتفاقهم على محاربة النبي صلى الله عليه و سلم وهذه أقوال من قال هم اليهود
والثامن تخلفهم في الغزوات وهذا قول من قال هم المنافقون
وفي قوله تعالى ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ستة أقوال

أحدها أحبوا أن يحمدوا على إجابة النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء سألهم عنه وما أجابوه
والثاني أحبوا أن يقول الناس هم علماء وليسو كذلك
و الثالث أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصيام وهذه الاقوال الثلاثة عن ابن عباس
والرابع أحبوا أن يحمدوا على قولهم نحن على دين إبراهيم وليسوا عليه قاله سعيد بن جبير
والخامس أحبوا أن يحمدوا على قولهم إنا راضون بما جاء به النبي وليسوا كذلك قاله قتادة وهذه أقوال من قال هم اليهود
والسادس أنهم كانوا يحلفون للمسلمين إذا نصروا إنا قد سررنا بنصركم وليسوا كذلك قاله أبو سعيد الخدري وهو قول من قال هم المنافقون
قوله تعالى فلا يحسبنهم قرأ ابن كثير و أبو عمرو فلا يحسبنهم بالياء وضم الباء وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء وفتح الباء قال الزجاج إنما كررت تحسبنهم لطول القصة والعرب تعيد إذا طالت القصة حسبت وما أشبهها إعلاما أن الذي يجرى متصل بالأول وتوكيدا له فتقول لا تظنن زيدا إذا جاء وكلمك بكذا وكذا فلا تظننه صادقا
قوله تعالى بمفازة قال ابن زيد و ابن قتيبة بمنجاة
ولله ملك السموات والارض والله على كل شيء قدير
قوله تعالى ولله ملك السموات والارض فيه تكذيب القائلين بأنه فقير
وفي قوله تعالى والله على كل شيء قدير تهديد لهم أي لو شئت لعجلت عذابهم

إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لألي الألباب
قوله تعالى إن في خلق السموات والارض في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن قريشا قالوا لليهود ما الذي جاءكم به موسى قالوا عصاه ويده البيضاء وقالوا للنصارى ما الذي جاءكم به عيسى قالوا كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم وقالوا ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فنزلت هذه الآية رواه ابن جبير عن ابن عباس
والثاني أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
و الثالث أنه لما نزل قوله تعالى وإلهكم إله واحد البقرة 163 قالت قريش قد سوى بين آلهتنا إئتنا بآية فنزلت هذه الآية قاله أبو الضحى واسمه مسلم بن صبيح فأما تفسير الآية فقد سبق

الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار
قوله تعالى الذين يذكرون الله قياما وقعودا في هذا الذكر ثلاثة أقوال
أحدها أنه الذكر في الصلاة يصلي قائما فإن لم يستطع فقاعدا فان لم يستطع فعلى جنب هذا قول علي وابن مسعود و ابن عباس وقتادة
والثاني أنه الذكر في الصلاة وغيرها وهو قول طائفة من المفسرين
و الثالث أنه الخوف فالمعنى يخافون الله قياما في تصرفهم وقعودا في دعتهم وعلى جنوبهم في منامهم
قوله تعالى ويتفكرون في خلق السموات والأرض قال ابن فارس التفكر تردد القلب في الشيء قال ابن عباس ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه
قوله تعالى ربنا قال الزجاج معناه يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا أي خلقته دليلا عليك وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك ومعنى سبحانك براءة لك من السوء وتنزيها لك أن تكون خلقتهما باطلا فقنا عذاب النار فقد صدقنا أن لك جنة ونار
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار

قوله تعالى ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته قال الزجاج المخزى في اللغة المذل المحقور بأمر قد لزمه وبحجة يقال أخزيته أي ألزمته حجة أذللته معها وفيمن يتعلق به هذا الخزي قولان
أحدهما أنه يتعلق بمن يدخلها مخلدا قاله أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وابن جبير وقتادة وابن جريج و مقاتل
والثاني أنه يتعلق بكل داخل إليها وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله واختاره ابن جرير الطبري و أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى وما للظالمين من انصار قال ابن عباس وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار
قوله تعالى ربنا إننا سمعنا مناديا في المنادي قولان
أحدهما أنه النبي صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد ومقاتل
والثاني أنه القرآن قاله محمد بن كعب القرظي واختاره ابن جرير الطبري
قوله تعالى ينادي للإيمان فيه قولان
أحدها أن معناه ينادي إلى الإيمان ومثله الذي هدانا لهذا الأعراف 43 بأن ربك أوحى لها الزلزلة 5 يريد هدانا إلى هذا واوحى إليها قاله الفراء
والثاني بأنه مقدم ومؤخر والمعنى سمعنا مناديا للايمان ينادي قاله أبو عبيدة

قوله تعالى وكفر عنا سيئاتنا قال مقاتل امح عنا خطايانا وقال غيره غطها عنا وقيل إنما جمع بين غفران الذنوب وتكفير السيئات لأن الغفران بمجرد الفضل والتكفير بفعل الخير وتوفنا مع الأبرار قرأ نافع وابو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي الأبرار والأشرار وذات قرار وما كان مثله بين الفتح والكسر وقرأ ابن كثير وعاصم بالفتح ومعنى مع الأبرار فيهم قال ابن عباس وهم الأنبياء والصالحون
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد
قوله تعالى ربنا وآتنا ما وعدتنا قال ابن عباس يعنون الجنة على رسلك أي على ألسنتهم فإن قيل ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه خرج مخرج المسألة ومعناه الخبر تقديره فآمنا فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا
والثاني أنه سؤال له أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده لا أنهم استحقوا ذلك إذ لو كانوا قد قطعوا أنهم من الأبرار لكانت تزكية لأنفسهم
و الثالث أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء لأنه وعدهم نصرا غير مؤقت فرغبوا في تعجيله ذكر هذه الأجوبة ابن جرير وقال أولى الاقوال بالصواب أن هذه صفة المهاجرين رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم فكانهم قالوا لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء فعجل خزيهم وظفرنا بهم
فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم

وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب
قوله تعالى فاستجاب لهم ربهم روي عن أم سلمة أنها قالت يا رسول الله لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فنزلت هذه الآية واستجاب بمعنى أجاب والمعنى أجابهم بأن قال لهم إني لا أضيع عمل عامل منكم ذكرا كان أم أنثى
وفي معنى قوله تعالى بعضكم من بعض ثلاثة أقوال
أحدها بعضكم من بعض في الدين والنصرة والموالاة
والثاني حكم جميعكم في الثواب واحد لأن الذكور من الإناث والإناث من الذكور والثالث كلكم من آدم وحواء
قوله تعالى فالذين هاجروا أي تركوا الأوطان والأهل والعشائر وأخرجوا من ديارهم يعني المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين فهاجروا وقاتلوا المشركين وقتلوا قرأ ابن كثير وابن عامر وقاتلوا وقتلوا مشددة التاء وقرأ نافع وابو عمرو وعاصم وقاتلوا وقتلوا خفيفة وقرأ حمزة والكسائي و قتلوا وقاتلوا قال أبو علي تقديم قتلوا جائز لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى مؤخرا في اللفظ
قوله تعالى ثوابا من عند الله قال الزجاج هو مصدر مؤكد لما قبله لأن معنى

لأدخلنهم جنات لأثيبنهم
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد
قوله تعالى لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في اليهود ثم في ذلك قولان
أحدهما أن اليهود كانوا يضربون في الأرض فيصيبون الأموال فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم أراد أن يستسلف من بعضهم شعيرا فأبى إلا على رهن فقال النبي صلى الله عليه و سلم لو أعطاني لأوفيته إني لأمين في السماء أمين في الأرض فنزلت ذكره أبو سليمان الدمشقي
والقول الثاني أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاء فقال بعض المؤمنين قد أهلكنا الجهد وأعداء الله فيما ترون فنزلت هذه الآية هذا قول مقاتل قال

قتادة والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد غيره وقال غيره إنما خاطبه تأديبا وتحذيرا وإن كان لا يغتر وفي معنى تقلبهم ثلاثة أقوال
أحدها تصرفهم في التجارات قاله ابن عباس و الفراء وابن قتيبة و الزجاج
والثاني تقلب ليلهم ونهارهم وما يجري عليهم من النعم قاله عكرمة و مقاتل
والثالث تقلبهم غير مأخوذين بذنوبهم ذكره بعض المفسرين قال الزجاج ذلك الكسب والربح متاع قليل وقال ابن عباس منفعة يسيرة في الدنيا والمهاد الفراش
لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار
قوله تعالى لكن الذين اتقوا ربهم قرأ أبو جعفر لكن بالتشديد هاهنا وفي الزمر قال مقاتل وحدوا قال ابن عباس النزل الثواب قال ابن فارس النزل ما يهيأ للنزيل والنزيل الضيف
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا اولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
قوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في النجاشي لأنه لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه و سلم فقال قائل يصلي على هذا العلج النصراني وهو في أرضه فنزلت هذه الآية هذا قول جابر ابن عبد الله و ابن عباس وأنس وقال الحسن وقتادة فيه وفي أصحابه

والثاني أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والثالث في عبد الله بن سلام وأصحابه قاله ابن جريج وابن زيد و مقاتل
والرابع في أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلى الله عليه و سلم قاله عطاء
قوله تعالى وما أنزل إليكم يعني القرآن وما أنزل إليهم يعني كتابهم والخاشع الذليل لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أي عرضا من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود وقد سلف بيان سرعة الحساب
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اصبروا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن نزلت في انتظار الصلاة بعد الصلاة وليس يؤمئذ غزو يرابط وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال
احدها البلاء والجهاد قاله ابن عباس

الثاني الدين قاله الحسن والقرظي و الزجاج
والثالث المصائب روي عن الحسن أيضا والرابع الفرائض قاله سعيد بن جبير
والخامس طاعة الله قاله قتادة وفي الذي امروا بمصابرته قولان
أحدهما العدو قاله ابن عباس والجمهور
والثاني الوعد الذي وعدهم الله قاله عطاء والقرظي وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان
أحدهما الجهاد للأعداء قاله ابن عباس والحسن وقتادة في آخرين قال ابن قتيبة وأصل المرابطة والرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم في الثغر كل يعد لصاحبه
والثاني أنه الصلاة أمروا بالمرابطة عليها قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن وقد ذكرنا في البقرة معنى لعل ومعنى الفلاح
تم بعون الله تبارك وتعالى الجزء الأول من كتاب زاد المسير في علم التفسير ويليه الجزء الثاني وأوله تفسير سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم
4 - سورة النساء يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا
اختلفوا في نزولها على قولين
أحدهما أنها مكية رواه عطية عن ابن عباس وهو قول الحسن ومجاهد وجابر بن زيد وقتادة
والثاني إنها مدنية رواه عطاء عن ابن عباس وهو قول مقاتل وقيل إنها مدنية إلا آية نزلت بمكة في عثمان بن طلحة حين أراد النبي صلى الله عليه و سلم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة فيسلمها إلى العباس وهي قوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ذكره الماوردي
قوله تعالى اتقوا ربكم فيه قولان
أحدهما أنه بمعنى الطاعة قاله ابن عباس و الثاني بمعنى الخشية قاله مقاتل
و النفس الواحدة آدم وزوجها حواء و من في قوله و خلق منها للتبعيض في قول الجمهور و قال ابن بحر منها أي من جنسها
و اختلفوا أي وقت خلقت له على قولين

أحدهما أنها خلقت بعد دخوله الجنة قاله ابن مسعود و ابن عباس
و الثاني قبل دخوله الجنة قاله كعب الأحبار ووهب و ابن اسحاق
قال ابن عباس لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم فخلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلم تؤذه بشيء و لو وجد الأذى ما عطف عليها أبدا فلما استيقظ قيل يا آدم ما هذه قال حواء
قوله تعالى و بث منهما قال الفراء بث نشر ومن العرب من يقول أبث الله الخلق ويقولون بثثتك ما في نفسي و أبثثتك
قوله تعالى الذي تساءلون به قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و البرجمي عن أبي بكر عن عاصم واليزيدي و شجاع و الجعفي و عبد الوارث عن أبي عمرو تساءلون بالتشديد و قرأ عاصم و حمزة و الكسائي و كثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف
قال الزجاج الأصل تتساءلون فمن قرأ بالتشديد أدغم التاء في السين لقرب مكان هذه من هذه و من قرأ بالتخفيف حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين
و في معنى تساءلون به ثلاثة أقوال
أحدها تتعاطفون به قاله ابن عباس و الثاني تتعاقدون و تتعاهدون به قاله الضحاك والربيع

والثالث تطلبون حقوقكم به قاله الزجاج
فأما قوله والأرحام فالجمهور على نصب الميم على معنى واتقوا الأرحام أن تقطعوها و فسرها على هذا ابن عباس و مجاهد وعكرمة والسدي و ابن زيد وقرأ الحسن وقتادة و الأعمش و حمزة بخفض الميم على معنى تساءلون به وبالأرحام و فسرها على هذا الحسن و عطاء و النخعي
و قال الزجاج الخفض في الأرحام خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر وخطأ في الدين لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تحلفوا بآبائكم وذهب إلى نحو هذا الفراء و قال ابن الأنباري إنما أراد حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به فالمعنى الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهلية قال أبو علي من جر عطف على الضمير المجرور بالباء وهو ضعيف في القياس قليل في الاستعمال فترك الأخذ به أحسن
فأما الرقيب فقال ابن عباس ومجاهد الرقيب الحافظ وقال الخطابي هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء وهو في نعوت الآدميين الموكل بحفظ

الشيء المترصد له المتحرز عن الغفلة فيه يقال منه رقبت الشيء أرقبه رقبة و ءاتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلا أموالكم إنه كان حوبا كبيرا
قوله تعالى و آتوا اليتامى أموالهم سبب نزولها أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب ماله فمنعه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت قاله سعيد بن جبير و الخطاب بقوله وآتوا للأولياء و الأوصياء قال الزجاج و إنما سموا يتامى بعد البلوغ بالاسم الذي كان لهم و قد كان يقال للنبي صلى الله عليه و سلم يتيم أبي طالب

قوله ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب قرأ ابن محيصن تبدلوا بتاء واحدة 2 ثم في معنى الكلام قولان
أحدهما أنه إبدال حقيقة ثم فيه قولان
أحدهما أنه أخذ الجيد و إعطاء الرديء مكانه قاله سعيد بن المسيب و الضحاك والنخعي والزهري والسدي قال السدي كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم و يجعل مكانها المهزولة ويأخذ الدراهم الجياد ويطرح مكانها الزيوف
و الثاني أنه الربح على اليتيم واليتيم غر لا علم له قاله عطاء
والقول الثاني أنه ليس بابدال حقيقة وإنما هو أخذه مستهلكا ثم فيه قولان
أحدهما أنهم كانوا لا يورثون النساء والصغار وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرجال فنصيب الرجل من الميراث طيب و ما أخذه من حق اليتيم خبيث هذا قول ابن زيد
والثاني أنه أكل مال اليتيم بدلا من أكل أموالهم قاله الزجاج
و إلى بمعنى مع والحوب الإثم و قرأ الحسن وقتادة و النخعي بفتح الحاء
قال الفراء أهل الحجاز يقولون حوب بالضم وتميم يقولونه بالفتح
قال ابن الأنباري وقال الفراء المضموم الاسم والمفتوح المصدر قال ابن قتيبة وفيه ثلاث لغات حوب و حوب وحاب و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا

قوله تعالى و إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى اختلفوا في تنزيلها وتأويلها على ستة أقوال
أحدها أن القوم كانوا يتزوجون عددا كثيرا من النساء في الجاهلية ولا يتحرجون من ترك العدل بينهن وكانوا يتحرجون في شأن اليتامى فقيل لهم بهذه الآية احذروا من ترك العدل بين النساء كما تحذرون من تركه في اليتامى وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة و السدي ومقاتل
والثاني أن أولياء اليتامى كانوا يتزوجون النساء بأموال اليتامى فلما كثر النساء مالوا على أموال اليتامى فقصروا على الأربع حفظا لأموال اليتامى وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا و عكرمة
والثالث أن معناها و إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهن فانكحوا سواهن من الغرائب اللواتي أحل الله لكم وهذا المعنى مروي عن عائشة

و الرابع أن معناها و إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهن وحذرتم سوء الصحبة لهن وقلة الرغبة فيهن فانكحوا غيرهن وهذا المعنى مروي عن عائشة أيضا والحسن
و الخامس أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فأمروا بالتحرج من الزنى أيضا وندبوا إلى النكاح الحلال وهذا المعنى مروي عن مجاهد
و السادس أنهم تحرجوا من نكاح اليتامى كما تحرجوا من أموالهم فرخص الله لهم بهذه الآية وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه فكأنه قال وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن فانكحوهن ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا فان خفتم أن لا تعدلوا فيهن فواحدة وهذا المعنى مروي عن الحسن
قال ابن قتيبة ومعنى قوله و إن خفتم أي فان علمتم أنكم لا تعدلون بين اليتامى يقال أقسط الرجل إذا عدل ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة و يقال قسط الرجل إذا جار ومنه قول الله وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وفي معنى العدل في اليتامى قولان
أحدهما في نكاح اليتامى و الثاني في أموالهم
قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم أي ما حل لكم
قال ابن جرير وأراد بقوله ما طاب لكم الفعل دون أعيان النساء ولذلك قال ما ولم يقل من واختلفوا هل النكاح من اليتامى أو من غيرهن على قولين قد سبقا
قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع

قال الزجاج هو بدل من ما طاب لكم و معناه اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا و إنما خاطب الله العرب بأفصح اللغات وليس من شأن البليغ أن يعبر في العدد عن التسعة باثنتين و ثلاث وأربع لأن التسعة قد وضعت لهذا العدد فيكون عيا في الكلام
وقال ابن الأنباري هذه الواو معناها التفرق وليست جامعة فالمعنى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وانكحوا ثلاث في غير الحال الأولى وانكحوا رباع في غير الحالين
وقال القاضي أبو يعلى الواو هاهنا لإباحة أي الأعداد شاء لا للجمع وهذا العدد إنما هو للأحرار لا للعبيد وهو قول أبي حنيفة والشافعي
وقال مالك هم كالأحرار ويدل على قولنا أنه قال فانكحوا فهذا منصرف إلى من يملك النكاح والعبد لا يملك ذلك بنفسه وقال في سياقها فواحدة أو ما ملكت أيمانكم والعبد لا ملك له فلا يباح له الجمع إلا بين اثنتين

قوله تعالى فان خفتم فيه قولان أحدهما علمتم و الثاني خشيتم
قوله تعالى أن لا تعدلوا قال القاضي أبو يعلى أراد العدل في القسم بينهن
قوله تعالى فواحدة أي فانكحوا واحدة وقرأ الحسن والأعمش و حميد فواحدة بالرفع المعنى فواحدة تقنع
قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم يعني السراري قال ابن قتيبة معنى الآية فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن فقصرهم على أربع ليقدروا على العدل ثم قال فان خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع فانكحوا واحدة واقتصروا على ملك اليمين
قوله تعالى ذلك أدنى أي أقرب وفي معنى تعولوا ثلاثة أقوال
أحدهما تميلوا قاله ابن عباس والحسن ومجاهد و عكرمة وعطاء وإبراهيم وقتادة والسدي ومقاتل والفراء وقال أبو مالك وأبو عبيد تجوروا
قال ابن قتيبة والزجاج تجوروا وتميلوا بمعنى واحد واحتكم رجلان من العرب إلى رجل فحكم لأحدهما فقال المحكوم عليه إنك والله تعول علي أي تميل وتجور

و الثاني تضلوا قاله مجاهد و الثالث تكثر عيالكم قال ابن زيد ورواه أبو سليمان الدمشقي في تفسيره عن الشافعي ورده الزجاج فقال جميع أهل اللغة يقولون هذا القول خطأ لأن الواحدة يعولها وإباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا
قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين
أحدهما أنهم الأزواج وهو قول الجمهور واحتجوا بأن الخطاب للناكحين قد تقدم وهذا معطوف عليه وقال مقاتل كان الرجل يتزوج بلا مهر فيقول أرثك وترثيني فتقول المرأة نعم فنزلت هذه الآية والثاني أنه متوجه إلى الأولياء ثم فيه قولان

أحدهما أن الرجل كان إذا زوج أيمة جاز صداقها دونها فنهوا بهذه الآية هذا قول أبي صالح واختاره الفراء وابن قتيبة
والثاني أن الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر فنهوا عن هذا بهذه الآية رواه أبو سليمان التيمي عن بعض أشياخه
قال ابن قتيبة والصدقات المهور واحدها صدقة وفي قوله نحلة أربعة أقوال
أحدها أنها بمعنى الفريضة قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد ومقاتل والثاني أنها الهبة والعطية قاله الفراء
قال ابن الأنباري كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهن فلما فرض الله لهن المهر كان نحلة من الله أي هبة للنساء فرضا على الرجال
وقال الزجاج هو هبة من الله للنساء قال القاضي أبو يعلى وقيل إنما سمي المهر نحلة لأن الزوج لا يملك بدله شيئا لأن البضع بعد النكاح في ملك المرأة ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج وإنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة لا الملك
والثالث أنها العطية بطيب نفس فكأنه قال لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون قاله أبو عبيدة
والرابع أن معنى النحلة الديانة فتقديره وآتوهن صدقاتهن ديانة يقال فلان ينتحل كذا أي يدين به ذكره الزجاج عن بعض العلماء

قوله تعالى فان طبن لكم يعني النساء المنكوحات وفي لكم قولان
أحدهما أنه يعني الأزواج
والثاني الأولياء و الهاء في منه كناية عن الصداق قال الزجاج و منه هاهنا للجنس كقوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان معناه فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن فكأنه قال كلوا الشيء الذي هو مهر فيجوز أن يسأل الرجل المهر كله ونفسا منصوب على التمييز
فالمعنى فان طابت أنفسهن لكم بذلك فكلوه هنيئا مريئا وفي الهنيء ثلاثة أقوال أحدها أنه ما تؤمن عاقبته والثاني ما أعقب نفعا وشفاء
والثالث أنه الذي لا ينغصه شيء وأما المريء فيقال مرئ الطعام إذا انهضم وحمدت عاقبته ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا
قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم المراد بالسفهاء خمسة أقوال
أحدها أنهم النساء قاله ابن عمر
والثاني النساء والصبيان قاله سعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل والفراء وابن قتيبة وعن الحسن ومجاهد كالقولين
والثالث الأولاد قاله أبو مالك وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس وروي عن الحسن قال هم الأولاد الصغار
والرابع اليتامى قاله عكرمة وسعيد بن جبير في رواية
قال الزجاج ومعنى الآية ولا تؤتوا السفهاء أموالهم بدليل قوله وارزقوهم فيها

وإنما قال أموالكم ذكرا للجنس الذي جعله الله أموالا للناس وقال غيره أضافها إلى الولاة لأنهم قوامها
والخامس أن القول على إطلاقه والمراد به كل سفيه يستحق الحجر عليه ذكره ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما وهو ظاهر الآية
وفي قوله أموالكم قولان أحدهما أنه أموال اليتامى والثاني أموال السفهاء
قوله تعالى التي جعل الله لكم قياما قرأ الحسن اللاتي جعل الله لكم قواما وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وأبو عمرو قياما بالياء مع الألف هاهنا وقرأ نافع وابن عامر قيما بغير ألف
قال ابن قتيبة قياما وقواما بمنزلة واحدة تقول هذا قوام أمرك وقيامه أي ما يقوم به أمرك وذكر أبو علي الفارسي أن قواما وقياما وقيما بمعنى القوام الذي يقيم الشأن قال وليس قول من قال القيم هاهنا جمع قيمة بشيء
قوله تعالى وارزقوهم فيها أي منها وفي القول المعروف ثلاثة أقوال
أحدها العدة الحسنة قال ابن عباس وعطاء ومجاهد ومقاتل

والثاني الرد الجميل قاله الضحاك والثالث الدعاء كقولك عافاك الله قاله ابن زيد وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فاذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا
قوله تعالى وابتلوا اليتامى سبب نزولها أن رجلا يقال له رفاعة مات وترك ولدا صغيرا يقال له ثابت فوليه عمه فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله فنزلت هذه الآية ذكر نحوه مقاتل والابتلاء الاختبار وبماذا يختبرون فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنهم يختبرون في عقولهم قاله ابن عباس والسدي وسفيان ومقاتل والثاني يختبرون في عقولهم ودينهم قاله الحسن وقتادة وعن مجاهد كالقولين
والثالث في عقولهم ودينهم وحفظهم أموالهم ذكره الثعلبي قال القاضي أبو يعلى وهذا الابتلاء قبل البلوغ
قوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح قال ابن قتيبة أي بلغوا أن ينكحوا النساء فان آنستم أي علمتم وتبينتم وأصل أنست أبصرت وفي الرشد أربعة أقوال
أحدها الصلاح في الدين وحفظ المال قاله ابن عباس والحسن

والثاني الصلاح في العقل وحفظ المال روي عن ابن عباس والسدي
والثالث أنه العقل قاله مجاهد والنخعي والرابع العقل والصلاح في الدين روي عن السدي
فصل
واعلم أن الله تعالى علق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين بالبلوغ والرشد وأمر الأولياء باختبارهم فإذا استبانوا رشدهم وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم
والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء الاحتلام واستكمال خمس عشرة سنة والإنبات وشيئان يختصان بالنساء الحيض والحمل

قوله تعالى ولا تأكلوها إسرافا خطاب للأولياء قال ابن عباس لا تأكلوها بغير حق وبدارا تبادرون أكل المال قبل بلوغ الصبي ومن كان غنيا فليستعفف بماله عن مال اليتيم وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال
أحدها أنه الأخذ على وجه القرض وهذا مروي عن عمر وابن عباس وابن جبير وأبي العالية وعبيدة وأبي وائل ومجاهد ومقاتل
والثاني الأكل بمقدار الحاجة من غير إسراف وهذا مروي عن ابن عباس والحسن وعكرمة وعطاء والنخعي وقتادة والسدي
والثالث أنه الأخذ بقدر الأجرة إذا عمل لليتيم عملا روي عن ابن عباس وعائشة وهي رواية أبي طالب وابن منصور عن أحمد رضي الله عنه
والرابع أنه الأخذ عند الضرورة فان أيسر قضاه وإن لم يوسر فهو في حل وهذا قول الشعبي

فصل
واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة على قولين
أحدهما محكمة وهو قول عمر وابن عباس والحسن والشعبي وأبي العالية ومجاهد وابن جبير والنخعي وقتادة في آخرين وحكمها عندهم أن الغني ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئا فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إسراف
وهل عليه الضمان إذا أيسر فيه قولان لهم
أحدهما أنه لا ضمان عليه بل يكون كالأجرة له على عمله وهو قول الحسن والشعبي والنخعي وقتادة وأحمد بن حنبل
والثاني إذا أيسر وجب عليه القضاء روي عن عمر وغيره وعن ابن عباس أيضا كالقولين
والقول الثاني أنها منسوخة بقوله لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل النساء 29 وهذا مروي عن ابن عباس ولا يصح
قوله تعالى فأشهدوا عليهم قال القاضي أبو يعلى هذا على طريق الاحتياط لليتيم والولي وليس بواجب فأما اليتيم فإنه إذا كانت عليه بينة كان أبعد من أن يدعي عدم القبض وأما الولي فإن تظهر أمانته ويسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم للدفع وفي الحسيب ثلاثة أقوال
أحدها أنه الشهيد قاله ابن عباس والسدي ومقاتل
والثاني أنه الكافي من قولك أحسبني هذا الشيء أي كفاني والله حسيبي وحسيبك أي كافينا أي يكون حكما بيننا كافيا

قال الشاعر ... ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع ...
أي نعطيه ما يكفيه حتى يقول حسبي قاله ابن قتيبة والخطابي
والثالث أنه المحاسب فيكون في مذهب جليس وأكيل وشريب حكاه ابن قتيبة والخطابي للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا
قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون سبب نزولها أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة فقام رجلان من بني عمه يقال لهما قتادة وعرفطة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا فجاءت امرأته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت له ذلك وشكت الفقر فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس وقال قتادة كانوا لا يورثون النساء فنزلت هذه الآية
والمراد بالرجال الذكور وبالنساء الإناث صغارا كانوا أو كبارا

والنصيب الحظ من الشيء وهو مجمل في هذه الآية ومقداره معلوم من موضع آخر وذلك مثل قوله وآتوا حقه يوم حصاده الأنعام 141 وقوله خذ من أموالهم صدقة التوبة 103 والمفروض الذي فرضه الله وهو آكد من الواجب وإذا حضر القسمة اولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا
قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولوا القربى في هذه القسمة قولان
أحدهما قسمة الميراث بعد موت الموروث فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين وبهذا قال الأكثرون منهم ابن عباس والحسن والزهري
والثاني أنها وصية الميت قبل موته فيكون مأمورا بأن يعين لمن لا يرثه شيئا روي عن ابن عباس وابن زيد قال المفسرون والمراد بأولي القربى الذين لا يرثون فارزقوهم منه أي أعطوهم منه وقيل أطعموهم وهذا على الاستحباب عند الأكثرين وذهب قوم إلى أنه واجب في المال فان كان الورثة كبارا تولوا إعطاءهم وإن كانوا صغارا تولى ذلك عنهم ولي مالهم فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام فأمر بشاة فاشتريت من مالهم وبطعام فصنع وقال لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي وكذلك فعل محمد ابن سيرين في أيتام وليهم وكذلك روي عن مجاهد أن ما تضمنته هذه الآية واجب
وفي القول المعروف أربعة أقوال
أحدها أن يقول لهم الولي حين يعطيهم خذ بارك الله فيك رواه سالم الأفطس عن ابن جبير

والثاني أن يقول الولي إنه مال يتامى ومالي فيه شيء رواه أبو بشر عن ابن جبير وفي رواية أخرى عن ابن جبير قال إن كان الميت أوصى لهم بشيء أنفذت لهم وصيتهم وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم وإن كانوا صغارا قال وليهم إني لست أملك هذا المال إنما هو للصغار فذلك القول المعروف
والثالث أنه العدة الحسنة وهو أن يقول لهم أولياء الورثة إن هؤلاء الورثة صغار فاذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم رواه عطاء بن دينار عن ابن جبير
والرابع أنهم يعطون من المال ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق بورك فيكم وهذا القول المعروف قال الحسن والنخعي أدركنا الناس يفعلون هذا
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين
أحدهما أنها محكمة وهو قول أبي موسى الأشعري وابن عباس

والحسن وأبي العالية والشعبي وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد والنخعي والزهري وقد ذكرنا أن ما تضمنته من الأمر مستحب عند الأكثرين وواجب عند بعضهم
والقول الثاني أنها منسوخة نسخها قوله يوصيكم الله في أولادكم رواه مجاهد عن ابن عباس وهو قول سعيد بن المسيب وعكرمة والضحاك وقتادة في آخرين وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا

قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا اختلفوا في المخاطب بهذه الآية على ثلاثة أقوال
أحدها أنه خطاب للحاضرين عند الموصي وفي معنى الآية على هذا القول قولان أحدهما وليخش الذين يحضرون موصيا في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه فيفرقه ويترك ورثته كما لو كانوا هم الموصين لسرهم أن يحثهم من حضرهم على حفظ الأموال للأولاد وهذا المعنى مروي عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل
والثاني على الضد من هذا القول وهو أنه نهي لحاضري الموصي أي يمنعوه من الوصية لأقاربه وأن يأمروه بالاقتصار على ولده وهذا قول مقسم وسليمان التيمي في آخرين
والقول الثاني أنه خطاب لأولياء اليتامى متعلق بقوله ولا تأكلوها إسرافا وبدارا فمعنى الكلام أحسنوا فيمن وليتم من اليتامى كما تحبون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وابن السائب
والثالث أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصية على ما رسم الموصي وأن تكون الوجوه التي عينها مرعية بالمحافظة كرعي الذرية الضعاف من غير تبديل ثم نسخ ذلك بقوله فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه البقرة 182 فأمر الوصي بهذه الآية إذا وجد ميلا عن الحق أن يستعمل قضية الشرع ويصلح بين الورثة ذكره شيخنا علي بن عبيد الله وغيره في الناسخ والمنسوخ فعلى هذا تكون الآية منسوخة وعلى ما قبله تكون محكمة

والضعاف جمع ضعيف وهم الأولاد الصغار وقرأ حمزة ضعافا بامالة العين
قال أبو علي ووجهها أن ما كان على فعال وكان أوله حرفا مستعليا مكسورا نحو ضعاف وقفاف وخفاف حسنت فيه الإمالة لأنه قد يصعد بالحرف المستعلي ثم يحدر بالكسر فيستحب أن لا يصعد بالتفخيم بعد التصوب بالكسر فيجعل الصوت على طريقة واحدة وكذلك قرأ حمزة خافوا عليهم بامالة الخاء والإمالة هاهنا حسنة وإن كانت الخاء حرفا مستعليا لأنه يطلب الكسرة التي في خفت فينحو نحوها بالإمالة والقول السديد الصواب إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا
قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما في سبب نزولها قولان
أحدهما أن رجلا من غطفان يقال له مرثد بن زيد ولي مال ابن أخيه فأكله فنزلت هذه الآية قاله مقاتل بن حيان
والثاني أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما فأكل ماله فنزلت هذه الآية ذكره بعض المفسرين وإنما خص الأكل بالذكر لأنه معظم المقصود وقيل عبر به عن الأخذ
قال سعيد بن جبير ومعنى الظلم أن يأخذه بغير حق وأما ذكر البطون فللتوكيد كما تقول نظرت بعيني وسمعت بأذني وفي المراد بأكلهم النار قولان
أحدهما أنهم سيأكلون يوم القيامة نارا فسمي الأكل بما يؤول إليه أمرهم كقوله أعصر خمرا يوسف 36 قال السدي يبعث آكل مال اليتيم ظلما ولهب

النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأذنيه وأنفه وعينيه يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم
والثاني أنه مثل معناه يأكلون ما يصيرون به إلى النار كقوله ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه آل عمران 143 أي رأيتم أسبابه
قوله تعالى وسيصلون سعيرا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وسيصلون بفتح الياء وقرأ الحسن وابن عامر بضم الياء ووافقهما ابن مقسم إلا أنه شدد والمعنى سيحرقون بالنار ويشوون والسعير النار المستعرة واستعار النار توقدها
فصل
وقد توهم قوم لا علم لهم بالتفسير وفقهه أن هذه الآية منسوخة لأنهم سمعوا أنها لما نزلت تحرج القوم عن مخالطة اليتامى فنزل قوله وإن تخالطوهم فإخوانكم البقرة 220 وهذا غلط وإنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح لا على إباحة الظلم
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فان كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين

ءاباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما
قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن جابر بن عبد الله مرض فعاده رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال كيف أصنع في مالي يا رسول الله فنزلت هذه الآية رواه البخاري ومسلم
والثاني أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم بابنتين لها فقالت يا رسول قتل أبو هاتين معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما فنزلت روي عن جابر بن عبد الله أيضا
والثالث أن عبد الرحمن أخا حسان بن ثابت مات وترك امرأة وخمس بنات فأخذ ورثته ماله ولم يعطوا امرأته ولا بناته شيئا فجاءت امرأته تشكو إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية هذا قول السدي

قال الزجاج ومعنى يوصيكم يفرض عليكم لأن الوصية منه فرض وقال غيره إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين
أحدهما أن الوصية تزيد على الأمر فكانت آكد
والثاني أن في الوصية حقا للموصي فدل على تأكيد الحال بإضافته إلى حقه وقرأ الحسن وابن أبي عبلة يوصيكم بالتشديد
قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين يعني للإبن من الميراث مثل حظ الأنثيين ثم ذكر نصيب الإناث من الأول فقال فإن كن يعني البنات نساء فوق اثنتين وفي قوله فوق قولان
أحدهما أنها زائدة كقوله فاضربوا فوق الأعناق الأنفال 13
والثاني أنهم بمعنى الزيادة قال القاضي أبو يعلى إنما نص على ما فوق الاثنتين والواحدة ولم ينص على الاثنتين لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث كان لها مع الأنثى الثلث أولى
قوله تعالى وإن كانت واحدة قرأ الجمهور بالنصب وقرأ نافع بالرفع على معنى وإن وقعت أو وجدت واحدة
قوله تعالى ولأبويه قال الزجاج أبواه تثنية أب وأبة والأصل في الأم أن يقال لها أبة ولكن استغنى عنها بأم والكناية في قوله لأبويه عن الميت وإن لم يجر له ذكر
وقوله تعالى فلأمه الثلث أي إذا لم يخلف غير أبوين فثلث ماله لأمه والباقي للأب وإنما خص الأم بالذكر لأنه لو اقتصر على قوله وورثه أبواه ظن الظان أن المال يكون بينهما نصفين فلما خصها بالثلث دل على التفضيل

وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر فلأمه و في بطون أمهاتكم الزمر6 و في أمها القصص 59 و في أم الكتاب الزخرف4 بالرفع وقرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالكسر إذا وصلا وحجتهما أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها من ياء أو كسرة
قوله تعالى فإن كان له إخوة أي مع الأبوين فإنهم يحجبون الأم عن الثلث فيردونها إلى السدس واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة حجبوا فإن كانا أخوين فهل يحجبانها فيه قولان
أحدهما يحجبانها عن الثلث قاله عمر وعثمان وعلي وزيد والجمهور
والثاني لا يحجبها إلا ثلاثة قاله ابن عباس واحتج بقوله إخوة والأخوة اسم جمع واختلفوا في أقل الجمع فقال الجمهور أقله ثلاثة وقال قوم اثنان والأول أصح وإنما حجب العلماء الأم بأخوين لدليل اتفقوا عليه وقد يسمى الاثنان بالجمع قال الزجاج جميع أهل اللغة يقولون

إن الأخوين جماعة وحكى سيبويه أن العرب تقول وضعا رحالهما يريدون رحلي راحلتيهما
قوله تعالى من بعد وصية أي هذه السهام إنما تقسم بعد الوصية والدين وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم يوصى بها بفتح الصاد في الحرفين وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي يوصي فيهما بالكسر وقرأ حفص عن عاصم الأولى بالكسر والثانية بالفتح
واعلم أن الدين مؤخر في اللفظ مقدم في المعنى لأن الدين حق عليه والوصية حق له وهما جميعا مقدمان على حق الورثة إذا كانت الوصية في ثلث المال و أو لا توجب الترتيب إنما تدل على أن أحدهما إن كان فالميراث بعده وكذلك إن كانا

قوله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فيه قولان أحدهما أنه النفع في الآخرة ثم فيه قولان
أحدهما أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده رفع إليه ولده وكذلك الولد رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنه شفاعة بعضهم في بعض رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والقول الثاني أنه النفع في الدنيا قاله مجاهد ثم في معناه قولان
أحدهما أن المعنى لا تدرون هل موت الآباء أقرب فينتفع الأبناء بأموالهم أو موت الأبناء فينتفع الآباء بأموالهم قاله ابن بحر
والثاني أن المعنى أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع حتى لا يدري أيهم أقرب نفعا لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء ذكره القاضي أبو يعلى
وقال الزجاج معنى الكلام أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتضعون الأموال على غير حكمة إن الله كان عليما بما يصلح خلقه حكيما فيما فرض
وفي معنى كان ثلاثة أقوال
أحدها أن معناها كان عليما بالأشياء قبل خلقها حكيما فيما يقدر تدبيره منها قاله الحسن
والثاني أن معناها لم يزل قال سيبوبه كأن القوم شاهدوا علما وحكمة

فقيل لهم إن الله كان كذلك أي لم يزل على ما شاهدتم ليس ذلك بحادث
والثالث أن لفظة كان في الخبر عن الله عز و جل يتساوى ماضيها ومستقبلها لأن الأشياء عنده على حال واحدة ذكر هذه الأقوال الزجاج ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم
قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة قرأ الحسن يورث بفتح الواو وكسر الراء مع التشديد وفي الكلالة أربعة أقوال
أحدها أنها ما دون الوالد والولد قاله أبو بكر الصديق وقال عمر ابن الخطاب أتى على حين وأنا لا أعرف ما الكلالة فإذا هو من لم يكن له والد ولا ولد وهذا قول علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس

والحسن وسعيد بن جبير وعطاء والزهري وقتادة والفراء وذكر الزجاج عن أهل اللغة أن الكلالة من قولهم تكلله النسب أي لم يكن الذي يرثه ابنه ولا أباه قال والكلالة سوى الوالد والولد وإنما هو كالاكليل على الرأس وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلله النسب إذا أحاط به والابن والأب طرفان للرجل فاذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه فسمي ذهاب الطرفين كلالة وكأنها اسم للمصيبة في تكلل النسب مأخوذ منه نحو هذا قولهم وجهت الشيء أخذت وجهه وثغرت الرجل كسرت ثغره
والثاني أن الكلالة من لا ولد له رواه ابن عباس عن عمر بن الخطاب وهو قول طاووس
والثالث أن الكلالة ما عدا الوالد قاله الحكم
والرابع أن الكلالة بنو العم الأباعد ذكره ابن فارس عن ابن الأعرابي
واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال
أحدها أنه اسم للحي الوارث وهذا مذهب أبي بكر الصديق وعامة

العلماء الذين قالوا إن الكلالة من دون الوالد والولد فانهم قالوا الكلالة اسم للورثة إذا لم يكن فيهم ولد ولا والد قال بعض الأعراب مالي كثير ويرثني كلالة متراخ نسبهم
والثاني أنه اسم للميت قاله ابن عباس والسدي وأبو عبيدة في جماعة قال القاضي أبو يعلى الكلالة اسم للميت ولحاله وصفته ولذلك انتصب
والثالث أنه اسم للميت والحي قاله ابن زيد
وفيما أخذت منه الكلالة قولان
أحدهما أنه اسم مأخوذ من الإحاطة ومنه الاكليل لإحاطته بالرأس
والثاني أنه مأخوذ من الكلال وهو التعب كأنه يصل إلى الميراث من بعد وإعياء قال الأعشى ... فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تزور محمدا

قوله وله أخ أو أخت يعني من الأم باجماعهم
قوله تعالى فهم شركاء في الثلث قال قتادة ذكرهم وأنثاهم فيه سواء
قوله تعالى غير مضار قال الزجاج غير منصوب على الحال والمعنى يوصي بها غير مضار يعني للورثة تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم
قوله تعالى تلك حدود الله قال ابن عباس يريد ما حد الله من فرائضه في الميراث ومن يطع الله ورسوله في شأن المواريث يدخله جنات قرأ ابن عامر ونافع ندخله بالنون في الحرفين جميعا والباقون بالياء فيهما ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين
قوله تعالى ومن يعص الله فلم يرض بقسمه يدخله نارا فان قيل كيف قطع للعاصي بالخلود فالجواب أنه إذا رد حكم الله وكفر به كان كافرا مخلدا في النار واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا
قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة قال الزجاج التي تجمع اللاتي واللواتي قال الشاعر

من اللواتي والتي واللاتي ... زعمن أني كبرت لداتي ...
وتجمع اللاتي باثبات التاء وحذفها قال الشاعر ... من اللاتي لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا ...
والفاحشة الزنى في قول الجماعة وفي قوله فاستشهدوا عليهن قولان
أحدهما أنه خطاب للأزواج
والثاني خطاب للحكام فالمعنى اسمعوا شهادة أربعة منكم ذكرهما الماوردي قال عمر بن الخطاب إنما جعل الله عز و جل الشهور أربعة سترا ستركم به دون فواحشكم ومعنى منكم من المسلمين
قوله تعالى فأمسكوهن في البيوت قال ابن عباس كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت فجعل الله لهن سبيلا وهو الجلد أو الرجم
واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما
قوله تعالى واللذان قرأ ابن كثير واللذان بتشديد النون وهذان في طه و الحج وهاتين في القصص إحدى ابنتي هاتين وفذانك

كله بتشديد النون وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف ذلك كله وشدد أبو عمرو فذانك وحدها
وقوله واللذان يعني الزانيين وهل هو عام أم لا فيه قولان
أحدهما أنه عام في الأبكار والثيب من الرجال والنساء قاله الحسن وعطاء
والثاني أنه خاص في البكرين إذا زنيا قاله أبو صالح والسدي وابن زيد وسفيان قال القاضي أبو يعلى والأول أصح لأن هذا تخصيص بغير دلالة
قوله تعالى يأتيانها يعني الفاحشة قوله فآذوهما فيه قولان
أحدهما أنه الأذى بالكلام والتعيير رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال قتادة والسدي والضحاك ومقاتل
والثاني أنه التعيير والضرب بالنعال رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس فان تابا من الفاحشة وأصلحا العمل فأعرضوا عن أذاهما وهذا كله كان قبل الحد
فصل
كان حد الزانيين فيما تقدم الأذى لهما والحبس للمرأة خاصة فنسخ الحكمان جميعا واختلفوا بماذا وقع نسخهما فقال قوم بحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسنة

وقال قوم نسخ بقوله الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة النور 2 قالوا وكان قوله واللذان يأتيانها للبكرين فنسخ حكمهما بالجلد ونسخ حكم الثيب من النساء بالرجم
وقال قوم يحتمل أن يكون النسخ وقع بقرآن ثم رفع رسمه وبقي حكمه لأن في حديث عبادة قد جعل الله لهن سبيلا والظاهر أنه جعل بوحي لم تستقر تلاوته قال القاضي أبو يعلى وهذا وجه صحيح يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسنة قال ويمتنع أن يقع النسخ بحديث عبادة لأنه من أخبار الآحاد والنسخ لا يجوز بذلك إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة قال الحسن إنما التوبة التي يقبلها الله فأما السوء فهو المعاصي سمي سوءا لسوء عاقبته

قوله تعالى بجهالة قال مجاهد كل عاص فهو جاهل حين معصيته وقال الحسن وعطاء وقتادة والسدي في آخرين إنما سموا جهالا لمعاصيهم لا أنهم غير مميزين
وقال الزجاج ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يوقع سوءا وإنما يحتمل أمرين
أحدهما أنهم عملوه وهو يجهلون المكروه فيه
والثاني أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة وآثروا العاجل على الآجل فسموا جهالا لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة والعاقبة الدائمة
وفي القريب ثلاثة أقوال
أحدها أنه التوبة في الصحة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال السدي وابن السائب
والثاني أنه التوبة قبل معاينة ملك الموت رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال أبو مجلز
والثالث أنه التوبة قبل الموت وبه قال ابن زيد في آخرين

وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما
قوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات في السيئات ثلاثة أقوال
أحدها الشرك قاله ابن عباس وعكرمة والثاني أنها النفاق قاله أبو العالية وسعيد بن جبير والثالث أنها سيئات المسلمين قاله سفيان الثوري واحتج بقوله ولا الذين يموتون وهم كفار
قوله تعالى حتى إذا حضر أحدهم الموت في الحضور قولان
أحدهما أنه السوق قاله ابن عمر
والثاني أنه معاينة الملائكة لقبض الروح قاله أبو سليمان الدمشقي وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال أنزل الله تعالى بعد هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية النساء 116 فحرم المغفرة على من مات مشركا وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة فعلى هذا تكون منسوخة في حق المؤمنين يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها سبب

نزولها أن الرجل كان إذا مات كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس وقال في رواية أخرى كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل قام أقرب الناس منه فيلقى على امرأته ثوبا فيرث نكاحها وقال مجاهد كان إذا توفي الرجل فابنه الأكبر أحق بامرأته فينكحها إن شاء أو ينكحها من شاء وقال أبو أمامة بن سهل ابن حنيف لم توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده وكان ذلك لهم في الجاهلية فنزلت هذه الآية قال عكرمة واسم هذه المرأة كبيشة بنت معن بن عاصم وكان هذا في العرب وقال أبو مجلز كانت الأنصار تفعله وقال ابن زيد كان هذا في أهل المدينة وقال السدي إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة فتذهب إلى أهلها فإن ذهبت فهي أحق بنفسها
وفي معنى قوله أن ترثوا النساء كرها قولان
أحدهما أن ترثوا نكاح النساء وهذا قول الجمهور
والثاني أن ترثوا أموالهن كرها روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال كان يلقي حميم الميت على الجارية ثوبا فان كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها

2 - واختلف القراء في فتح كاف الكره وضمتها في أربعة مواضع هاهنا وفي التوبة وفي الأحقاف في موضعين فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الكاف فيهن وضمهن حمزة وقرأ عاصم وابن عامر بالفتح في النساء والتوبة وبالضم في الأحقاف وهما لغتان قد ذكرناهما في البقرة
وفيمن خوطب بقوله ولا تعضلوهن ثلاثة أقوال
أحدها أنه خطاب للأزواج ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال
أحدها أن الرجل كان يكره صحبة امرأته ولها عليه مهر فيحبسها ويضربها لتفتدي قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي
والثاني أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ويشهد على ذلك فاذا خطبت فأرضته أذن لها وإلا عضلها قاله ابن زيد
والثالث أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون كما كانت الجاهلية تفعل فنهوا عن ذلك روي عن ابن زيد أيضا وقد ذكرنا في البقرة أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يراجعها ثم يطلقها كذلك أبدا إلى غير غاية يقصد إضرارها حتى نزلت الطلاق مرتان البقرة 229
والقول الثاني أنه خطاب للأولياء ثم في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال
أحدها أن الرجل كان في الجاهلية إذا كانت له قرابة قريبة ألقى عليها ثوبه فلم تتزوج أبدا غيره إلا بإذنه قاله ابن عباس
والثاني أن اليتيمة كانت تكون عند الرجل فيحبسها حتى تموت أو تتزوج بابنه قاله مجاهد

والثالث أن الأولياء كانوا يمنعون النساء من التزويج ليرثوهن روي عن مجاهد أيضا
والقول الثالث انه خطاب لورثة أزواج النساء الذين قيل لهم لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها كان الرجل يرث امرأة قريبة فيعضلها حتى تموت أو ترد عليه صداقها هذا قول ابن عباس في آخرين وعلى هذا يكون الكلام متصلا بالأول وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر العضل منفصلا عن قوله أن ترثوا النساء
وفي الفاحشة قولان أحدهما أنها النشوز على الزوج قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة في جماعة
والثاني الزنى قاله الحسن وعطاء وعكرمة في جماعة وقد روى معمر عن عطاء الخراساني قال كانت المرأة إذا أصابت فاحشة أخذ زوجها ماساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحد قال ابن جرير وهذا القول ليس بصحيح لأن الحد حق الله والافتداء حق للزوج وليس أحدهما مبطلا للآخر

والصحيح أنها إذا أتت بأي فاحشة كانت من زنى الفرج أو بذاءة اللسان جاز له أن يعضلها ويضيق عليها حتى تفتدي فأما قوله مبينة فقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم مبينة و آيات مبينات بفتح الياء فيهما جميعا وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الياء فيهما وقرأ نافع أبو عمرو مبينة كسرا و آيات مبينات فتحا وقد سبق ذكر العشرة
قوله تعالى فعسى أن تكرهوا شيئا قال ابن عباس ربما رزق الله منهما ولدا فجعل الله في ولدها خيرا كثيرا وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها ونبهت على معنيين أحدهما أن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح فرب مكروه عاد محمودا ومحمود عاد مذموما
والثاني أن الإنسان لا يكاد يجد محبوبا ليس فيه ما يكره فليصبر على ما يكره لما يحب وأنشدوا في هذا المعنى ... ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ... ومن يتتبع جاهدا كل عثرة ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب

وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا
قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج هذا الخطاب للرجال والزوج المرأة وقد سبق ذكر القنطار في آل عمران
قوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا إنما ذلك في حق من وطئها أو خلا بها وقد بينت ذلك الآية التي بعدها قال القاضي أبو يعلى وإنما خص النهي عن أخذ شيء مما أعطى بحال الاستبدال وإن كان المنع عاما لئلا يظن ظان أنه لما عاد البضع إلى ملكها وجب أن يسقط حقها من المهر أو يظن ظان أن الثانية أولى بالمهر منها لقيامها مقامها
وفي البهتان قولان أحدهما أنه الظلم قاله ابن عباس وابن قتيبة
والثاني الباطل قاله الزجاج ومعنى الكلام أتأخذونه مباهتين آثمين وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا قوله تعالى وكيف تأخذونه أي كيف تستجيزون أخذه وفي الإفضاء قولان
أحدهما أنه الجماع قاله ابن عباس ومجاهد والسدي ومقاتل وابن قتيبة
والثاني الخلوة بها وإن لم يغشها قاله الفراء
وفي المراد بالميثاق هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أنه الذي أخذه الله للنساء على الرجال الإمساك بمعروف أو التسريح باحسان هذا قول ابن عباس والحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل

والثاني أنه عقد النكاح قاله مجاهد وابن زيد والثالث أنه أمانة الله قاله الربيع ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا
قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف قال ابن عباس كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين فنزلت هذه الآية وقال بعض الأنصار توفي أبو قيس بن الأسلت فخطب ابنه قيس امرأته فأتت النبي صلى الله عليه و سلم تستأذنه وقالت إنما كنت أعده ولدا فنزلت هذه الآية
قال أبو عمر غلام ثعلب الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة اسم للجمع بين الشيئين وقد سموا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد قال الأعشى
ومنكوحة غير ممهورة
يعني المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد قال القاضي أبو يعلى قد يطلق النكاح على العقد قال الله تعالى إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن الأحزاب 49 وهو حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه اسم للجمع والجمع إنما يكون بالوطء فسمي العقد نكاحا لأنه سبب إليه
قوله تعالى إلا ما قد سلف فيه ستة أقوال
أحدها أنها بمعنى بعد ما قد سلف فان الله يغفره قاله الضحاك والمفضل

وقال الأخفش المعنى لا تنكحوا ما نكح آباؤكم فانكم تعذبون به إلا ما قد سلف فقد وضعه الله عنكم
والثاني أنها بمعنى سوى ما قد سلف قاله الفراء
والثالث أنها بمعنى لكن ما قد سلف فدعوه قاله قطرب وقال ابن الأنباري لكن ما قد سلف فإنه كان فاحشة
والرابع أن المعنى ولا تنكحوا كنكاح آباؤكم النساء أي كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إلا ما قد سلف في جاهليتكم من نكاح لا يجور ابتداء مثله في الإسلام فإنه معفو لكم عنه وهذا كقول القائل لا تفعل ما فعلت أي لا تفعل مثل ما فعلت ذكره ابن جرير
والخامس أنها بمعنى الواو فتقديرها ولا ما قد سلف فيكون المعنى إقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء ولا تبتدئوا قاله بعض أهل المعاني
والسادس أنها للاستثناء فتقدير الكلام لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز الذي كان عقده بينهم إلا ما قد سلف منهم بالزنى والسفاح فإنهن حلال لكم قاله ابن زيد
قوله تعالى إنه يعني النكاح و الفاحشة ما يفحش ويقبح والمقت أشد البغض وفي المراد بهذا المقت قولان
أحدهما أنه اسم لهذا النكاح وكانوا يسمون نكاح امرأة الأب في الجاهلية مقتا ويسمون الولد منه المقتي فأعلموا أن هذا الذي حرم عليهم من نكاح امرأة الأب لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم هذا قول الزجاج

والثاني أنه يوجب مقت الله لفاعله قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله وساء سبيلا قال ابن قتيبة أي قبح هذا الفعل طريقا حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم قال الزجاج الأصل في أمهات أمات ولكن الهاء زيدت مؤكدة كما زادوها في أهرقت الماء وإنما أصله أرقت
قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم إنما سمين أمهات لموضع الحرمة
واختلفوا هل يعتبر في الرضاع العدد أم لا فنقل حنبل عن أحمد أنه يتعلق التحريم بالرضعة الواحدة وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر والحسن وطاووس والشعبي والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وأصحابه ونقل محمد بن العباس عن أحمد أنه يتعلق التحريم بثلاث رضعات ونقل أبو الحارث عن أحمد لا يتعلق بأقل من

خمس رضعات متفرقات وهو قول الشافعي
قوله تعالى وأمهات نسائكم أمهات النساء يحرمن بنفس العقد على البنت سواء دخل بالبنت أو لم يدخل وهذا قول عمر وابن مسعود وابن عمر وعمران بن حصين ومسروق وعطاء وطاووس والحسن والجمهور وقال علي رضي الله عنه في رجل طلق امرأته قبل الدخول له أن يتزوج أمها وهذا قول مجاهد وعكرمة
قوله تعالى وربائبكم الربيبة بنت امرأة الزوج من غيره ومعنى الربيبة مربوبة لأن الرجل يربيها وخرج الكلام على الأعم من كون التربية في حجر الرجل لا على الشرط قوله وحلائل أبنائكم قال الزجاج الحلائل الأزواج وحليلة بمعنى محلة وهي مشتقة من الحلال وقال غيره سميت بذلك لأنها

تحل معه أينما كان و قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال الحليل الزوج والحليلة المرأة وسميا بذلك إما لأنهما يحلان في موضع واحد أو لأن كل واحد منهما يحال صاحبه أي ينازله أو لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه قوله الذين من أصلابكم قال عطاء إنما ذكر الأصلاب لأجل الأدعياء و الكلام في قوله إلا ما قد سلف على نحو ما تقدم في الآية التي قبلها وقد زادوا في هذا قولين آخرين أحدهما إلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام لأنه جمع بين أم يوسف و أختها وهذا مروي عن عطاء و السدي وفيه ضعف لوجهين
أحدهما أن هذا التحريم يتعلق بشريعتنا وليس كل الشرائع تتفق ولا وجه للعفو عنا فيما فعله غيرنا والثاني أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله لعسر عليه
والقول الثاني أن تكون فائدة هذا الاستثناء أن العقود المتقدمة على الأختين لا تنفسخ ويكون للانسان أن يختار إحداهما ومنه حديث فيروز الديلمي قال أسلمت وعندي أختان فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقال طلق إحداهما ذكره القاضي أبو يعلى

والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما
قوله والمحصنات من النساء أما سبب نزولها فروى أبو سعيد الخدري قال أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية فاستحللناهن
وأما خلاف القراء فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة بفتح الصاد في كل القرآن وفتح الكسائي الصاد في هذه وحدها وقرأ سائر القرآن بالكسر و المحصنات ومحصنات قال ابن قتيبة والإحصان أن يحمي الشيء ويمنع منه فالمحصنات من النساء ذوات الأزواج لأن الأزواج أحصنوهن ومنعوا منهن قال الله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم والمحصنات الحرائر وإن لم يكن متزوجات لأن الحرة تحصن وتحصن وليست كالأمة قال الله تعالى ومن لم

يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات النساء 25 وقال فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب النساء 25 يعني الحرائر والمحصنات العفائف قال الله تعالى والذين يرمون المحصنات النور 4 يعني العفائف وقال الله تعالى ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها التحريم 12 أي عفت
وفي المراد بالمحصنات هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها ذوات الأزواج وهذا قول ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن وابن جبير والنخعي وابن زيد والفراء وابن قتيبة والزجاج
والثاني العفائف فانهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح أو ملك يمين وهذا قول عمر بن الخطاب وأبي العالية وعطاء وعبيدة والسدي
والثالث الحرائر فالمعنى أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذكرن في أول السورة روي عن ابن عباس وعبيدة
فعلى القول الأول في معنى قوله إلا ما ملكت أيمانكم قولان
أحدهما أن معناه إلا ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب وعلى هذا تأول الآية علي وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس و كان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقا
والثاني إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء ذوات الأزواج بسبي أو غير سبي وعلى هذا تأول الآية ابن مسعود وأبي بن كعب وجابر وأنس وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقا وقد ذكر ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن أنهم قالوا بيع الأمة طلاقها والأول أصح

لأن النبي صلى الله عليه و سلم خير بريرة إذ أعتقتها عائشة بين المقام مع زوجها الذي زوجها منه سادتها في حال رقها وبين فراقه ولم يجعل النبي صلى الله عليه و سلم عتق عائشة إياها طلاقا ولو كان طلاقا لم يكن لتخييره إياها معنى ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية
وعلى القول الثاني العفائف حرام إلا بملك والملك يكون عقدا ويكون ملك يمين
وعلى القول الثالث الحرائر حرام بعد الأربع إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء فانهن لم يحصرن بعدد
قوله تعالى كتاب الله عليكم قال الزجاج هو منصوب على التوكيد محمول على المعنى لأن معنى حرمت عليكم أمهاتكم كتب الله عليكم هذا كتابا قال ويجوز أن ينتصب على جهة الأمر ويكون عليكم مفسرا له فيكون المعنى إلزموا كتاب الله قال وأحل لكم ما وراء ذلكم أي ما بعد هذه الأشياء إلا أن السنة قد حرمت تزويج المرأة على عمتها وتزويجها على خالتها وقرأ ابن السميفع وأبو عمران كتب الله عليكم

بفتح الكاف والتاء والباء من غير ألف ورفع الهاء وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأحل بفتح الحاء وقرأ حمزة والكسائي بضم الألف
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله وعامة العلماء ذهبوا إلى أن قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم تحليل ورد بلفظ العموم وأنه عموم دخله التخصيص والمخصص له نهي النبي صلى الله عليه و سلم أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها وليس هذا على سبيل النسخ وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث
قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم أي تطلبوا إما بصداق في نكاح أو ثمن في ملك محصنين قال ابن قتيبة متزوجين وقال الزجاج عاقدين التزويج وقال غيرهما متعففين غير زانين والسفاح الزنى قال ابن قتيبة أصله من سفحت القربة إذا صببتها فسمي الزنى سفاحا لأن يسافح يصب النطفة وتصب المرأة النطفة وقال ابن فارس السفاح صب الماء بلا عقد ولا نكاح فهو كالشيء يسفح ضياعا
قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فيه قولان

أحدهما أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والجمهور
والثاني أنه الاستمتاع إلى أجل مسمى من غير عقد نكاح وقد روي عن ابن عباس أنه كان يفتي بجواز المتعة ثم رجع عن ذلك وقد تكلف قوم من مفسري القراء فقالوا المراد بهذه الآية نكاح المتعة ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن متعة النساء وهذا تكلف لا يحتاج إليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم أجاز المتعة ثم منع منها فكان قوله منسوخا بقوله وأما الآية

فانها لم تتضمن جواز المتعة لأنه تعالى قال فيها أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فدل ذلك على النكاح الصحيح قال الزجاج ومعنى قوله فما استمتعتم به منهن فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت وهو قوله محصنين غير مسافحين أي عاقدين التزويج فآتوهن أجورهن أي مهورهن ومن ذهب في الآية إلى غير هذا فقد أخطأ وجهل اللغة
قوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة فيه ستة أقوال
أحدها أن معناه لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها ووهبته لزوجها هذا مروي عن ابن عباس وابن زيد
والثاني ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من مقام أو فرقة بعد أداء الفريضة روي عن ابن عباس أيضا
والثالث ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم أو يبرئنكم قاله أبو سليمان التيمي

والرابع لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل وتزيدونهن في الأجر من غير استبراء قاله السدي وهو يعود إلى قصة المتعة
والخامس لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه قاله الزجاج
والسادس أنه عام في الزيادة والنقصان والتأخير والإبراء قاله القاضي أبو يعلى
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بايمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فاذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم
قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا الطول الغنى والسعة في قول الجماعة والمحصنات الحرائر قال الزجاج والمعنى من لم يقدر على مهر

الحرة يقال قد طال فلان طولا على فلان أي كان له فضل عليه في القدرة
والمراد بالفتيات هاهنا المملوكات يقال للأمة فتاة وللعبد فتى وقد سمي بهذا الاسم من ليس بمملوك قرأت على شيخنا الإمام أبي منصور اللغوي قال المتفتية الفتاة والمراهقة ويقال للجارية الحدثة فتاة وللغلام فتى قال القتيبي وليس الفتى بمعنى الشاب والحدث إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال
فأما ذكر الايمان فشرط في إباحتهن ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية هذا قول الجمهور وقال أبو حنيفة يجوز
قوله تعالى والله أعلم بايمانكم قال الزجاج معناه إعملوا على ظاهركم في الإيمان فانكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض قال وفي قوله بعضكم من بعض وجهان

أحدهما أنه أراد النسب أي كلكم ولد آدم ويجوز أن يكون معناه دينكم واحد لأنه ذكر هاهنا المؤمنات وإنما قيل لهم ذلك لأن العرب كانت تطعن في الأنساب وتفخر بالأحساب وتسمي ابن الأمة الهجين فأعلم الله عز و جل أن أمر العبيد وغيرهم مستو في باب الإيمان وإنما كره التزويج بالأمة وحرم إذا وجد إلى الحرة سبيلا لأن ولد الأمة من الحر يصيرون رقيقا ولأن الأمة ممتهنة في عشرة الرجال وذلك يشق على الزوج
قال ابن الأنباري ومعنى الآية كلكم بنو آدم فلا يتداخلكم شموخ وأنفة من تزوج الإماء عند الضرورة
وقال ابن جرير في الكلام تقديم وتأخير تقديره ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض أي لينكح هذا فتاة هذا
قوله تعالى فانكحوهن يعني الإماء باذن أهلهن أي سادتهن والأجور المهور
وفي قوله بالمعروف قولان
أحدهما انه مقدم في المعنى فتقديره انكحوهن باذن أهلهن بالمعروف أي بالنكاح الصحيح وآتوهن أجورهن
والثاني أن المعنى وآتوهن أجورهن بالمعروف كمهور أمثالهن قال ابن عباس محصنات عفائف غير زوان ولا متخذات أخدان يعني أخلاء كان الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنى ويستحلون ما خفي وقال في رواية أخرى المسافحات المعلنات بالزنى والمتخذات أخدان ذات الخليل

الواحد وقال غيره كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه ولا تزني مع غيره
قوله تعالى فاذا أحصن قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر أحصن مضمومة الألف وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر والمفضل عن عاصم بفتح الألف والصاد قال ابن جرير من قرأ بالفتح أراد أسلمن فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالاسلام ومن قرأ بالضم أراد فاذا تزوجن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج
فأما الفاحشة فهي الزنى والمحصنات الحرائر والعذاب الحد قال القاضي أبو يعلى وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد على الأمة بل يجب وإن عدما وإنما شرط الإحصان في الحد لئلا يتوهم متوهم أن عليها نصف ما على الحرة إذا لم تكن محصنة وعليها مثل ما على الحرة إذا كانت محصنة
قوله تعالى ذلك الإشارة إلى إباحة تزويج الإماء وفي العنت خمسة أقوال أحدها أنه الزنى قاله ابن عباس والشعبي وابن جبير ومجاهد والضحاك وابن زيد ومقاتل وابن قتيبة
والثاني أنه الهلاك ذكره أبو عبيدة والزجاج والثالث لقاء المشقة في محبة الأمة حكاه الزجاج والرابع أن العنت هاهنا الإثم والخامس أنه العقوبة التي تعنته وهي الحد ذكرهما ابن جرير الطبري
قال القاضي أبو يعلى وهذه الآية تدل على إباحة نكاح الإماء المؤمنات بشرطين أحدهما عدم طول الحرة

والثاني خوف الزنى وهذا قول ابن عباس والشعبي وابن جبير ومسروق ومكحول وأحمد ومالك والشافعي وقد روي عن علي والحسن وابن المسيب ومجاهد والزهري قالوا ينكح الأمة وإن كان موسرا وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
قوله تعالى وأن تصبروا خير لكم قال ابن عباس والجماعة عن نكاح الإماء وإنما ندب إلى الصبر عنه لاسترقاق الأولاد يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم
قوله تعالى يريد الله ليبين لكم اللام بمعنى أن وهذا مذهب جماعة من أهل العربية واختاره ابن جرير ومثله وأمرت لأعدل بينكم الشورى 15 وأمرنا لنسلم الأنعام 71 يريدون ليطفئوا الصف 8
والبيان من الله تعالى بالنص تارة وبدلالة النص أخرى قال الزجاج والسنن الطرق فالمعنى يدلكم على طاعته كما دل الأنبياء وتابعيهم وقال غيره معنى الكلام يريد الله ليبين لكم سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحق ويهديكم إلى الحق
والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما
قوله تعالى والله يريد أن يتوب عليكم قال الزجاج يريد أن يدلكم على ما يكون سببا لتوبتكم

وفي الذين اتبعوا الشهوات أربعة أقوال
أحدها أنهم الزناة قاله مجاهد ومقاتل والثاني اليهود والنصارى قاله السدي والثالث أنهم اليهود خاصة ذكره ابن جرير والرابع أهل الباطل قاله ابن زيد
قوله تعالى أن تميلوا ميلا عظيما أي عن الحق بالمعصية
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا
قوله تعالى يريد الله أن يخفف عنكم التخفيف تسهيل التكليف أو إزالة بعضه قال ابن جرير والمعنى يريد أن ييسر لكم باذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولا لحرة وفي المراد بضعف الانسان ثلاثة أقوال
أحدها أنه الضعف في أصل الخلقة قال الحسن هو أنه خلق من ماء مهين والثاني أنه قلة الصبر عن النساء قاله طاووس ومقاتل والثالث أنه ضعف العزم عن قهر الهوى وهذا قول الزجاج وابن كيسان
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما
قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الباطل ما لا يحل في الشرع
قوله تعالى إلا أن تكون تجارة قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر تجارة بالرفع وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بالنصب وقد بينا العلة في آخر البقرة
قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم فيه خمسة أقوال

أحدها أنه على ظاهره وأن الله حرم على العبد قتل نفسه وهذا الظاهر
والثاني أن معناه لا يقتل بعضكم بعضا وهذا قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي ومقاتل وابن قتيبة
والثالث أن المعنى لا تكلفوا أنفسكم عملا ربما أدى إلى قتلها وإن كان فرضا وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جنبا في ليلة باردة فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم قال له يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فقال يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة وأشفقت إن إغتسلت أن أهلك فذكرت قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم

والرابع أن المعنى لا تغفلوا عن حظ أنفسكم فمن غفل عن حظها فكأنما قتلها هذا قول الفضيل بن عياض والخامس لا تقتلوها بارتكاب المعاصي
ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا
قوله تعالى ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما في المشار إليه ثلاثة أقوال
أحدها أنه قتل النفس قاله ابن عباس وعطاء والثاني أنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هاهنا روي عن ابن عباس أيضا والثالث قتل النفس وأكل الأموال بالباطل قاله مقاتل
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما
قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه اجتناب الشيء تركه جانبا وفي الكبائر أحد عشر قولا
أحدها أنها سبع فروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث

أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات
وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الكبائر سبع الإشراك بالله أولهن وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا والفرار من الزحف ورمي المحصنات وانقلاب إلى أعرابية بعد هجرة
وروي عن علي رضي الله عنه قال هي سبع فعد هذه

وروي عن عطاء أنه قال هي سبع وعد هذه إلا أنه ذكر مكان الإشراك والتعرب شهادة الزور وعقوق الوالدين
والثاني أنها تسع روى عبيد بن عمير عن أبيه وكان من الصحابة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل ما الكبائر فقال تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل نفس المؤمن بغير حق والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم والسحر وأكل الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا
والثالث أنها أربع روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس

وروى أنس بن مالك قال ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الكبائر أو سئل عنها فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو شهادة الزور وروي عن ابن مسعود أنه قال الكبائر أربع الإشراك بالله والأمن لمكر الله والقنوط من رحمة الله والإياس من روح الله وعن عكرمة نحوه
والرابع أنها ثلاث فروى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فاحتفز قال والزور وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي بكرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله فقال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت وأخرجا في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال سألت النبي صلى الله عليه و سلم أي الذنب أكبر قال أن تجعل لله تعالى ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال ثم أن تقتل ولدك مخافة أن

يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك
والخامس أنها مذكورة من أول السورة إلى هذه الآية قاله ابن مسعود وابن عباس
والسادس أنها إحدى عشرة الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وقتل النفس وأكل مال اليتيم وأكل الربا والفرار من الزحف وقذف المحصنات وشهادة الزور والسحر والخيانة روي عن ابن مسعود أيضا
والسابع أنها كل ذنب يختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثامن أنها كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة والحد في الدنيا روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الضحاك
والتاسع أنها كل ما عصي الله به روي عن ابن عباس وعبيدة وهو قول ضعيف
والعاشر أنها كل ذنب أوعد الله عليه النار قاله الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك في رواية والزجاج
والحادي عشر أنها ثمان الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل المؤمن وقذف المحصنة والزنا وأكل مال اليتيم وقول الزور واقتطاع الرجل بيمينه وعهده ثمنا قليلا رواه محرز عن الحسن البصري

قوله تعالى نكفر عنكم سيئاتكم روى المفضل عن عاصم يكفر ويدخلكم بالياء فيهما وقرأ الباقون بالنون فيهما وقرأ نافع وأبان عن عاصم والكسائي عن أبي بكر عن عاصم مدخلا بفتح الميم هاهنا وفي الحج وضم الباقون الميم ولم يختلفوا في ضم ميم مدخل صدق و مخرج صدق الإسراء 80 قال أبو علي الفارسي يجوز أن يكون المدخل مصدرا

ويجوز أن يكون مكانا سواء فتح أو ضم قال السدي السيئات هاهنا هي الصغائر والمدخل الكريم الجنة قال ابن قتيبة والكريم بمعنى الشريف ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما
قوله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن أم سلمة قالت يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فنزلت هذه الآية قاله مجاهد
والثاني أن النساء قلن وددن أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت هذه الآية قاله عكرمة
والثالث أنه لما نزل للذكر مثل حظ الانثيين قال الرجال إنا لنرجو

أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث وقال النساء إنا لنرج أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم فنزلت هذه الآية قاله قتادة والسدي
وفي معنى هذا التمني قولان أحدهما أن يتمنى الرجل مال غيره قاله ابن عباس وعطاء والثاني أن يتمنى النساء أن يكن رجالا وقد روي عن أم سلمة أنها قالت يا ليتنا كنا رجال فنزلت هذه الآية
وللتمني وجوه
أحدها أن يتمنى الإنسان أن يحصل له مال غيره ويزول عن الغير فهذا الحسد
والثاني أن يتمنى مثل ما لغيره ولا يحب زواله عن الغير فهذا هو الغبطة وربما لم يكن نيل ذلك مصلحة في حق المتمني قال الحسن لا تمن مال فلان ولا مال فلان وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال
والثالث أن تتمنى المرأة أن تكون رجلا ونحو هذا مما لا يقع فليعلم العبد أن الله أعلم بالمصالح فليرض بقضاء الله ولتكن أمانيه الزيادة من عمل الآخرة

قوله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن فيه قولان
أحدهما أن المراد بهذا الاكتساب الميراث وهو قول ابن عباس وعكرمة
والثاني أنه الثواب والعقاب فالمعنى أن المرأة تثاب كثواب الرجل وتأثم كاثمه هذا قول قتادة وابن السائب ومقاتل واحتج على صحته أبو سليمان الدمشقي بأن الميراث لا يحصل بالاكتساب وبأن الآية نزلت لأجل التمني والفضل
قوله تعالى واسألوا الله من فضله قرأ ابن كثير والكسائي وأبان وخلف في اختياره وسلوا الله فسل الذين فسل بني إسرائيل وسل من أرسلنا وما كان مثله من الأمر المواجه به وقبله واو أو فاء فهو غير مهموز عندهم وكذلك نقل عن أبي جعفر وشيبة وقرأ الباقون بالهمز في ذلك كله ولم يختلفوا في قوله وليسألوا ما أنفقوا الممتحنة 10 أنه مهموز
وفي المراد بالفضل قولان أحدهما أن الفضل الطاعة قاله سعيد ابن جبير ومجاهد والسدي والثاني أنه الرزق قاله ابن السائب فيكون المعنى سلوا الله ما تتمنوه من النعم ولا تتمنوا مال غيركم ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا

قوله تعالى ولكل جعلنا موالي الموالي الأولياء وهم الورثة من العصبة وغيرهم ومعنى الآية لكل إنسان موالي يرثون ما ترك وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإعراب
أحدهما أن يكون الرفع على خبر الابتداء والتقدير وهم الوالدان والأقربون ويكون تمام الكلام قوله مما ترك
والثاني أن يكون رفعا على أنه الفاعل الترك للمال فيكون الوالدان هم المولى
قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر عاقدت بالألف وقرأ عاصم وحمزة والكسائي عقدت بلا ألف قال أبو علي من قرأ بالألف فالتقدير والذين عاقدتهم أيمانكم ومن حذف الألف فالمعنى عقدت حلفهم أيمانكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وفيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أهل الحلف كان الرجل يحالف الرجل فأيهما مات ورثه الآخر فنسخ ذلك بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وروى عنه عطية قال كان الرجل يلحق الرجل

في الجاهلية فيكون تابعه فاذا مات الرجل صار لأهله الميراث وبقي تابعه بغير شيء فأنزل الله والذين عاقدت أيمانكم فأعطي من ميراثه ثم نزل من بعد ذلك وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وممن قال هم الحلفاء سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة
والثاني أنهم الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم المهاجرون والأنصار كان المهاجرون يورثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهم رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال ابن زيد
والثالث أنهم الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية هذا قول سعيد ابن المسيب فأما أرباب القول الأول فقالوا نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النصرة والميراث بآخر الأنفال وإليه ذهب ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة والثوري والأوزاعي ومالك وأحمد والشافعي
وقال أبو حنيفة وأصحابه هذا الحكم باق غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة وذهب قوم إلى أن المراد فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة من غير ميراث وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة إنما كانت في الجاهلية على النصرة لا غير والإسلام لم يغير ذلك وإنما قرره فقال النبي صلى الله عليه و سلم أيما حلف كان في الجاهلية فان الإسلام لم يزده

إلا شدة أراد النصر والعون وهذا قول سعيد بن جبير وهو يدل على أن الآية محكمة الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا
قوله تعالى الرجال قوامون على النساء سبب نزولها أن رجلا لطم زوجته لطمة فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وذكر المفسرون أنه سعد بن الربيع الأنصاري قال ابن

عباس قوامون أي مسلطون على تأديب النساء في الحق وروى هشام ابن محمد عن أبيه في قوله الرجال قوامون على النساء قال إذا كانوا رجالا وأنشد ... أكل امرئ تحسبين امرءا ... ونارا توقد بالليل نارا ...
قوله تعالى بما فضل الله بعضهم على بعض يعني الرجال على النساء وفضل الرجل على المرأة بزيادة العقل وتوفير الحظ في الميراث والغنيمة والجمعة والجماعات والخلافة والإمارة والجهاد وجعل الطلاق إليه إلى غير ذلك
قوله تعالى وبما أنفقوا من أموالهم قال ابن عباس يعني المهر والنفقة عليهن
وفي الصالحات قولان أحدهما المحسنات إلى أزواجهن قاله ابن عباس والثاني العاملات بالخير قاله ابن مبارك قال ابن عباس والقانتات المطيعات لله في أزواجهن والحافظات للغيب أي لغيب أزواجهن وقال عطاء

وقتادة يحفظن ما غاب عنه الأزواج من الأموال وما يجب عليهن من صيانة أنفسهن لهم
قوله تعالى بما حفظ الله قرأ الجمهور برفع اسم الله وفي معنى الكلام على قراءتهم ثلاثة أقوال
أحدها بحفظ الله إياهن قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء ومقاتل وروى ابن المبارك عن سفيان قال بحفظ الله إياها أن جعلها كذلك
والثاني بما حفظ الله لهن مهورهن وإيجاب نفقتهن قاله الزجاج
والثالث أن معناه حافظات للغيب بالشيء الذي يحفظ به أمر الله حكاه الزجاج وقرأ أبو جعفر بنصب اسم الله والمعنى بحفظهن الله في طاعته
قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن في الخوف قولان
أحدهما أنه بمعنى العلم قاله ابن عباس والثاني بمعنى الظن لما يبدو من دلائل النشوز قاله الفراء وأنشد ... وما خفت يا سلام أنك عائبي ...
قال ابن قتيبة والنشوز بغض المرأة للزوج يقال نشزت المرأة على زوجها ونشصت إذا فركته ولم تطمئن عنده وأصل النشوز الانزعاج قال الزجاج أصله من النشز وهو المكان المرتفع من الأرض
قوله تعالى فعظوهن قال الخليل الوعظ التذكير بالخير فيما يرق له القلب

قال الحسن يعظها بلسانه فان أبت وإلا هجرها واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة أقوال
أحدها أنه ترك الجماع رواه سعيد بن جبير وابن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس وبه قال ابن جبير ومقاتل
والثاني أنه ترك الكلام لا ترك الجماع رواه أبو الضحى عن ابن عباس وخصيف عن عكرمة وبه قال السدي والثوري
والثالث أنه قول الهجر من الكلام في المضاجع روي عن ابن عباس والحسن وعكرمة فيكون المعنى قولوا لهن في المضاجع هجرا من القول
والرابع أنه هجر فراشها ومضاجعتها روي عن الحسن والشعبي ومجاهد والنخعي ومقسم وقتادة قال ابن عباس اهجرها في المضجع فان أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح وقال جماعة من أهل العلم الآية على الترتيب فالوعظ عند خوف النشوز والهجر عند ظهور النشوز والضرب عند تكرره واللجاج فيه ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز قال القاضي أبو يعلى وعلى هذا مذهب أحمد وقال الشافعي يجوز ضربها في ابتداء النشوز
قوله تعالى فان أطعنكم قال ابن عباس يعني في المضجع فلا تبغوا عليهن سبيلا أي فلا تتجن عليها العلل وقال سفيان بن عيينة لا تكلفها الحب لأن قلبها ليس في يدها وقال ابن جرير المعنى فلا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل وذلك أن تقول لها وهي مطيعة لك لست لي محبة فتضربها أو تؤذيها

قوله تعالى إن الله كان عليا كبيرا قال أبو سليمان الدمشقي لا تبغوا على أزواجكم فهو ينتصر لهن منكم وقال الخطابي الكبير الموصوف بالجلال وكبر الشأن يصغر دون جلاله كل كبير ويقال هو الذي كبر عن شبه المخلوقين وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا
قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما في الخوف قولان أحدهما أنه الحذر من وجود ما لا يتيقن وجوده قاله الزجاج
والثاني أنه العلم قاله أبو سليمان الدمشقي قال الزجاج والشقاق العداوة واشتقاقه من المتشاقين كل صنف منهم في شق والحكم هو القيم بما يسند إليه وفي المأمور بانفاذ الحكمين قولان أحدهما أنه السلطان إذا ترافعا إليه قاله سعيد بن جبير والضحاك والثاني الزوجان قاله السدي
قوله تعالى إن يريدا إصلاحا قال ابن عباس يعني الحكمين وفي قوله يوفق الله بينهما قولان أحدهما أنه راجع إلى الحكمين قاله ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء والسدي والجمهور والثاني أنه راجع إلى الزوجين ذكره بعض المفسرين
فصل
والحكمان وكيلان للزوجين ويعتبر رضى الزوجين فيما يحكمان به هذا

قول أحمد وأبي حنيفة وأصحابه وقال مالك والشافعي لا يفتقر حكم الحكمين إلى رضى الزوجين واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت إيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا

قوله تعالى واعبدوا الله قال ابن عباس وحدوه
قوله تعالى وبالوالدين إحسانا قال الفراء أغراهم بالإحسان إلى الوالدين
قوله تعالى والجار ذي القربى فيه قولان
أحدهما أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد ومقاتل في آخرين
والثاني أنه الجار المسلم قاله نوف الشامي فيكون المعنى ذي القربى منكم بالإسلام
قوله تعالى والجار الجنب روى المفضل عن عاصم والجار الجنب بفتح الجيم وإسكان النون قال أبو علي المعنى والجار ذي الجنب فحذف المضاف وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال
أحدها أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والضحاك وابن زيد ومقاتل في آخرين
والثاني أنه جارك عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث أنه اليهودي والنصراني قاله نوف الشامي

وفي الصاحب بالجنب ثلاثة أقوال
أحدها أنه الزوجة قاله علي وابن مسعود والحسن وإبراهيم النخعي وابن أبي ليلى
والثاني أنه الرفيق في السفر قاله ابن عباس في رواية مجاهد وقتادة والضحاك والسدي وابن قتيبة وعن سعيد بن جبير كالقولين
والثالث أنه الرفيق رواه ابن جريج عن ابن عباس وبه قال عكرمة
قال ابن زيد هو الذي يلصق بك رجاء خيرك وقال مقاتل هو رفيقك حضرا وسفرا وفي ابن السبيل أقوال قد ذكرناها في البقرة
قوله تعالى وما ملكت أيمانكم يعني المملوكين وقال بعضهم يدخل فيه الحيوان البهيم قال ابن عباس والمحتال البطر في مشيته والفخور المفتخر على الناس بكبره وقال مجاهد هو الذي يعد ما أعطى ولا يشكر الله

وقال ابن قتيبة المختال ذو الخيلاء والكبر وقال الزجاج المختال الصلف التياه الجهول وإنما ذكر الاختيال هاهنا لأن المختال يأنف من ذوي قراباته ومن جيرانه إذا كانوا فقراء الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا
قوله تعالى الذين يبخلون ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود فأما سبب نزولها فقال ابن عباس كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي ابن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يخالطونهم وينتصحون لهم فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فانا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا

في النفقة فانكم لا تدرون ما يكون فنزلت هذه الآية وفي الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان أحدهما أنه المال قاله ابن عباس وابن زيد
والثاني أنه إظهار صفة النبي صلى الله عليه و سلم ونبوته قاله مجاهد وقتادة والسدي
قوله تعالى ويأمرون الناس بالبخل قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر بالبخل خفيفا وقرأ حمزة والكسائي بالبخل محركا وكذلك في سورة الحديد وفي الذين آتاهم الله من فضله قولان
أحدهما أنهم اليهود أوتوا علم نعت محمد صلى الله عليه و سلم فكتموه هذا قول الجمهور
والثاني أنهم أرباب الأموال بخلوا بها وكتموا الغنى ذكره الماوردي في آخرين
قوله تعالى وأعتدنا قال الزجاج معناه جعلنا ذلك عتادا لهم أي مثبتا لهم والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا
قوله تعالى والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس اختلفوا فيمن نزلت

على ثلاثة أقوال أحدها أنهم اليهود قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل
والثاني أنهم المنافقون قاله السدي والزجاج وأبو سليمان الدمشقي والثالث مشركو مكة أنفقوا على عداوة النبي صلى الله عليه و سلم ذكره الثعلبي
والقرين الصاحب المؤالف وهو فعيل من الاقتران بين الشيئين وفي معنى مقارنة الشيطان قولان أحدها مصاحبته في الفعل والثاني مصاحبته في النار وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما
قوله تعالى وماذا عليهم المعنى وأي شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله لو آمنوا وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان أحدهما أنه الصدقة قاله ابن عباس والثاني الزكاة قاله أبو سليمان الدمشقي وفي قوله وكان الله بهم عليما تهديد لهم على سوء مقاصدهم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وأن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
قوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة قد شرحنا الظلم فيما سلف وهو مستحيل على الله عز و جل لأن قوما قالوا الظلم تصرف فيما لا يملك والكل ملكه وقال آخرون هو وضع الشيء في غير موضعه وحكمته لا تقتضي فعلا لا فائدة تحته ومثقال الشيء زنة الشيء قال ابن قتيبة يقال هذا على مثقال هذا أي على وزنه قال الزجاج وهو مفعال من الثقل
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال يظن الناس أن المثقال وزن

دينار لا غير وليس كما يظنون مثقال كل شيء وزنه وكل وزن يسمى مثقالا وإن كان وزن ألف قال الله تعالى وإن كان مثقال حبة من خردل الأنبياء 47 قال أبو حاتم سألت الأصمعي عن صنجة مثقال الميزان فقال فارسي ولا أدري كيف أقول ولكني أقول مثقال فاذا قلت للرجل ناولني مثقالا فأعطاك صنجة ألف أو صنجة حبة كان ممتثلا
وفي المراد بالذرة خمسة أقوال أحدها أنه رأس نملة حمراء رواه عكرمة عن ابن عباس والثاني ذرة يسيرة من التراب رواه يزيد بن الأصم عن ابن عباس والثالث أصغر النمل قاله ابن قتيبة وابن فارس والرابع الخردلة والخامس الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب ذكرهما الثعلبي واعلم أن ذكر الذرة ضرب مثل بما يعقل والمقصود أنه لا يظلم قليلا ولا كثيرا
قوله تعالى وإن تك حسنة قرأ ابن كثير ونافع حسنة بالرفع وقرأ الباقون بالنصب قال الزجاج من رفع فالمعنى وإن تحدث حسنة ومن نصب فالمعنى وإن تك فعلته حسنة
قول تعالى يضاعفها قرأ ابن عامر وابن كثير يضعفها بالتشديد من غير ألف وقرأ الباقون يضاعفها بألف مع كسر العين قال ابن قتيبة يضاعفها بالألف يعطي مثلها مرات ويضعفها بغير ألف يعطي مثلها مرة

قوله تعالى من لدنه أي من قبله والأجر العظيم الجنة فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا
قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد قال الزجاج معنى الآية فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة فحذف الحال لأن في الكلام دليلا عليه ولفظ كيف لفظ الاستفهام ومعناها التوبيخ والشهيد نبي الأمة وبماذا يشهد فيه أربعة أقوال

أحدها بأنه قد بلغ أمته قاله ابن مسعود وابن جريج والسدي ومقاتل
والثاني بايمانهم قاله أبو العالية والثالث بأعمالهم قاله مجاهد وقتادة
والرابع يشهد لهم وعليهم قاله الزجاج
قوله تعالى وجئنا بك يعني نبينا صلى الله عليه و سلم وفي هؤلاء ثلاثة أقوال أحدها أنهم جميع أمته ثم فيه قولان أحدهما أنه يشهد عليهم والثاني يشهد لهم فتكون على بمعنى اللام والقول الثاني أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرسالة قاله مقاتل والثالث اليهود والنصارى ذكره الماوردي يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا
قوله تعالى لو تسوى بهم الأرض قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو لو تسوى بضم التاء وتخفيف السين والمعنى ودوا لو جعلوا ترابا فكانوا هم والأرض سواء هذا قول الفراء في آخرين قال أبو هريرة إذا حشر الله الخلائق قال للبهائم والدواب والطير كوني ترابا فعندها يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا

وقرأ نافع وابن عامر لو تسوى بفتح التاء وتشديد السين والمعنى لو تتسوى فأدغمت التاء في السين لقربها منها قال أبو علي وفي هذه القراءة اتساع لأن الفعل مسند إلى الأرض وليس المراد ودوا لو صارت الأرض مثلهم وإنما المعنى ودوا لو يتسوون بها ثم في المعنى للمفسرين قولان
أحدهما أن معناه ودوا لو تخرقت بهم الأرض فساخوا فيها قاله قتادة وأبو عبيدة ومقاتل
والثاني أن معناه ودوا أنهم لم يبعثوا لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها قاله ابن كيسان وذكر نحوه الزجاج وقرأ حمزة والكسائي لو تسوى بفتح التاء وتخفيف السين والواو مشددة ممالة وهي بمعنى تتسوى فحذف التاء التي أدغمها نافع وابن عامر فأما معنى القراءتين فواحد
قوله تعالى ولا يكتمون الله حديثا في الحديث قولان أحدهما أنه قولهم ما كنا مشركين هذا قول الجمهور والثاني أنه أمر النبي صلى الله عليه و سلم وصفته ونعته قاله عطاء فعلى الأول يتعلق الكتمان بالآخرة وعلى الثاني يتعلق بما كان في الدنيا فيكون المعنى ودوا أنهم لم يكتموا ذلك
وفي معنى الآية ستة أقوال أحدها ودوا إذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم وهذا المعنى مروي عن ابن عباس
والثاني أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا وفي موطن يكتمون ويقولون ما كنا مشركين قاله الحسن

والرابع أن قوله ولا يكتمون الله حديثا كلام مستأنف لا يتعلق بقوله لو تسوى بهم الأرض هذا قول الفراء والزجاج ومعنى لا يكتمون الله حديثا لا يقدرون على كتمانه لأنه ظاهر عند الله
والخامس أن المعنى ودوا لو سويت بهم الأرض وأنهم لم يكتموا الله حديثا
والسادس أنهم لم يعتقدوا قولهم ما كنا مشركين كذبا وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة ذكر القولين ابن الأنباري
وقال القاضي أبو يعلى أخبروا بما توهموا إذ كانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى روى أبو عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت هذه الآية وفي رواية أخرى عن أبي عبدالرحمن عن علي رضي الله عنه أن الذي قدموه وخلط في هذه السورة عبدالرحمن بن عوف
وفي معنى قوله لا تقربوا الصلاة قولان أحدهما لا تتعرضوا بالسكر في أوقات الصلاة والثاني لا تدخلوا في الصلاة في حال السكر والأول أصح لأن السكران لا يعقل ما يخاطب به وفي معنى وأنتم سكارى قولان
أحدهما من الخمر قاله الجمهور والثاني من النوم قاله الضحاك وفيه بعد وهذه الآية اقتضت إباحة السكر في غير أوقات الصلاة ثم نسخت بتحريم الخمر

قوله تعالى ولا جنبا قال ابن قتيبة الجنابة البعد قال الزجاج يقال رجل جنب ورجلان جنب ورجال جنب كما يقال رجل رضى وقوم رضى وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان أحدهما لمجانبة مائه محله والثاني لما يلزمه من اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد
قوله تعالى إلا عابري سبيل فيه قولان
أحدهما أن المعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتيمموا وتصلوا وهذا المعنى مروي عن علي رضي الله عنه ومجاهد والحكم وقتادة وابن زيد ومقاتل والفراء والزجاج
والثاني لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين ولا تقعدوا وهذا المعنى مروي عن ابن مسعود وأنس بن مالك والحسن وسعيد بن المسيب وعكرمة وعطاء الخراساني والزهري وعمرو بن دينار وأبي الضحى وأحمد والشافعي وابن قتيبة وعن ابن عباس وسعيد ابن

جبير كالقولين فعلى القول الأول عابر السبيل المسافر وقربان الصلاة فعلها وعلى الثاني عابر السبيل المجتاز في المسجد وقربان الصلاة دخول المسجد الذي تفعل فيه الصلاة
قوله تعالى وإن كنتم مرضى في سبب نزول هذا الكلام قولان
أحدهما أن رجلا من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر له ذلك فنزلت هذه الآية وإن كنتم مرضى أو على سفر قاله مجاهد
والثاني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أصابتهم جراحات ففشت فيهم وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت وإن كنتم مرضى الآية كلها قاله إبراهيم النخعي قال القاضي أبو يعلى وظاهر الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يستضر معه باستعمال المال سواء كان يخاف التلف أو لا يخاف وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء سواء كان قصيرا أو طويلا وعدم الماء ليس بشرط في جواز التيمم للمريض وإنما الشرط حصول الضرر وأما السفر فعدم الماء شرط في إباحة التيمم وليس السفر بشرط وإنما ذكر السفر لأن الماء يعدم فيه غالبا
قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط أو بمعنى الواو لأنها لو لم تكن كذلك لكان وجوب الطهارة على المريض والمسافر غير متعلق

بالحدث والغائط المكان المطمئن من الأرض فكني عن الحدث بمكانه قاله ابن قتيبة وكذلك قالوا للمزادة راوية وإنما الراوية للبعير الذي يسقى عليه وقالوا للنساء ظعائن وإنما الظعائن الهوادج وكن يكن فيها وسموا الحدث عذرة لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدور
قوله تعالى أو لا مستم النساء قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر أو لامستم بألف هاهنا وفي المائدة وقرأ حمزة والكسائي وخلف في اختياره والمفضل عن عاصم والوليد بن عتبة عن ابن عامر أو لمستم بغير ألف هاهنا وفي المائدة وفي المراد بالملامسة قولان
أحدهما أنها الجماع قاله علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة
والثاني أنها الملامسة باليد قاله ابن مسعود وابن عمر والشعبي وعبيدة وعطاء وابن سيرين والنخعي والنهدي والحكم وحماد

قال أبو علي اللمس يكون باليد وقد اتسع فيه فأوقع على غيره فمن ذلك وأنا لمسنا السماء الجن 8 أي عالجنا غيب السماء ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة ويخبرهم به فلما كان اللمس يقع على غير المباشرة باليد قال فلمسوه بأيديهم الأنعام 7 فخص اليد لئلا يلتبس بالوجه الآخر كما قال وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم النساء 23 لأن الابن قد يدعى وليس من الصلب
قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا سبب نزولها أن عائشة رضي الله عنها كانت مع النبي صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره فانقطع عقد لها فأقام النبي صلى الله عليه و سلم على التماسه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فنزلت هذه الآية فقال أسيد

ابن حضير ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر أخرجه البخاري ومسلم وفي رواية أخرى أخرجها البخاري ومسلم أيضا أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رجالا في طلبها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت آية التيمم والتيمم في اللغة القصد وقد ذكرناه في قوله ولا تيمموا الخبيث وأما الصعيد فهو التراب قاله علي وابن مسعود والفراء وأبو عبيد والزجاج وابن قتيبة وقال الشافعي لا يقع اسم الصعيد إلى على تراب

ذي غبار وفي الطيب قولان أحدهما أنه الطاهر والثاني الحلال
قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم الوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في الوضوء وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال
أحدها أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق روى عمار عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال التيمم ضربة للوجه والكفين وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء ابن أبي رباح وعكرمة والأوزاعي ومكحول ومالك وأحمد وإسحاق وداود
والثاني أنه إلى المرفقين روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه تيمم فمسح ذراعيه وبهذا قال ابن عمر وابنه سالم والحسن وأبو حنيفة والشافعي وعن الشعبي كالقولين

والثالث أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إلى الآباط روى عمار بن ياسر قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فنزلت الرخصة في المسح فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط وهذا قول الزهري
قوله تعالى إن الله كان عفوا قال الخطابي العفو بناء للمبالغة والعفو الصفح عن الذنوب وترك مجازاة المسيء وقيل إنه مأخوذ من عفت الريح الأثر إذا درسته وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل
قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال

أحدها أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت والثاني أنها نزلت في رجلين كانا إذا تكلم النبي صلى الله عليه و سلم لويا ألسنتهما وعاباه روي القولان عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في اليهود قاله قتادة
وفي النصيب الذي أوتوه قولان أحدهما أنه علم نبوة محمد النبي صلى الله عليه و سلم والثاني العلم بما في كتابهم دون العمل
قوله تعالى يشترون الضلالة قال ابن قتيبة هذا من الاختصار والمعنى يشترون الضلالة بالهدى ومثله وتركنا عليه في الآخرين الصافات 78 أي تركنا عليه ثناء حسنا فحذف الثناء لعلم المخاطب
وفي معنى اشترائهم الضلالة أربعة أقوال
أحدها أنه استبدالهم الضلالة بالايمان قاله أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنه استبدالهم التكذيب بالنبي صلى الله عليه و سلم بعد ظهوره بايمانهم به قبل ظهوره قاله مقاتل

والثالث أنه إيثارهم التكذيب بالنبي لأخذ الرشوة وثبوت الرئاسة لهم قاله الزجاج
والرابع أنه إعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبي صلى الله عليه و سلم ذكره الماوردي
قوله تعالى ويريدون أن تضلوا السبيل خطاب للمؤمنين والمراد بالسبيل طريق الهدى والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا
قوله تعالى والله أعلم بأعدائكم فهو يعلمكم ما هم عليه فلا تستنصحوهم وهم اليهود وكفى بالله وليا لكم فمن كان وليه لم يضره عدوه قال الخطابي الولي الناصر والولي المتولي للأمر والقائم به وأصله من الولي وهو القرب والنصير فعيل بمعنى فاعل من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا

قوله تعالى من الذين هادوا قال مقاتل نزلت في رفاعة بن زيد ومالك ابن الضيف وكعب بن أسيد وكلهم يهود وفي من قولان ذكرهما الزجاج
أحدهما أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب فيكون المعنى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا
والثاني أنها مستأنفة فالمعنى من الذين هادوا قوم يحرفون فيكون قوله يحرفون صفة ويكون الموصوف محذوفا وأنشد سيبويه ... وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح ...
والمعنى فمنهما تارة أموت فيها قال أبو علي الفارسي والمعنى وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا أي إن الله ينصر عليهم
فأما التحريف فهو التغيير والكلم جمع كلمة وقيل إن الكلام مأخوذ من الكلم وهو الجرح الذي يشق الجلد واللحم فسمي الكلام كلاما لأنه يشق الأسماع بوصوله إليها وقيل بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب
وفي معنى تحريفهم الكلم قولان أحدهما أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه و سلم عن الشيء فاذا خرجوا حرفوا كلامه قاله ابن عباس والثاني أنه تبديلهم التوراة قاله مجاهد

قوله تعالى عن مواضعه أي عن أماكنه ووجوهه
قوله تعالى ويقولون سمعنا وعصينا قال مجاهد سمعنا قولك وعصينا أمرك
قوله تعالى واسمع غير مسمع فيه قولان
أحدهما أن معناه اسمع لا سمعت قاله ابن عباس وابن زيد وابن قتيبة
والثاني أن معناه اسمع غير مقبول ما تقول قاله الحسن ومجاهد وقد تقدم في البقرة معنى وراعنا
قوله تعالى ليا بألسنتهم قال قتادة اللي تحريك ألسنتهم بذلك
وقال ابن قتيبة معنى ليا بألسنتهم أنهم يحرفون راعنا عن طريق المراعاة والانتظار إلى السب بالرعونة قال ابن عباس لكان خيرا لهم مما بدلوا و أقوم أي أعدل ولكن لعنهم الله بكفرهم بمحمد
قوله تعالى فلا يؤمنون إلا قليلا فيه قولان أحدهما فلا يؤمن منهم إلا قليل وهم عبدالله بن سلام ومن تبعه قاله ابن عباس

والثاني فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا قاله قتادة والزجاج قال مقاتل وهو اعتقادهم أن الله خلقهم ورزقهم يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا
قوله تعالى يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا قوما من أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب ابن أسد إلى الإسلام وقال لهم إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق فقالوا ما نعرف ذلك فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
وفي الذين أوتوا الكتاب قولان
أحدهما أنه اليهود قاله الجمهور والثاني اليهود والنصارى ذكره الماوردي وعلى الأول يكون الكتاب التوراة وعلى الثاني التوراة والإنجيل والمراد بما نزلنا القرآن وقد سبق في البقرة بيان تصديقه لما معهم
قوله تعالى من قبل أن نطمس وجوها في طمس الوجوه ثلاثة أقوال
أحدها أنه إعماء العيون قاله ابن عباس وقتادة والضحاك
والثاني أنه طمس ما فيها من عين وأنف وحاجب وهذا المعنى مروي عن ابن عباس واختيار ابن قتيبة

والثالث أنه ردها عن طريق الهدى وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ومجاهد والضحاك والسدي وقال مقاتل من قبل أن نطمس وجوها أي نحول الملة عن الهدى والبصيرة فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازا والمراد البصيرة والقلوب وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه العضو المعروف
قوله تعالى فنردها على أدبارها خمسة أقوال
أحدها نصيرها في الأقفاء ونجعل عيونها في الأقفاء هذا قول ابن عباس وعطية
والثاني نصيرها كالأقفاء ليس فيها فم ولا حاجب ولا عين وهذا قول قوم منهم ابن قتيبة
والثالث نجعل الوجه منبتا للشعر كالقرود هذا قول الفراء
والرابع ننفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها وإلى نحوه ذهب ابن زيد قال ابن جرير فيكون المعنى من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها وناحيتهم التي هم بها نزول فنردها على أدبارها من حيث جاؤوا بديا من الشام
والخامس نردها في الضلالة وهذا قول الحسن ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل
قوله تعالى أو نلعنهم يعود إلى أصحاب الوجوه وفي معنى لعن أصحاب السبت قولان

أحدهما مسخهم قردة قاله الحسن وقتادة ومقاتل والثاني طردهم في التيه حتى هلك فيه أكثرهم ذكره الماوردي
قوله تعالى وكان أمر الله مفعولا قال ابن جرير الأمر هاهنا بمعنى المأمور سمي باسم الأمر لحدوثه عنه إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما
قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به قال ابن عمر لما نزلت يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الزمر 53 قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم والشرك فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك فنزلت هذه وقد سبق معنى الإشراك
والمراد من الآية لا يغفر لمشرك مات على شركه وفي قوله لمن يشاء نعمة عظيمة من وجهين أحدهما أنها تقتضي أن كل ميت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب وإن مات مصرا والثاني أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع

للمسلمين وهو أن يكونوا على خوف وطمع ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا
قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم سبب نزولها أن مرحب ابن زيد وبحري بن عون وهما من اليهود أتيا النبي صلى الله عليه و سلم بأطفالهما ومعهما طائفة من اليهود فقالوا يا محمد هل على هؤلاء من ذنب قال لا قالوا والله ما نحن إلا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
وفي قوله ألم تر قولان أحدهما ألم تخبر قاله ابن قتيبة والثاني ألم تعلم قاله الزجاج وفي الذين يزكون أنفسهم قولان أحدهما اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة ومقاتل والثاني أنهم اليهود والنصارى وبه قال الحسن وابن زيد ومعنى يزكون أنفسهم يزعمون أنهم أزكياء يقال زكى الشيء إذا نما في الصلاح
وفي الذي زكوا به أنفسهم أربعة أقوال
أحدها أنهم برؤوا أنفسهم من الذنوب رواه أبو صالح عن ابن عباس

والثاني أن اليهود قالوا إن أبناءنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا رواه عطية عن ابن عباس
والثالث أن اليهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم يزعمون أنهم لا ذنوب لهم هذا قول عكرمة ومجاهد وأبي مالك
والرابع أن اليهود والنصارى قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه المائدة 18 وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى البقرة 111 هذا قول الحسن وقتادة
قوله تعالى بل الله يزكي من يشاء أي يجعله زاكيا ولا يظلم الله أحدا مقدار فتيل قال ابن جرير وأصل الفتيل المفتول صرف عن مفعول إلى فعيل كصريع ودهين
وفي الفتيل قولان أحدهما أنه ما يكون في شق النواة رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة وعطية وابن زيد ومقاتل وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج
والثاني أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إذا دلكن رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وأبو مالك والسدي والفراء أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا
قوله تعالى انظر كيف يفترون على الله الكذب وهو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وقولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقولهم لا ذنب لنا ونحو ذلك مما كذبوا فيه وكفى به أي وحسبهم بقيلهم الكذب إثما مبينا يتبين كذبهم لسامعيه

ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا
قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن جماعة من اليهود قدموا على قريش فسألوهم أديننا خير أم دين محمد فقال اليهود بل دينكم فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
والثاني أن كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب قدما مكة فقالت لهما قريش أنحن خير أم محمد فقالا أنتم فنزلت هذه الآية هذا قول عكرمة في رواية وقال قتادة نزلت في كعب وحيي ورجلين آخرين من بني النضير قالوا لقريش أنتم أهدى من محمد

والثالث أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفار قريش أنتم أهدى من محمد فنزلت هذه الآية وهذا قول مجاهد والسدي وعكرمة في رواية
والرابع أن حيي بن أخطب قال للمشركين نحن وإياكم خير من محمد فنزلت هذه الآية هذا قول ابن زيد والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود
وفي الجبت سبعة أقوال
أحدها أنه السحر قاله عمر بن الخطاب ومجاهد والشعبي والثاني الأصنام رواه عطية عن ابن عباس وقال عكرمة الجبت صنم والثالث حيي بن أخطب رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الضحاك والفراء والرابع كعب بن الأشرف رواه الضحاك عن ابن عباس وليث عن مجاهد والخامس الكاهن روي عن ابن عباس وبه قال ابن سيرين ومكحول والسادس الشيطان قاله سعيد بن جبير في رواية وقتادة والسدي والسابع الساحر قاله أبو العالية وابن زيد وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير قال الجبت الساحر بلسان الحبشة
وفي المراد بالطاغوت ها هنا ستة أقوال
أحدها الشيطان قاله عمر بن الخطاب ومجاهد في رواية والشعبي وابن زيد والثاني أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبرون عنها ليضلوا الناس رواه العوفي عن ابن عباس والثالث كعب بن الأشرف رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الضحاك والفراء والرابع الكاهن وبه قال سعيد بن جبير وأبو العالية وقتادة والسدي والخامس أنه الصنم

قاله عكرمة وقال الجبت والطاغوت صنمان والسادس الساحر روي عن ابن عباس وابن سيرين ومكحول فهذه الأقوال تدل على أنهما اسمان لمسميين
وقال اللغويون منهم ابن قتيبة والزجاج كل معبود من دون الله من حجر أو صورة أو شيطان فهو جبت وطاغوت
قوله تعالى ويقولون للذين كفروا يعني لمشركي قريش أنتم أهدى من الذين آمنوا يعنون النبي وأصحابه طريقا في الديانة والاعتقاد أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فاذا لا يؤتون الناس نقيرا
قوله تعالى أم لهم نصيب من الملك هذا استفهام معناه الإنكار فالتقدير ليس لهم وقال الفراء قوله فاذا لا يؤتون الناس نقيرا جواب لجزاء مضمر تقديره ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيرا وفي النقير أربعة أقوال

أحدها أنه النقطة التي في ظهر النواة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد ومقاتل والفراء وابن قتيبة في آخرين
والثاني أنه القشر الذي يكون في وسط النواة رواه التيمي عن ابن عباس وروي عن مجاهد أنه الخيط الذي يكون في وسط النواة
والثالث أنه نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه رواه أبو العالية عن ابن عباس
والرابع أنه حبة النواة التي في وسطها رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الأزهري والفتيل والنقير والقطمير تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير أم يحسدون الناس على ما آتهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما
قوله تعالى أم يحسدون الناس سبب نزولها أن أهل الكتاب قالوا يزعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة فأي ملك أفضل من هذا فنزلت رواه العوفي عن ابن عباس

وفي أم قولان أحدهما أنها بمعنى ألف الاستفهام قاله ابن قتيبة
والثاني بمعنى بل قاله الزجاج وقد سبق ذكر الحسد في سورة البقرة والحاسدون هاهنا اليهود وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال
أحدها النبي صلى الله عليه و سلم رواه عطية عن ابن عباس وبه قال عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل
والثاني النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
والثالث العرب قاله قتادة والرابع النبي والصحابة ذكره الماوردي
وفي الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال
أحدها إباحة الله تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد روي عن ابن عباس والضحاك والسدي والثاني أنه النبوة قاله ابن جريج والزجاج والثالث بعثة نبي منهم على قول من قال هم العرب

قوله تعالى فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب يعني التوراة والإنجيل والزبور كله كان في آل إبراهيم وهذا النبي من أولاد إبراهيم وفي الحكمة قولان
أحدهما النبوة قاله السدي ومقاتل والثاني الفقه في الدين قاله أبو سليمان الدمشقي
وفي الملك العظيم خمسة أقوال أحدها ملك سليمان رواه عطية عن ابن عباس والثاني ملك داود وسليمان في النساء كان لداود مائة امرأة ولسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال السدي والثالث النبوة قاله مجاهد والرابع التأييد بالملائكة قاله ابن زيد في آخرين والخامس الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين ذكره الماوردي فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا
قوله تعالى فمنهم من أمن به فيمن تعود عليه الهاء والميم قولان
أحدهما اليهود الذين أنذرهم نبيا محمد صلى الله عليه و سلم وهذا قول مجاهد ومقاتل

والفراء في آخرين فعلى هذا القول في هاء به ثلاثة أقوال
أحدها تعود على ما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم قاله مجاهد قال أبو سليمان فيكون الكلام مبنيا على قوله على ما آتاهم الله من فضله وهو النبوة والقرآن
والثاني أنها تعود إلى النبي صلى الله عليه و سلم فتكون متعلقة بقوله أم يحسدون الناس يعني بالناس محمدا صلى الله عليه و سلم ويكون المراد بقوله فمنهم من آمن به عبد الله بن سلام وأصحابه والثالث أنها تعود إلى النبأ عن آل إبراهيم قاله الفراء
والقول الثاني أن الهاء والميم في قوله فمنهم تعود إلى آل إبراهيم فعلى هذا في هاء به قولان أحدهما أنها عائدة إلى إبراهيم قاله السدي والثاني إلى الكتاب قاله مقاتل
قوله تعالى ومنهم من صد عنه وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وعكرمة وابن يعمر والجحدري من صد عنه برفع الصاد وقرأ أبي بن كعب وأبو الجوزاء وأبو رجاء والجوني بكسر الصاد إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما
قوله تعالى فسوف نصليهم نارا قال الزجاج أي نشويهم في نار ويروى أن يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه و سلم شاة مصلية أي مشوية وفي قوله بدلناهم جلودا غيرها قولان
أحدهما أنها غيرها حقيقة ولا يلزم على هذا أن يقال كيف بدلت

جلود التذت بالمعاصي بجلود ما التذت لأن الجلود آلة في ايصال العذاب إليهم كما كانت آلة في ايصال اللذة وهم المعاقبون لا الجلود
والثاني أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها كما تعاد بعد البلى في القبور فتكون الغيرية عائدة إلى الصفة لا إلى الذات فالمعنى بدلناهم جلودا غير محترقة كما تقول صغت من خاتمي خاتما آخر وقال الحسن البصري في هذه الآية تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فعادوا والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا
قوله تعالى وندخلهم ظلا ظليلا قال الزجاج هو الذي يظل من الحر والريح وليس كل ظل كذلك فأعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حر معه ولا برد فان قيل أفي الجنة برد أو حر يحتاجون معه إلى ظل فالجواب أن لا وإنما خاطبهم بما يعقلون مثله كقوله ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا مريم 62 وجواب آخر وهو أنه إشارة إلى كمال وصفها وتمكين بنائها فلو كان البرد أو الحر يتسلط عليها لكان في أبنيتها وشجرها ظل ظليل إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا
قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها في سبب نزولها ثلاثة أقوال

أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم لما فتح مكة طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة فذهب ليعطيه إياه فقال العباس بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه للعباس فقال النبي صلى الله عليه و سلم هات المفتاح فأعاد العباس قوله وكف عثمان فقال النبي صلى الله عليه و سلم أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فقال هاكه يا رسول الله بأمانة الله فأخذ المفتاح ففتح البيت فنزل جبريل بهذه الآية فدعا عثمان فدفعه إليه رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل
والثاني أنها نزلت في الأمراء رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال زيد بن أسلم وابنه ومكحول واختاره أبو سليمان الدمشقي وقال أمر الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال المسلمين
والثالث أنها نزلت عامة وهو مروي عن أبي بن كعب وابن عباس والحسن وقتادة واختاره القاضي أبو يعلى واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها فانها عامة في الودائع وغيرها من الأمانات وقال ابن مسعود الأمانة في الوضوء وفي الصلاة وفي الصوم وفي الحديث وأشد ذلك في الودائع

قوله تعالى نعما يعظكم به يقول نعم الشيء يعظكم به وقد ذكرناه في البقرة يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في سبب نزولها قولان أحدهما أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه و سلم في سرية أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس

والثاني أن عمار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سرية فهرب القوم ودخل رجل منهم على عمار فقال إني قد أسلمت هل ينفعني أو أذهب كما ذهب قومي قال عمار أقم فأنت آمن فرجع الرجل وأقام فجاء خالد فأخذ الرجل فقال عمار إني قد أمنته وإنه قد أسلم قال أتجير علي وأنا الأمير فتنازعا وقدما على رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
قوله تعالى وأطيعوا الرسول طاعة الرسول في حياته امتثال أمره واجتناب نهيه وبعد مماته اتباع سنته
وفي أولي الأمر أربعة أقوال
أحدها أنهم الأمراء قاله أبو هريرة وابن عباس في رواية وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل

والثاني أنهم العلماء رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وهو قول جابر بن عبد الله والحسن وأبي العالية وعطاء والنخعي والضحاك ورواه خصيف عن مجاهد
والثالث أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال بكر بن عبد الله المزني
والرابع أنهم أبو بكر وعمر وهذا قول عكرمة
قوله تعالى فان تنازعتم في شيء قال الزجاج معناه اختلفتم وقال كل فريق القول القولي واشتقاق المنازعة أن كل واحد ينتزع الحجة
قوله تعالى فردوه إلى الله والرسول في كيفية هذا الرد قولان
أحدهما أن رده إلى الله رده إلى كتابه ورده إلى النبي رده إلى سنته هذا قول مجاهد وقتادة والجمهور قال القاضي أبو يعلى وهذا الرد يكون من وجهين أحدهما إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه والثاني الرد إليهما من جهة الدلالة عليه واعتباره من طريق القياس والنظائر
والقول الثاني أن رده إلى الله ورسوله أن يقول من لا يعلم الشيء الله ورسوله أعلم ذكره قوم منهم الزجاج
وفي المراد بالتأويل أربعة أقوال أحدها أنه الجزاء والثواب وهو قول مجاهد وقتادة والثاني أنه العاقبة وهو قول السدي وابن زيد وابن

قتيبة والزجاج والثالث أنه التصديق مثل قوله هذا تأويل رؤياي يوسف 100 قاله ابن زيد في رواية والرابع أن معناه ردكم إياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم ذكره الزجاج ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا
قوله تعالى ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي انطلق بنا إلى محمد وقال المنافق بل إلى كعب بن الأشرف فأبى اليهودي فأتيا النبي صلى الله عليه و سلم فقضى لليهودي فلما خرجا قال المنافق ننطلق إلى عمر بن الخطاب فأقبلا إليه فقصا عليه القصة فقال رويدا حتى أخرج إليكما فدخل البيت فاشتمل على السيف ثم خرج فضرب به المنافق

حتى برد وقال هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن أبا بردة الأسلمي كان كاهنا يقضي بين اليهود فتنافر إليه ناس من المسلمين فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أن يهوديا ومنافقا كانت بينهما خصومة فدعا اليهودي المنافق إلى النبي لأنه لا يأخذ الرشوة ودعا المنافق إلى حكامهم لأنهم يأخذون الرشوة فلما اختلفا اجتمعا أن يحكما كاهنا فنزلت هذه الآية هذا قول الشعبي
والرابع أن رجلا من بني النضير قتل رجلا من بني قريظة فاختصموا فقال المنافقون منهم إنطلقوا إلى أبي بردة الكاهن فقال المسلمون من الفريقين

بل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأبى المنافقون فانطلقوا إلى الكاهن فنزلت هذه الآية هذا قول السدي
والزعم والزعم لغتان وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقق صحته وفي الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله قولان أحدهما أنه المنافق والثاني أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إليه المنافق والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله اليهودي والطاغوت كعب بن الأشرف قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع ومقاتل
قوله تعالى وقد أمروا أن يكفروا به قال مقاتل أن يتبرؤوا من الكهنة والضلال البعيد الطويل وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا
قوله تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله قال مجاهد هذه الآية والتي قبلها نزلتا في خصومة اليهودي والمنافق والهاء والميم في لهم إشارة إلى الذين يزعمون والذي أنزل الله أحكام القرآن وإلى الرسول أي إلى حكمه فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جآؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا
قوله تعالى فكيف إذا أصابتهم مصيبة أي كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة من الله وفي المراد بالمصيبة قولان أحدهما أنه تهديد

ووعيد والثاني أنه قتل المنافق الذي قتله عمر وفي الذي قدمت أيديهم ثلاثة أقوال أحدها نفاقهم واستهزاؤهم والثاني ردهم حكم النبي صلى الله عليه و سلم والثالث معاصيهم المتقدمة
قوله تعالى إن أردنا بمعنى ما أردنا
قوله تعالى إلا إحسانا وتوفيقا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه لما قتل عمر صاحبهم جاؤوا يطلبون بدمه ويحلفون ما أردنا بالمطالبة بدمه إلا إحسانا إلينا وما يوافق الحق في أمرنا
والثاني ما أردنا بالترافع إلى عمر إلا إحسانا وتوفيقا
والثالث أنهم جاؤوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه و سلم من محاكمتهم إلى غيره ويقولون ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحسانا بالتقريب في الحكم وتوفيقا بين الخصوم دون الحمل على مر الحق أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا
قوله تعالى أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم أي من النفاق والزيغ

وقال ابن عباس إضمارهم خلاف ما يقولون فأعرض عنهم ولا تعاقبهم وعظهم بلسانك وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي تقدم إليهم إن فعلتم الثانية عاقبتكم وقال الزجاج يقال بلغ الرجل يبلغ بلاغة فهو بليغ إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه
وقد تكلم العلماء في حد البلاغة فقال بعضهم البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ وقيل البلاغة حسن العبارة مع صحة المعنى وقيل البلاغة الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضجار
قال خالد بن صفوان أحسن الكلام ما قلت ألفاظه وكثرت معانيه وخير الكلام ما شوق أوله إلى سماع آخره وقال غيره إنما يستحق الكلام اسم البلاغة إذا سابق لفظه معناه ومعناه لفظه ولم يكن لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك
فصل
وقد ذهب قوم إلى أن الإعراض المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السيف وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما
قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع قال الزجاج من دخلت للتوكيد والمعنى وما أرسلنا رسولا إلا ليطاع وفي قوله باذن الله قولان أحدهما أنه بمعنى الأمر قاله ابن عباس والثاني أنه الاذن نفسه قاله مجاهد وقال الزجاج المعنى إلا ليطاع بأن الله أذن له في ذلك

وقوله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما قال ابن عباس ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرسول جاؤوك فاستغفروا الله من صنيعهم فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون في سبب نزولها قولان
أحدهما أنها نزلت في خصومة كانت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه و سلم للزبير اسق ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصار قال يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر قال الزبير فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت إلى في ذلك أخرجه البخاري ومسلم

والثاني أنها نزلت في المنافق واليهودي اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف وقد سبقت قصتهما قاله مجاهد
قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون أي لا يكونون مؤمنين حتى يحكموك وقيل لا رد لزعمهم أنهم مؤمنون والمعنى فلا أي ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف فقال وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم أي فيما اختلفوا فيه
وفي الحرج قولان أحدهما أنه الشك قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي في آخرين والثاني الضيق قاله أبو عبيدة والزجاج وفي قوله ويسلموا تسليما قولان أحدهما يسلموا لما أمرتهم به فلا يعارضونك هذا قول ابن عباس والزجاج والجمهور والثاني يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك ذكره الماوردي ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون

به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما
قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم سبب نزولها أن رجلا من اليهود قال والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلناها فقال ثابت بن قيس بن الشماس والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا فنزلت هذه الآية هذا قول السدي قال الزجاج لو يمتنع به الشيء لامتناع غيره تقول لو جاءني زيد لجئته والمعنى أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه وكتبنا بمعنى فرضنا والمعنى لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم قرأ أبو عمرو أن اقتلوا أنفسكم بكسر النون أو اخرجوا بضم الواو وقرأ ابن عامر وابن كثير ونافع والكسائي أن اقتلوا أو اخرجوا بضم النون والواو وقرأ عاصم وحمزة بكسرهما والمعنى لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى لم يفعله إلا قليل منهم هذه قراءة الجمهور وقرأ ابن عامر إلا قليلا بالنصب ولو أنهم يعني المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ويصدون عنك فعلوا ما يوعظون به أي ما يذكرون به من طاعة الله والوقوف مع أمره لكان خيرا لهم وأثبت لأمورهم وقال السدي وأشد تثبيتا أي تصديقا ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما
قوله تعالى ومن يطع الله والرسول في سبب نزولها ثلاثة أقوال

أحدها أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم كان شديد المحبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فرآه رسول الله يوما فعرف الحزن في وجهه فقال يا ثوبان ما غير وجهك قال ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك فأذكر الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا له ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا فانك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فنزلت هذه الآية هذا قول مسروق
والثالث أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي وهو محزون فقال مالي أراك محزونا فقال يا رسول الله غدا ترفع مع الأنبياء فلا نصل إليك فنزلت هذه الآية هذا قول سعيد بن جبير قال ابن عباس ومن يطع الله في الفرائض والرسول في السنن قال ابن قتيبة والصديق الكثير الصدق كما يقال فسيق وسكير وشريب وخمير وسكيت وفجير وعشيق

وضليل وظليم إذا كثر منه ذلك ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرة أو مرتين حتى يكثر منه ذلك أو يكون عادة فأما الشهداء فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله
وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال أحدها لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة قاله ثعلب والثاني لأن ملائكة الرحمة تشهده والثالث لسقوطه بالأرض والأرض هي الشاهدة ذكر القولين ابن فارس اللغوي والرابع لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل قاله أبو سليمان الدمشقي والخامس لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل قاله شيخنا على بن عبيد الله
فأما الصالحون فهم اسم لكل من صلحت سريرته وعلانيته والجمهور على أن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين عام في جميع من هذه صفته

وقال عكرمة المراد بالنبيين هاهنا محمد والصديقين أبو بكر وبالشهداء عمر وعثمان وعلي وبالصالحين سائر الصحابة
قوله تعالى وحسن أولئك رفيقا قال الزجاج رفيقا منصوب على التمييز وهو ينوب عن رفقاء قال الشاعر ... بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب ...
وقال آخر ... في حلقكم عظم وقد شجينا ... يريد في حلوقكم عظام ...
ذلك الفضل الذي أعطى المذكورين من الله وكفى بالله عليما بالمقاصد والنيات

يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا
قوله تعالى خذوا حذركم فيه قولان أحدهما احذروا عدوكم
والثاني خذوا سلاحكم
قوله تعالى فانفروا ثبات قال ابن قتيبة أي جماعات واحدتها ثبة يريد جماعة بعد جماعة وقال الزجاج الثبات الجماعات المتفرقة
قال زهير ... وقد أغدوا على ثبة كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء ...
قال ابن عباس فانفروا ثبات أي عصبا سرايا متفرقين أو انفروا جميعا يعنى كلكم
فصل
وقد نقل عن ابن عباس أن هذه الآية وقوله انفروا خفافا وثقالا التوبة 41

وقوله إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما التوبة 39 منسوخات بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة التوبة 122 قال أبو سليمان الدمشقي والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإمام وليس في هذا من المنسوخ شيء وإن منكم لمن ليبطئن فان أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما
قوله تعالى وإن منكم لمن ليبطئن اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها في المنافقين كعبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد فان لقيت السرية نكبة قال من أبطأ منهم لقد أنعم الله علي وإن لقوا غنيمة قال يا ليتني كنت معهم هذا قول ابن عباس وابن جريج
والثاني أنها نزلت في المسلمين الذين قلت علومهم بأحكام الدين فتثبطوا لقلة العلم لا لضعف الدين ذكره الماوردي وغيره فعلى الأول تكون إضافتهم إلى المؤمنين بقوله منكم لموضع نطقهم بالإسلام وجريان أحكامه عليهم وعلى الثاني تكون الإضافة حقيقة قال ابن جرير اللام في لمن لام تأكيد
قال الزجاج واللام في ليبطئن لام القسم كقولك إن منكم لمن أحلف بالله ليبطئن يقال أبطأ الرجل و بطؤ فمعنى أبطأ تأخر ومعنى بطؤ ثقل وقرأ أبو جعفر ليبطئن بتخفيف الهمزة وفي معنى ليبطئن قولان أحدهما ليبطئن هو بنفسه وهو قول ابن عباس والثاني ليبطئن غيره قاله ابن جريج قال ابن عباس والمصيبة النكبة والفضل من الله الفتح والغنيمة

قوله تعالى كأن لم يكن بينكم وبينه مودة قرأ ابن كثير وحفص والمفضل عن عاصم كأن لم تكن بالتاء لأن الفاعل المسند إليه مؤنث في اللفظ وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم يكن بالياء لأن التأنيث ليس بحقيقي قال الزجاج يجوز أن يكون المعنى ليقولن يا ليتني كنت معهم كأن لم يكن بينكم وبينه مودة أي كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به فيكون المعنى ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فان أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي كأن لم يكن بينكم وبينه مودة فيكون معنى المودة أي كأنه لم يعاقدكم على الإيمان فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحيوة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما
قوله تعالى الذين يشرون الحياة الدنيا يشرون هاهنا بمعنى يبتغون في قول الجماعة وأنشدوا ... وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه

وبرد غلام له باعه ومعنى الآية ليكن قتال المقاتلين على وجه الإخلاص وطلب الآخرة
قوله تعالى فيقتل أو يغلب خرج مخرج الغالب وقد يثاب من لم يغلب ولم يقتل وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا
قوله تعالى والمستضعفين من الرجال قال الفراء تقديره وفي المستضعفين وكذلك روي عن ابن عباس وقال الزجاج المستضعفون في موضع خفض والمعنى في سبيل الله وسبيل المستضعفين أي ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء قال ابن عباس وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا والقرية مكة في قول الجماعة قال الفراء وإنما خفض الظالم لأنه نعت للأهل فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها تقول مررت بالرجل الواسعة داره

قوله تعالى واجعل لنا من لدنك وليا قال أبو سليمان سألوا الله وليا من عنده يلي إخراجهم منها ونصيرا يمنعهم من المشركين قال ابن عباس فلما فتح رسول الله مكة جعل الله عز و جل النبي عليه السلام وليهم واستعمل عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عتاب بن أسيد فكان نصيرا لهم ينصف الضعيف من القوي الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا
قوله تعالى يقاتلون في سبيل الطاغوت الطاغوت هاهنا الشيطان وقال أبو عبيدة الطاغوت هاهنا في معنى جماعة كقوله ولحم الخنزير معناه ولحم الخنازير
قوله تعالى إن كيد الشيطان يعني مكره وصنيعه كان ضعيفا حيث خذل أصحابه يوم بدر ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا

قوله تعالى ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في نفر من المهاجرين كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكة قبل أن يفرض القتال فنهوا عن ذلك فلما أذن لهم فيه كرهه بعضهم روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس وهو قول قتادة والسدي ومقاتل
والثاني أنها نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمان المتقدم فحذرت هذه الأمة من مثل حالهم روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس قال أبو سليمان الدمشقي كأنه يومئ إلى قصة الذين قالوا إبعث لنا ملكا وقال مجاهد هي في اليهود
فأما كف اليد فالمراد به الامتناع عن القتال ذلك كان بمكة وكتب بمعنى فرض وذلك بالمدينة هذا على القول الأول
قوله تعالى إذا فريق منهم في هذا الفريق ثلاثة أقوال
أحدها أنهم المنافقون والثاني أنهم كانوا مؤمنين فلما فرض القتال نافقوا جبنا وخوفا والثالث أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم فنفرت

نفوسهم عن القتال
قوله يخشون الناس في المراد بالناس قولان أحدهما كفار مكة والثاني جميع الكفار
قوله تعالى أو أشد خشية قيل إن أو بمعنى الواو وكتبت بمعنى فرضت و لولا بمعنى هلا قال الفراء إذا لم تر بعدها اسما فهي استفهام بمعنى هلا وإذا رأيت بعدها اسما مرفوعا فهي التي جوابها اللام تقول لولا عبد الله لضربتك وقال ابن قتيبة إذا رأيتها بغير جواب فهي بمعنى هلا تقول لولا فعلت كذا ومثلها لوما فاذا رأيت ل لولا جوابا فليست بمعنى هلا إنما هي التي تكون لأمر يقع بوقوع غيره كقوله فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه الصافات 143 قلت فأما لولا التي لها جواب فكثيرة في الكلام وأنشدوا في ذلك ... لولا الحياء وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت ام القاسم ...
وأما التي بمعنى هلا فأنشدوا منها

تعدون عقر النبيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا ...
أراد فهلا تعدون الكمي والكمي الداخل في السلاح
وفي الأجل القريب قولان
أحدهما أنه الموت فكأنهم قالوا هلا تركتنا نموت موتا وعافيتنا من القتل هذا قول السدي ومقاتل
والثاني أنه إمهال زمان فكأنهم قالوا هلا أخرت فرض الجهاد عنا قليلا حتى نكثر ونقوى قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين
قوله تعالى قل متاع الدنيا قليل أي مدة الحياة فيها قليلة
قوله تعالى ولا تظلمون فتيلا قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ولا يظلمون بالياء وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم بالتاء وقد سبق ذكر المتاع والفتيل

أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا
قوله تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حق شهداء أحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس ومقاتل والبروج الحصون قاله ابن عباس وابن قتيبة وفي المشيدة خمسة أقوال
أحدها أنها الحصينة قاله ابن عباس وقتادة والثاني المطولة قاله أبو مالك ومقاتل وابن قتيبة والثالث المجصصة قاله هلال بن خباب واليزيدي والرابع أنها المبنية بالشيد وهو الجص قاله أبو سليمان الدمشقي والخامس أنها بروج في السماء قاله الربيع بن أنس والثوري وقال السدي هي قصور بيض في السماء مبنية
قوله تعالى وإن تصبهم اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال أحدها أنهم المنافقون واليهود قاله ابن عباس والثاني المنافقون قاله الحسن والثالث اليهود قاله ابن السري
وفي الحسنة والسيئة قولان
أحدهما أن الحسنة الخصب والمطر والسيئة الجدب والغلاء رواه أبو صالح عن ابن عباس

والثاني أن الحسنة الفتح والغنيمة والسيئة الهزيمة والجراح ونحو ذلك رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وفي قوله تعالى من عندك قولان
أحدهما بشؤمك قاله ابن عباس والثاني بسوء تدبيرك قاله ابن زيد
قوله تعالى قل كل من عند الله قال ابن عباس الحسنة والسيئة أما الحسنة فأنعم بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها
قوله تعالى فما لهؤلاء القوم وقف أبو عمرو والكسائي على الألف من فما في قوله فما لهؤلاء القوم و ما لهذا الكتاب و ما لهذا الرسول و فما للذين كفروا والباقون وقفوا على اللام فأما الحديث فقيل هو القرآن فكأنه قال لا يفقهون القرآن فيؤمنون به ويعلمون أن الكل من عند الله ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا
قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله في المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال أحدها أنه عام فتقديره ما أصابك أيها الإنسان قاله قتادة والثاني أنه خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد به غيره ذكره الماوردي وقال ابن الأنباري ما أصابك الله من حسنة وما أصابك الله به من سيئة فالفعلان يرجعان إلى الله عز و جل وفي الحسنة والسيئة ثلاثة أقوال أحدها أن الحسنة ما فتح عليه يوم بدر والسيئة ما أصابه يوم أحد رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثاني الحسنة الطاعة والسيئة المعصية

قاله أبو العالية والثالث الحسنة النعمة والسيئة البلية قاله ابن قتيبة وعن أبي العالية نحوه وهو أصح لأن الآية عامة وروى كرداب عن يعقوب ما أصابك من حسنة فمن الله بتشديد النون ورفعها ونصب الميم وخفض اسم الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك بنصب الميم ورفع السين
قوله تعالى فمن نفسك أي فبذنبك قاله الحسن وقتادة والجماعة وذكر فيه ابن الأنباري وجها آخر فقال المعنى أفمن نفسك فأضمرت ألف الاستفهام كما أضمرت في قوله وتلك نعمة أي أو تلك نعمة
قوله تعالى وأرسلناك للناس رسولا قال الزجاج ذكر الرسول مؤكد لقوله وأرسلناك والباء في بالله مؤكدة والمعنى وكفى بالله شهيدا

وشهيدا منصوب على التمييز لأنك إذا قلت كفى بالله ولم تبين في أي شيء الكفاية كنت مبهما
وفي المراد بشهادة الله هاهنا ثلاثة أقوال أحدها شهيدا لك بأنك رسوله قاله مقاتل والثاني على مقالتهم قاله ابن السائب والثالث لك بالبلاغ وعليهم بالتكذيب والنفاق قاله أبو سليمان الدمشقي فان قيل كيف عاب الله هؤلاء حين قالوا إن الحسنة من عند الله والسيئة من عند النبي عليه السلام ورد عليهم بقوله قل كل من عند الله ثم عاد فقال ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فهل قال القوم إلا هكذا فعنه جوابان
أحدهما أنهم أضافوا السيئة إلى النبي صلى الله عليه و سلم تشاؤما به فرد عليهم فقال كل بتقدير الله ثم قال ما أصابك من حسنة فمن الله أي من فضله وما أصابك من سيئة فبذنبك وإن كان الكل من الله تقديرا
والثاني أن جماعة من أرباب المعاني قالوا في الكلام محذوف مقدر تقديره فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا يقولون ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فيكون هذا من قولهم والمحذوف المقدر في القرآن كثير ومنه قوله ربنا تقبل منا البقرة 127 أي يقولان ربنا ومثله أو به أذى من رأسه ففدية البقرة 196 أي فحلق ففدية ومثله فأما الذين اسودت وجههم أكفرتم آل عمران 106 أي فيقال لهم ومثله والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم الرعد 23 24 أي يقولون سلام ومثله أو كلم به الموتى بل لله الأمر الرعد 31 أراد لكان هذا القرآن ومثله ولولا فضل الله عليكم ورحمته

وأن الله رؤوف رحيم النور 20 أراد لعذبكم ومثله ربنا أبصرنا وسمعنا السجدة 12 أي يقولون وقال النمر بن تولب ... فان المنية من يخشها ... فسوف تصادفه أينما ...
أراد أينما ذهب وقال غيره ... فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا ...
أراد لرددناه ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا
قوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله فقال المنافقون لقد قارب هذا الرجل الشرك فنزلت هذه الآية قاله مقاتل ومعنى الكلام من قبل ما أتى به الرسول فانما قبل ما أمر الله به ومن تولى أي

أعرض عن طاعته وفي الحفيظ قولان أحدهما أنه الرقيب قاله ابن عباس والثاني المحاسب قاله السدي وابن قتيبة
فصل
قال المفسرون وهذا كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ بآية السيف ويقولون طاعة فاذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا
قوله تعالى ويقولون طاعة نزلت في المنافقين كانوا يؤمنون عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأمنوا فاذا خرجوا خالفوا هذا قول ابن عباس قال الفراء والرفع في طاعة على معنى أمرك طاعة
قوله تعالى بيت طائفة قرأ أبو عمرو وحمزة بيت بسكون التاء وإدغامها في الطاء ونصب الباقون التاء قال أبو علي التاء والطاء والدال من حيز واحد فحسن الإدغام ومن بين فلانفصال الحرفين واختلاف المخرجين قال ابن قتيبة والمعنى فاذا برزوا من عندك أي خرجوا بيت طائفة منهم غير الذي تقول أي قالوا وقدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا قال الشاعر ... أتوني فلم أرض ما بينوا ... وكانوا أتوني بشيء نكر

والعرب تقول هذا أمر قد قدر بليل وفرغ منه بليل ومنه قول الحارث بن حلزة ... أجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء ...
وقال بعضهم بيت بمعنى بدل وأنشد ... وبيت قولي عند المليك ... قاتلك الله عبدا كفورا ...
وفي قوله غير الذي تقول قولان
أحدهما غير الذي تقول الطائفة عندك وهو قول ابن عباس وابن قتيبة والثاني غير الذي تقول أنت يا محمد وهو قول قتادة والسدي
قوله تعالى والله يكتب ما يبيتون فيه ثلاثة أقوال أحدها يكتبه في الأعمال التي تثبتها الملائكة قاله مقاتل في آخرين والثاني ينزله إليك في كتابه والثالث يحفظه عليهم ليجازوا به ذكر القولين الزجاج قال ابن عباس فأعرض عنهم فلا تعاقبهم وثق بالله عز و جل وكفى بالله ثقة لك قال ثم نسخ هذا الإعراض وأمر بقتالهم
فان قيل ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة ثم قال بيت طائفة والكل منافقون فالجواب من وجهين ذكرهما أهل التفسير
أحدهما أنه أخبر عمن سهر ليله ودبر أمره منهم دون غيره منهم والثاني أنه ذكر من علم أنه يبقى على نفاقه دون من علم أنه يرجع

أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
قوله تعالى أفلا يتدبرون القرآن قال الزجاج التدبر النظر في عاقبة الشيء والدبر النحل سمي دبرا لأنه يعقب ما ينتفع به والدبر المال الكثير سمي دبرا لكثرته لأنه يبقى للأعقاب والأدبار
وقال ابن عباس أفلا يتدبرون القرآن فيتفكرون فيه فيرون تصديق بعضه لبعض وأن أحدا من الخلائق لا يقدر عليه قال ابن قتيبة والقرآن من قولك ما قرأت الناقة سلى قط أي ماضمت في رحمها ولدا وأنشد أبو عبيدة ... هجان اللون لم تقرأ جنينا ...
وإنما سمي قرآنا لأنه جمع السور وضمها
قوله تعالى لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه التناقض قاله ابن عباس وابن زيد والجمهور والثاني

الكذب قاله مقاتل والزجاج والثالث أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام ومرذول إذ لا بد للكلام إذا طال من مرذول وليس في القرآن إلا بليغ ذكره الماوردي في جماعة وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف إذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا
قوله تعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف في سبب نزولها قولان
أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما اعتزل نساءه دخل عمر المسجد فسمع الناس يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءه فدخل على النبي عليه السلام فسأله أطلقت نساءك قال لا فخرج فنادى ألا إن رسول الله لم يطلق نساءه فنزلت هذه الآية فكان هو الذي استنبط الأمر انفرد باخراجه مسلم من حديث ابن عباس عن عمر
والثاني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت أو غلبت

تحدثوا بذلك وأفشوه ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدث به فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
وفي المشار إليهم بهذه الآية قولان أحدهما أنهم المنافقون قاله ابن عباس والجمهور والثاني أهل النفاق وضعفة المسلمين ذكره الزجاج
وفي المراد بالأمن أربعة أقوال
أحدها فوز السرية بالظفر والغنيمة وهو قول الأكثرين والثاني أنه الخبر يأتي إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه ظاهر على قوم فيأمن منهم قاله الزجاج والثالث أنه ما يعزم عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من الموادعة والأمان لقوم ذكره الماوردي
والرابع أنه الأمن يأتي من المأمن وهو المدينة ذكره أبو سليمان الدمشقي مخرجا من حديث عمر
وفي الخوف ثلاثة أقوال
أحدها أنه النكبة التي تصيب السرية ذكره جماعة من المفسرين والثاني أنه الخبر يأتي أن قوما يجمعون للنبي صلى الله عليه و سلم فيخاف منهم قاله الزجاج والثالث ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال ذكره الماوردي
قوله تعالى أذاعوا به قال ابن قتيبة أشاعوه وقال ابن جرير والهاء عائدة على الأمر
قوله تعالى ولو ردوه يعني الأمر إلى الرسول حتى يكون هو المخبر به وإلى أولي الأمر منهم وفيهم أربعة أقوال

أحدها أنهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي قاله ابن عباس
والثاني أنهم أبو بكر وعمر قاله عكرمة والثالث العلماء قاله الحسن وقتادة وابن جريج والرابع أمراء السرايا قاله ابن زيد ومقاتل
وفي الذين يستنبطونه قولان
أحدهما أنهم الذين يتتبعونه من المذيعين له قاله مجاهد والثاني أنهم أولو الأمر قاله ابن زيد والاستنباط في اللغة الاستخراج قال الزجاج أصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر يقال من ذلك قد أنبط فلان في غضراء أي استنبط الماء من طين حر والنبط سموا نبطا لاستنباطهم ما يخرج من الأرض قال ابن جرير ومعنى الآية وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين بخير أو بشر أفشوه ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذوو الأمر يتولون الخبر عن ذلك فيصححوه إن كان صحيحا أو يبطلوه إن كان باطلا لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أولى الأمر
قوله تعالى ولولا فضل الله عليكم

في المراد بالفضل أربعة أقوال أحدها أنه رسول الله والثاني الإسلام والثالث القرآن والرابع أولو الأمر
وفي الرحمة أربعة أقوال أحدها أنها الوحي والثاني اللطف والثالث النعمة والرابع التوفيق
قوله تعالى لا تبعتم الشيطان إلا قليلا في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال
أحدها أنه راجع إلى الإذاعة فتقديره أذاعوا به إلا قليلا وهذا قول ابن عباس وابن زيد واختاره الفراء وابن جرير
والثاني أنه راجع إلى المستنبطين فتقديره لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا وهذا قول الحسن وقتادة واختاره ابن قتيبة فعلى هذين القولين في الآية تقديم وتأخير
والثالث أنه راجع إلى اتباع الشيطان فتقديره لاتبعتم الشيطان إلا قليلا منكم وهذا قول الضحاك واختاره الزجاج وقال بعض العلماء المعنى لولا فضل الله بارسال النبي إليكم لضللتم إلا قليلا منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله ويعرفون ضلال من يعبد غيره كقس بن ساعدة فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا
قوله تعالى فقاتل في سبيل الله سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ندب الناس لموعد أبي سفيان ببدر الصغرى بعد أحد كره بعضهم ذلك فنزلت هذه

الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وفي فاء فقاتل قولان
أحدهما أنه جواب قوله ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب
والثاني أنها متصلة بقوله وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ذكرهما ابن السري والمراد بسبيل الله الجهاد
قوله تعالى لا تكلف إلا نفسك أي إلا المجاهدة بنفسك وحرض بمعنى حضض قال الزجاج ومعنى عسى في اللغة معنى الطمع والإشفاق والإطماع من الله واجب والبأس الشدة وقال ابن عباس والله أشد عذابا قال قتادة والتنكيل العقوبة من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على شيء مقيتا

قوله تعالى من يشفع شفاعة حسنة في المراد بالشفاعة أربعة أقوال
أحدها أنها شفاعة الإنسان للانسان ليجتلب له نفعا أو يخلصه من بلاء وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد والثاني أنها الإصلاح بين اثنين قاله ابن السائب والثالث أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ذكره الماوردي والرابع أن المعنى من يصر شفعا لوتر أصحابك يا محمد فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي
وفي الشفاعة السيئة ثلاثة أقوال
أحدها أنها السعي بالنميمة قاله ابن السائب ومقاتل والثاني أنها الدعاء على المؤمنين والمؤمنات وكانت اليهود تفعله ذكره الماوردي والثالث أن المعنى من يشفع وتر أهل الكفر فيقاتل المؤمنين قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي قال الزجاج والكفل في اللغة النصيب وأخذ من قولهم اكتفلت البعير إذ أدرت على سنامه أو على موضع من ظهره كساء وركبت عليه وإنما قيل له كفل لأنه لم يستعمل الظهر كله وإنما استعمل نصيبا منه وفي المقيت سبعة أقوال
أحدها أنه المقتدر قال أحيحة بن الجلاح ... وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا

وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وابن جرير والسدي وابن زيد والفراء وأبو عبيد وابن قتيبة والخطابي
والثاني أنه الحفيظ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة والزجاج وقال هو بالحفيظ أشبه لأنه مشتق من القوت يقال قت الرجل أقوته قوتا إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته والقوت اسم الشيء الذي يحفظ نفسه ولا فضل فيه على قدر الحفظ فمعنى المقيت الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ قال الشاعر ... ألي الفضل أم علي إذا حو ... سبت إني على الحساب مقيت ...
والثالث أنه الشهيد رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد واختاره أبو سليمان الدمشقي والرابع أنه الحسيب رواه خصيف عن مجاهد والخامس الرقيب رواه أبو شيبة عن عطاء والسادس الدائم رواه ابن جريج عن عبدالله بن كثير والسابع أنه معطي القوت قاله مقاتل بن سليمان وقال الخطابي المقيت يكون بمعنى معطي القوت قال الفراء يقال قاته وأقاته

وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا
قوله تعالى وإذا حييتم بتحية في التحية قولان
أحدهما أنها السلام قاله ابن عباس والجمهور والثاني الدعاء ذكره ابن جرير والماوردي فأما أحسن منها فهو الزيادة عليها وردها قول مثلها قال الحسن إذا قال أخوك المسلم السلام عليكم فرد السلام وزد ورحمة الله أو رد ما قال ولا تزد وقال الضحاك إذا قال السلام عليك قلت وعليكم السلام ورحمة الله وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله قلت وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وهذا منتهى السلام وقال قتادة بأحسن منها للمسلم أو ردوها على أهل الكتاب الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا
قوله تعالى الله لا إله إلا هو قال مقاتل نزلت في الذين شكوا في البعث قال الزجاج وللام في ليجمعنكم لام القسم كقولك والله ليجمعنكم قال وجائز أن تكون سميت القيامة لقيام الناس من قبورهم وجائز أن تكون لقيامهم للحساب
قوله تعالى ومن أصدق من الله حديثا إنما وصف نفسه بهذا لأن جميع الخلق يجوز عليهم الكذب ويستحيل في حقه فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
قوله تعالى فما لكم في المنافقين فئتين في سبب نزولها سبعة أقوال

أحدها أن قوما أسلموا فأصابهم وباء بالمدينة وحماها فخرجوا فاستقبلتهم نفر من المسلمين فقالوا ما لكم خرجتم قالوا أصابنا وباء بالمدينة واجتويناها فقالوا أما لكم في رسول الله أسوة فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا فنزلت هذه الآية رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه
والثاني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما خرج إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه فافترق فيهم أصحاب رسول الله ففرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا نقتلهم فنزلت هذه الآية هذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت
والثالث أن قوما كانوا بمكة تكلموا بالإسلام وكانوا يعاونون المشركين

فخرجوا من مكة لحاجة لهم فقال قوم من المسلمين اخرجوا إليهم فاقتلوهم فانهم يظاهرون عدوكم وقال قوم كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به فنزلت هذه الآية رواه عطية عن ابن عباس
والرابع أن قوما قدموا المدينة فأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك فنزلت هذه الآية هذا قول الحسن ومجاهد
والخامس أن قوما أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة فاختلف المؤمنون فيهم فنزلت هذه الآية وهذا قول الضحاك
والسادس أن قوما من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة فقالوا للمؤمنين إنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة فلعلنا نخرج فنتماثل فانا كنا أصحاب بادية فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية هذا قول السدي
والسابع أنها نزلت في شأن ابن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم وهذا قول ابن زيد
وقوله تعالى فما لكم خطاب للمؤمنين والمعنى أي شيء لكم في الاختلاف في أمرهم والفئة الفرقة وفي معنى أركسهم أربعة أقوال
أحدها ردهم رواه عطاء عن ابن عباس قال ابن قتيبة ركست

الشيء وأركسته لغتان أي نكسهم وردهم في كفرهم وهذا قول الفراء والزجاج
والثاني أوقعهم رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثالث أهلكهم قاله قتادة والرابع أضلهم قاله السدي
فأما الذي كسبوا فهو كفرهم وارتدادهم قال أبو سليمان إنما قال أتريدون أن تهدوا من أضل الله لأن قوما من المؤمنين قالوا إخواننا وتكلموا بكلمتنا
قوله تعالى فلن تجد له سبيلا فيه قولان أحدهما إلى الحجة قاله الزجاج والثاني إلى الهدى قاله أبو سليمان الدمشقي ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فان تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا
قوله تعالى ودوا لو تكفرون كما كفروا أخبر الله عز و جل المؤمنين بما في ضمائر تلك الطائفة لئلا يحسنوا الظن بهم ولايجادلوا عنهم وليعتقدوا عداوتهم
قوله تعالى فلا تتخذوا منهم أولياء أي لا توالوهم فانهم أعداء لكم حتى يهاجروا أي يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال ابن عباس فان تولوا عن الهجرة

والتوحيد فخذوهم أي ائسروهم واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحل والحرم
فصل قال القاضي أبو يعلى كانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة وقال الحسن
فرض الهجرة باق واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب من تجب عليه وهو الذي لا يقدر على إظهار الإسلام في دار الحرب خوفا على نفسه وهو قادر على الهجرة فتجب عليه لقوله ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها والثاني من لا تجب عليه بل تستحب له وهو من كان قادرا على إظهار دينه في دار الحرب والثالث من لا تستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر على إظهار دينه ولا على الحركة كالشيخ الفاني والزمن فلم تستحب له للحوق المشقة إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا

قوله تعالى إلا الذين يصلون هذا الاستثناء راجع إلى القتل لا إلى الموالاة
وفي يصلون قولان
أحدهما أنه بمعنى يتصلون ويلجؤون قال ابن عباس كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه فكان من وصل إلى هلال من قومه وغيرهم فلهم من الجوار مثل ما لهلال
والثاني أنه بمعنى ينتسبون قاله ابن قتيبة وأنشد ... إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم ...
يريد إذا انتسبت قالت أبكرا أي يا آل بكر

وفي القوم المذكورين أربعة أقوال
أحدها أنهم بنو بكر بن زيد مناة قاله ابن عباس والثاني أنهم هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك وخزيمة بن عامر بن عبد مناف قاله عكرمة والثالث أنهم بنو مدلج قاله الحسن والرابع خزاعة وبنو مدلج قاله مقاتل قال ابن عباس والميثاق العهد

قوله تعالى أو جاؤوكم فيه قولان
أحدهما أن معناه أو يصلون إلى قوم جاؤوكم قاله الزجاج في جماعة
والثاني أنه يعود إلى المطلوبين للقتل فتقديره أو رجعوا فدخلوا فيكم وهو بمعنى قول السدي
قوله تعالى حصرت صدورهم فيه قولان أحدهما أن فيه إضمار قد
والثاني أنه خبر بعد خبر فقوله جاؤوكم خبر قد تم وحصرت خبر مستأنف حكاهما الزجاج وقرأ الحسن ويعقوب والمفضل عن عاصم حصرة صدورهم على الحال وحصرت ضاقت ومعنى الكلام ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم أو يقاتلوا قومهم يعني قريشا
قال مجاهد هلال بن عويمر هو الذي حصر صدره أن يقاتلكم أو يقاتل قومه
قوله تعالى ولو شاء الله لسلطهم عليكم قال الزجاج أخبر أنه إنما كفهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم وفي السلم قولان أحدهما أنه الإسلام قاله الحسن والثاني الصلح قاله الربيع ومقاتل
فصل
قال جماعة من المفسرين معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السيف قال القاضي أبو يعلى لما أعز الله الإسلام أمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف

ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فان لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا
قوله تعالى ستجدون آخرين اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في أسد وغطفان كانوا قد تكلموا بالإسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم ويأمنوا قومهم بكفرهم رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أنها نزلت في بني عبد الدار رواه الضحاك عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبي صلى الله عليه و سلم وقالوا لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا قاله قتادة
والرابع أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي كان يأمن في المسلمين والمشركين فينقل الحديث بين النبي عليه السلام وبينهم ثم أسلم نعيم هذا قول السدي ومعنى الآية ستجدون قوما يظهرون الموافقة لكم ولقومهم ليأمنوا الفريقين كلما دعوا إلى الشرك عادوا فيه فان لم يعتزلوكم في القتال ويلقوا إليكم الصلح و يكفوا أيديهم عن قتالكم فخذوهم أي ائسروهم واقتلوهم حيث أدركتموهم وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجة بينة في قتلهم

فصل
قال أهل التفسير والكف عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السيف وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ في سبب نزولها قولان
أحدهما أن عياش بن أبي ربيعة أسلم بمكة قبل هجرة رسول الله ثم خاف أن يظهر إسلامه لقومه فخرج إلى المدينة فقالت أمه لابنيها أبي جهل والحارث ابني هشام وهما أخواه لأمه والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعام ولا شرابا حتى تأتياني به فخرجا في طلبه ومعهما الحارث بن زيد حتى أتوا عياشا وهو متحصن في أطم فقالوا له انزل فان أمك لم يؤوها سقف ولو تذق طعاما ولا شرابا ولك علينا أن لا نحول بينك وبين دينك فنزل فأوثقوه وجلده كل واحد منهم مائة جلدة فقدموا به على أمه فقالت والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر فطرح موثقا في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا فقال

له الحارث بن زيد يا عياش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته وإن كان ضلالا لقد ركبته فغضب وقال والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك ثم أفلت عياش بعد ذلك وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة ثم أسلم الحارث بعده وهاجر ولم يعلم عياش فلقيه يوما فقتله فقيل له إنه قد أسلم فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بما كان وقال لم أشعر باسلامه فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول سعيد بن جبير والسدي والجمهور
والثاني أن أبا الدرداء قتل رجلا قال لا إله إلا الله في بعض السرايا ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر له ما صنع فنزلت هذه الآية هذا قول ابن زيد
قال الزجاج معنى الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة والاستثناء ليس من الأول وإنما المعنى إلا أن يخطئ المؤمن وروى أبو عبيدة عن يونس أنه سأل رؤبة عن هذه الآية فقال ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ ولكنه أقام إلا مقام الواو قال الشاعر ... وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان

أراد والفرقدان وقال بعض أهل المعاني تقدير الآية لكن قد يقتله خطأ وليس ذلك فيما جعل الله له لأن الخطأ لا تصح فيه الإباحة ولا النهي وقيل إنما وقع الاستثناء على ما تضمنته الآية من استحقاق الاثم وإيجاب القتل
قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة قال سعيد بن جبير عتق الرقبة واجب على القاتل في ماله واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصلاة والصيام فروي عن أحمد جوازه وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وهذا قول عطاء ومجاهد وروي عن أحمد لا يجزئ إلا من صام وصلى وهو قول ابن عباس في رواية والحسن والشعبي وإبراهيم وقتادة
قوله تعالى ودية مسلمة إلى أهله قال القاضي أبو يعلى ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدية واتفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل تحملها عنه على طريق المواساة وتلزم العاقلة في ثلاث سنين كل سنة ثلثها والعاقلة العصبات من ذوي الأنساب ولا يلزم الجاني منها شيء وقال أبو حنيفة هو كواحد من العاقلة

وللنفس ستة أبدال من الذهب ألف دينار ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ومن الإبل مائة ومن البقر مائتا بقرة ومن الغنم ألفا شاة وفي الحلل روايتان عن أحمد إحداهما أنها أصل فتكون مائتا حلة فهذه دية الذكر الحر المسلم ودية الحرة المسلمة على النصف من ذلك
قوله تعالى إلا أن يصدقوا قال سعيد بن جبير إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل
قوله تعالى فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فيه قولان

أحدهما أن معناه وإن كان المقتول خطأ من قوم كفار ففيه تحرير رقبة من غير دية لأن أهل ميراثه كفار
والثاني وإن كان مقيما بين قومه فقتله من لا يعلم بايمانه فعليه تحرير رقبة ولا دية لأنه ضيع نفسه باقامته مع الكفار والقولان مرويان عن ابن عباس وبالأول قال النخعي وبالثاني سعيد بن جبير وعلى الأول تكون من للتبعيض وعلى الثاني تكون بمعنى في
قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فيه قولان
أحدهما أنه الرجل من أهل الذمة يقتل خطأ فيجب على قاتله الدية والكفارة هذا قول ابن عباس والشعبي وقتادة والزهري وأبي حنيفة والشافعي ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدية
والثاني أنه المؤمن يقتل وقومه مشركون ولهم عقد فديته لقومه وميراثه للمسلمين هذا قول النخعي
قوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين اختلفوا هل هذا الصيام بدل من الرقبة وحدها إذا عدمها أو بدل من الرقبة والدية فقال الجمهور عن الرقبة وحدها وقال مسروق ومجاهد وابن سيرين عنهما واتفق العلماء على

أنه إذا تخلل صوم الشهرين إفطار لغير عذر فعليه الابتداء فأما إذا تخللها المرض أو الحيض فعندنا لا ينقطع التتابع وبه قال مالك وقال أبو حنيفة المرض يقطع والحيض لا يقطع وفرق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض ولا يمكن ذلك في الحيض وعندنا أنها معذورة في الموضعين
قوله تعالى توبة من الله قال الزجاج معناه فعل الله ذلك توبة منه
قوله وكان الله عليما أي لم يزل عليما بما يصلح خلقه من التكليف حكيما فيما يقضي بينهم ويدبره في أمورهم ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا سبب نزولها أن مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن صبابة قتيلا في بني النجار وكان مسلما فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فأرسل رسول الله رسولا من بني فهر فقال له إيت بني النجار فأقرئهم مني السلام وقل لهم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى مقيس بن صبابة وإن لم تعلموا له قاتلا فادفعوا إليه ديته فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نعطي ديته فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فأتى الشيطان مقيس بن صبابة فقال تقبل دية أخيك فيكون عليك سبة ما بقيت اقتل الذي معك مكان أخيك وافضل بالدية فرما الفهري بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرا منها وساق بقيتها راجعا إلى مكة وهو يقول ... قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع ... وأدركت ثأري واضطجعت موسدا ... وكنت إلى الأصنام أول راجع

فنزلت هذه الآية ثم أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دمه يوم الفتح فقتل رواه أبو صالح عن ابن عباس وفي قوله متعمدا قولان أحدهما متعمدا لأجل أنه مؤمن قاله سعيد بن جبير والثاني متعمدا لقتله ذكره بعض المفسرين وفي قوله فجزاؤه جهنم قولان أحدهما أنها جزاؤه قطعا والثاني أنها جزاؤه إن جازاه واختلف العلماء هل للمؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا توبة أم لا فذهب الأكثرون إلى أن له توبة وذهب ابن عباس إلى أنه لا توبة له

فصل
اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة فقال قوم هي محكمة واحتجوا بأنها خبر والأخبار لا تحتمل النسخ ثم افترق هؤلاء فرقتين إحداهما قالت هي على ظاهرها وقاتل المؤمن مخلد في النار والفرقة الثانية قالت هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر ثم اسلم الكافر انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة فاذا ثبت كونها من العام المخصص فأي دليل صلح للتخصيص وجب العمل به ومن أسباب التخصيص ان يكون قتله مستحلا فيستحق الخلود لاستحلاله وقال قوم هي مخصوصة في حق من لم يتب واستدلوا بقوله تعالى في الفرقان إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما الفرقان 70 وقال آخرون هي منسوخة بقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء 48

يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحيوة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيرا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث سرية فيها المقداد بن الأسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال أشهد أن لا إله إلا الله فأهوى إليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه أقتلت رجلا يشهد أن لا إله إلا الله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فلما قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم قالوا

يا رسول الله إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال ادعوا لي المقداد فقال يا مقداد أقتلت رجلا قال لا إله إلا الله فكيف لك ب لا إله إلا الله غدا
قال فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمقداد كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أن رجلا من بني سليم مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه غنم فسلم فقالوا ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس

والثالث أن قوما من أهل مكة سمعوا بسرية لرسول الله أنها تريدهم فهربوا وأقام رجل منهم كان قد أسلم يقال له مرداس وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة فلما رأى مرداس الخيل كبر ونزل إليهم فسلم عليهم فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك وجدا شديدا ونزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال السدي كان أسامة أمير السرية
والرابع أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلمي وأبا قتادة ومحلم بن جثامة في سرية إلى إضم فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعي فحياهم بتحية الإسلام فحمل عليه محلم بن جثامة فقتله وسلبه بعيرا وسقاء فلما قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم أخبروه فقال أقتلته بعد ما قال آمنت ونزلت هذه الآية رواه ابن أبي حدرد عن أبيه
فأما التفسير فقوله إذا ضربتم في سبيل الله أي سرتم وغزوتم
وقوله فتبينوا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر فتبينوا بالنون من التبيين للأمر قبل الإقدام عليه وقرأ حمزة والكسائي وخلف

فتثبتوا بالثاء من الثبات وترك الاستعجال وكذلك قرؤوا في الحجرات
قوله تعالى لمن ألقى إليكم السلام قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر وحفص عن عاصم والكسائي السلام بالألف مع فتح السين قال الزجاج يجوز أن يكون بمعنى التسليم ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وخلف وجبلة عن المفضل عن عاصم السلم بفتح السين واللام من غير ألف وهو من الاستسلام وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف والسلم الصلح وقرأ الجمهور لست مؤمنا بكسر الميم وقرأ علي وابن عباس وعكرمة وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأبو جعفر بفتح الميم من الأمان
قوله تعالى تبتغون عرض الحياة الدنيا وعرضها ما فيها من مال قل أو كثر قال المفسرون والمراد به ما غنموه من الرجل الذي قتلوه
قوله تعالى فعند الله مغانم كثيرة فيه قولان
أحدهما أنه ثواب الجنة قاله مقاتل
والثاني أنها أبواب الرزق في الدنيا قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى كذلك كنتم من قبل فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن معناه كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة فلا تخيفوا من قالها رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني كذلك كنتم تخفون إيمانكم بمكة كما كان هذا يخفي إيمانه رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثالث كذلك كنتم من قبل مشركين قاله مسروق وقتادة وابن زيد

قوله تعالى فمن الله عليكم في الذي من به أربعة أقوال
أحدها الهجرة قاله ابن عباس والثاني إعلان الإيمان قاله سعيد بن جبير والثالث الإسلام قاله قتادة ومسروق والرابع التوبة على الذي قتل ذلك الرجل قاله السدي
قوله تعالى فتبينوا تأكيد للأول لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما
قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال أبو سليمان الدمشقي نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود
وقال زيد بن ثابت إني لقاعد إلى جنب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ غشيته السكينة ثم سري عنه فقال اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون الآية فقام ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد فوالله ما قضى كلامه حتى غشيت رسول الله السكينة ثم سري عنه فقال اقرأ فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فقال النبي صلى الله عليه و سلم غير أولي الضرر فألحقها

قوله تعالى لا يستوي القاعدون يعني عن الجهاد والمعنى أن المجاهد أفضل قال ابن عباس وأريد بهذا الجهاد غزوة بدر وقال مقاتل غزاة تبوك
قوله تعالى غير أولي الضرر قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة غير برفع الراء وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وخلف والمفضل بنصبها قال أبو علي من رفع الراء جعل غير صفة للقاعدين ومن نصبها جعلها استثناء من القاعدين وفي الضرر قولان
أحدهما أنه العجز بالزمانة والمرض ونحوهما قال ابن عباس هم قوم كانت تحبسهم عن الغزاة أمراض وأوجاع وقال ابن جبير وابن قتيبة هم أولو الزمانة وقال الزجاج الضرر أن يكون ضريرا أو أعمى أو زمنا
والثاني أنه العذر رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
قوله تعالى فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة في هؤلاء القاعدين قولان
أحدهما أنهم القاعدون بالضرر قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني القاعدون من غير ضرر قاله أبو سليمان الدمشقي قال ابن جرير والدرجة الفضيلة فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة

قوله تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين قال ابن عباس القاعدون هاهنا غير أولي الضرر وقال سعيد بن جبير هم الذين لا عذر لهم درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى درجات منه قال الزجاج درجات في موضع نصب بدلا من قوله أجرا عظيما وهو مفسر للأجر وفي المراد بالدرجات قولان
أحدهما أنها درجات الجنة قال ابن محيريز الدرجات سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة وإلى نحوه ذهب مقاتل
والثاني أن معنى الدرجات الفضائل قاله سعيد بن جبير قال قتادة كان يقال الإسلام درجة والهجرة في الإسلام درجة والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة
وقال ابن زيد الدرجات هي السبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ إلى قوله ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم التوبة 120 121

فان قيل ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة وفي آخره درجات فعنه جوابان
أحدهما أن الدرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر منزلة والدرجات تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر منازل كثيرة وهذا معنى قول ابن عباس
والثاني أن الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم والدرجات منازل الجنة ذكره القاضي أبو يعلى إن الذين توفهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فاولئك مأوههم جهنم وسآءت مصيرا
قوله تعالى إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن أناسا كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فلما خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى بدر لم تدع قريش أحدا إلا أخرجوه معهم فقتل أولئك الذين أقروا بالإسلام فنزلت فيهم هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس وقال قتادة نزلت في أناس تكلموا بالإسلام فخرجوا مع أبي جهل فقتلوا يوم بدر واعتذروا بغير عذر فأبى الله أن يقبل منهم

والثاني أن قوما نافقوا يوم بدر وارتابوا وقالوا غر هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا فنزلت فيهم هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يخرجوا معه فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي ضربت الملائكة وجهه ودبره رواه العوفي عن ابن عباس وفي التوفي قولان
أحدهما أنه قبض الأرواح بالموت قاله ابن عباس ومقاتل والثاني الحشر إلى النار قاله الحسن قال مقاتل والمراد بالملائكة ملك الموت وحده
وقال في موضع آخر ملك الموت وأعوانه وهم ستة ثلاثة يلون أرواح المؤمنين وثلاثة يلون أرواح الكفار قال الزجاج ظالمي أنفسهم نصب على الحال

والمعنى تتوفاهم في حال ظلمهم أنفسهم والأصل ظالمين لأن النون حذفت استخفافا فأما ظلمهم لأنفسهم فيحتمل على ما ذكر في قصتهم أربعة أقوال
أحدها أنه ترك الهجرة والثاني رجوعهم إلى الكفر والثالث الشك بعد اليقين والرابع إعانة المشركين
قوله تعالى فيم كنتم قال الزجاج هو سؤال توبيخ والمعنى كنتم في المشركين أو في المسلمين
قوله تعالى قالوا كنا مستضعفين في الأرض قال مقاتل كنا مقهورين في أرض مكة لا نستطيع أن نذكر الإيمان قالت الملائكة ألم تكن أرض الله واسعة يعني المدينة فتهاجروا فيها يعني إليها وقول الملائكة لهم يدل على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا
قوله تعالى إلا المستضعفين سبب نزولها أن المسلمين قالوا في حق المستضعفين من المسلمين بمكة هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر فنزلت هذه الآية قاله مجاهد قال الزجاج المستضعفين نصب على الاستثناء من قوله مأواهم جهنم قال أبو سليمان المستضعفون ذوو الأسنان والنساء والصبيان
قوله تعالى لا يستطيعون حيلة أي لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة ولا على نفقة ولا قوة
وفيقوله تعالى ولا يهتدون سبيلا قولان

أحدهما أنهم لا يعرفون الطريق إلى المدينة قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد
والثاني أنهم لا يعرفون طريقا يتوجهون إليه فان خرجوا هلكوا قاله ابن زيد وفي عسى قولان أحدهما أنها بمعنى الإيجاب قاله الحسن والثاني أنها بمعنى الترجي فالمعنى أنهم يرجون العفو قاله الزجاج ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة قال سعيد بن جبير ومجاهد متزحزحا عما يكره وقال ابن قتيبة المراغم والمهاجر واحد يقال راغمت وهاجرت وأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج عن قومه مراغما أي مغاضبا لهم ومهاجرا أي مقاطعا من الهجران فقيل للمذهب مراغم وللمصير إلى النبي عليه السلام هجرة لأنها كانت بهجرة الرجل قومه قال الجعدي عزيز المراغم والمذهب
وفي السعة قولان أحدهما أنها السعة في الزرق قاله ابن عباس والجمهور
والثاني التمكن من إظهار الدين قاله قتادة
قوله تعالى ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله اتفقوا على أنه

نزل في رجل خرج مهاجرا فمات في الطريق واختلفوا فيه على ستة أقوال
أحدها أنه ضمرة بن العيص وكان ضريرا موسرا فقال احملوني فحمل وهو مريض فمات عند التنعيم فنزل فيه هذا الكلام رواه سعيد بن جبير
والثاني أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي أمر أهله أن يحملوه على سريره فلما بلغ التنعيم مات فنزلت فيه هذه الآية رواه أبو بشر عن سعيد ابن جبير
والثالث أنه ابن ضمرة الجندعي مرض فقال لبنيه أخرجوني من مكة فقد قتلني غمها فقالوا أين فأومأ بيده نحو المدينة يريد الهجرة فخرجوا به فمات في الطريق فنزل فيه هذا ذكره ابن إسحاق وقال مقاتل هو جندب بن ضمرة
والرابع أن اسمه سبرة فلما نزل قوله إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى قوله مراغما كثيرا قال لأهله وهو مريض احملوني فاني

موسر ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة فلما جاوز الحرم مات فنزل فيه هذا قاله قتادة
والخامس أنه رجل من بني كنانة هاجر فمات في الطريق فسخر منه قومه فقالوا لا هو بلغ ما يريد ولا أقام في أهله حتى يدفن فنزل فيه هذا قاله ابن زيد
والسادس أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام خرج مهاجرا فمات في الطريق ذكره الزبير بن بكار وقوله وقع معناه وجب وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا
قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة روى مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد قال فصلينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غرة لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر والضرب في الأرض السفر والجناح الإثم والقصر النقص والفتنة القتل وفي القصر قولان

أحدهما أنه القصر من عدد الركعات
والثاني أنه القصر من حدودها وظاهر الآية يدل على أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلى الله عليه و سلم وأكثرها لم يخل عن خوف العدو وقيل إن قوله أن تقصروا من الصلاة كلام تام وقوله إن خفتم كلام مبتدأ ومعناه وإن خفتم
واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا فقال قوم ليست مقصورة وإنما فرض المسافر ذلك وهو قول ابن عمر وجابر بن

عبدالله وسعيد بن جبير والسدي وأبي حنيفة فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة ولا يجوز ذلك إلا بوجود السفر والخوف لأن عند هؤلاء أن الركعتين في السفر إذا لم يكن فيه خوف تمام غير قصر واحتجوا بما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين صفا خلفه وصفا موازي العدو فصلى بالذين خلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا وعن ابن عباس أنه قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة
والثاني أنها مقصورة وليست بأصل وهو قول مجاهد وطاووس وأحمد والشافعي قال يعلى بن أمية قلت لعمر بن الخطاب عجبت من قصر الناس اليوم وقد أمنوا وإنما قال الله تعالى إن خفتم فقال عمر عجبت

مما عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
فصل
وإنما يجوز للمسافر القصر إذا كان سفره مباحا وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يجوز له القصر في سفر المعصية فأما مدة الإقامة التي إذا نواها أتم الصلاة وإن نوى أقل منها قصر فقال أصحابنا إقامة اثنين وعشرين صلاة وقال أبو حنيفة خمسة عشر يوما وقال مالك والشافعي اربعة أيام وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فاذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم

وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا
قوله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة سبب نزولها أن المشركين لما رأوا النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه قد صلوا الظهر ندموا إذ لم يكن عليهم فقال بعضهم لبعض دعوهم فان لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعنون العصر فاذا قاموا فشدوا عليهم فلما قاموا إلى صلاة العصر نزل جبريل بهذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
قوله تعالى وإذا كنت فيهم خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم ولا يدل على أن الحكم مقصور عليه فهو كقوله خذ من أموالهم صدقة التوبة 103 وقال أبو يوسف لا تجوز صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه و سلم والهاء والميم من فيهم تعود على الضاربين في الأرض
قوله تعالى فأقمت لهم الصلاة أي ابتدأتها فلتقم طائفة منهم معك أي لتقف ومثله وإذا أظلم عليهم قاموا البقرة 20 وليأخذوا أسلحتهم فيهم قولان
أحدهما أنهم الباقون قاله ابن عباس والثاني أنهم المصلون معه ذكره ابن جرير قال وهذا السلاح كالسيف يتقلده الإنسان والخنجر يشده إلى ذراعه
قوله تعالى فاذا سجدوا يعني المصلين معه فليكونوا في المشار إليها قولان أحدهما أنهم طائفة التي لم تصل أمرت أن تحرس الطائفة المصلية

وهذا معنى قول ابن عباس والثاني أنهم المصلون معه أمروا إذا سجدوا أن ينصرفوا إلى الحرس
واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود فقال قوم إذا أتموا مع الإمام ركعة أتموا لأنفسهم ركعة ثم سلموا وانصرفوا وقد تمت صلاتهم
وقال آخرون ينصرفون عن ركعة واختلف هؤلاء فقال بعضهم إذا صلوا مع الإمام ركعة وسلموا فهي تجزئهم وقال آخرون منهم أبو حنيفة بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحرس وهم على صلاتهم فيكونون في وجه العدو مكان الطائفة الأخرى التي لم تصل وتأتي تلك الطائفة واختلفوا في الطائفة الأخرى فقال قوم إذا صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائتة ثم يسلم بها وقال آخرون بل يسلم هو عند فراغه من الصلاة بهم فاذا سلم قضوا ما فاتهم وقال آخرون بل يصلي بالطائفة الثانية ركعة ويسلم هو ولا تسلم هي بل ترجع إلى وجه العدو ثم تجيء الأولى فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلم وتمضي وتجيء الأخرى فتتم صلاتها وهذا مذهب أبي حنيفة

قوله تعالى وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم قال ابن عباس يريد الذين صلوا أولا وقال الزجاج يجوز أن يريد به الذين وجاه العدو لأن المصلي غير مقاتل ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السلاح لأنه أرهب للعدو وأحرى أن لا يقدموا عليهم والجناح الإثم وهو من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانبا عن القصد والمعنى أنكم إذا وضعتم أسلحتكم لم تعدلوا عن الحق
قوله تعالى إن كان بكم أذى من مطر قال ابن عباس رخص لهم في وضع الأسلحة لثقلها على المريض وفي المطر وقال خذوا حذركم كي لا يتغفلوكم فاذا قضيتم الصلوة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فاذا اطمأننتم فأقيموا الصلوة إن الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا
قوله تعالى فاذا قضيتم الصلاة يعني صلاة الخوف وقضيتم بمعنى فزعتم
قوله تعالى فاذكروا الله في هذا الذكر قولان
أحدهما أنه الذكر لله في غير الصلاة وهذا قول ابن عباس والجمهور قالوا وهو التسبيح والتكبير والدعاء والشكر

والثاني أنه الصلاة فيكون المعنى فصلوا قياما فان لم تستطيعوا فقعودا لم تستطيعوا فعلى جنوبكم هذا قول ابن مسعود وفي المراد بالطمأنينة قولان
أحدهما أنه الرجوع إلى الوطن عن السفر وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة والثاني أنه الأمن بعد الخوف وهو قول السدي والزجاج وأبي سليمان الدمشقي
وفي إقامة الصلاة قولان أحدهما إتمامها قاله مجاهد وقتادة والزجاج وابن قتيبة
والثاني أنه إقامة ركوعها وسجودها وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف هذا قول السدي
قوله تعالى كانت على المؤمنين كتابا موقوتا أي فرضا وفي الموقوت قولان أحدهما أنه بمعنى المفروض قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وابن والثاني أنه الموقت في أوقات معلومة وهو قول ابن مسعود وقتادة وزيد أسلم وابن قتيبة ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى ولا تهنوا في ابتغاء القوم قال أهل التفسير سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه لما انصرفوا من أحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه فشكوا ما بهم من الجراحات فنزلت هذه الآية قال الزجاج ومعنى تضعفوا يقال وهن يهن إذا ضعف وكل ضعف فهو وابتغى القوم طلبهم بالحرب والقوم هاهنا الكفار إن

تكونوا تألمون أي توجعون فانهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتعب كما تجدون وأنتم مع ذلك ترجون مالا يرجون وفي هذا الرجاء قولان أحدهما أنه الأمل قاله مقاتل قال الزجاج وهو إجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم والثاني أنه الخوف رواه أبو صالح عن ابن عباس قال الفراء ولم يوجد الخوف بمعنى الرجاء إلا ومعه جحد فاذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف وكان الرجاء كذلك كقوله ما لكم لا ترجون لله وقارا نوح 13 وقوله لا يرجون أيام الله الجاثية 14 قال الشاعر ... لا ترتجي حين تلاقي الزائدا ... أسبعة لاقت معا أم واحدا ...
وقال الهذلي ... إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل ... ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ... ولا خفتك وأنت تريد رجوتك

قال الزجاج وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف لأنه أمل قد يخاف أن لا يتم فعلى القول الأول يكون المعنى ترجون النصر وإظهار دينكم والجنة وعلى الثاني تخافون من عذاب الله ما لا يخافون إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما
قوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن طعمة بن أبيرق سرق درعا لقتادة بن النعمان وكان الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتشر من خرق الجراب حتى انتهى إلى الدار ثم خبأها عند رجل من اليهود فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده وحلف مالي بها علم فقال أصحابها بلى والله لقد دخل علينا فأخذها وطلبنا أثره حتى دخل داره فرأينا أثر الدقيق فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه فقال دفعها إلي طعمة فقال قوم طعمة إنطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وليجادل عن صاحبنا فانه بديء فأتوه فكلموه في ذلك فهم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي فنزلت هذه الآيات كلها رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن رجلا من اليهود استودع طعمة بن أبيرق درعا فخانها فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبو مليل الأنصاري فجادل قوم طعمة عنه وأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فسألوه أن يبرئه ويكذب اليهودي فنزلت الآيات هذا قول السدي ومقاتل

والثالث أن مشربة رفاعة بن زيد نقبت وأخذ طعامه وسلاحه فاتهم به بنو أبيرق وكانوا ثلاثة بشير ومبشر وبشر فذهب قتادة بن النعمان إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إن أهل بيت منا فيهم جفاء نقبوا مشربة لعمي رفاعة بن زيد وأخذوا سلاحه وطعامه فقال أنظر في ذلك فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت إسلام وصلاح فقال النبي لقتادة رميتهم بالسرقة على غير بينة فنزلت هذه الآيات قاله قتادة بن النعمان
والكتاب القرآن والحق الحكم بالعدل لتحكم بين الناس أي لتقضي بينهم
وفي قوله بما أراك الله قولان
أحدهما أنه الذي علمه والذي علمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إلا ببرهان والثاني أنه ما يؤدي إليه اجتهاده ذكره الماوردي

قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما قال الزجاج لا تكن مخاصما ولا دافعا عن خائن واختلفوا هل خاصم عنه أم لا على قولين
أحدهما أنه قام خطيبا فعذره رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنه هم بذلك ولم يفعله قاله سعيد بن جبير وقتادة قال القاضي أبو يعلى وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره لأن الله تعالى عاتب نبيه على مثل ذلك واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى واستغفر الله في الذي أمر بالاستغفار منه قولان
أحدهما أنه القيام بعذره والثاني أنه العزم على ذلك ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا

قوله تعالى ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أي يخونون أنفسهم فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة قال عكرمة والمراد بهم طعمة بن أبيرق وقومه الذين جادلوا عنه وفي حديث العوفي عن ابن عباس قال انطلق نفر من عشيرة طعمة ليلا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا إن صاحبنا بديء والاستخفاء الاستتار والمعنى يستترون من الناس لئلا يطلعوا على خيانتهم وكذبهم ولا يستترون من الله وهو معهم بالعلم وكل ما فكر فيه أو خيض فيه بليل فقد بيت وجمهور العلماء على أن المشار إليه بالاستخفاء والتبييت قوم طعمة
والذي بيتوا احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب وقال الزجاج هو السارق نفسه والذي بيت أنه قال أرمي اليهودي بأنه سارق الدرع وأحلف أني لم أسرقها فتقبل يميني ولا تقبل يمين اليهودي ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحيوة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيمة أم من يكون عليهم وكيلا
قوله تعالى ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم قال الزجاج ها للتنبيه وأعيدت في أوله والمعنى ها أنتم الذين جادلتم والمجادلة والجدال شدة المخاصمة والجدل شدة الفتل والكلام يعود إلى من احتج عن السارق فأما قوله عنهم فانه عائد إلى السارق وعليهم بمعنى لهم والوكيل القائم بأمر من وكله فكأنه قال من الذي يتوكل لهم منكم في خصومة ربهم ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما
قوله تعالى ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال

أحدها أنها نزلت خطابا للسارق وعرضا للتوبة عليه رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال ابن زيد ومقاتل
والثاني أنها للذين جادلوا عنه من قومه رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أنه عنى بها كل مسيء مذنب ذكره أبو سليمان الدمشقي وإطلاقها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب وفي هذا السوء ثلاثة أقوال
أحدها أنه السرقة والثاني الشرك والثالث أنه كل ما يأثم به وفي هذا الظلم قولان أحدهما أنه رمي البريء بالتهمة والثاني ما دون الشرك ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى ومن يكسب إثما أي ومن يعمل ذنبا فانما يكسبه على نفسه يقول إنما يعود وباله عليه قاله مقاتل وهذه في طعمة أيضا ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا
قوله تعالى ومن يكسب خطيئة أو إثما جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة

بقصة طعمة بن أبيرق وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله ابن أبي بن سلول إذ رمى عائشة عليها السلام بالإفك
وفي قوله خطيئة أو إثما أربعة أقوال
أحدها أن الخطيئة يمين السارق الكاذبة والإثم سرقته الدرع ورميه اليهودي قاله ابن السائب
والثاني أن الخطيئة ما بتعلق به من الذنب والإثم قذفه البريء قاله مقاتل
والثالث أن الخطيئة قد تقع عن عمد وقد تقع عن خطأ والإثم يختص العمد قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي وذكر الزجاج أن الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإثم
والرابع أنه لما سمى الله عز و جل بعض المعاصي خطيئة وبعضها إثما أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين ثم قذف به بريئا فقد احتمل بهتانا ذكره الزجاج أيضا فأما قوله ثم يرم به بريئا أي يقذف بما جناه بريئا منه
فان قيل الخطيئة والإثم اثنان فكيف قال به فعنه أربعة أجوبة
أحدها أنه أراد ثم يرم بهما فاكتفى باعادة الذكر على الاثم من إعادته على الخطيئة كقوله انفضوا إليها فخص التجارة والمعنى للتجارة واللهو
والثاني أن الهاء تعود على الكسب فلما دل ب يكسب على الكسب كنى عنه والثالث أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإثم كأنه قال ومن يكسب ذنبا ثم يرم به ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري
والرابع ان الهاء تعود على الإثم خاصة قاله ابن جرير الطبري
وفي المراد بالبريء الذي قذفه هذا السارق قولان

أحدهما أنه كان يهوديا قاله ابن عباس وعكرمة وابن سيرين وقتادة وابن زيد وسماه عكرمة وقتادة زيد بن السمير
والثاني أنه كان مسلما روي عن ابن عباس وقتادة بن النعمان والسدي ومقاتل واختلفوا في ذلك المسلم فقال الضحاك عن ابن عباس هو عائشة لما قذفها ابن أبي وقال قتادة بن النعمان هو لبيد بن سهل وقال السدي ومقاتل هو أبو مليل الأنصاري فأما البهتان فهو الكذب الذي يحير من عظمه يقال بهت الرجل إذا تحير قال ابن السائب فقد احتمل بهتانا برميه البريء وإثما مبينا بيمينه الكاذبة ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
قوله تعالى ولولا فضل الله عليك ورحمته في سبب نزولها قولان
أحدهما أنها متعلقة بقصة طعمة وقومه حيث لبسوا على النبي صلى الله عليه و سلم أمر صاحبهم هذا قول ابن عباس من طريق ابن السائب
والثاني أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا جئناك نبايعك على أن لا نحشر ولا نعشر وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة فلم يجبهم فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس في رواية الضحاك
وفي المراد بفضل الله ورحمته قولان أحدهما النبوة والعصمة والثاني الإسلام والقرآن رويا عن ابن عباس

قال مقاتل لولا فضل الله عليك حيث بين لك أمر طعمة وحولك بالقرآن عن تصديق الخائن لهمت طائفة منهم أن يضلوك قال الفراء والمعنى لقد همت
فان قيل كيف قال ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة وقد همت باضلاله فالجواب أنه لولا فضل الله عليك ورحمته لظهر تأثير ما هموا به فأما الطائفة فعلي رواية ابن السائب عن ابن عباس قوم طعمة وعلى رواية الضحاك وفد ثقيف
وفي الإضلال قولان أحدهما التخطئة في الحكم والثاني الاستزلال عن الحق
قال الزجاج وما يضلون إلا أنفسهم لأنهم يعملون عمل الضالين فيرجع الضلال إليهم فأما الكتاب فهو القرآن
وفي الحكمة ثلاثة أقوال
أحدها القضاء بالوحي قاله ابن عباس والثاني الحلال والحرام قاله مقاتل والثالث بيان ما في الكتاب وإلهام الصواب وإلقاء صحة الجواب في الروع قاله أبو سليمان الدمشقي وفي قوله وعلمك ما لم تكن تعلم ثلاثة أقوال
أحدها أنه الشرع قاله ابن عباس ومقاتل والثاني أخبار الأولين والآخرين قاله أبو سليمان والثالث الكتاب والحكمة ذكره الماوردي
وفي قوله وكان فضل الله عليك عظيما ثلاثة اقوال
أحدها أنه المنة بالإيمان والثاني المنة بالنبوة هذان عن ابن عباس
والثالث أن عام في جميع الفضل الذي خصه الله به قاله أبو سليمان لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما

قوله تعالى لا خير في كثير من نجواهم قال ابن عباس هم قوم طعمة وقال مقاتل وكلهم يهود تناجوا في أمر طعمة وقال مجاهد هو عام في نجوى جميع الناس قال الزجاج ومعنى النجوى ما تنفرد به الجماعة أو الاثنان سرا كان أو ظاهرا ومعنى نجوت الشيء في اللغة خلصته وألقيته يقال نجوت الجلد إذا ألقيته عن البعير وغيره قال الشاعر ... فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه ... سيرضيكما منها سنام وغاربه ...
وقد نجوت فلانا إذا استنكهته قال الشاعر ... نجوت مجالدا فوجدت منه ... كريح الكلب مات قديم عهد

وأصله كله من النجوة وهو ما ارتفع من الأرض قال الشاعر يصف سيلا ... فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح ...
والمراد بنجواهم ما يدبرونه بينهم من الكلام
فأما قوله إلا من أمر بصدقة فيجوز أن يكون بمعنى إلا في نجوى من أمر بصدقة ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول فيكون بمعنى لكن من أمر بصدقة ففي نجواهم خير وأما قوله أمر بصدقة فالمعنى حث عليها
وأما المعروف ففيه قولان

أحدهما أنه الفرض روي عن ابن عباس ومقاتل والثاني أنه عام في جميع أفعال البر وهو اختيار القاضي أبي يعلى وأبي سليمان الدمشقي ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا
قوله تعالى ومن يشاقق الرسول في سبب نزولها قولان
أحدهما أنه لما نزل القرآن بتكذيب طعمة وبيان ظلمه وخاف على نفسه من القطع والفضيحة هرب إلى مكة فلحق بأهل الشرك فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وقتادة وابن زيد والسدي وقال مقاتل لما قدم مكة نزل على الحجاج بن علاط السلمي فأحسن نزله فبلغه أن في بيته ذهبا فخرج في الليل فنقب حائط البيت فعلموا به فأحاطوا البيت فلما رأوه أرادوا أن يرجموه فاستحيا الحجاج لأنه ضيفه فتركوه فخرج فلحق بحرة بني سليم يعبد صنمهم حتى مات على الشرك فنزل فيه إن الله لا يغفر أن يشرك به ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال غيره بل خرج مع تجار فسرق منهم شيئا فرموه بالحجارة حتى قتلوه وقيل ركب سفينة فسرق فيها مالا فعلم به فألقي في البحر
والقول الثاني أن قوما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا ثم ارتدوا فنزلت فيهم هذه الآية روي عن ابن عباس ومعنى الآية ومن يخالف الرسول في التوحيد والحدود من بعد ما تبين له التوحيد والحكم ويتبع غير دين المسلمين نوله ما تولى أي نكله إلى ما اختار لنفسه ونصله جهنم ندخله إياها

قال ابن فارس تقول صليت اللحم أصليه إذا شويته فان أردت أنك أحرقته قلت أصليته وساءت مصيرا أي مرجعا يصار إليه إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا
قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به في سبب نزولها قولان

أحدهما أنها نزلت في حق طعمة بن أبيرق لما هرب من مكة ومات على الشرك وهذا قول الجمهور منهم سعيد بن جبير
والثاني أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إني منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته وإني لنادم مستغفر فما حالي فنزلت هذه الآية روي عن ابن عباس فأما تفسيرها فقد تقدم إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا
قوله تعالى إن يدعون من دونه إلا إناثا إن بمعنى ما ويدعون بمعنى يعبدون والهاء في دونه ترجع إلى الله عز و جل والقراءة المشهورة إناثا وقرأ سعيد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأبو مجلز وأبو المتوكل وأبو الجوزاء إلا وثنا بفتح الواو والثاء من غير ألف وقرأ ابن عباس وأبو رزين أنثا برفع الهمزة والنون من غير ألف وقرأ أبو العالية ومعاذ القارئ وأبو نهيك أناثا برفع الهمزة وبألف بعد الثاء وقرأ أبو السوار العدوي وأبو شيخ الهنائي أوثانا بهمزة مفتوحة بعدها واو وبألف بعد الثاء وقرأ أبو هريرة والحسن والجوني إلا أنثى على وزن فعلى وقرأ أيوب السختياني إلا وثنا برفع الواو والثاء من غير ألف وقرأ مورق العجلي أثنا برفع الهمزة والثاء من غير ألف قال الزجاج فمن قال إناثا فهو جمع أنثى وإناث ومن قال أنثا فهو جمع إناث ومن قال أثنا فهو جمع وثن والأصل وثن إلا أن الواو إذا انضمت جاز إبدالها همزة كقوله تعالى وإذا الرسل أقتت المرسلات 11

الأصل وقتت وجائز أن يكون أثن أصلها أثن فأتبعت الضمة الضمة وجائز أن يكون أثن مثل أسد وأسد
فأما المفسرون فلهم في معنى الإناث أربعة أقوال
أحدها ان الإناث بمعنى الأموات قاله ابن عباس والحسن في رواية وقتادة قال الحسن كل شيء لا روح فيه كالحجر والخشبة فهو إناث قال الزجاج والموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث تقول من ذلك الأحجار تعجبني والدراهم تنفعني
والثاني أن الإناث الأوثان وهو قول عائشة ومجاهد
والثالث أن الإناث اللات والعزى ومناة كلهن مؤنث وهذا قول أبي مالك وابن زيد والسدي وروى أبو رجاء عن الحسن قال لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه أنثى بني فلان فنزلت هذه الآية
قال الزجاج والمعنى ما يدعون إلا ما يسمونه باسم الإناث
والرابع أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بنات الله قاله الضحاك
وفي المراد بالشيطان ثلاثة أقوال
أحدها شيطان يكون في الصنم قال ابن عباس في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم وقال أبي بن كعب مع كل صنم جنية
والثاني أنه إبليس وعبادته طاعته فيما سول لهم هذا قول مقاتل والزجاج
والثالث أنه أصنامهم التي عبدوا ذكره الماوردي فأما المريد فقال الزجاج المريد المارد وهو الخارج عن الطاعة ومعناه أنه قد مرد في الشر يقال مرد الرجل يمرد مرودا إذا عتا وخرج عن الطاعة وتأويل

المرود أن يبلغ التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف وأصله في اللغة املساس الشيء ومنه قيل للانسان أمرد إذا لم يكن في وجهه شعر وكذلك يقال شجرة مرداء إذا تناثر ورقها وصخرة مرداء إذا كانت ملساء
وفي قوله لعنة الله قولان
أحدهما أنه ابتداء دعاء عليه باللعن وهو قول من قال هو الأوثان
والثاني أنه إخبار عن لعن متقدم وهو قول من قال هو إبليس قال ابن جرير المعنى قد لعنه الله قاله ابن عباس معنى الكلام دحره الله وأخرجه من الجنة وقال يعني إبليس لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا وقال ابن قتيبة اي حظا افترضته لنفسي منهم فأضلهم وقال مقاتل النصيب المفروض أن من كل ألف إنسان واحد في الجنة وسائرهم في النار قال الزجاج الفرض في اللغة القطع والفرضة الثلمة تكون في النهر والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر والفرض فيما ألزمه الله العباد جعله حتما عليهم قاطعا
ولأضلنهم ولأمنينهم ولامرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولامرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا
قوله تعالى ولأضلنهم قال ابن عباس عن سبيل الهدى وقال غيره ليس له من الضلال سوى الدعاء إليه وفي قوله ولأمنينهم أربعة أقوال
أحدها أنه الكذب الذي يخبرهم به قال ابن عباس يقول لهم لا جنة

ولا نار ولا بعث والثاني أنه التسويف بالتوبة روي عن ابن عباس والثالث - أنه إيهامهم أنهم سينالون من الآخرة حظا قاله الزجاج والرابع أنه تزيين الأماني لهم قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى فليبتكن آذان الأنعام قال قتادة وعكرمة والسدي هو شق أذن البحيرة قال الزجاج ومعنى يبتكن يشققن يقال بتكت الشيء أبتكه بتكا إذا قطعته وبتكه وبتك مثل قطعه وقطع وهذا في أذن الناقة وامتنعوا من الانتفاع بها ولم تطرد عن ماء ولا مرعى وإذا لقيها المعيي لم يركبها سول لهم إبليس أن هذا قربة إلى الله تعالى
وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال
أحدها أنه تغيير دين الله رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الحسن في رواية وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والضحاك والسدي وابن زيد ومقاتل وقيل معنى تغيير الدين تحليل وتحريم الحلال
والثاني أنه تغيير الخلق بالخصاء رواه عكرمة عن ابن عباس وهو مروي عن أنس بن مالك وعن مجاهد وقتادة وعكرمة كالقولين
والثالث أنه التغيير بالوشم وهو قول ابن مسعود والحسن في رواية

والرابع أنه تغيير أمر الله رواه أبو شيبة عن عطاء
والخامس أنه عبادة الشمس والقمر والحجارة وتحريم ما حرموا من الأنعام وإنما خلق ذلك للانتفاع به قاله الزجاج
قوله تعالى ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله في المراد بالولي قولان
أحدهما أنه بمعنى الرب قاله مقاتل
والثاني من الموالاة قاله أبو سليمان الدمشقي فان قال قائل من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى قال ولأضلنهم وقال في الأعراف 17 ولا تجد أكثرهم شاكرين وقال في بني إسرائيل 62 لأحتنكن ذريته إلا قليلا فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه ظن ذلك فتحقق ظنه وذلك قوله تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه سبأ 20 قاله الحسن وابن زيد
وفي سبب ذلك الظن قولان
أحدهما أنه لما قال الله تعالى له لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ص 85 علم أنه ينال ما يريد والثاني أنه لما استزل آدم قال ذرية هذا أضعف منه

والثاني أن المعنى لأحرضن ولأجتهدن في ذلك لا انه كان يعلم الغيب قاله ابن الأنباري
والثالث أن من الجائز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون ذكره الماوردي فان قيل فلم اقتصر على بعضهم فقال نصيبا مفروضا وقال ولا تجد أكثرهم شاكرين الأعراف 17 وقال إلا قليلا فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة كما بينا
والثاني أنه لم ينل من آدم كل ما يريد طمع في بعض أولاده وأيس من بعض
والثالث انه لما عاين الجنة والنار علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما فأشار بالنصيب المفروض إلى ساكني النار
قوله تعالى يعدهم يعني الشيطان يعد أولياءه وفيما يعدهم به قولان
أحدهما أنه لا بعث لهم قاله مقاتل والثاني النصرة لهم ذكره أبو سليمان الدمشقي وفيما يمنيهم قولان
أحدهما الغرور والأماني مثل أن يقول سيطول عمرك وتنال من الدنيا مرادك والثاني الظفر بأولياء الله يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا

قوله تعالى وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي باطلا يغرهم به فأما المحيص فقال الزجاج هو المعدل والملجأ يقال حصت عن الرجل أحيص ورووا جضت أجيض بالجيم والضاد بمعنى حصت ولا يجوز ذلك في القرآن وإن كان المعنى واحدا لأن القراءة سنة والذي في القرآن أفصح مما يجوز ويقال حصت أحوص حوصا وحياصة إذا خطت قال الأصمعي يقال حص عين صقرك أي خط عينه والحوص في العين ضيق مؤخرها ويقال وقع في حيص بيص وحاص باص إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا
قوله تعالى ليس بأمانيكم في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن أهل الأديان اختصموا فقال أهل التوراة كتابنا خير الكتب ونبينا خير الأنبياء وقال أهل الإنجيل مثل ذلك وقال المسلمون كتابنا نسخ كل كتاب ونبينا خاتم الأنبياء فنزلت هذه الآية ثم خير بين

الأديان بقوله ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله رواه العوفي عن ابن عباس وإلى هذا المعنى ذهب مسروق وأبو صالح وقتادة والسدي
والثاني أن العرب قالت لا نبعث ولا نعذب ولا نحاسب فنزلت هذه الآية هذا قول مجاهد
والثالث أن اليهود والنصارى قالوا لا يدخل الجنة غيرنا وقالت قريش لا نبعث فنزلت هذه الآية هذا قول عكرمة
قال الزجاج اسم ليس مضمر والمعنى ليس ثواب الله عز و جل بأمانيكم وقد جرى ما يدل على الثواب وهو قوله سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار وفي المشار إليهم بقوله أمانيكم قولان
أحدهما أنهم المسلمون على قول الأكثرين
والثاني المشركون على قول مجاهد فأما أماني المسلمين فما نقل من قولهم كتابنا ناسخ للكتب ونبينا خاتم الأنبياء وأماني المشركين قولهم لا نبعث وأماني أهل الكتاب قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وإن النار لا تمسنا إلا أياما معدودة وإن كتابنا خير الكتب ونبينا خير الأنبياء فأخبر الله عز و جل أن دخول الجنة والجزاء بالأعمال لا بالأماني وفي المراد بالسوء قولان
أحدهما أنه المعاصي ومنه حديث أبي بكر الصديق أنه قال يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية ومن يعمل سوءا يجز به فاذا عملنا سوءا جزينا

به فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به
والثاني أنه الشرك قاله ابن عباس ويحيى بن أبي كثير وفي هذا الجزاء قولان أحدهما أنه عام في كل من عمل سوءا فانه يجازى به وهو معنى قول أبي بن كعب وعائشة واختاره ابن جرير واستدل عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه
والثاني أنه خاص في الكفار يجازون بكل ما فعلوا فأما المؤمن فلا يجازى بكل ما جنى قاله الحسن البصري وقال ابن زيد وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيآتهم ولم يعد المشركين
قوله تعالى ولا يجد له من دون الله وليا قال أبو سليمان لا يجد من أراد الله أن يجزيه بشيء من عمله وليا وهو القريب ولا ناصرا يمنعه من عذاب الله وجزائه

ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا
قوله تعالى ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن قال مسروق لما نزلت ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت ومن يعمل من الصالحات الآية وهذه تدل على ارتباط الإيمان بالعمل الصالح فلا يقبل أحدهما إلا بوجود الآخر وقد سبق ذكر النقير ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا
قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله قال ابن عباس خير الله بين الأديان بهذه الآية وأسلم بمعنى أخلص وفي الوجه قولان
أحدهما أنه الدين والثاني العمل وفي الاحسان قولان أحدهما أنه التوحيد قاله ابن عباس والثاني القيام لله بما فرض الله قاله أبو سليمان الدمشقي
وفي اتباع ملة إبراهيم قولان أحدهما اتباعه على التوحيد والطاعة
والثاني اتباع شريعته اختاره القاضي أبو يعلى فأما الخليل فقال ابن عباس الخليل الصفي وقال غيره المصافي وقال الزجاج هو المحب الذي ليس في محبته خلل قال وقيل الخليل الفقير فجائز أن يكون إبراهيم سمي خليل الله بأنه أحبه محبة كاملة وجائز أن يكون لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إليه والخلة الصداقة لأن كل واحد يسد خلل صاحبه والخلة بفتح الخاء الحاجة سميت خلة للاختلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إليه

وسمي الخل الذي يؤكل خلا لأنه اختل منه طعم الحلاوة وقال ابن الأنباري الخليل فعيل من الخلة والخلة المودة وقال بعض أهل اللغة الخليل المحب والمحب الذي ليس في محبته نقص ولا خلل والمعنى أنه كان يحب الله ويحبه الله محبة لا نقص فيها ولا خلل ويقال الخليل الفقير فالمعنى اتخذه فقيرا إليه ينزل فقره وفاقته به لا بغيره وفي سبب اتخاذ الله له خليلا ثلاثة أقوال
أحدها أنه اتخذه خليلا لإطعامه الطعام روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا قال لإطعامه الطعام
والثاني أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام وكانت له ميرة من صديق له بمصر في كل سنة فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه فلم يعطهم شيئا فقالوا لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فملؤوا الغرائر رملا ثم أتوا إبراهيم عليه السلام فأعلموه فاهتم إبراهيم لأجل الخلق فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان ففتحت الغرائر فاذا دقيق حواري فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ إبراهيم فقال من أين هذا الطعام فقالت من عند خليلك المصري فقال بل من عند خليلي الله عز و جل فيومئذ اتخذه الله خليلا رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أنه اتخذه خليلا لكسره الأصنام وجداله قومه قاله مقاتل

ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا
قوله تعالى وكان الله بكل شيء محيطا أي أحاط علمه بكل شيء ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فان الله كان به عليما
قوله تعالى ويستفتونك في النساء في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال فلما فرض الله المواريث في هذه السورة شق ذلك عليهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وابن زيد
والثاني أن ولي اليتيمة كان يتزوجها إذا كانت جميلة وهويها فيأكل مالها وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت فاذا ماتت ورثها فنزلت هذه

الآية رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أنهم كانوا لا يؤتون النساء صدقاتهن ويتملك ذلك أولياؤهن فلما نزل قوله وآتوا النساء صدقاتهن نحلة سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فنزلت هذه الآية هذا قول عائشة رضي الله عنها
والرابع أن رجلا كانت له امرأة كبيرة وله منها أولاد فأراد طلاقها فقالت لا تفعل وأقسم لي في كل شهر إن شئت أو أكثر فقال لئن كان هذا يصلح فهو أحب إلي فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر له ذلك فقال قد سمع الله ما تقول فان شاء أجابك فنزلت هذه الآية والتي بعدها رواه سالم الأفطس عن سعيد بن جبير

والخامس أن ولي اليتيمة كان إذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها فنزلت هذه الآية ونهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق ذكره القاضي أبو يعلى
وقوله ويستفتونك أي يطلبون الفتوى وهي تبيين المشكل من الأحكام وقيل الاستفتاء الاستخبار قال المفسرون والذي استفتوه فيه ميراث النساء وذلك أنهم قالوا كيف ترث المرأة والصبي الصغير
قوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب قال الزجاج موضع ما رفع المعنى الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب أيضا يفتيكم فيهن وهو قوله وآتوا اليتامى أموالهم الآية
والذي تلي عليهم في التزويج قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء النساء 3
وفي يتامى النساء قولان
أحدهما أنهن النساء اليتامى فأضيفت الصفة إلى الاسم كما تقول يوم الجمعة
والثاني أنهن أمهات اليتامى فأضيف إليهن أولادهن اليتامى
وفي الذي كتب لهن قولان
أحدهما أنه الميراث قاله ابن عباس ومجاهد في آخرين والثاني أنه الصداق ثم في المخاطب بهذا قولان

أحدهما أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها والثاني ولي اليتيمة كان إذا تزوجها لم يعدل في صداقها وفي قوله وترغبون أن تنكحوهن قولان
أحدهما وترغبون أن تنكحوهن رغبة في جمالهن وأموالهن هذا قول عائشة وعبيدة والثاني وترغبون عن نكاحهن لقبحهن فتمسكوهن رغبة في أموالهن وهذا قول الحسن
قوله تعالى والمستضعفين من الولدان قال الزجاج موضع المستضعفين خفض على قوله وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء المعنى وفي الولدان قال ابن عباس يريد أنهم لم يكونوا يورثون صغيرا من الغلمان والجواري فنهاهم الله عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه
قوله تعالى وأن تقوموا لليتامى بالقسط قال الزجاج موضع أن خفض فالمعنى في يتامى النساء وفي أن تقوموا باليتامى بالقسط قال ابن عباس يريد العدل في مهورهن ومواريثهن وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فان الله كان بما تعملون خبيرا
قوله تعالى وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن سودة خشيت أن يطلقها رسول لله صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس

والثاني أن بنت محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا وإما غيره فأراد طلاقها فقالت لا تطلقني واقسم لي ما شئت فنزلت هذه الآية رواه الزهري عن سعيد بن المسيب قال مقاتل واسمها خويلة
والثالث قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها وقالت عائشة نزلت في المرأة تكون عند الرجل فلا يستكثر منها ويريد فراقها ولعلها تكون له محبة أو يكون لها ولد فتكره فراقه فتقول له لا تطلقني وأمسكني وأنت في حل من شأني رواه البخاري ومسلم

وفي خوف النشوز قولان أحدهما أنه العلم به عند ظهوره
والثاني الحذر من وجوده لأماراته قال الزجاج والنشوز من بعل المرأة أن يسيء عشرتها وأن يمنعها نفسه ونفقته وقال أبو سليمان نشوزا أي نبوا عنها إلى غيرها وإعراضا عنها واشتغالا بغيرها فلا جناحا عليهما أن يصلحا بينهما قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر يصالحا بينهما بفتح الياء والتشديد والأصل يتصالحا فأدغمت التاء في الصاد وقرأ عاصم وحمزة والكسائي يصلحا بضم الياء والتخفيف قال المفسرون والمعنى أن يوقعا بينهما أمرا يرضيان به وتدوم بينهم الصحبة مثل أن تصبر على تفضيله وروي عن علي وابن عباس أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن يجعله لغيرها وفي قوله والصلح خير قولان
أحدهما خير من الفرقة قاله مقاتل والزجاج
والثاني خير من النشوز والإعراض ذكره الماوردي قال قتادة متى ما رضيت بدون ما كان لها واصطلحا عليه جاز فان أبت لم يصلح أن يحبسها على الخسف
قوله تعالى وأحضرت الأنفس الشح أحضرت بمعنى ألزمت والشح الإفراط في الحرص على الشيء وقال ابن فارس الشح البخل مع الحرص وتشاح الرجلان على الأمر لا يريدان أن يفوتهما وفيمن يعود إليه هذا الشح من الزوجين قولان
أحدهما المرأة فتقديره وأحضرت نفس المرأة الشح بحقها من زوجها هذا قاول ابن عباس وسعيد بن جبير

والثاني الزوجان جميعا فالمرأة تشح على مكانها من زوجها والرجل يشح عليها بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه هذا قول الزجاج وقال ابن زيد لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحلله ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها فتعطفه عليها
قوله تعالى وإن تحسنوا فيه قولان
أحدهما بالصبر على التي يكرهها والثاني بالإحسان إليها في عشرتها
قوله تعالى وتتقوا يعني الجور عليها فان الله كان بما تعملون خبيرا فيجازيكم عليه ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فان الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء قال أهل التفسير لن تطيقوا أن تسووا بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع لأن ذلك ليس من كسبكم ولو حرصتم على ذلك فلا تميلوا إلى التي تحبون في النفقة

والقسم وقال مجاهد لا تتعمدوا الإساءة فتذروا الأخرى كالمعلقة قال ابن عباس المعلقة التي لا هي أيم ولا ذات بعل وقال قتادة المعلقة المسجونة
قوله تعالى وإن تصلحوا أي بالعدل في القسمة وتتقوا الجور فان الله كان غفورا لميل القلوب وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فان لله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا
قوله تعالى وإن يتفرقا يقول وإن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بايثار التي يميل إليها واختارت الفرقة فان الله يغني كل واحد من سعته قال ابن السائب يغني المرأة برجل والرجل بامرأة ثم ذكر ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير فقال ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الكتب وإياكم يا أهل القرآن أن اتقوا الله قيل وحدوه وإن تكفروا بما أوصاكم به فان لله ما في السموات وما في الأرض فلا يضره خلافكم وقيل له ما في السموات وما في الأرض من الملائكة فهم أطوع له منكم وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الغني الحميد وفي آل عمران معنى الوكيل إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا

قوله تعالى أن يشأ يذهبكم أيها الناس قال ابن عباس يريد المشركين والمنافقين ويأت بآخرين أطوع له منكم وقال أبو سليمان هذا تهدد للكفار يقول إن يشأ يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا به وكذبوا رسله من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا
قوله تعالى من كان يريد ثواب الدنيا قيل إن هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدقون بالقيامة وإنما يطلبون عاجل الدنيا ذكره أبو سليمان وقال الزجاج كان مشركو العرب يتقربون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها ولا يؤمنون بالبعث فأعلم الله عز و جل أن خير الدنيا والآخرة عنده وذكر الماوردي أن المراد بثواب الدنيا الغنيمة في الجهاد وثواب الآخرة الجنة قال والمراد بالآية حث المجاهد على قصد ثواب الله يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط في سبب نزولها قولان

أحدهما أن فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فكان صغوه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فنزلت هذه الآية هذا قولا السدي
والثاني أنها متعلقة بقصة ابن أبيرق فهي خطاب للذين جادلوا عنه ذكره أبو سليمان الدمشقي والقوام مبالغة من قائم والقسط العدل قال ابن عباس كونوا قوالين بالعدل في الشهادة على من كانت ولو على أنفسكم وقال الزجاج معنى الكلام قوموا بالعدل واشهدوا لله بالحق وإن كان الحق على الشاهد أو على والديه أو قريبه إن يكن المشهود له غنيا فالله أولى به وإن يكن فقيرا فالله أولى به فأما الشهادة على النفس فهي إقرار الإنسان بما عليه من حق وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إلى فقر المشهود عليه ولا إلى غناه فان الله تعالى أولى بالنظر إليهما قال عطاء لا تحيفوا على الفقير ولا تعظموا الغني فتمسكوا عن القول فيه وممن قال إن الآية نزلت في الشهادات ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري و قتادة والضحاك
قوله تعالى فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا فيه أربعة أقوال
أحدها أن معناه فلا تتبعوا الهوى واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق قاله مقاتل
والثاني ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا قاله الزجاج والثالث فلا تتبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحق والرابع فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا ذكرهما الماوردي
قوله تعالى وإن تلووا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم

والكسائي تلووا بواوين الأولى مضمومة واللام ساكنة
وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال
أحدها أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إلى غير الحق قال ابن عباس يلوي لسانه بغير الحق ولا يقيم الشهادة على وجهها أو يعرض عنها ويتركها وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد
والثاني أن يلوي الحاكم وجهه إلى بعض الخصوم أو يعرض عن بعضهم روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أن يلوي الإنسان عنقه إعراضا عن أمر الله لكبره وعتوه
ويكون أو تعرضوا بمعنى وتعرضوا ذكره الماوردي وقرأ الأعمش وحمزة وابن عامر تلوا بواو واحدة واللام مضمومة والمعنى أن تلوا أمور الناس أو تتركوا فيكون الخطاب للحكام يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله في سبب نزولها قولان
أحدهما أن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلاما وسلمة ويامين وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم

فقالوا يا رسولا الله نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني أن مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا فنزلت هذه الآية هذا قول مقاتل
وفي المشار إليهم بقوله يا أيها الذين آمنوا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم المسلمون قاله الحسن فيكون المعنى يا أيها الذين آمنوا بمحمد والقرآن اثبتوا على إيمانكم
والثاني اليهود والنصارى قاله الضحاك فيكون المعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن
والثالث المنافقون قاله مجاهد فيكون المعنى يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بألسنتهم آمنوا بقلوبكم
قوله تعالى والكتاب الذي نزل على رسوله قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل مضمومتين
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل مفتوحتين والمراد بالكتاب الذي نزل على رسوله القرآن والكتاب الذي أنزل من قبل كل كتاب أنزل قبل القرآن فيكون الكتاب هاهنا اسم جنس إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا

قوله تعالى إن الذين آمنوا ثم كفروا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال
أحدها أنها في اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بعد موسى ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعده بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه و سلم هذا قول ابن عباس وروي عن قتادة قال آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادة العجل ثم آمنوا به بعد عوده ثم كفروا بعده بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد
والثاني أنها في اليهود والنصارى آمن اليهود بالتوراة وكفروا بالإنجيل وآمن النصارى بالإنجيل ثم تركوه فكفروا به ثم ازدادوا كفرا بالقرآن وبمحمد رواه شيبان عن قتادة وروي عن الحسن قال هم قوم من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المؤمنين فكانوا يظهرون بالإيمان ثم الكفر ثم ازدادوا كفرا بثبوتهم على دينهم وقال مقاتل آمنوا بالتوراة وموسى ثم كفروا من بعد موسى ثم آمنوا بعيسى والإنجيل ثم كفروا من بعده ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن
والثالث أنها في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم قاله مجاهد وروى ابن جريج عن مجاهد ثم ازدادوا كفرا قال ثبتوا عليه حتى ماتوا قال ابن عباس لم يكن الله ليغفر لهم ما أقاموا على ذلك ولا ليهديهم سبيلا أي لا يجعلهم بكفرهم مهتدين قال وإنما علق امتناع المغفرة بكفر بعد كفر لأن المؤمن بعد الكفر يغفر له كفره فاذا ارتد طولب بالكفر الأول بشر المنافقين بان لهم عذابا أليما
قوله تعالى بشر المنافقين زعم مقاتل أنه لما نزلت المغفرة في سورة

الفتح للنبي والمؤمنين قال عبد الله بن أبي ونفر معه فما لنا فنزلت هذه الآية
وقال غيره كان المنافقون يتولون اليهود فألحقوا بهم في التبشير بالعذاب وقال الزجاج معنى الآية اجعل موضع بشارتهم العذاب والعرب تقول تحيتك الضرب أي هذا بدل لك من التحية قال الشاعر ... وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع ...
الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا
قوله تعالى الذين يتخذون الكافرين أولياء قال ابن عباس يتخذون اليهود أولياء في العون والنصرة
قوله تعالى أيبتغون عندهم العزة أي القوة بالظهور على محمد وأصحابه والمعنى أيتقون بهم قال مقاتل وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الزجاج أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزة

والعزة المنعة وشدة الغلبة وهو مأخوذ من قولهم ارض عزاز قال الأصمعي العزاز الأرض التي لا تنبت فتأويل العزة الغلبة والشدة التي لا يتعلق بها إذلال قالت الخنساء ... كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عز بزا ...
أي من قوي وغلب سلب ويقال قد استعز على المريض أي اشتد وجعه وكذلك قول الناس يعز علي أن يفعل أي يشتد وقولهم قد عز الشيء إذا لم يوجد معناه صعب أن يوجد والباب واحد

وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا
قوله تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب وقرأ عاصم ويعقوب نزل بفتح النون والزاي قال المفسرون الذي نزل عليهم في النهي عن مجالستهم قوله في الأنعام 68 وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن ويكذبون به فنهى الله المسلمين عن مجالستهم وآيات الله هي القرآن والمعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير الكفر والاستهزاء إنكم إن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك فأنتم مثلهم وفي ماذا تقع الممماثلة فيه قولان
أحدهما في العصيان والثاني في الرضى بحالهم لأن مجالس الكافر غير كافر وقد نبهت الآية على التحذير من مجالسة العصاة قال إبراهيم النخعي إن

الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة فيرضي الله بها فتصيبه الرحمة فتعم من حوله وإن الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة فيسخط الله بها فيصيبه السخط فيعم من حوله الذين يتربصون بكم فان كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيمة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
قوله تعالى الذين يتربصون بكم قال أبو سليمان هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة قال مقاتل كان المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائر فان كان الفتح قالوا ألم نكن معكم فاعطونا من الغنيمة وإن كان للكافرين نصيب أي دولة على المؤمنين قالوا للكفار ألم نستحوذ عليكم قال المبرد ومعنى ألم نستحوذ عليكم ألم نغلبكم على رأيكم وقال الزجاج ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم ونستحوذ في اللغة بمعنى نستولي يقال حذت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها وقال غيره ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة وقال ابن جريج ألم نبين لكم أنا على دينكم وفي قوله ونمنعكم من المؤمنين ثلاثة أقوال
أحدها نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم والثاني بما نعلمكم من أخبارهم
والثالث بصرفنا إياكم عن الدخول في الإيمان ومراد الكلام إظهار المنة من المنافقين على الكفار أي فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم

قوله تعالى فالله يحكم بينكم يوم القيامة يعني المؤمنين والمنافقين قال ابن عباس يريد أنه أخر عقاب المنافقين
قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة روى يسيع الحضرمي عن علي بن أبي طالب أن رجلا جاءه فقال أرأيت قول الله عز و جل ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون فقال ولن يجعل الله للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلا هذا مروي عن ابن عباس وقتادة
والثاني أن المراذ بالسبيل الظهور عليهم يعني أن المؤمنين هم الظاهرون والعاقبة لهم وهذا المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس والثالث أن السبيل الحجة قال السدي لم يجعل الله عليهم حجة يعني فيما فعلوا بهم من القتل والإخراج من الديار قال ابن جرير لما وعد الله المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ولا المؤمنين مدخل المنافقين لم يكن للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم أنتم كنتم أعداءنا وكان المنافقون أولياءنا وقد اجتمعتم في النار

إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلوة قاموا كسالى يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا
قوله تعالى إن المنافقين يخادعون الله أي يعملون عمل المخادع وقيل يخادعون نبيه وهو خادعهم أي مجازيهم على خداعهم وقال الزجاج لما أمر بقبول ما أظهروا كان خادعا لهم بذلك وقيل خداعه إياهم يكون في القيامة باطفاء نورهم وقد شرحنا طرفا من هذا في البقرة
قوله تعالى وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى أي متثاقلين وكسالى جمع كسلان والكسل التثاقل عن الأمر وقرأ أبو عمران الجوني كسلى بفتح الكاف وقرأ ابن السميفع كسلى بفتح الكاف من غير ألف وإنما كانوا هكذا لأنهم يصلون حذرا على دمائهم لا يرجون بفعلها ثوابا ولا يخافون بتركها عقابا

قوله تعالى يراؤون الناس أي يصلون ليراهم الناس قال قتادة والله لولا الناس ما صلى المنافق وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال
أحدها أنه سمي قليلا لأنه غير مقبول قاله علي رضي الله عنه وقتادة
والثاني لأنه رياء ولو كان لله لكان كثيرا قاله ابن عباس والحسن
والثالث أنه قليل في نفسه لأنهم يقتصرون على ما يظهر دون ما يخفى من القراءة والتسبيح ذكره الماوردي مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
قوله تعالى مذبذبين بين ذلك المذبذب المتردد بين أمرين وأصل التذبذب التحرك والاضطراب وهذه صفة المنافق لأنه محير في دينه لا يرجع إلى اعتقاد صحيح قال قتادة ليسوا بالمشركين المصرحين بالشرك ولا بالمؤمنين المخلصين قال ابن زيد ومعنى بين ذلك بين الاسلام والكفر لم يظهروا الكفر فيكونوا إلى الكفار ولم يصدقوا الإيمان فيكونوا إلى المؤمنين قال ابن عباس ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا إلى الهدى وقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تدري أيها تتبع

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا
قوله تعالى لا تتخذوا الكافرين أولياء في المراد بالكافرين قولان
أحدهما اليهود قاله ابن عباس
والثاني المنافقون قال الزجاج ومعنى الآية لا تجعلوهم بطانتكم وخاصتكم
والسلطان الحجة الظاهرة وإنما قيل للأمير سلطان لأنه حجة الله في أرضه واشتقاق السلطان من السليط والسليط ما يستضاء به ومن هذا قيل للزيت السليط والعرب تؤنث السلطان وتذكره تقول قضت عليك السلطان وأمرتك السلطان والتذكير أكثر وبه جاء القرآن فمن أنث ذهب إلى معنى الحجة ومن ذكر أراد صاحب السلطان قال ابن الأنباري تقدير الآية أتريدون أن تجعلوا لله عليكم بموالاة الكافرين حجة بينة تلزمكم عذابه وتكسبكم غضبه إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا
قوله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بفتح الراء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتسكين الراء قال الفراء وهي لغتان قال أبو عبيدة جهنم أدراك أي منازل

وأطباق فكل منزل منها درك وحكى ابن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال الدركات مراق بعضها تحت بعض وقال الضحاك الدرج إذا كان بعضها فوق بعض والدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض وقال ابن فارس الجنة درجات والنار دركات وقال ابن مسعود في هذه الآية هم في توابيت من حديد مبهمة عليهم قال ابن الأنباري المبهمة التي لا أقفال عليها يقال أمر مبهم إذا كان ملتبسا لا يعرف معناه ولا بابه
قوله تعالى ولن تجد لهم نصيرا قال ابن عباس مانعا من عذاب الله إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما
قوله تعالى إلا الذين تابوا قال مقاتل سبب نزولها أن قوما قالوا عند ذكر مستقر المنافقين فقد كان فلان وفلان منافقين فتابوا فكيف يفعل بهم

فنزلت هذه الآية ومعنى الآية إلا الذين تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم بعد التوبة واعتصموا بالله أي استمسكوا بدينه وأخلصوا دينهم فيه قولان
أحدهما أنه الإسلام وإخلاصه رفع الشرك عنه قاله مقاتل
والثاني أنه العمل وإخلاصه رفع شوائب النفاق والرياء منه قاله أبو سليمان الدمشقي
قوله تعالى فأولئك مع المؤمنين في مع قولان
أحدهما أنها على أصلها وهو الاقتران وفي ماذا اقترنوا بالمؤمنين فيه قولان
أحدهما في الولاية قاله مقاتل والثاني في الدين والثواب قاله أبو سليمان
والثاني أنها بمعنى من فتقديره فأولئك من المؤمنين قاله الفراء ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما
قوله تعالى ما يفعل الله بعذابكم ما حرف استفهام ومعناه التقرير

أي إن الله لا يعذب الشاكر المؤمن ومعنى الآية ما يصنع الله بعذابكم إن شكرتم نعمه وآمنتم به وبرسوله والإيمان مقدم في المعنى وإن أخر في اللفظ وروي عن ابن عباس أن المراد بالشكر التوحيد
قوله تعالى وكان الله شاكرا عليما أي للقليل من أعمالكم عليما بنياتكم وقيل شاكرا أي قابلا لا يحب الله الجهر بالسوء من القول في سبب نزولها قولان
أحدهما أن ضيفا تضيف قوما فأساؤوا قراه فاشتكاهم فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكوا قاله مجاهد

والثاني أن رجلا نال من أبي بكر الصديق والنبي صلى الله عليه و سلم حاضر فسكت عنه أبو بكر مرارا ثم رد عليه فقام النبي صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئا حتى إذا رددت عليه قمت فقال إن ملكا كان يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب الملك وجاء الشيطان فنزلت هذه الآية هذا قول مقاتل واختلف القراء في قراءة إلا من ظلم فقرأ الجمهور بضم الظاء وكسر اللام وقرأ عبد الله بن عمرو والحسن وابن المسيب وأبو رجاء وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم بفتحهما

فعلى قراءة الجمهور في معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها إلا أن يدعو المظلوم علة من ظلمه فان الله قد أرخص له قاله ابن عباس والثاني إلا أن ينتصر المظلوم من ظالمه قاله الحسن والسدي
والثالث إلا أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
وروى ابن جريج عنه قال إلا أن يجهر الضيف بذم من لم يضيفه فأما قراءة من فتح الظاء فقال ثعلب هي مردودة على قوله ما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم وذكر الزجاج فيها قولين
أحدهما أن المعنى إلا أن الظالم يجهر بالسوء ظلما
والثاني إلا أن تجهروا بالسوء للظالم فعلى هذا تكون إلا في هذا المكان استثناء منقطع ومعناها لكن المظلوم يجوز له أن يجهر لظالمه بالسوء ولكن الظالم قد يجهر له بالسوء فاجهروا له بالسوء وقال ابن زيد إلا من ظلم أي أقام على النفاق فيجهر له بالسوء حتى ينزع

قوله تعالى وكان الله سميعا أي لما تجهرون به من سوء القول عليما بما تخفون وقيل سميعا لقوم المظلوم عليما بما في قلبه فليتق الله ولا يقل إلا الحق وقال الحسن من ظلم فقد رخص له أن يدعو على ظالمه من غير أن يعتدي مثل أن يقول اللهم أعني عليه اللهم استخرج لي حقي اللهم حل بينه وبين ما يريد إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فان الله كان عفوا قديرا
قوله تعالى إن تبدوا خيرا قال ابن عباس يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة وقال بعضهم إن تبدوا خيرا بدلا من السوء وأكثرهم على أن الهاء في تخفوه تعود إلى الخير وقال بعضهم تعود إلى السوء
قوله تعالى فان الله كان عفوا قال أبو سليمان أي لم يزل ذا عفو مع قدرته فاعفوا أنتم مع القدرة إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا
قوله تعالى إن الذين يكفرون بالله ورسله فيهم قولان

أحدهما أنهم اليهود كانوا يؤمنون بموسى وعزير والتوراة ويكفرون بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن قاله ابن عباس
والثاني أنهم اليهود والنصارى آمن اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى وآمن النصارى بالإنجيل وعيسى وكفروا بمحمد والقرآن قاله قتادة ومعنى قوله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله والإيمان برسله ولا يصح الإيمان به والتكذيب برسله أو ببعضهم ويريدون أن يتخذوا بين ذلك أي بين إيمانهم ببعض الرسل وتكذيبهم ببعض سبيلا أي مذهبا يذهبون إليه وقال ابن جريج دينا يدينون به أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى أولئك هم الكافرون حقا ذكر الحق هاهنا توكيدا لكفرهم إزالة لتوهم من يتوهم أن إيمانهم ببعض الرسل يزيل عنهم اسم الكفر يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا
قوله تعالى يسألك أهل الكتاب في سبب نزولها ثلاثة أقوال

أحدها أنهم سألوه أن ينزل كتابا عليهم خاصة هذا قول الحسن وقتادة
والثاني أن اليهود والنصارى أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا لا نبايعك حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله وإلىفلان بكتاب أنك رسول الله فنزلت هذه الآية هذا قول ابن جريج هذا قول ابن جريج
والثالث أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه و سلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا كما نزلت التوراة على موسى هذا قول القرظي والسدي
وفي المراد بأهل الكتاب قولان أحدهما اليهود والنصارى والثاني اليهود
وفي المراد بأهل الكتاب المنزل من السماء قولان
أحدهما كتاب مكتوب غير القرآن
والثاني كتاب بتصديقه في رسالته وقد بينا في البقرة معنى سؤالهم روية الله جهرة واتخاذهم العجل والبينات الآيات التي جاء بها موسى فان قيل كيف قال ثم اتخذوا العجل وثم تقتضي التراخي والتأخر أفكان اتخاذ العجل بعد قولهم أرنا الله جهرة فعنه أربعة أجوبة ذكرهن ابن الأنباري
أحدهن أن تكون ثم مردودة على فعلهم القديم والمعنى وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة فخالفوا أيضا ثم اتخذوا العجل
والثاني أن تكون مقدمة في المعنى مؤخرة في اللفظ والتقدير فقد اتخذوا العجل ثم سألوا موسى أكبر من ذلك ومثله فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون النمل 28 المعنى فألقه إليهم ثم انظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم

والثالث أن المعنى ثم كانوا اتخذوا العجل فأضمر الكون
والرابع أن ثم معناها التأخير في الإخبار والتقديم في الفعل كما يقول القائل شربت الماء ثم أكلت الخبز يريد شربت الماء ثم أخبركم أني أكلت الخبز بعد إخباري بشرب الماء
قوله تعالى فعفونا عن ذلك أي لم نستأصل عبدة العجل والسلطان المبين الحجة البينة قال ابن عباس اليد والعصا وقال غيره الآيات التسع ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا
قوله تعالى ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم أي بما أعطوا الله من العهد والميثاق ليعملن بما في التوراة
قوله تعالى لا تعدوا في السبت قرأ نافع لا تعدوا بتسكين العين وتشديد الدال وروى عنه ورش تعدوا بفتح العين وتشديد الدال وقرأ الباقون تعدوا خفيفة وكلهم ضم الدال وقد ذكرنا هذا وغيره في البقرة والميثاق الغليظ العهد المؤكد

فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا
قوله تعالى فبما نقضهم ميثاقهم ما صلة مؤكدة قال الزجاج والمعنى فبنقضهم ميثاقهم وهو أن الله أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا ما أنزل عليهم من ذكر النبي صلى الله عليه و سلم وغيره والجالب للباء العامل فيها وقوله حرمنا عليهم طيبات أي بنقضهم ميثاقهم والأشياء التي ذكرت بعده حرمنا عليهم وقوله فبظلم بدل من قوله فبما نقضهم وجعل الله جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم وقال ابن فارس الطبع الختم و من ذلك طبع الله على قلب الكافر كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور فلم يوفق لخير والطابع الخاتم يختم به
قوله تعالى فلا يؤمنون إلا قليلا فيه قولان
أحدهما فلا يؤمن منهم إلا القليل وهم عبد الله بن سلام وأصحابه قاله ابن عباس والثاني المعنى إيمانهم قليل وهو قولهم ربنا الله قاله مجاهد وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما
قوله تعالى وبكفرهم في إعادة ذكر الكفر فائدة وفيها قولان

أحدهما أنه أراد وبكفرهم بمحمد والقرآن قاله ابن عباس
والثاني وبكفرهم بالمسيح وقد بشروا به قاله أبو سليمان الدمشقي فأما البهتان فهو في قول الجماعة قذفهم مريم بالزنى وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما
قوله تعالى وقولهم إنا قتلنا المسيح قال الزجاج أي باعترافهم بقتلهم إياه وما قتلوه يعذبون عذاب من قتل لأنهم قتلوا الذي قتلوا على أنه نبي وفي قوله رسول الله قولان
أحدهما أنه من قول اليهود فيكون المعنى أنه رسول الله على زعمه
والثاني أنه من قول الله لا على وجه الحكاية عنهم
قوله تعالى ولكن شبه لهم أي ألقي شبهه على غيره
وفيمن ألقي عليه شبهه قولان
أحدهما أنه بعض من أراد قتله من اليهود روى أبو صالح عن ابن عباس أن اليهود لما اجتمعت على قتل عيسى أدخله جبريل خوخة لها روزنة ودخل وراءه رجل منهم فألقى الله عليه شبه عيسى فلما خرج على أصحابه قتلوه يظنونه عيسى ثم صلبوه وبهذا قال مقاتل وأبو سليمان
والثاني أنه رجل من أصحاب عيسى روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن عيسى خرج على أصحابه لما أراد الله رفعه فقال أيكم يلقى عليه

شبهي فيقتل مكاني ويكون في درجتي فقام شاب فقال أنا فقال اجلس ثم أعاد القول فقام الشاب فقال عيسى اجلس ثم أعاد فقال الشاب أنا فقال نعم أنت ذاك فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى وجاء اليهود فأخذوا الرجل فقتلوه ثم صلبوه وبهذا القول قال وهب بن منبه وقتادة والسدي
قوله تعالى وإن الذين اختلفوا فيه في المختلفين قولان
أحدهما أنهم اليهود فعلى هذا في هاء فيه قولان
أحدهما أنها كناية عن قتله فاختلفوا هل قتلوه أم لا
وفي سبب اختلافهم في ذلك قولان
أحدهما أنهم لما قتلوا الشخص المشبه كان الشبه قد ألقي على وجهه دون جسده فقالوا الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره ذكره ابن السائب
والثاني أنهم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى يعنون الذي دخل في طلبه هذا قول السدي
والثاني أن الهاء كناية عن عيسى واختلافهم فيه قول بعضهم هو ولد زنى وقل بعضهم هو ساحر

والثاني أن المختلفين النصارى فعلى هذا في هاء فيه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى قتله هل قتل أم لا والثاني أنها ترجع إليه هل هو إله أم لا وفي هاء منه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى قتله
والثاني إلى نفسه هل هو إله أم لغير رشدة أم هو ساحر
قوله تعالى ما لهم به من علم إلا اتباع الظن قال الزجاج اتباع منصوب بالاستثناء وهو استثناء ليس من الأول والمعنى ما لهم به من علم إلا أنهم يتبعون الظن وإن رفع جاز على أن يجعل علمهم اتباع الظن كما تقول العرب تحيتك الضرب
قوله تعالى وما قتلوه في الهاء ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى الظن فيكون المعنى وما قتلوا ظنهم يقينا هذا قول ابن عباس
والثاني أنها ترجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم به يقينا تقول قتلته يقينا وقتلته علما للرأي والحديث هذا قول الفراء وابن قتيبة قال ابن قتيبة وأصل هذا أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة يقول فلم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به إنما كان ظنا
والثالث أنها ترجع إلى عيسى فيكون المعنى وما قتلوا عيسى حقا هذا قول الحسن وقال ابن الأنباري اليقين مؤخر في المعنى فالتقدير وما قتلوه بل رفعه الله إليه يقينا

وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا
قوله تعالى وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قال الزجاج المعنى وما منهم أحد إلا ليؤمنن به ومثله وإن منكم إلا واردها مريم 71 وفي أهل الكتاب قولان
أحدهما أنهم اليهود قاله ابن عباس والثاني اليهود والنصارى قاله الحسن وعكرمة وفي هاء به قولان
أحدهما أنها راجعة إلى عيسى قاله ابن عباس والجمهور والثاني أنها راجعة إلى محمد صلى الله عليه و سلم قاله عكرمة وفي هاء موته قولان
أحدهما أنها ترجع إلى المؤمن روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى فقيل لابن عباس إن خر من فوق بيت قال يتكلم به في الهوي قال وهي في قراءة أبي قبل موتهم
وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير وروى الضحاك عن ابن عباس قال يؤمن اليهودي قبل أن يموت ولا تخرج روح النصراني حتى يشهد أن عيسى عبد وقال عكرمة لا تخرج روح اليهودي والنصراني حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه و سلم

والثاني أنها تعود إلى عيسى روى عطاء عن ابن عباس قال إذا نزل إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد يعبد غير الله إلا اتبعه وصدقه وشهد أنه روح الله وكلمته وعبده ونبيه وهذا قول قتادة وابن زيد وابن قتيبة واختاره ابن جرير وعن الحسن كالقولين وقال الزجاج

هذا بعيد لعموم قوله وإن من أهل الكتاب والذين يبقون حينئذ شرذمة منهم إلا أن يكون المعنى أنهم كلهم يقولون إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجال نؤمن به

قوله تعالى ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا قال قتادة يكون عليهم شهيدا أنه قد بلغ رسالات ربه وأقر بالعبودية على نفسه فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا
قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا قال مقاتل حرم الله على أهل التوراة الربا وأن يأكلوا أموال الناس ظلما ففعلوا وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد عليه السلام فحرم الله عليهم ما ذكر في قوله وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الانعام 146 عقوبة لهم قال أبو سليمان وظلمهم نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وما ذكر في الآيات قبلها وقال مجاهد وبصدهم عن سبيل الله قال صدهم أنفسهم وغيرهم عن الحق قال ابن عباس صدهم عن سبيل الله يعني الإسلام وأكلهم أموال الناس بالباطل أي بالكذب على دين الله وأخذ الرشى على حكم الله وتبديل الكتب التي أنزلها الله ليستديموا المأكل وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما
قوله تعالى وأعتدنا أي أعددنا للكافرين يعني اليهود وقيل إنما قال منهم لأنه علم أن قوما منهم يؤمنون فيأمنون العذاب لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما
قوله تعالى لكن الراسخون في العلم قال ابن عباس هذا استثناء

لمؤمني أهل الكتاب فأما الراسخون فهم الثابتون في العلم قال أبو سليمان وهم عبد الله بن سلام ومن آمن معه والذين آمنوا من أهل الإنجيل ممن قدم مع جعفر من الحبشة والمؤمنون يعني أصحاب رسول الله فأما قوله والمقيمين الصلاة فهم القائمون بأدائها كما أمروا
وفي نصب المقيمين أربعة أقوال
أحدها أنه خطأ من الكاتب وهذا قول عائشة وروي عن عثمان بن عفان أنه قال إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها وقد قرأ ابن مسعود وأبي وسعيد بن جبير وعكرمة والجحدري والمقيمون الصلاة بالواو

وقال الزجاج قول من قال إنه خطأ بعيد جدا لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والقدوة فكيف يتركون في كتاب الله شيئا يصلحه غيرهم فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم وقال ابن الأنباري حديث عثمان لا يصح لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئا فاسدا ليصلحه من بعده
والثاني أنه نسق على ما والمعنى يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة فقيل هم الملائكة وقيل الأنبياء
والثالث أنه نسق على الهاء والميم من قوله منهم فالمعنى لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك قال الزجاج وهذا رديء عند النحويين لا ينسق بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إلا في الشعر

والرابع أنه منصوب على المدح فالمعنى اذكر المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة وأنشدوا ... لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر ... النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر

وهذا على معنى اذكر النازلين وهم الطيبون ومن هذا قولك مررت بزيد الكريم إن أردت أن تخلصه من غيره فالخفض هو الكلام وإن أردت المدح والثناء فان شئت نصبت فقلت بزيد الكريم كأنك قلت اذكر الكريم وإن شئت رفعت على معنى هو الكريم وتقول جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد على معنى اذكر المطعمين وهم المغيثون وهذا القول اختيار الخليل وسيبويه فهذه الأقوال حكاها الزجاج واختار هذا القول إنا أوحينا إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمن وآتينا داود زبورا
قوله تعالى إنا أوحينا إليك قال ابن عباس قال عدي بن زيد وسكين يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى فنزلت هذه الآية وقد ذكرنا في آل عمران معنى الوحي وذكر هنالك
وإسحاق أعجمي وإن وافق لفظ العربي يقال أسحقه الله يسحقه إسحاقا ويعقوب أعجمي فأما اليعقوب وهو ذكر الحجل وهي القبج فعربي كذلك قرأته

على شيخنا أبي منصور اللغوي وأيوب أعجمي ويونس اسم أعجمي قال أبو عبيدة يقال يونس ويونس بضم النون وكسرها وحكى أبو زيد الأنصاري عن العرب همزة مع الكسرة والضمة والفتحة وقال الفراء يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز وبعض بني أسد يقول يؤنس بالهمز وبعض بني عقيل يقول يونس بفتح النون من غير همز والمشهور في القراءة يونس برفع النون من غير همز وقد قرأ ابن مسعود وقتادة ويحيى بن يعمر وطلحة يؤنس بكسر النون مهموزا قرأ أبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري يونس بفتح النون من غير همز وقرأ أبو المتوكل يؤنس بفتح النون مهموزا وقرأ أبو السماك العدوي يونس بكسر النون من غير همز وقرأ عمرو بن دينار برفع النون مهموزا وهارون اسم أعجمي وباقي الأنبياء قد تقدم ذكرهم فأما الزبور فأكثر القراء على فتح الزاي وقرأ أبو رزين وأبو رجاء والأعمش وحمزة بضم الزاي قال الزجاج فمن فتح الزاي أراد كتابا ومن ضم أراد كتبا ومعنى ذكر داود أي لا تنكروا تفضيل محمد بالقرآن فقد أعطى الله داود الزبور وقال أبو علي كأن حمزة جعل كتاب داود أنحاء وجعل كل نحو زبرا ثم جمع فقال زبورا وقال ابن قتيبة الزبور فعول بمعنى مفعول كما تقول حلوب وركوب بمعنى محلوب ومركوب وهو من قولك زبرت الكتاب أزبره زبرا إذا كتبته قال وفيه لغة أخرى الزبور بضم الزاي كأنه جمع

ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما
قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما تأكيد كلم بالمصدر يدل على أنه سمع كلام الله حقيقة روى أبو سليمان الدمشقي قال سمعت إسماعيل بن محمد الصفار يقول سمعت ثعلبا يقول لولا أن الله تعالى أكد الفعل بالمصدر لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر قد كلمت لك فلانا بمعنى كتبت إليه رقعة أو بعثت إليه رسولا فلما قال تكليما لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما
قوله تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة أي لئلا يحتجوا في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل لأن هذه الأشياء إنما تجب بالرسل لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملئكة يشهدون وكفى بالله شهيدا
قوله تعالى لكن الله يشهد في سبب نزلها قولان

أحدهما أن النبي عليه السلام دخل على جماعة من اليهود فقال إني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله فقالوا ما نعلم ذلك فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس
والثاني أن رؤساء أهل مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا سألنا عنك اليهود فزعموا أنهم لا يعرفونك فائتنا بمن يشهد لك أن الله بعثك فنزلت هذه الآية هذا قول ابن السائب قال الزجاج الشاهد المبين لم يشهد به فالله عز و جل بين ذلك ويعلم مع إبانته أنه حق وفي معنى أنزله بعلمه ثلاثة أقوال
أحدها أنزله وفيه علمه قاله الزجاج
والثاني أنزله من علمه ذكره أبو سليمان الدمشقي
والثالث أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه قاله ابن جرير
قوله تعالى والملائكة يشهدون فيه قولان
أحدهما يشهدون أن الله أنزله والثاني يشهدون بصدقك
قوله تعالى وكفى بالله شهيدا قال الزجاج الباء دخلت مؤكدة والمعنى اكتفوا بالله في شهادته

إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا
قوله تعالى إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قال مقاتل وغيره هم اليهود كفروا بمحمد وصدوا الناس عن الإسلام قال أبو سليمان وكان صدهم عن الإسلام قولهم للمشركين ولأتباعهم ما نجد صفة محمد في كتابنا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا
قوله تعالى إن الذين كفروا وظلموا قال مقاتل وغيره هم اليهود أيضا كفروا بمحمد والقرآن وفي الظلم المذكور هاهنا قولان
أحدهما أنه الشرك قاله مقاتل والثاني أنه جحدهم صفة محمد النبي صلى الله عليه و سلم في كتابهم
قوله تعالى لم يكن الله ليغفر لهم يريد من مات منهم على الكفر وقال أبو سليمان لم يكن الله ليستر عليهم قبيح فعالهم بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي وفي الآخرة بالنار ولا ليهديهم طريقا ينجون فيه
وقال مقاتل طريقا إلى الهدى وكان ذلك على الله يسيرا يعني كان عذابهم على الله هينا يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليما حكيما

قوله تعالى يا أيها الناس الكلام عام وروي عن ابن عباس أنه قال أراد المشركين قد جاءكم الرسول بالحق أي بالهدى والصدق
قوله تعالى فآمنوا خيرا لكم قال الزجاج عن الخليل وجميع البصريين إنه منصوب بالحمل على معناه لأنك إذا قلت انته خيرا لك وأنت تدفعه عن أمر فتدخله في غيره كان المعنى انته وأت خيرا لك وادخل في ما هو خير لك وأنشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة ... فواعديه سرحتي مالك ... أو الربا بينهما سهلا ...
كأنه قال إيتي مكانا أسهل
قوله تعالى وإن تكفروا فان لله ما في السماوات والأرض أي هو غني عنكم وعن إيمانكم وكان الله عليما بما يكون من إيمان أو كفر حكيما في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم

يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانة أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا
قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم قال مقاتل نزلت في نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما والجمهور على أن المراد بهذه الآية النصارى وقال الحسن نزلت في اليهود والنصارى والغلو الإفراط ومجاوزة الحد ومنه غلا السعر وقال الزجاج الغلو مجاوزة القدر في الظلم وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم هو الله وقول بعضهم هو ابن الله وقول بعضهم هو ثالث ثلاثة وعلى قول الحسن غلو اليهود فيه قولهم إنه لغير رشدة وقال بعض العلماء لا تغلوا في دينكم بالزيادة في التشدد فيه
قوله تعالى ولا تقولوا على الله إلا الحق أي لا تقولوا إن الله له شريك

أو ابن أو زوجة وقد ذكرنا معنى المسيح والكلمة في آل عمران
وفي معنى وروح منه سبعة أقوال
أحدها أنه روح من أرواح الأبدان قال أبي بن كعب لما أخذ الله الميثاق على بني آدم كان عيسى روحا من تلك الأرواح فأرسله إلى مريم فحملت به
والثاني أن الروح النفخ فسمي روحا لأنه حدث عن نفخة جبريل في درع مريم ومنه قول ذي الرمة ... وقلت له ارفعها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا ...
هذا قول أبي روق
والثالث أن معنى وروح منه إنسان حي باحياء الله له
والرابع أن الروح الرحمة فمعناه ورحمة منه ومثله وأيدهم بروح منه المجادلة 22
والخامس أن الروح هاهنا جبريل فالمعنى ألقاها الله إلى مريم والذي ألقاها روح منه ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو سليمان الدمشقي

والسادس أنه سماه روحا لأنه يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح ولهذا المعنى سمي القرآن روحا ذكره القاضي أبو يعلى
والسابع أن الروح الوحي أوحى الله إلى مريم يبشرها به وأوحى إلى جبريل بالنفخ في درعها وأوحى إلى ذات عيسى أن كن فكان ومثله ينزل الملائكة بالروح من أمره النحل 2 أي بالوحي ذكره الثعلبي
فأما قوله منه فانه إضافة تشريف كما تقول بيت الله والمعنى من أمره ومما يقاربها قوله وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه الجاثية 13
قوله تعالى ولا تقولوا ثلاثة قال الزجاج رفعه باضمار لا تقولوا آلهتنا ثلاثة إنما الله إله واحد أي ما هو إلا إله واحد سبحانه ومعنى سبحانه تبرئته من أن يكون له ولد قال أبو سليمان وكفى بالله وكيلا أي قيما على خلقه مدبرا لهم لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملئكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا
قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله سبب نزولها أن وفد نجران وفدوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا محمد لم تذكر صاحبنا قال ومن صاحبكم قالوا عيسى قال وأي شيء أقول له هو عبد الله قالوا بل هو الله فقال إنه ليس بعار عليه أن يكون عبدا لله قالوا بلى فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس قال الزجاج معنى يستنكف

يأنف واصله في اللغة من نكفت الدمع إذا نحيته باصبعك من خدك قال الشاعر ... فبانوا فلولا ما تذكر منهم ... من الحلف لم ينكف لعينيك مدمع ...
قوله تعالى ولا الملائكة المقربون قال ابن عباس هم حملة العرش فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
قوله تعالى فيوفيهم أجورهم أي ثواب أعمالهم ويزيدهم من فضله مضاعفة الحسنات وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله فيوفيهم أجورهم قال يدخلون الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا

يا أيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا
قوله تعالى قد جاءكم برهان من ربكم في البرهان ثلاثة أقوال
أحدها أنه الحجة قاله مجاهد والسدي والثاني القرآن قاله قتادة
والثالث أنه النبي محمد صلى الله عليه و سلم قاله سفيان الثوري فأما النور المبين فهو القرآن قاله قتادة وإنما سماه نورا لأن الأحكام تبين به بيان الأشياء بالنور فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما
قوله تعالى واعتصموا به أي استمسكوا وفي هاء به قولان
أحدهما أنها تعود إلى النور وهو القرآن قاله ابن جريج والثاني تعود إلى الله تعالى قاله مقاتل وفي الرحمة قولان
أحدهما أنها الجنة قاله ابن عباس ومقاتل والثاني أنها نفس الرحمة والمعنى سيرحمهم قاله أبو سليمان وفي الفضل قولان
أحدهما أنه الرزق في الجنة قاله مقاتل والثاني أنه الإحسان قاله أبو سليمان
قوله تعالى ويهديهم إليه صراطا مستقيما أي يوفقهم لإصابة الطريق المستقيم وقال ابن الحنفية الصراط المستقيم دين الله يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم

قوله تعالى يستفتونك في سبب نزولها قولان
أحدهما أنها نزلت في جابر بن عبد الله روى أبو الزبير عن جابر قال مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه و سلم يعودني هو وأبو بكر وهما ماشيان فوجدني قد أغمي علي فتوضأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم صب علي من وضوئه فأفقت وقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي تسع أخوات ولم يكن لي ولد فلم يجبني بشيء ثم خرج وتركني ثم رجع إلي وقال يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا وإن الله عز و جل قد أنزل في أخواتك وجعل لهن الثلثين فقرأ علي هذه الآية يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة فكان جابر يقول أنزلت هذه الآية في
والثاني أن الصحابة أهمهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبي الله فنزلت هذه الآية هذا قول قتادة وقال سعيد بن المسيب سأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف نورث الكلالة فقال أوليس قد بين الله تعالى ذلك ثم قرأ إن كان رجل يورث كلالة فأنزل الله عز و جل يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة

قوله تعالى إن امرؤ هلك أي مات ليس له ولد يريد ولا والد فاكتفى بذكر أحدهما ويدل على المحذوف أن الفتيا في الكلالة وهي من ليس له ولد ولا والد
قوله تعالى وله أخت يريد من أبيه وأمه فلها نصف ما ترك عند انفرادها وهو يرثها أي يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن لها ولد ولا والد وهذا هو الأخ من الأب والأم أو من الأب فان كانتا اثنتين يعني أختين وسئل الأخفش ما فائدة قوله اثنتين و كانتا لا يفسر إلا باثنتين فقال أفادت العدد العاري عن الصفة لأنه يجوز في كانتا صغيرتين أو حرتين أو صالحتين أو طالحتين فلما قال اثنتين فاذا اطلاق العدد على أي وصف كانتا عليه فلهما الثلثان من تركة أخيهما الميت وإن كانوا يعني المخلفين
قوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا قال ابن قتيبة لئلا تضلوا وقال الزجاج فيه قولان
أحدهما أن لا تضلوا فأضمرت لا والثاني كراهية أن تضلوا وهو قول البصريين قال ابن جريج أن تضلوا في شأن المواريث

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة
قال ابن عباس والضحاك هي مدنية وقال مقاتل نزلت نهارا وكلها مدنية وقال أبو سليمان الدمشقي فيها من المكي اليوم أكملت لكم دينكم قال وقيل فيها من المكي يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله والصحيح أن قوله اليوم أكملت لكم دينكم نزلت بعرفه يوم عرفة فلهذا نسبت إلى مكة يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين
أحدهما أنهم المؤمنون من أمتنا وهذا قول الجمهور
والثاني أنهم أهل الكتاب قاله ابن جريج والعقود العهود قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والضحاك والسدي والجماعة وقال الزجاج العقود أوكد العهود
واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال

أحدها أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحل وحرم وهذا قول ابن عباس ومجاهد
والثاني أنها عهود الدين كلها قاله الحسن
والثالث أنها عهود الجاهلية وهي الحلف الذي كان بينهم قاله قتادة
والرابع أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه و سلم قاله ابن جريج وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين
والخامس أنها عقود الناس بينهم من بيع ونكاح أو عقد الإنسان على نفسه من نذر أو يمين وهذا قول ابن زيد
قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام في بهيمة الأنعام ثلاثة أقاويل
أحدها أنها أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت الأمهات قاله ابن عمر وابن عباس والثاني أنها الإبل والبقر والغنم قاله الحسن وقتادة والسدي
وقال الربيع هي الأنعام كلها وقال ابن قتيبة هي الإبل والبقر الغنم والوحوش كلها
والثالث أنها وحش الأنعام كالظباء وبقر الوحش روي عن ابن عباس وأبي صالح وقال الفراء بهيمة الأنعام بقر الوحش والظباء والحمر الوحشية

قال الزجاج وإنما قيل لها بهيمة لأنها أبهمت عن أن تميز وكل حي لا يميز فهو بهيمة
قوله تعالى إلا ما يتلى عليكم روي عن ابن عباس أنه قال هي الميتة وسائر ما في القرآن تحريمه وقال ابن الأنباري المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها وهي قوله حرمت عليكم الميتة
قوله تعالى غير محلي الصيد قال أبو الحسن الأخفش أوفوا بالعقود غير محلي الصيد فانتصب على الحال وقال غيره المعنى أحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلي اصطيادها وأنتم حرم قال الزجاج الحرم المحرومون وواحد الحرم حرام يقال رجل حرام وقوم حرم قال الشاعر ... فقلت لها فيئي إليك فانني ... حرام وإني بعد ذاك لبيب

أي ملب وقوله إن الله يحكم ما يريد أي الخلق له يحل ما يشاء لمن يشاء ويحرم ما يريد على من يريد يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب
قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله في سبب نزولها قولان
أحدهما أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة فدخل على النبي صلى الله عليه و سلم فقال إلام تدعو فقال إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال إن لي أمراء خلفي أرجع إليهم أشاورهم ثم خرج فقال النبي صلى الله عليه و سلم لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر وما الرجل بمسلم فمر شريح بسرح لأهل المدينة فاستاقه فلما كان عام الحديبية خرج شريح إلى مكة معتمرا ومعه تجارة فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال السدي اسمه الحطم ابن هند البكري قال ولما ساق السرح جعل يرتجز

قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم ... باتوا نياما وابن هند لم ينم ... بات يقاسيها غلام كالزلم ... خدلج الساقين ممسوح القدم ...
والثاني أن ناسا من المشركين جاؤوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلين بعمرة فقال المسلمون لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم فنزل قوله ولا آمين البيت

الحرام قال ابن قتيبة وشعائر الله ما جعله الله علما لطاعته
وفي المراد بها هاهنا سبعة أقوال
أحدها أنها مناسك الحج رواه الضحاك عن ابن عباس وقال الفراء كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ولا يطوفون بينهما فقال الله تعالى لا تستحلوا ترك ذلك
والثاني أنها ما حرم الله تعالى في حال الاحرام رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث دين الله كله قاله الحسن والرابع حدود الله قاله عكرمة وعطاء والخامس حرم الله قاله السدي
والسادس الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام قاله أبو عبيدة و
والسابع أنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة ذكره الماوردي والقاضي أبو يعلى

قوله تعالى ولا الشهر الحرام قال ابن عباس لا تحلوا القتال فيه
وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال
أحدها أنه ذو القعدة قاله عكرمة وقتادة
والثاني أن المراد به الأشهر الحرم قال مقاتل كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل سنة فيقول إلا إني قد أحللت كذا وحرمت كذا
والثالث أنه رجب ذكره ابن جرير الطبري والهدي كل ما أهدي إلى بيت الله تعالى من شيء وفي القلائد قولان
أحدهما أنها المقلدات من الهدي رواه العوفي عن ابن عباس
والثاني أنها ما كان المشركون يقلدون به إبلهم وأنفسهم في الجاهلية ليأمنوا به عدوهم لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إلا في الأشهر الحرم فمن لقوة مقلدا نفسه أو بعيره أو مشعرا بدنه أو سائقا هديا لم يتعرض له قال ابن عباس كان من أراد أن يسافر في غير الأشهر الحرم قلد بعيره من الشعر والوبر فيأمن حيث ذهب وروى مالك بن مغول عن عطاء قال كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم فيأمنون به إذا خرجوا من الحرم فنزلت هذه الآية وقال قتادة كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من

السمر فلم يعرض له أحد وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد
وقال الفراء كان أهل مكة يقلدون بلحاء الشجر وسائر العرب يقلدون بالوبر والشعر وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال
أحدها لا تستحلوا المقلدات من الهدي والثاني لا تستحلوا أصحاب القلائد والثالث أن هذا نهي للمؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم فيتقلدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم رواه عبد الملك عن عطاء وبه قال مطرف والربيع بن أنس
قوله تعالى ولا آمين البيت الحرام الآم القاصد والبيت الحرام الكعبة والفضل الربح في التجارة والرضوان من الله يطلبونه في حجهم على زعمهم ومثله قوله وانظر إلى إلهك الذي طه 97 وقيل ابتغاء الفضل عام وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة
قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا لفظه لفظ الأمر ومعناه الإباحة نظيره فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض الجمعة 10 وهو يدل على إحرام متقدم

قوله تعالى ولا يجرمنكم وروى الوليد عن يعقوب يجرمنكم بسكون النون وتخفيفها قال ابن عباس لا يحملنكم وقال غيره لا يدخلنكم في الجرم كما تقول آثمته أي أدخلته في الإثم وقال ابن قتيبة لا يكسبنكم يقال فلان جارم أهله أي كاسبهم وكذلك جريمتهم وقال الهذلي ووصف عقابا ... جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا ...
والناهض فرخها يقول هي تكسب له وتأتيه بقوته والشنآن البغض يقال شنئته أشنؤه إذا أبغضته وقال ابن الأنباري الشنآن البغض والشنآن بتسكين النون البغيض واختلف القراء في نون الشنآن فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بتحريكها وأسكنها ابن عامر وروى حفص عن عاصم تحريكها وأبو بكر عنه تسكينها وكذلك اختلف عن نافع

قال أبو علي الشنان قد جاء وصفا وقد جاء اسما فمن حرك فلأنه مصدر والمصدر يكثر على فعلان نحو النزوان ومن سكن قال هو مصدر وقد جاء المصدر على فعلان تقول لويته دينه ليانا فالمعنى في القراءتين واحد وإن اختلف اللفظان واختلفوا في قوله أن صدوكم فقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالكسر وقرأ الباقون بالفتح فمن فتح جعل الصد ماضيا فيكون المعنى من أجل أن صدوكم ومن كسرها جعلها للشرط فيكون الصد مترقبا قال أبو الحسن الأخفش وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر كقوله إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل يوسف 77 وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت وأنشد أبو علي الفارسي ... إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أن تقري بها بدا ...
فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء والجزاء إنما يكون بالمستقبل فيكون المعنى إن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة قال ابن جرير وقراءة من فتح الألف أبين لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية وقد كان الصد تقدم
فعلى هذا في معنى الكلام قولان
أحدهما ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن

تعتدوا فيه فتقاتلوهم وتأخذوا أموالهم إذا دخلتموه رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني لا يحملنكم بغض أهل مكة وصدهم إياكم أن تعتدوا باتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين على ما سبق في نزول الآية
قوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى قال الفراء ليعن بعضكم بعضا قال ابن عباس البر ما أمرت به والتقوى ترك ما نهيت عنه فأما الإثم فالمعاصي والعدوان التعدي في حدود الله قاله عطاء
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين
أحدهما أنها محكمة روي عن الحسن أنه قال ما نسخ من المائدة شيء وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا ولا يجوز استحلال الشعائر ولا الهدي

قبل أوان ذبحه واختلفوا في القلائد فقال قوم يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر وقال آخرون كانت الجاهلية تقلد من شجر الحرم فقيل لهم لا تستحلوا أخذ القلائد من الحرم ولا تصدوا القاصدين إلى البيت
والثاني أنها منسوخة وفي المنسوخ منها أربعة أقوال
أحدها أن جميعها منسوخ وهو قول الشعبي
والثاني أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلدون هداياهم ويظهرون شعائر الحج من الاحرام والتلبية فنهي المسلمون بهذه الآية عن التعرض لهم ثم نسخ ذلك بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم التوبة 5 وهذا قول الأكثرين
والثالث أن الذي نسخ قوله ولا آمين البيت الحرام نسخه قوله فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا التوبة 38 روي عن ابن عباس وقتادة
والرابع أن المنسوخ منها تحريم الشهر الحرام وآمون البيت الحرام إذا كانوا مشركين وهدي المشركين إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان قاله أبو سليمان الدمشقي حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تسقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخصمة غير متجانف لإثم فأن الله غفور رحيم

قوله تعالى حرمت عليكم الميتة مفسر في البقرة فأما المنخنقة فقال ابن عباس هي التي تختنق فتموت وقال الحسن وقتادة هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره قلت والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك قال ابن قتيبة والموقوذة التي تضرب حتى توقذ أي تشرف على الموت ثم تترك حتى تموت وتؤكل بغير ذكاة ومنه يقال فلان وقيذ وقد وقذته العبادة

والمتردية الواقعة من جبل أو حائط أو في بئر يقال تردى إذا سقط
والنطيحة التي تنطحها شاة أخرى أو بقرة فعيلة في معنى مفعولة وما أكل السبع وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو مجلز وابن أبي ليلى السبع بسكون الباء والمراد ما افترسه فأكل بعضه إلا ما ذكيتم أي إلا ما لحقتم من هذا كله وبه حياة فذبحتموه
فأما الاستثناء ففيه قولان
أحدهما أنه يرجع إلى المذكور من عند قوله والمنخنقة
والثاني أنه يرجع إلى ما أكل السبع خاصة والعلماء على الأول
فصل في الذكاة
قال الزجاج أصل الذكاة في اللغة تمام الشيء فمنه الذكاء في السن وهو تمام السن قال الخليل الذكاء أن تأتي على قروحه سنة وذلك تمام استكمال القوة ومنه الذكاء في الفهم وهو أن يكون فهما تاما سريع القبول وذكيت النار أي أتممت إشعالها وقد روي عن علي وابن عباس والحسن وقتادة أنهم قالوا ما أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله حلال قال القاضي أبو يعلى ومذهب أصحابنا أنه إن كان يعيش مع ما به حل بالذبح فان كان لا يعيش مع ما به نظرت فان لم تكن حياته مستقرة وإنما حركته حركة المذبوح مثل أن شق جوفه وأبينت حشوته فانفصلت عنه لم يحل أكله وإن كانت حياته مستقرة يعيش اليوم واليومين مثل أن يشق جوفه ولم تقطع الأمعاء حل أكله ومن الناس من يقول إذا كانت فيه حياة في الجملة أبيح بالذكاة والصحيح ما ذكرنا لأنه إذا لم تكن فيه حياة

مستقرة فهو في حكم الميت ألا ترى أن رجلا لو قطع حشوة آدمي ثم ضرب عنقه آخر فالأول هو القاتل لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول
وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان
إحداهما أنه الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء فان نقص من ذلك شيئا لم يؤكل هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله

والثانية يجزئ قطع الحلقوم والمريء وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين وقال مالك يجزئ قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم وقال الزجاج الحلقوم بعد الفم وهو موضع النفس وفيه شعب تتشعب منه في الرئة والمريء مجرى الطعام والودجان عرقان يقطعهما الذابح
فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة فهي كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج سوى

السن والظفر سواء كانا منزوعين أو غير منزوعين وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين فأما البعير إذا توحش أو تردى في بئر فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره وقال مالك ذكاته ذكاة المقدور عليه فان رمى صيدا فأبان بعضه وفيه حياة مستقرة فذكاه أو تركه حتى مات جاز أكله وفي أكل ما بان منه روايتان
قوله تعالى وما ذبح على النصب في النصب قولان
أحدهما أنها أصنام تنصب فتعبد من دون الله قاله ابن عباس والفراء والزجاج فعلى هذا القول يكون المعنى وما ذبح على اسم النصب وقيل لأجلها فتكون على بمعنى اللام وهما يتعاقبان في الكلام كقوله فسلام لك الواقعة 91 أي عليك وقوله وإن أسأتم فلها الاسراء7

والثاني أنها حجارة كانوا يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها ويعظمونها وهو قول ابن جريج وقرأ الحسن وخارجة عن أبي عمرو على النصب بفتح النون وسكون الصاد قال ابن قتيبة يقال نصب ونصب ونصب وجمعه أنصاب
قوله تعالى وأن تستقسموا بالأزلام قال ابن جرير أي وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم بالأزلام وهو استفعلت من القسم قسم الرزق والحاجات قال ابن قتيبة الأزلام القداح واحدها زلم وزلم والاستقسام بها أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي فكانوا إذا أرادوا أن يقتسموا شيئا بينهم فأحبوا أن يعرفوا قسم كل امرئ تعرفوا ذلك منها فأخذ الاستقسام من القسم وهو النصيب قال سعيد بن جبير الأزلام حصى بيض كانوا إذا أرادوا غدوا أو رواحا كتبوا في قدحين في أحدهما أمرني ربي وفي الآخر نهاني ربي ثم يضربون بهما فأيهما خرج عملوا به وقال مجاهد الأزلام سهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها وقال السدي كانت الأزلام تكون عند الكهنة وقال مقاتل في بيت الأصنام وقال قوم كانت عند سدنة الكعبة قال الزجاج ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين لا تخرج من أجل نجم كذا أو اخرج من أجل نجم كذا
قوله تعالى ذلكم فسق في المشار إليه بذلكم قولان
أحدهما أنه جميع ما ذكر في الآية رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير

والثاني أنه الاستقسام بالأزلام رواه أبو صالح عن ابن عباس والفسق الخروج عن طاعة الله إلى معصيته
قوله تعالى اليوم يئس الذين كفروا من دينكم في هذا اليوم ثلاثة أقوال
أحدها أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكة في حجة الوداع قاله أبو صالح عن ابن عباس وقال ابن السائب نزلت ذلك اليوم
والثاني أنه يوم عرفة قاله مجاهد وابن زيد
والثالث أنه لم يرد يوما بعينه وإنما المعنى الآن يئسوا كما تقول أنا اليوم قد كبرت قاله الزجاج قال ابن الأنباري العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي فيقولون قد كنت في غفلة فاليوم استيقظت يريدون فالآن ويقولون كان فلان يزورنا وهو اليوم يجفونا ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد قال الشاعر

فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر ...
أراد فزمان لنا وزمان علينا ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إليه غيره
وفي معنى يأسهم قولان
أحدهما أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين قاله ابن عباس والسدي
والثاني يئسوا من بطلان الإسلام قاله الزجاج قال ابن الأنباري وإنما يئسوا من إبطال دينهم لما نقل الله خوف المسلمين إليهم وأمنهم إلى المسلمين فعلموا أنهم لا يقدرون على إبطال دينهم ولا على استئصالهم وإنما قاتلوهم بعد ذلك ظنا منهم أن كفرهم يبقى
قوله تعالى فلا تخشوهم قال ابن جريج لا تخشوهم أن يظهروا عليكم وقال ابن السائب لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم واخشوني في مخالفة أمري
قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال وأي آية هي قال قوله اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فقال عمر إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله والساعة

التي نزلت فيها والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة وفي لفظ نزلت عشية عرفة قال سعيد بن جبير عاش رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ذلك أحدا وثمانين يوما
فأما قوله اليوم ففيه قولان
أحدهما أنه يوم عرفة وهو قول الجمهور
والثاني أنه ليس بيوم معين رواه عطية عن ابن عباس وقد ذكرنا هذا آنفا وفي معنى إكمال الدين خمسة أقوال
أحدها أنه إكمال فرائضه وحدوده ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم قاله ابن عباس والسدي فعلى هذا يكون المعنى اليوم أكملت لكم شرائع دينكم
والثاني أنه بنفي المشركين عن البيت فلم يحج معهم مشرك عامئذ قاله سعيد بن جبير وقتادة وقال الشعبي كمال الدين هاهنا عزه وظهوره وذل الشرك ودروسه لا تكامل الفرائض والسنن لأنها لن تزل تنزل إلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلى هذا يكون المعنى اليوم أكملت لكم نصر دينكم

والثالث أنه رفع النسخ عنه وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قبض روي عن ابن جبير أيضا
والرابع أنه زوال الخوف من العدو والظهور عليهم قاله الزجاج
والخامس أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها كما نسخ بها ما تقدمها وفي إتمام النعمة ثلاثة أقوال
أحدها منع المشركين من الحج معهم قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة
والثاني الهداية إلى الإيمان قاله ابن زيد
والثالث الإظهار على العدو قاله السدي
قوله تعالى فمن اضطر أي دعته الضرورة إلى أكل ما حرم عليه في مخمصة أي مجاعة والخمص الجوع قال الشاعر يذم رجلا ... يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة ... يبت قلبه من قلة الهم مبهما ...
وهذا الكلام يرجع إلى المحرمات المتقدمة من الميتة والدم وما ذكر معهما
قوله تعالى غير متجانف لإثم قال ابن قتيبة غير مائل إلى ذلك والجنف الميل وقال ابن عباس والحسن ومجاهد غير متعمد لإثم
وفي معنى تجانف لإثم قولان
أحدهما أن يتناول منه بعد زوال الضرورة روي عن ابن عباس في آخرين

والثاني أن يتعرض لمعصية في مقصده قاله قتادة وقال مجاهد من بغى وخرج في معصية حرم عليه أكله قال القاضي أبو يعلى وهذا أصح من القول الأول لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار وذلك إنما يصح في سفرالعاصي ولا يصح حمله على تناول الزيادة على سد الرمق لأن الاضطرار قد زال قال أبو سليمان ومعنى الآية فمن اضطر فأكله غير متجانف لإثم فان الله غفور أي متجاوز عنه رحيم إذ أحل ذلك للمضطر

يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب
قوله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم في سبب نزولها قولان
أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر بقتل الكلاب قال الناس يا رسول الله ماذا أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فنزلت هذه الآية أخرجه أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه و سلم وكان السبب في أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على رسول الله صلى الله عليه و سلم

فأذن له فلم يدخل وقال إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة فنظروا فاذا في بعض بيوتهم جرو
والثاني أن عدي بن حاتم وزيد الخيل الذي سماه رسول الله زيد الخير قالا يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فمنه ما ندرك ذكاته ومنه مالا ندرك ذكاته وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن جبير قال الزجاج ومعنى الكلام يسألونك أي شيء أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح والتأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم لأن في الكلام دليلا عليه
وفي الطيبات قولان
أحدهما أنها المباح من الذبائح
والثاني أنها ما استطابه العرب مما لم يحرم فأما الجوارح فهي ما صيد به من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والصقر والبازي ونحو ذلك مما يقبل التعليم قال ابن عباس كل شيء صاد فهو جارح

وفي تسميتها بالجوارح قولان
أحدهما لكسب أهلها بها قال ابن قتيبة أصل الاجتراح الاكتساب يقال امرأة لا جارح لها أي لا كاسب
والثاني لأنها تجرح ما تصيد في الغالب ذكره الماوردي قال أبو سليمان الدمشقي وعلامة التعليم أنك إذا دعوته أجاب وإذا أسدته استأسد ومضى في طلبه وإذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه وعلامة إمساكه عليك أن لا يأكل منه شيئا هذا في السباع والكلاب فأما تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع لأن الطائر إنما يعلم الصيد بالأكل والفهد والكلب وما أشبههما يعلمون بترك الأكل فهذا فرق ما بينهما
وفي قوله مكلبين ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أصحاب الكلاب رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول ابن عمر وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك والسدي والفراء والزجاج وابن قتيبة قال الزجاج يقال رجل مكلب وكلابي أي صاحب صيد بالكلاب
والثاني أن معنى مكلبين مصرين على الصيد وهذا مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد
والثالث ان مكلبين بمعنى معلمين قال أبو سليمان الدمشقي وإنما قيل لهم مكلبين لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب قال ثعلب وقرأ الحسن وأبو رزين مكلبين بسكون الكاف يقال أكلب الرجل إذا كثرت كلابه وأمشى إذا كثرت ماشيته والعرب تدعو الصائد مكلبا
قوله تعالى تعلمونهن مما علمكم الله قال سعيد بن جبير تؤدبونهن لطلب

الصيد وقال الفراء تؤدبونهن أن لا يأكلن صيدهن واختلفوا هل إمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا على ثلاثة أقوال
أحدها أنه شرط في كل الجوارح فان أكلت لم يؤكل روي عن ابن عباس وعطاء
والثاني أنه ليس بشرط في الكل ويؤكل وإن أكلت روي عن سعد ابن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة وسلمان الفارسي
والثالث أنه شرط في جوارح البهائم وليس بشرط في جوارح الطير وبه قال الشعبي والنخعي والسدي وهو أصح لما بينا أن جارح الطير يعلم على الأكل فأبيح ما أكل منه وسباع البهائم تعلم على ترك الأكل فأبيح ما أكلت منه
فعلى هذا إذا أكل الكلب والفهد من الصيد لم يبح أكله فأما ما أكل منه الصقر والبازي فمباح وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال مالك يباح أكل ما أكل منه الكلب والفهد والصقر فان قتل الكلب ولم يأكل أبيح
وقال أبو حنيفة لا يباح فان أدرك الصيد وفيه حياة فمات قبل أن يذكيه فان كل ذلك قبل القدرة على ذكاته أبيح وإن أمكنه فلم يذكه لم يبح وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يباح في الموضعين
فأما الصيد بكلب المجوسي فروي عن أحمد أنه لا يكره وهو قول الأكثرين وروي عنه الكراهة وهو قول الثوري لقوله تعالى وما علمتم من الجوارح وهذا خطاب للمؤمنين قال القاضي أبو يعلى ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود وإن كان معلما لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتله والأمر بالقتل يمنع ثبوت اليد ويبطل حكم الفعل فيصير وجوده كالعدم فلا يباح صيده

قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم قال الأخفش من زائدة كقوله فيها من برد النور43
قوله تعالى واذكروا اسم الله عليه في هاء الكناية قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الإرسال قاله ابن عباس والسدي وعندنا أن التسمية شرط في إباحة الصيد
والثاني ترجع إلى الأكل فتكون التسمية مستحبة
قوله تعالى واتقوا الله قال سعيد بن جبير لا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين

قوله تعالى اليوم أحل لكم الطيبات قال القاضي أبو يعلى يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله اليوم يئس الذين كفروا من دينكم وفي قوله اليوم أكملت لكم دينكم وقيل ليس بيوم معين وقد سبق الكلام في الطيبات وإنما كرر إحلالها تأكيدا فأما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى وطعامهم ذبائحهم هذا قول ابن عباس والجماعة وإنما أريد بها الذبائح خاصة لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن تولاه من مجوسي وكتابي وإنما الذكاة تختلف فلما خص أهل الكتاب بذلك دل على أن المراد الذبائح فأما ذبائح المجوس فأجمعوا على تحريمها واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان فروي عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس بها وتلا قوله ومن يتولهم منكم فانه منهم المائدة 51 وهذا قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد وقد روي عن علي وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين
إحداهما تباح ذبائحهم وهو قول أبي حنيفة ومالك
والثانية لا تباح وقال الشافعي من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن لم يبح أكل ذبيحته

قوله تعالى وطعامكم حل لهم أي وذبائحكم لهم حلال فاذا اشتروا منا شيئا كان الثمن لنا حلالا واللحم لهم حلالا قال الزجاج والمعنى أحل لكم أن تطعموهم
فصل
وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم الله عليها فكان هذا ناسخا لقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه الأنعام 121 والصحيح أنها أطلقت إباحة ذبائحهم لأن الأصل أنهم يذكرون الله فيحمل أمرهم على ذلك فان تيقنا أنهم ذكروا غيره فلا نأكل ولا وجه للنسخ وإلى هذا الذي قلته ذهب علي وابن عمر وعبادة وأبو الدرداء والحسن في جماعة
قوله تعالى والمحصنات من المؤمنات فيهن قولان
أحدهما العفائف قاله ابن عباس والثاني الحرائر قاله مجاهد
وفي قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قولان
أحدهما الحرائر أيضا قاله ابن عباس
والثاني العفائف قاله الحسن والشعبي والنخعي والضحاك والسدي فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرة منهن والأمة
فصل
وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية وعن طلحة بن عبيد الله أنه تزوج

يهودية وقد روي عن عمر وابن عمر كراهة ذلك واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية فقال ابن عباس لا تحل والجمهور على خلافه وإنما كرهوا ذلك لقوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله المجادلة 22 والنكاح يوجب الود واختلفوا في نكاح نساء تغلب فروي عن علي رضي الله عنه الحظر وبه قال جابر بن زيد والنخعي وروي عن ابن عباس الاباحة وعن أحمد روايتان واختلفوا في إماء أهل الكتاب فروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد أنه لا يجوز نكاحهن وبه قال الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وأصحابنا وروي عن الشعبي وأبي ميسرة جواز ذلك وبه قال أبو حنيفة فأما المجوس فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب وقد شذ من قال إنهم أهل كتاب ويبطل قولهم قوله عليه السلام سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأما الأجور والإحصان والسفاح والأخدان فقد سبق في سورة النساء
قوله تعالى ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله سبب نزول هذا الكلام أن الله تعالى لما رخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن لولا أن الله تعالى قد رضي علينا لم يبح للمؤمنين تزويجنا وقال المسلمون كيف يتزوج الرجل منا الكتابية وليست على ديننا فنزلت ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال مقاتل بن حيان نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب يقول ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر وروى ليث عن مجاهد ومن يكفر بالإيمان قال الإيمان بالله تعالى قال الزجاج

معنى الآية من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحله الله فهو كافر وقال أبو سليمان من جحد ما أنزله الله من شرائع الإيمان وعرفه من الحلال والحرام فقد حبط عمله المتقدم وسمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري الفقيه يقول إنما أباح الله عز و جل الكتابيات لأن بعض المسلمين قد يعجبهن حسنهن فحذر ناكحهن من الميل إلى دينهن بقوله ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون
قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة قال الزجاج المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله النحل 98 قال ابن الأنباري وهذا كما تقول إذا آخيت فآخ أهل الحسب وإذا اتجرت فاتجر في البز قال ويجوز أن يكون الكلام مقدما ومؤخرا تقديره إذا غسلتم وجوهكم واستوفيتم الطهور فقوموا إلى الصلاة وللعلماء في المراد بالآية قولان
أحدهما إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا فصار الحدث مضمرا في وجوب الوضوء وهذا قول سعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وابن عباس والفقهاء

والثاني أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة محدثا كان أو غير محدث وهذا مروي عن علي رضي الله عنه وعكرمة وابن سيرين ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجبا ثم نسخ بالسنة وهو ما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد فقال له عمر لقد صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عمدا فعلته يا عمر وقال قوم في الآية

تقديم وتأخير ومعناها إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم
قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق إلى حرف موضوع للغاية وقد تدخل الغاية فيها تارة وقد لا تدخل فلما كان الحدث يقينا لم يرتفع إلا بيقين مثله وهو غسل المرفقين فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه وهو قول مالك وروي عنه يجب مسح أكثره وروي عن أبي حنيفة روايتان
إحداهما أنه يتقدر بربع الرأس والثانية بمقدار ثلاث أصابع

قوله تعالى وأرجلكم إلى الكعبين قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر اللام عطفا على مسح الرأس وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب بفتح اللام عطفا على الغسل فيكون من المقدم والمؤخر قال الزجاج الرجل من أصل الفخذ إلى القدم فلما حد الكعبين علم أن الغسل ينتهي إليهما ويدل على وجوب الغسل التحديد بالكعبين كما جاء في تحديد اليد إلى المرافق ولم يجئ في شيء من المسح تحديد ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل فينسق بالغسل على المسح قال الشاعر ... يا ليت بعلك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا ...
والمعنى وحاملا رمحا وقال الآخر ... علفتها تبنا وماء باردا ...
والمعنى وسقيتها ماء باردا وقال أبو الحسن الأخفش يجوز الجر على الإتباع والمعنى الغسل

نحو قولهم جحر ضب خرب وقال ابن الأنباري لما تأخرت الأرجل بعد الرؤوس نسقت عليها للقرب والجوار وهي في المعنى نسق على الوجوه كقولهم جحر ضب خرب ويجوز أن تكون منسوقة عليها لأن العرب تسمي الغسل مسحا لأن الغسل لا يكون إلا بمسح وقال أبو علي من جر فحجته أنه وجد في الكلام عاملين أحدهما الغسل والآخر الباء الجارة ووجه العاملين إذا اجتمعا أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد وهو الباء هاهنا وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح الغسل من وجهين
أحدهما أن أبا زيد قال المسح الخفيف الغسل قالوا تمسحت للصلاة وقال أبو عبيدة فطفق مسحا بالسوق أي ضربا فكأن المسح بالآية غسل خفيف فان قيل فالمستحب التكرار ثلاثا قيل إنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون
والوجه الثاني أن التحديد والتوقيت إنما جاء في المغسول دون الممسوح فلما وقع التحديد مع المسح علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد وحجة من نصب أنه حمل ذلك على الغسل لاجتماع فقهاء الأمصار على الغسل

قوله تعالى إلى الكعبين إلى بمعنى مع والكعبان العظمان الناتئان من جانبي القدم

قوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا أي فتطهروا فأدغمت التاء في الطاء لأنهما من مكان واحد واجتلبت الهمزة توصلا إلى النطق بالساكن وقد بين الله عز و جل طهارة الجنب في سورة النساء بقوله حتى تغتسلوا النساء 43 وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج والحرج الضيق فجعل الله الدين واسعا حين رخص في التيمم
قوله تعالى ولكن يريد ليطهركم أي يريد أن يطهركم قال مقاتل من الأحداث والجنابة وقال غيره من الذنوب والخطايا لأن الوضوء يكفر الذنوب
قوله تعالى وليتم نعمته عليكم في الذي يتم به النعمة أربعة أقوال
أحدها بغفران الذنوب قال محمد بن كعب القرظي حدثني عبد الله بن دارة عن حمران قال مررت على عثمان بفخارة من ماء فدعا بها فتوضأ فأحسن الوضوء ثم قال لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم غير مرة أو مرتين أو ثلاثا ما حدثتكم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ما توضأ عبد فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى قال محمد بن كعب وكنت إذا سمعت الحديث التمسته في القرآن فالتمست هذا فوجدته

في قوله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك الفتح 1 2 فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه ثم قرأت الآية التي في المائدة إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله وليتم نعمته عليكم فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم
والثاني بالهداية إلى الإيمان وإكمال الدين وهذا قول ابن زيد

والثالث بالرخصة في التيمم قاله مقاتل وأبو سليمان
والرابع ببيان الشرائع ذكره بعض المفسرين واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذا قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور
قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم يعني النعم كلها وفي هذا حث على الشكر وفي الميثاق أربعة أقوال
أحدها أنه إقرار كل مؤمن بما آمن به قال ابن عباس لما أنزل الله الكتاب وبعث الرسول فقالوا آمنا ذكرهم ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم وأمرهم بالوفاء
والثاني أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد وابن زيد
والثالث أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقروا به من الإيمان روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
والرابع أنه الميثاق الذي أخذ من الصحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة وبيعة الرضوان ذكره بعض المفسرين

قوله تعالى واتقوا الله قال مقاتل اتقوه في نقض الميثاق إن الله عليم بذات الصدور أي بما فيها من إيمان وشك يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضا وقد تقدم ذكرهم في قوله ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام روى نحو هذا أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مقاتل
والثاني أن قريشا بعثت رجلا ليقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأطلع الله نبيه على ذلك ونزلت هذه الآية والتي بعدها هذا قول الحسن
والثالث أن النبي صلى الله عليه و سلم ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية فهموا بقتله فنزلت هذه الآية قاله مجاهد وقتادة ومعنى الآية كونوا قوامين لله بالحق ولا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل اعدلوا في الولي والعدو هو أقرب للتقوى أي إلى التقوى والمعنى أقرب إلى أن تكونوا متقين وقيل هو أقرب إلى اتقاء النار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة في معناها قولان
أحدهما أن المعنى وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى
والثاني أن المعنى وعدهم فقال لهم مغفرة وقد بينا في البقرة معنى الجحيم يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمن
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن رجلا من محارب قال لقومه الا أقتل لكم محمدا فقالوا وكيف تقتله فقال أفتك به فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وسيفه في حجره فأخذه وجعل يهزه ويهم به فيكبته الله ثم قال يا محمد ما تخافني قال لا قال لا تخافني وفي يدي السيف قال يمنعني الله منك فأغمد السيف فنزلت هذه الآية رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد الله وفي بعض الألفاظ فسقط السيف من يده وفي لفظ آخر فما قال له النبي صلى الله عليه و سلم شيئا ولا عاقبه واسم هذا الرجل غورث بن الحارث من محارب خصفة
والثاني أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه و سلم فكفاه الله شرهم

قال ابن عباس صنعوا له طعاما فأوحي أليه بشأنهم فلم يأت وقال مجاهد وعكرمة خرج إليهم يستعينهم في دية فقالوا اجلس حتى نعطيك فجلس هو وأصحابه فخلا بعضهم ببعض وقالوا لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فقال عمرو بن جحاش أنا فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده وجاء جبريل فأخبره وخرج ونزلت هذه الآية
والثالث أن بني ثعلبة وبني محارب أرادوا أن يفتكوا بالنبي وأصحابه وهم ببطن نخلة في غزاة رسول الله صلى الله عليه و سلم السابعة فقالوا إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم فاذا سجدوا وقعنا بهم فأطلع الله نبيه على ذلك

وأنزل صلاة الخوف ونزلت هذه الآية هذا قول قتادة
والرابع أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا قول ابن زيد ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآئيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلوة وآتيتم الزكوة وآمنتم برسلي وعززتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل
قوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل قال أبو العالية أخذ الله ميثاقهم أن يخلصوا له العبادة ولا يعبدوا غيره وقال مقاتل أن يعملوا بما في التوراة وفي معنى النقيب ثلاثة أقوال
أحدها أنه الضمين قاله الحسن ومعناه أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده ولا يجوز أن يكون ضمينا عنهم بالوفاء لأن ذلك لا يصح ضمانه وقال ابن قتيبة هو الكفيل على القوم والنقابة شبيهة بالعرافة
والثاني أنه الشاهد قاله قتادة وقال ابن فارس النقيب شاهد القوم وضمينهم

والثالث الأمين قاله الربيع بن أنس واليزيدي وهذه الأقوال تتقارب قال الزجاج النقيب في اللغة كالأمين والكفيل يقال نقب الرجل على القوم ينقب إذا صار نقيبا عليهم وصناعته النقابة وكذلك عرف عليهم إذا صار عريفا ويقال لأول ما يبدو من الجرب النقبة ويجمع النقب والنقب قال الشاعر ... متبذلا تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب ...
ويقال في فلان مناقب جميلة وكل الباب معناه التأثير الذي له عمق ودخول ومن ذلك نقبت الحائط أي بلغت في النقب آخره والنقبة من الجرب داء شديد الدخول وإنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم ونقل أن الله تعالى أمر موسى وقومه بالسيرإلى الأرض المقدسة وكان يسكنها الجبارون فقال تعالى يا موسى اخرج إليها

وجاهد من فيها من العدو وخذ من قومك اثني عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به فاختاروا النقباء
وفيما بعثوا له قولان
أحدهما أن موسى بعثهم إلى بيت المقدس ليأتوه بخبر الجبارين قاله ابن عباس ومجاهد والسدي
والثاني أنهم بعثوا ضمناء على قومهم بالوفاء بميثاقهم قاله الحسن وابن إسحاق وفي نبوتهم قولان أصحهما أنهم ليسوا بأنبياء
قوله تعالى وقال الله في الكلام محذوف تقديره وقال الله لهم
وفي المقول لهم قولان
أحدهما أنهم بنو إسرائيل قاله الجمهور
والثاني أنهم النقباء قاله الربيع ومقاتل ومعنى إني معكم أي بالعون والنصرة وفي معنى وعززتموهم قولان
أحدهما أنه الإعانة والنصر قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي
والثاني أنه التعظيم والتوقير قاله عطاء واليزيدي وأبو عبيدة وابن قتيبة
قوله تعالى وأقرضتم الله قرضا حسنا في هذا الاقراض قولان
أحدهما أنه الزكاة الواجبة والثاني صدقة التطوع وقد شرحنا في البقرة معنى القرض الحسن
قوله تعالى فمن كفر بعد ذلك منكم يشير إلى الميثاق فقد ضل سواء السبيل أي أخطأ قصد الطريق

فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خآئنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين
قوله تعالى فبما نقضهم في الكلام محذوف تقديره فنقضوا فبنقضهم لعناهم وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال
أحدها أنها التعذيب بالجزية قاله ابن عباس والثاني التعذيب بالمسخ قاله الحسن ومقاتل والثالث الإبعاد من الرحمة قاله عطاء والزجاج
قوله تعالى وجعلنا قلوبهم قاسية قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر قاسية بالألف يقال قست فيه قاسية وقرأ حمزة والكسائي والمفضل عن عاصم قسية بغير ألف مع تشديد الياء لأنه قد يجيء فاعل وفعيل مثل شاهد وشهيد وعالم وعليم والقسوة خلاف اللين والرقة وقد ذكرنا هذا في البقرة وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال
أحدها تغيير حدود التوراة قاله ابن عباس والثاني تغيير صفة محمد صلى الله عليه و سلم قاله مقاتل والثالث تفسيره على غير ما أنزل قاله الزجاج
قوله تعالى عن مواضعه مبين في سورة النساء
قوله تعالى ونسوا حظا مما ذكروا به النسيان هاهنا الترك عن عمد والحظ النصيب قال مجاهد نسوا كتاب الله الذي أنزل عليهم وقال غيره تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم وفي معنى ذكروا به قولان
أحدهما أمروا والثاني أوصوا

قوله تعالى ولا تزال تطلع على خائنة منهم وقرأ الأعمش على خيانة منهم قال ابن قتيبة الخائنة الخيانة ويجوز أن تكون صفة للخائن كما يقال رجل طاغية وراوية للحديث قال ابن عباس وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وخروج كعب بن الأشرف إلى أهل مكة للتحريض على رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا قليلا منهم لم ينقضوا العهد وهم عبدالله بن سلام وأصحابه وقيل بل القليل ممن لم يؤمن
قوله تعالى فاعف عنهم واصفح واختلفوا في نسخها على قولين
أحدهما أنها منسوخة قاله الجمهور واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال
أحدها أنها آية السيف والثاني قوله قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله التوبة 29 والثالث قوله وإما تخافن من قوم خيانة الأنفال 58
والثاني أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه و سلم عهد فغدروا وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه و سلم فأظهره الله عليهم ثم أنزل الله هذه الآية ولم تنسخ
قال ابن جرير يجوز أن يعفى عنهم في غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصغار فلا يتوجه النسخ

ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيمة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون
قوله تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم قال الحسن إنما قال قالوا إنا نصارى ولم يقل من النصارى ليدل على أنهم ليسوا على منهاج النصارى حقيقة وهم الذين اتبعوا المسيح وقال قتادة كانوا بقرية يقال لها ناصرة فسموا بهذا الاسم قال مقاتل أخذ عليهم الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد فتركوا ما أمروا به
قوله تعالى فأغرينا بينهم قال النضر هيجنا وقال المؤرج حرشنا بعضهم على بعض وقال الزجاج ألصقنا بهم ذلك يقال غريت بالرجل غرى مقصورا إذا لصقت به هذا قول الأصمعي وقال غير الأصمعي غريت به غراء ممدود وهذا الغراء الذي يغرى به إنما يلصق به الأشياء ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء أنهم صاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا وفي الهاء والميم من قوله بينهم قولان
أحدهما أنها ترجع إلى اليهود والنصارى قاله مجاهد وقتادة والسدي
والثاني أنها ترجع إلى النصارى خاصة قاله الربيع وقال الزجاج هم النصارى منهم النسطورية واليعقوبية والملكية وكل فرقة منهم تعادي الأخرى وفي تمام الآية وعيد شديد لهم

يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
قوله تعالى يا أهل الكتاب فيهم قولان
أحدهما أنهم اليهود والثاني اليهود والنصارى والرسول محمد صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب قال ابن عباس أخفوا آية الرجم وأمر محمد صلى الله عليه و سلم وصفته ويعفو عن كثير يتجاوز فلا يخبرهم بكتمانه فان قيل كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه فعنه جوابان
أحدهما أنه كان متلقيا ما يؤمر به فاذا أمر باظهار شيء من أمرهم أظهره وأخذهم به وإلا سكت
والثاني أن عقد الذمة إنما كان على أن يقروا على دينهم فلما كتموا كثيرا مما أمروا به واتخذوا غيره دينا أظهر عليهم ما كتموه من صفته وعلامة نبوته لتتحقق معجزته عندهم واحتكموا إليه في الرجم فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته وسكت عن أشياء ليتحقق إقرارهم على دينهم
قوله تعالى قد جاءكم من الله نور قال قتادة يعني بالنور النبي محمد صلى الله عليه و سلم
وقال غيره هو الإسلام فأما الكتاب المبين فهو القرآن يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم

قوله تعالى يهدي به الله يعني بالكتاب ورضوانه ما رضيه الله تعالى
والسبل جمع سبيل قال ابن عباس سبل السلام دين الاسلام وقال السدي السلام هو الله وسبله دينه الذي شرعه قال الزجاج وجائز أن يكون سبل السلام طريق السلامة التي من سلكها سلم في دينه وجائز أن يكون السلام اسم الله عز و جل فيكون المعنى طرق الله عز و جل
قوله تعالى ويخرجهم من الظلمات قال ابن عباس يعني الكفر إلى النور يعني الإيمان باذنه أي بأمره ويهديهم إلى صراط مستقيم وهو الاسلام وقال الحسن طريق الحق لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشآء والله على كل شيء قدير
قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قال ابن عباس هؤلاء نصارى أهل نجران وذلك أنهم اتخذوه إلها قل فمن يملك من الله شيئا أي فمن يقدر أن يدفع من عذابه شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم أي فلو كان إلها كما تزعمون لقدر أن يرد أمر الله إذا جاءه باهلاكه أو إهلاك أمه ولما نزل أمر الله بأمه لم يقدر أن يدفع عنها وفي قوله يخلق ما يشاء رد عليهم حيث قالوا للنبي فهات مثله من غير أب
فان قيل فلم قال ولله ملك السموات والأرض وما بينهما ولم يقل وما بينهن فالجواب أن المعنى وما بين هذين النوعين من الأشياء قاله ابن جرير

وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير
قوله تعالى وقالت اليهود والنصارى قال مقاتل هم يهود المدينة ونصارى نجران وقال السدي قالوا إن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل إن ولدك بكري من الولد فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ثم ينادي مناد أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل وقيل إنهم لما قالوا المسيح ابن الله كان معنى قولهم نحن أبناء الله أي منا ابن الله وفي قوله قل فلم يعذبكم بذنوبكم إبطال لدعواهم لأن الأب لا يعذب ولده والحبيب لا يعذب حبيبه وهم يقولون إن الله يعذبنا أربعين يوما بالنار

وقيل معنى الكلام فلم عذب منكم من مسخه قردة وخنازير وهم أصحاب السبت والمائدة
قوله تعالى بل أنتم بشر ممن خلق أي أنتم كسائر بني آدم تجازون بالإحسان والإساءة قال عطاء يغفر لمن يشاء وهم الموحدون ويعذب من يشاء وهم المشركون يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جآءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير
قوله تعالى يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا سبب نزولها أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا يا معشر اليهود اتقوا الله والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته
فقال وهب بن يهوذا ورافع ما قلنا هذا لكم وما أنزل الله بعد موسى من كتاب ولا أرسل رسولا بشيرا ولا نذيرا بعده فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
فأما الفترة فأصلها السكون يقال فتر الشيء يفتر فتورا إذا سكنت حدته وانقطع عما كان عليه والطرف الفاتر الذي ليس بحديد والفتور الضعف وفي مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة أقوال

أحدها أنه كان بين عيسى ومحمد عليهم السلام ستمائة سنة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال سلمان الفارسي ومقاتل
والثاني خمسمائة سنة وستون سنة قاله قتادة
والثالث أربع مائة وبضع وثلاثون سنة قاله الضحاك
والرابع خمسمائة سنة وأربعون سنة قاله ابن السائب وقال أبو صالح عن ابن عباس على فترة من الرسل أي انقطاع منهم قال وكان بين ميلاد عيسى وميلاد محمد صلى الله عليه و سلم خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة وهي فترة وكان بعد عيسى أربعة من الرسل فذلك قوله إذا أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث يس 14 قال والرابع لا أدري من هو وكان بين تلك السنين مائة سنة وأربع وثلاثون نبوة وسائرها فترة قال أبو سليمان الدمشقي والرابع والله أعلم خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم نبي ضيعه قومه

قوله تعالى أن تقولوا قال الفراء كي لا تقولوا ما جاءنا من بشير مثل قوله يبين الله لكم أن تضلوا النساء 176 وقال غيره لئلا تقولوا وقيل كراهة أن تقولوا وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتكم ما لم يؤت أحدا من العالمين
قوله تعالى إذ جعل فيكم أنبياء فيهم قولان
أحدهما أنهم السبعون الذين اختارهم موسى وانطلقوا معه إلى الجبل جعلهم الله أنبياء بعد موسى وهارون وهذا قول ابن السائب ومقاتل
والثاني أنهم الأنبياء الذين أرسلوا من بني إسرائيل بعد موسى ذكره الماوردي وبماذا جعلهم ملوكا فيه ثمانية أقوال
أحدها بالمن والسلوى والحجر والثاني بأن جعل للرجل منهم زوجة وخادما والثالث بالزوجة والخادم والبيت رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس وهذا الثالث اختيار الحسن ومجاهد والرابع بالخادم والبيت قاله عكرمة والخامس بتمليكهم الخدم وكانوا أول من تملك الخدم ومن اتخذ

خادما فهو ملك قاله قتادة والسادس بكونهم أحرارا يملك الإنسان منهم نفسه وأهله وماله قاله السدي والسابع بالمنازل الواسعة فيها المياه الجارية قاله الضحاك والثامن بأن جعل لهم الملك والسلطان ذكره الماوردي
قوله تعالى وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين
أحدهما أنهم قوم موسى وهذا مذهب ابن عباس ومجاهد قال ابن عباس ويعني بالعالمين الذين هم بين ظهرانيهم وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال
أحدها المن والسلوى والحجر والغمام رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به
والثاني أنه الدار والخادم والزوجة رواه عطاء عن ابن عباس قال ابن جرير ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا
والثالث كثرة الأنبياء فيهم ذكره الماوردي
والثاني أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه و سلم وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي مالك يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين

قوله تعالى يا قوم ادخلوا وقرأ ابن محيصن يا قوم بضم الميم وكذلك يا قوم اذكروا نعمة يا قوم اعبدوا الأعراف 59 وفي معنى المقدسة قولان
أحدهما المطهرة قاله ابن عباس والزجاج قال وقيل للسطل القدس لأنه يتطهر منه وسمي بيت المقدس لأنه يتطهر فيه من الذنوب وقيل سماها مقدسة لأنها طهرت من الشرك وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين
والثاني أن المقدسة المباركة قاله مجاهد
وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال
أحدها أنها أريحا رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال السدي وابن زيد قال السدي أريحا هي أرض بيت المقدس وروي عن الضحاك أنه قال المراد بهذه الأرض إيلياء وبيت المقدس قال ابن قتيبة وقرأت في مناجاة موسى أنه قال اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة ومن الطير الحمامة ومن البيوت بكة وإيلياء ومن إيلياء بيت المقدس فهذا يدل على أن إيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن إيلياء بيت المقدس وهو معرب قال الفرزدق ... وبيتان بيت الله نحن ولاته ... وبيت بأعلى إيلياء مشرف ...
والقول الثاني أنها الطور وما حوله رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به
والثالث أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردن رواه أبو صالح عن ابن عباس
والرابع أنها الشام كلها قاله قتادة

وفي قوله تعالى التي كتب الله لكم ثلاثة أقوال
أحدها أنه بمعنى أمركم وفرض عليكم دخولها قاله ابن عباس والسدي
والثاني أنه بمعنى وهبها الله لكم قاله محمد بن إسحاق وقال ابن قتيبة جعلها لكم
والثالث كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم
فان قيل كيف قال فانها محرمة عليهم وقد كتبها لهم فعنه جوابان
أحدهما أنه إنما جعلها لهم بشرط الطاعة فلما عصوا حرمها عليهم
والثاني أنه كتبها لبني إسرائيل وإليهم صارت ولم يعن موسى أن الله كتبها للذين أمروا بدخولها بأعيانهم قال ابن جرير ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم وأريد به الخصوص فتكون مكتوبة لبعضهم وقد دخلها يوشع وكالب
قوله تعالى ولا ترتدوا على أدباركم فيه قولان
أحدهما لا ترجعوا عن أمر الله إلى معصيته والثاني لا ترجعوا إلى الشرك به قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فان يخرجوا منها فانا داخلون
قوله تعالى إن فيها قوما جبارين قال الزجاج الجبار من الآدميين الذي يجبر الناس على ما يريد يقال جبار بين الجبرية والجبرية بكسر الجيم والباء والجبروة والجبورة والتجبار والجبروت
وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبارين ثلاثة أقوال
أحدها أنهم كانوا ذوي قوة قاله ابن عباس والثاني أنهم كانوا عظام الخلق والأجسام قاله قتادة والثالث أنهم كانوا قتالين قاله مقاتل

الإشارة إلى القصة
قال ابن عباس لم نزل موسى وقومه بمدينة الجبارين بعث اثني عشر رجلا ليأتوه بخبرهم فلقيهم رجل من الجبارين فجعلهم في كسائه فأتى بهم المدينة ونادى في قومه فاجتمعوا فقالوا لهم من أين أنتم فقالوا نحن قوم موسى بعثنا لنأتيه بخبركم فأعطوهم حبة من عنب توقر الرجل وقالوا لهم قولوا لموسى وقومه اقدروا قدر فاكههم فلما رجعوا قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وقال السدي كان الذي لقيهم يقال له عاج يعني عوج بن عناق فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حجرته وعلى رأسه حزمة حطب وانطلق بهم إلى امرأته فقال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا فطرحهم بين يديها وقال ألا أطحنهم برجلي فقالت امرأته لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا فلما خرجوا قالوا يا قوم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدوا عن نبي الله فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك فنكث عشرة وكتم رجلان وقال مجاهد لما رأى النقباء الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أو أربعة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أو أربعة فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع وابن يوقنا

قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فاذا دخلتموه فانكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون في الرجلين ثلاثة أقوال
أحدها أنهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنة قاله ابن عباس وقال مجاهد ابن يوقنا وهما من النقباء
والثاني أنهما كانا من الجبارين فأسلما روي عن ابن عباس
والثالث أنهما كانا في مدينة الجبارين وهما على دين موسى قاله الضحاك وقرأ ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو رجاء وأيوب يخافون بضم الياء على معنى أنهما كانا من العدو فخرجا مؤمنين وفي معنى خوفهم خوفهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم خافوا الله وحده والثاني خافوا الجبارين ولم يمنعهم خوفهم قول الحق والثالث يخاف منهم على قراءة ابن جبير
وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال
أحدها الإسلام قاله ابن عباس والثاني الصلاح والفضل واليقين قاله عطاء والثالث الهدى قاله الضحاك والرابع الخوف ذكره ابن جرير عن بعض السلف
قوله تعالى ادخلوا عليهم الباب قال ابن عباس قال الرجلان ادخلوا عليهم باب القرية فانهم قد ملئوا منا رعبا وفرقا

قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون
قوله تعالى فاذهب أنت وروبك فقاتلا قال ابن زيد قالوا له انظر كما صنع ربك بفرعون وقومه فليصنع بهؤلاء وقال مقاتل فاذهب أنت وسل ربك النصر وقال غيرهما إذهب أنت وليعنك ربك قال ابن مسعود لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه و سلم وهو يدعو على المشركين فقال لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم أشرق لذلك وجهه وسر به وقال أنس استشار رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس يوم خرج إلى بدر فأشار عليه أبو بكر ثم استشارهم فأشار عليه عمر فسكت فقال رجل من الأنصار إنما يريدكم فقالوا يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك

قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين
قوله تعالى لا أملك إلا نفسي وأخي فيه قولان
أحدهما لا أملك إلا نفسي وأخي لا يملك إلا نفسه
والثاني لا أملك إلا نفسي وإلا أخي أي وأملك طاعة أخي لأن أخاه إذا أطاعه فهو كالملك له وهذا على وجه المجاز كما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله يعني أني متصرف حيث صرفتني وأمرك جائز في مالي
قوله تعالى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال ابن عباس اقض بيننا وبينهم وقال أبو عبيدة باعد وافصل وميز وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال

أحدها العاصون قاله ابن عباس والثاني الكاذبون قاله ابن زيد
والثالث الكافرون قاله أبو عبيدة قال السدي غضب موسى حين قالوا له اذهب أنت وربك فدعا عليهم وكانت عجلة من موسى عجلها قال فانها محرمة عليهم أربعة سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
قوله تعالى فانها محرمة عليهم الإشارة إلى الأرض المقدسة ومعنى تحريمها عليهم منعهم منها فأما نصب الأربعين فقال الفراء هو منصوب بالتحريم وجائز أن يكون منصوبا ب يتيهون وقال الزجاج لا يجوز أن ينتصب بالتحريم لأن التفسير جاء أنها محرمة عليهم أبدا قلت وقد اختلف المفسرون في ذلك فذهب الأكثرون منهم عكرمة وقتادة إلى ما قال الزجاج وأنها حرمت عليهم أبدا قال عكرمة فانها محرمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة وذهب قوم منهم البيع بن أنس إلى أنها حرمت عليهم أربعين سنة ثم أمروا بالسير إليها وهذا اختيار ابن جرير قال إنما نصبت بالتحريم والتحريم كان عاما في حق الكل ولم يدخلها في هذه المدة منهم أحد فلما انقضت أذن لمن بقي منهم بالدخول مع ذراريهم قال أبو عبيدة ومعنى يتيهون يحورون ويضلون

الإشارة إلى قصتهم
قال ابن عباس حرم الله على الذين عصوا دخول بيت المقدس فلبثوا في تيههم أربعين سنة وماتوا في التيه ومات موسى وهارون ولم يدخل بيت المقدس إلا يوشع وكالب بأبناء القوم وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتحها وقال مجاهد تاهوا أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا وقال السدي لما ضرب الله عليهم التيه ندم موسى على دعائه عليهم وقالوا له ما صنعت بنا أين الطعام فأنزل الله المن قالوا فأين الشراب فأمر موسى أن يضرب بعصاه الحجر قالوا فأين الظل فظلل عليهم الغمام قالوا فأين اللباس وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب وقبض موسى ولم يبق أحد ممن أبى دخول قرية الجبارين إلا مات ولم يشهد الفتح وفيه قول آخر أنه لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إسرائيل من التيه وقال لهم ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة إلى آخر القصة وهذا قول الربيع بن أنس وعبدالرحمن ابن زيد قال ابن ابن جرير الطبري وأبو سليمان الدمشقي وهذا الصحيح وأن موسى هو الذي فتح مدينة الجبارين مع الصالحين من بني إسرائيل لأن أهل السيرة أجمعوا على أن موسى هو قاتل عوج وكان عوج ملكهم وكان بلعم ابن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله ولم يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب وإنما حرمت على الذين لم يطيعوا وفي مسافة أرض التيه قولان
أحدهما تسعة فراسخ قاله ابن عباس قال مقاتل هذا عرضها وطولها ثلاثون فرسخا والثاني ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخا حكاه مقاتل أيضا

قوله تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين قال الزجاج لا تحزن على قوم شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل وقال ابن قتيبة يقال أسيت على كذا أي حزنت فأنا آسي أسى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين
قوله تعالى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق النبأ الخبر وفي ابني آدم قولان
أحدهما أنهما ابناه لصلبه وهما قابيل وهابيل قاله ابن عمر وابن عباس ومجاهد وقتادة
والثاني أنها أخوان من بني إسرائيل ولم يكونا ابني آدم لصلبه هذا قول الحسن والعلماء على الأول وهو أصح لقوله ليريه كيف يواري سوأة أخيه المائدة 31 ولو كان من بني إسرائيل لكان قد عرف الدفن ولأن

النبي صلى الله عليه و سلم قال عنه إنه أول من سن القتل وقوله تعالى بالحق أي كما كان والقربان فعلان من القرب وقد ذكرناه في آل عمران
وفي السبب الذي قربا لأجله قولان
أحدهما أن آدم عليه السلام كان قد نهي أن ينكح المرأة التي أخاها الذي هو توأمها وأجيز له أن ينكحها غيره من إخوتها وكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى فولدت له ابنة وسيمة وأخرى دميمة فقال أخو الدميمة لأخي الوسيمة أنكحني أختك وأنكحك أختى فقال أخو الوسيمة أنا أحق بأختي وكان أخو الوسيمة صاحب حرث وأخو الدميمة صاحب غنم فقال هلم فلنقرب قربانا فأينا تقبل قربانه فهو أحق بها فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن وجاء صاحب الحرث بصبرة من طعام فتقبل الكبش فخزنه الله في الجنة أربعين خريفا فهو الذي ذبحه إبراهيم فقتله صاحب الحرث

فولد آدم كلهم من ذلك الكافر رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
والثاني أنهما قرباه من غير سبب روى العوفي عن ابن عباس أن ابني آدم كانا قاعدين يوما فقالا لو قربنا قربانا فجاء صاحب الغنم بخير غنمه وأسمنها وجاء الآخر ببعض زرعه فنزلت النار فأكلت الشاة وتركت الزرع فقال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا أن قربانك تقبل وأنك خير مني لأقتلنك واختلفوا هل قابيل وأخته ولدا قبل هابيل وأخته أم بعدهما على قولين وهل كان قابيل كافرا أو فاسقا غير كافر فيه قولان
وفي سبب قبول قربان هابيل قولان
أحدهما أنه كان أتقى لله من قابيل والثاني أنه تقرب بخيار ماله وتقرب قابيل بشر ماله وهل كان قربانهما بأمر آدم أم من قبل أنفسهما فيه قولان
أحدهما أنه كان وآدم قد ذهب إلى زيارة البيت والثاني أن آدم أمرهما بذلك وهل قتل هابيل بعد تزويج أخت قابيل أم لا فيه قولان
أحدهما أنه قتله قبل ذلك لئلا يصل إليها والثاني أنه قتله بعد نكاحها
قوله تعالى قال لأقتلنك وروى زيد عن يعقوب لأقتلنك بسكون النون وتخفيفها والقائل هو الذي لم يتقبل منه قال الفراء إنما حذف ذكره

لأن المعنى يدل عليه ومثل ذلك في الكلام أن تقول إذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت وإذا اجتمع السفيه والحليم حمد وإنما كان ذلك لأن المعنى لا يشكل فلو قلت مر بي رجل وامرأة فأعنت وأنت تريد أحدهما لم يجز لأنه ليس هناك علامة تدل على مرادك وفي المراد بالمتقين قولان
أحدهما أنهم الذين يتقون المعاصي قاله ابن عباس
والثاني أنهم الذين يتقون الشرك قاله الضحاك
لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين
قوله تعالى ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك فيه قولان
أحدهما ما أنا بمنتصر لنفسي قاله ابن عباس والثاني ما كنت لأبتدئك قاله عكرمة وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان
أحدهما أنه منعه التحرج مع قدرته على الدفع وجوازه له قاله ابن عمر وابن عباس

والثاني أن دفع الانسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزا قاله الحسن ومجاهد وقال ابن جرير ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله ثم ترك الدفع عن نفسه وقد ذكر أنه قتله غيلة فلا يدعى ما ليس في الآية إلا بدليل إني أريد أن تبوء باثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاؤا الظالمين
قوله تعالى إني أريد أن تبوء باثمي وإثمك فيه قولان
أحدهما إني أريد أن ترجع باثم قتلي وإثمك الذي في عنقك هذا قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك
والثاني أن تبوء باثمي في خطاياي وإثمك في قتلك لي وهو مروي عن مجاهد أيضا قال ابن جرير والصحيح عن مجاهد القول الأول وقد روى

البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل فان قيل كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإثم وهو معصية والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أنه ما أراد لأخيه الخطيئة وإنما أراد إن قتلتني أردت أن تبوء بالإثم وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج
والثاني أن في الكلام محذوفا تقديره إني أريد أن لا تبوء باثمي وإثمك فحذف لا كقوله وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم لقمان 10 أي أن لا تميد بكم ومنه قول امرئ القيس ... فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ...
أراد لا أبرح وهذا مذهب ثعلب

والثالث أن المعنى أريد زوال أن تبوء باثمي وإثمك وبطلان أن تبوء باثمي وإثمك فحذف ذلك وقامت أن مقامه كقوله وأشربوا في قلوبهم العجل البقرة 93 أي حب العجل ذكره والذي قبله ابن الأنباري
قوله تعالى وذلك جزاء الظالمين الإشارة إلى مصاحبة النار فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين
قوله تعالى فطوعت له نفسه فيه خمسة أقوال
أحدها تابعته على قتل أخيه قاله ابن عباس والثاني شجعته قاله مجاهد والثالث زينت له قاله قتادة والرابع رخصت له قاله أبو الحسن الأخفش والخامس أن طوعت فعلت من الطوع والعرب تقول طاع لهذه الظبية أصول هذا الشجر وطاع له كذا أي أتاه طوعا حكاه الزجاج عن المبرد وقال ابن قتيبة شايعته وانقادت له يقال لساني لا يطوع بكذا أي لا ينقاد وهذه المعاني تتقارب
وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال
أحدها أنه رماه بالحجارة حتى قتله رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني ضرب رأسه بصخرة وهو نائم رواه مجاهد عن ابن عباس والسدي عن أشياخه
والثالث رضخ رأسه بين حجرين قال ابن جريج لم يدر كيف يقتله

فتمثل له إبليس وأخذ طائرا فوضع رأسه على حجر ثم شدخه بحجر آخر ففعل به هكذا وكان لهابيل يومئذ عشرون سنة وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال
أحدها على جبل ثور قاله ابن عباس والثاني بالبصرة قاله جعفر الصادق والثالث عند عقبة حراء حكاه ابن جرير الطبري
و في قوله فأصبح من الخاسرين ثلاثة أقوال
أحدها من الخاسرين الدنيا والآخرة فخسرانه الدنيا أنه أسخط والديه وبقي بلا أخ وخسرانه الآخرة أنه أسخط ربه وصار إلى النار قاله ابن عباس والثاني أنه أصبح من الخاسرين الحسنات قال الزجاج
والثالث مني الخاسرين أنفسهم باهلاكهم إياها قاله القاضي أبو يعلى فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين
قوله تعالى فبعث الله غرابا يبحث قال ابن عباس حمله على عاتقه فكان إذا مشى تخط يداه ورجلاه في الأرض وإذا قعد وضعه إلى جنبه حتى رأى غرابين اقتتلا فقتل أحدهم الآخر ثم بحث له الأرض حتى واراه بعد أن حمله سنين وقال مجاهد حمله على عاتقه مائة سنة وقال عطية حمله حتى أروح وقال مقاتل حمله ثلاثة أيام وفي المراد بسوأة أخيه قولان
أحدهما عورة أخيه والثاني جيفة أخيه

قوله تعالى فأصبح من النادمين قان قيل أليس الندم توبة فلم لم يقبل منه فعنه أربعة أجوبة
أحدها أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدمنا ويكون توبة لهذه الأمة لأنها خصت بخصائص لم تشارك فيها قاله الحسن بن الفضل
والثاني أنه ندم على حمله لا على قتله والثالث أنه ندم إذ لم يواره حين قتله والرابع أنه ندم على فوات أخيه لا على ركوب الذنب وفي هذه القصة تحذير من الحسد لأنه الذي أهلك قابيل من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون
قوله تعالى من أجل ذلك قال الضحاك من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما وقال أبو عبيدة من جناية ذلك ومن جري ذلك قال الشاعر

وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله ...
أي جانيه وجار ذلك عليهم وقال قوم الكلام متعلق بما قبله والمعنى فأصبح من النادمين من أجل ذلك فعلى هذا يحسن الوقف هاهنا وعلى الأول لا يحسن الوقف والأول أصح و كتبنا بمعنى فرضنا ومعنى قتل نفسا بغير نفس أي قتلها ظلما ولم تقتل نفسا أو فساد في الأرض فساد منسوق على نفس المعنى أو بغير فساد تستحق به القتل وقيل أراد بالفساد هاهنا الشرك وفي معنى قوله فكأنما قتل الناس جميعا خمسة أقوال
أحدها أن عليه إثم من قتل الناس جميعا قاله الحسن والزجاج
والثاني أنه يصلى النار بقتل المسلم كما لو قتل الناس جميعا قاله مجاهد وعطاء وقال ابن قتيبة يعذب كما يعذب قاتل الناس جميعا
والثالث أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعا قاله ابن زيد
والرابع أن معنى الكلام ينبغي لجميع الناس أن يعينوا ولي المقتول حتى يقيدوه منه كما لو قتل أولياءهم جميعا ذكره القاضي أبو يعلى

والخامس أن المعنى من قتل نبيا أو إماما عادلا فكأنما قتل الناس جميعا رواه عكرمة عن ابن عباس والقول بالعموم أصح فان قيل إذا كان إثم قاتل الواحد كاثم من قتل الناس جميعا دل هذا على أنه لا إثم عليه في قتل من يقتله بعد قتل الواحد إلى أن يفنى الناس فالجواب أن المقدار الذي يستحقه قاتل الناس جميعا معلوم عند الله محدود فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإثم المعلوم والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه وكلما زاد قتلا زاده الله إثما ومثل هذا قوله من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها الأنعام 160 فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات وهذا الجواب عن سؤال سائل إن قال إذا كان من أحيا نفسا فله ثواب من أحيا الناس فما ثواب من أحيا الناس كلهم هذا كله منقول عن المفسرين والذي أراه أن التشبيه بالشيء تقريب منه لأنه لا يجوز أن يكون إثم قاتل شخصين كاثم قاتل شخص وإنما وقع التشبيه ب كأنما لأن جميع الخلائق من شخص واحد فالمقتول يتصور منه نشر عدد الخلق كلهم

وفي قوله ومن أحياها خمسة أقوال
أحدها استنقذها من هلكة روي عن ابن مسعود ومجاهد قال الحسن من أحياها من غرق أو حرق أو هلاك وفي رواية عكرمة عن ابن عباس من شد عضد نبي أو إمام عادل فكأنما أحيا الناس جميعا
والثاني ترك قتل النفس المحرمة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال مجاهد في رواية
والثالث أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص قاله الحسن وابن زيد وابن قتيبة
والرابع أن يزجر عن قتلها وينهى
والخامس أن يعين الولي على استيفاء القصاص لأن في القصاص حياة ذكرهما القاضي أبو يعلى وفي قوله فكأنما أحيا الناس جميعا قولان
أحدهما فله أجر من أحيا الناس جميعا قاله الحسن وابن قتيبة
والثاني فعلى جميع الناس شكره كما لو أحياهم ذكره الماوردي
قوله تعالى ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات يعني بني إسرائيل الذين جرى ذكرهم إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم

من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم
قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في ناس من عرينة قدموا المدينة فاجتووها فبعثهم رسول الله في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا فصحوا وارتدوا عن الاسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل فأرسل رسول الله في آثارهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمر أعينهم وألقاهم بالحرة حتى ماتوا ونزلت هذه الآية رواه قتادة عن أنس وبه قال سعيد بن جبير والسدي
والثاني أن قوما من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه و سلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله بهذه الآية إن شاء أن يقتلهم وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال الضحاك

والثالث أن أصحاب أبي بردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاؤوا يريدون الاسلام فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال ابن السائب كان أبو بردة واسمه هلال بن عويمر وادع النبي صلى الله عليه و سلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين لم يهج ومن مر بهلال إلى سول الله صلى الله عليه و سلم لم يهج فمر قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناس من قوم هلال فنهدوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم ولم يكن هلال حاضرا فنزلت هذه الآية
والرابع أنها نزلت في المشركين رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن واعلم أن ذكر المحاربة لله عز و جل في الآية مجاز

وفي معناها للعلماء قولان
أحدهما أنه سماهم محاربين له تشبيها بالمحاربين حقيقة لأن المخالف محارب وإن لم يحارب فيكون المعنى يخالفون الله ورسوله بالمعاصي
والثاني أن المراد يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وقال سعيد بن جبير أراد بالمحاربة لله ورسوله الكفر بعد الاسلام وقال مقاتل أراد بها الشرك فأما الفساد فهو القتل والجراح وأخذ الأموال وإخافة السبيل
قوله تعالى أن يقتلوا أو يصلبوا اختلف العلماء هل هذه العقوبة على الترتيب أم على التخيير فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على الترتيب وإنهم إذا قتلوا وأخذوا المال أو قتلوا ولم يأخذوا قتلوا وصلبوا وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن لم يأخذوا المال نفوا قال ابن الأنباري فعلى هذا تكون أو مبعضة فالمعنى بعضهم يفعل به كذا وبعضهم كذا ومثله قوله كونوا هودا أو نصارى البقرة 135
المعنى قال بعضهم هذا وقال بعضهم هذا وهذا القول اختيار أكثر اللغويين
وقال الشافعي إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وقال مالك الإمام مخير في إقامة أي الحدود شاء سواء قتلوا أو لم يقتلوا أخذوا المال أو لم يأخذوا والصلب بعد القتل وقال أبو حنيفة

ومالك يصلب ويبعج برمح حتى يموت واختلفوا في مقدار زمان الصلب فعندنا أنه يصلب بمقدار ما يشتهر صلبه واختلف أصحاب الشافعي فقال بعضهم ثلاثة أيام وهو مذهب أبي حنيفة وقال بعضهم يترك حتى يسيل صديده قال أبو عبيدة ومعنى من خلاف أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى يخالف بين قطعهما فأما النفي فأصله الطرد والإبعاد
وفي صفة نفيهم أربعة أقوال
أحدها إبعادهم من بلاد الاسلام إلى دار الحرب قاله أنس بن مالك والحسن وقتادة وهذا إنما يكون في حق المحارب المشرك فأما المسلم فلا ينبغي أن يضطر إلى ذلك
والثاني أن يطلبوا لتقام عليهم الحدود فيبعدوا قاله ابن عباس ومجاهد
والثالث إخراجهم من مدينتهم إلى مدينة أخرى قاله سعيد بن جبير
وقال مالك ينفى إلى بلد غير بلده فيحبس هناك
والرابع أنه الحبس قاله أبو حنيفة وأصحابه وقال أصحابنا صفة النفي أن يشرد ولا يترك يأوي في بلد فكلما حصل في بلد نفي إلى بلد غيره
وفي الخزي قولان
أحدهما أنه العقاب والثاني الفضيحة
وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر أم لا ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة وقال الشافعي

وأبو يوسف المصر والصحارى سواء ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب كما يعتبر في حق السارق خلافا لمالك إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم
قوله تعالى إلا الذين تابوا قال أكثر المفسرين هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم وآمنوا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دم وهذا لا خلاف فيه فأما المحاربون المسلمون فاختلفوا فيهم ومذهب أصحابنا أن حدود الله تسقط عنهم من انحتام القتل والصلب والقطع والنفي فأما حقوق الآدميين من الجراح والأموال فلا تسقطها التوبة وهذا قول الشافعي يآ أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيمة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم
قوله تعالى وابتغوا إليه الوسيلة في الوسيلة قولان

أحدهما أنها القرية قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والفراء وقال قتادة تقربوا إليه بما يرضيه قال أبو عبيدة يقال توسلت إليه أي تقربت إليه وأنشد ... إذا غفل الواشون عدنا لو صلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل ...
والثاني المحبة يقول تحببوا إلى الله هذا قول ابن زيد والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم
قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما قال ابن السائب نزلت في طعمة بن أبيرق وقد مضت قصته في سورة النساء والسارق إنما سمي سارقا لأنه يأخذ الشيء في خفاء واسترق السمع إذا تسمع مستخفيا قال المبرد والسارق هاهنا مرفوع بالابتداء لأنه ليس القصد منه واحدا بعينه وإنما هو

كقولك من سرق فاقطع يده وقال ابن الأنباري وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى الشرط تقديره من سرق فاقطعوا يده قال الفراء وإنما قال فاقطعوا أيديهما لأن كل شيء موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع تقول قد هشمت رؤوسهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضربا ومثله فقد صنعت قلوبكما التحريم 4 وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الانسان اليدين والرجلين والعينين فلما جرى أكثره على هذا ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب التثنية وقد يجوز تثنيتهما قال أبو ذؤيب ... فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... كنوافذ العبط التي لا ترقع

فصل
وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كل سارق وبينت السنة أن المراد به السارق لنصاب من حرز مثله كما قال تعالى فاقتلوا المشركين التوبة 5 ونهى النبي صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء والصبيان وأهل الصوامع واختلف في مقدار النصاب فمذهب أصحابنا أن للسرقة نصابين أحدهما من الذهب ربع دينار ومن الورق ثلاثة دراهم أو قيمة ثلاثة دراهم من العروض

وهو قول مالك وقال أبو حنيفة لا يقطع حتى تبلغ السرقة عشرة دراهم وقال الشافعي الاعتبار في ذلك بربع دينار وغيره مقوم به فلو سرق درهمين قيمتهما ربع دينار قطع فان سرق نصابا من التبر فعليه القطع وقال أبو حنيفة لا يقطع حتى يبلغ ذلك نصابا مضروبا فان سرق منديلا لا يساوي نصابا في طرفه دينار وهو لا يعلم لا يقطع وقال الشافعي يقطع فان سرق ستارة الكعبة قطع خلافا لأبي حنيفة فان سرق صبيا صغيرا حرا لم يقطع وإن كان على الصغير حلي وقال مالك يقطع بكل حال وإذا اشترك جماعة في سرقة نصاب قطعوا وبه قال مالك إلا أنه اشترط أن يكون المسروق ثقيلا يحتاج إلى معاونة بعضهم لبعض في إخراجه وقال أبو حنيفة والشافعي لا قطع

عليه بحال ويجب القطع على جاحد العارية عندنا وبه قال سعيد بن المسيب والليث بن سعد خلافا لأكثر الفقهاء

فصل
فأما الحرز فهو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم بها فكل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو لا باب له إلا أنه محجر بالبناء فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة فانه ليس في حرز إلا أن يكون عنده من يحفظه ونقل الميموني عن أحمد إذا كان المكان مشتركا في الدخول إليه كالحمام والخيمة لم يقطع السارق منه ولم يعتبر الحافظ ونقل عنه ابن منصور لا يقطع سارق الحمام إلا أن يكون على المتاع أجير حافظ فأما النباش فقال أحمد في رواية أبي طالب يقطع وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة لا يقطع

فصل
فأما موضع قطع السارق فمن مفصل الكف ومن مفصل الرجل فأما اليد اليسرى والرجل اليمنى فروي عن أحمد لا تقطع وهو قول أبي بكر وعمر وعلي وأبي حنيفة وروي عنه أنها تقطع وبه قال مالك والشافعي ولا يثبت القطع إلا باقراره مرتين وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو يوسف وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي يثبت بمرة ويجتمع القطع والغرم موسرا كان أو معسرا وقال أبو حنيفة لا يجتمعان فان كانت العين باقية أخذها ربها وإن كانت مستهلكة فلا ضمان وقال مالك يضمنها إن كان موسرا ولا شيء عليه إن كان معسرا
قوله تعالى نكالا من الله قد ذكرنا النكال في البقرة
قوله تعالى والله عزيز حكيم قال سعيد بن جبير شديد في انتقامه حكيم إذ حكم بالقطع قال الأصمعي قرأت هذه الآية وإلى جنبي أعرابي فقلت والله غفور رحيم سهوا فقال الأعرابي كلام من هذا قلت كلام الله قال أعد فأعدت والله غفور رحيم فقال ليس هذا كلام الله فتنبهت فقلت والله عزيز حكيم فقال أصبت هذا كلام الله فقلت له أتقرأ القرآن قال لا قلت فمن أين علمت أني أخطأت فقال يا هذا عز فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع

فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير
قوله تعالى فمن تاب من بعد ظلمه سبب نزولها أن امرأة كانت قد سرقت فقالت يا رسول الله هل لي من توبة فنزلت هذه الآية قاله عبد الله ابن عمرو وقال سعيد بن جبير فمن تاب من بعد ظلمه أي سرقته وأصلح العمل فان الله يتجاوز عنه إن الله غفور لما كان منه قبل التوبة رحيم لمن تاب يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن

الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
قوله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بيهودي وقد حمموه وجلدوه فقال أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولكنه كثر في أشرافنا فكنا نترك الشريف ونقيمه على الوضيع فقلنا تعالوا نجمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه فأمر به فرجم ونزلت هذه الآية رواه البراء بن عازب

والثاني أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة
والثالث أنها نزلت في يهودي قتل يهوديا ثم قال سلوا محمدا فان كان بعث بالدية اختصمنا إليه وإن كان بعث بالقتل لم نأته قال الشعبي
والرابع أنها نزلت في المنافقين قاله ابن عباس ومجاهد
والخامس أن رجلا من الأنصار أشارت إليه قريظة يوم حصارهم على ماذا ننزل فأشار إليهم أنه الذبح قاله السدي قال مقاتل هو أبو لبابة بن عبد المنذر قالت له قريظة اننزل على حكم سعد فأشار بيده انه الذبح وكان حليفا لهم قال أبو لبابة فعلمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت هذه الآية ومعنى الكلام لا يحزنك مسارعة الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم وهم المنافقون ومن الذين هادوا وهم اليهود سماعون للكذب قال سيبويه هو مرفوع بالابتداء قال أبو الحسن الأخفش ويجوز أن يكون رفعه على معنى ومن الذين هادوا سماعون للكذب وفي معناه أربعة أقوال
أحدها سماعون منك ليكذبوا عليك والثاني سماعون للكذب أي قائلون له والثالث سماعون للكذب الذي بدلوه في توراتهم والرابع سماعون للكذب أي قابلون له ومنه سمع الله لمن حمده أي قبل

وفي قوله سماعون لقوم آخرين لم يأتوك قولان
أحدهما يسمعون لأولئك فهم عيون لهم
والثاني سماعون من قوم آخرين وهم رؤساؤهم المبدلون التوراة
وفي السماعين للكذب وللقوم الآخرين قولان
أحدهما أن السماعين للكذب يهود المدينة والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يهود فدك والثاني بالعكس من هذا
وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال
أحدها أنه تغيير حدود الله في التوراة وذلك أنهم غيروا الرجم قال ابن عباس والجمهور
والثاني تغيير ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه و سلم بالكذب عليه قاله الحسن
والثالث إخفاء صفة النبي صلى الله عليه و سلم والرابع إسقاط القود بعد استحقاقه
والخامس سوء التأويل وقال ابن جرير المعنى يحرفون حكم الكلم فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين بذلك
قوله تعالى من بعد مواضعه قال الزجاج أي من بعد أن وضعه الله مواضعه فأحل حلاله وحرم حرامه
قوله تعالى يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه في القائلين لهذا قولان
أحدهما أنهم اليهود وذلك أن رجلا وامرأة من أشرافهم زنيا فكان حدهما الرجم فكرهت اليهود رجمهما فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم يسألونه عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا وقالوا إن أفتاكم بالجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فلا تعملوا به هذا قول الجمهور

والثاني أنهم المنافقون قال قتادة وذلك أن بني النضير كانوا لا يعطون قريظة القود إذا قتلوا منهم وإنما يعطونهم الدية فاذا قتلت قريظة من النضير لم يرضوا إلا بالقود تعززا عليهم فقتل بنو النضير رجلا من قريظة عمدا فأرادوا رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال رجل من المنافقين إن قتيلكم قتيل عمد ومتى ترفعوا ذلك إلى محمد خشيت عليكم القود فان قبلت منكم الدية فأعطوا وإلا فكونوا منه على حذر وفي معنى فاحذروا ثلاثة أقوال
أحدها فاحذروا أن تعملوا بقوله الشديد والثاني فاحذروا أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به والثالث فاحذروا أن تسألوه بعدها
قوله تعالى ومن يرد الله فتنته في الفتنة ثلاثة أقوال
أحدها أنها بمعنى الضلالة قاله ابن عباس ومجاهد والثاني العذاب قاله الحسن وقتادة والثالث الفضيحة ذكره الزجاج
قوله تعالى فلن تملك له من الله شيئا أي لا تغني عنه ولا تقدر على استنقاذه وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم من حزنه على مسارعتهم في الكفر
قوله تعالى لم يرد الله أن يطهر قلوبهم قال السدي يعني المنافقين واليهود لم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الكفر ووسخ الشرك بطهارة الإيمان والإسلام
قوله تعالى لهم في الدنيا خزي أما خزي المنافقين فبهتك سترهم وإطلاع النبي على كفرهم وخزي اليهود بفضيحتهم في إظهار كذبهم إذ كتموا الرجم وبأخذ الجزية منهم قال مقاتل وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم وخزي النضير باجلائهم

سماعون للكذب أكالون للسحت فان جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين
قوله تعالى سماعون للكذب قال الحسن يعني حكام اليهود يسمعون الكذب ممن يكذب عندهم في دعواه ويأتيهم برشوة فيأخذونها وقال أبو سليمان هم اليهود يسمعون الكذب وهو قول بعضهم لبعض محمد كاذب وليس بنبي وليس في التوراة رجم وهم يعلمون كذبهم
قوله تعالى أكالون للسحت قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر السحت مضمومة الحاء مثقلة وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة السحت ساكنة الحاء خفيفة وروى خارجة بن مصعب عن نافع أكالون للسحت بفتح السين وجزم الحاء قال أبو علي السحت والسحت لغتان وهما اسمان للشيء المسحوت وليسا بالمصدر فأما من فتح السين فهو مصدر سحت فأوقع اسم المصدر على المسحوت كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم هذا الدرهم ضرب الأمير وفي المراد بالسحت ثلاثة أقوال
أحدها الرشوة في الحكم والثاني الرشوة في الدين والقولان عن ابن مسعود والثالث أنه كل كسب لا يحل قاله الأخفش
قوله تعالى فان جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فيمن أريد بهذا الكلام قولان
أحدهما اليهوديان اللذان زنيا قاله الحسن ومجاهد والسدي
والثاني رجلان من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر قاله قتادة وقال

ابن زيد كان حيي بن أخطب قد جعل للنضيري ديتين والقرظي دية لأنه كان من النضير فقالت قريظة لا نرضى بحكم حيي ونتحاكم إلى محمد فقال الله تعالى لنبيه فان جاؤوك فاحكم بينهم الآية
فصل
اختلف علماء التفسير في هذه الآية على قولين
أحدهما أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم كان مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم ثم نسخ ذلك بقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله فلزمه الحكم وزال التخيير وهذا مروي عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والسدي
والثاني أنها محكمة وأن الإمام ونوابه في الحكم مخيرون إذا ترافعوا إليهم إن شاؤوا حكموا بينهم وإن شاؤوا أعرضوا عنهم وهذا مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري وبه قال أحمد بن حنبل وهو الصحيح لأنه

لا تنافي بين الآيتين لأن إحداهما خيرت بين الحكم وتركه والثانية بينت كيفية الحكم إذا كان وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين
قوله تعالى وكيف يحكمونك وعندهم التوراة قال المفسرون هذا تعجيب من الله عز و جل لنبيه من تحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حكم ما تحاكموا إليه فيه وتقريع لليهود إذ يتحاكمون إلى من يجحدون نبوته ويتركون حكم التوراة التي يعتقدون صحتها
قوله تعالى فيها حكم الله فيه قولان
أحدهما حكم الله بالرجم وفيه تحاكموا قاله الحسن
والثاني حكمه بالقود وفيه تحاكموا قاله قتادة
قوله تعالى ثم يتولون من بعد ذلك فيه قولان
أحدهما من بعد حكم الله في التوراة والثاني من بعد تحكيمك
قوله تعالى وما أولئك بالمؤمنين قولان
أحدهما ليسوا بمؤمنين لتحريفهم التوراة والثاني ليسوا بمؤمنين أن حكمك من عند الله لجحدهم نبوتك

إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور قال المفسرون سبب نزول هذه الآية استفتاء اليهود رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمر الزانيين وقد سبق والهدى البيان فالتوراة مبينة صحة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ومبينة ما تحاكموا فيه إليه والنور الضياء الكاشف للشبهات والموضح للمشكلات
وفي النبيين الذين أسلموا ثلاثة أقوال
أحدها أنهم الأنبياء من لدن موسى إلى عيسى قاله الأكثرون
فعلى هذا القول في معنى أسلموا أربعة أقوال
أحدها سلموا لحكم الله ورضوا بقضائه والثاني انقادوا لحكم الله فلم يكتموه كما كتم هؤلاء والثالث أسلموا أنفسهم إلى الله عز و جل والرابع أسلموا لما في التوراة ودانوا بها لأنه قد كان فيهم من لم يعمل بكل ما فيها كعيسى عليه السلام قال ابن الأنباري وفي المسلم قولان
أحدهما أنه سمي بذلك لاستسلامه وانقياده لربه والثاني لإخلاصه لربه من قوله ورجلا سالما لرجل الزمر 29 أي خالصا له

والثاني أن المراد بالنبيين نبينا محمد صلى الله عليه و سلم قاله الحسن والسدي وذلك حين حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كقوله أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله النساء 54
وفي الذي حكم به منها قولان أحدهما الرجم والقود والثاني الحكم بسائرها ما لم يرد في شرعه ما يخالف والثالث النبي محمد صلى الله عليه و سلم ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين قاله عكرمة
قوله تعالى للذين هادوا قال ابن عباس تابوا من الكفر قال الحسن هم اليهود قال الزجاج ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير على معنى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا فأما الربانيون فقد سبق ذكرهم في آل عمران وأما الأحبار فهم العلماء واحدهم حبر و حبر والجمع أحبار وحبور وقال الفراء أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار حبر بكسر الحاء وفي اشتقاق هذا الاسم ثلاثة أقوال
أحدها أنه من الحبار وهو الأثر الحسن قاله الخليل والثاني أنه من الحبر الذي يكتب به قاله الكسائي والثالث أنه من الحبر الذي هو الجمال والبهاء وفي الحديث يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره أي جماله وبهاؤه فالعالم بهي بجمال العلم وهذا قول قطرب
وهل بين الربانيين والأحبار فرق أم لا فيه قولان
أحدهما لا فرق والكل علماء هذا قول الأكثرين منهم ابن قتيبة والزجاج وقد روي عن مجاهد أنه قال الربانيون الفقهاء العلماء وهم فوق الأحبار وقال السدي الربانيون العلماء والأحبار القراء وقال ابن زيد

الربانيون الولاة والأحبار العلماء وقيل الربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود
قوله تعالى بما استحفظوا من كتاب الله قال ابن عباس بما استودعوا من كتاب الله وهو التوراة وفي معنى الكلام قولان
أحدهما يحكمون بحكم ما استحفظوا والثاني العلماء بما استحفظوا قال ابن جرير الباء في قوله بما استحفظوا من صلة الأحبار
وفي قوله وكانوا عليه شهداء قولان
أحدهما وكانوا على ما في التوراة من الرجم شهداء رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني وكانوا شهداء لمحمد عليه السلام بما قاله انه حق رواه العوفي عن ابن عباس
قوله تعالى فلا تخشوا الناس واخشوني قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة وابن عامر والكسائي واخشون بغير ياء في الوصل والوقف وقرأ أبوعمرو بياء في الوصل وبغير ياء في الوقف وكلاهما حسن وقد أشرنا إلى هذا في آل عمران ثم في المخاطبين بهذا قولان
أحدهما أنهم رؤساء اليهود قيل لهم فلا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد والعمل بالرجم واخشوني في كتمان ذلك روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس قال مقاتل الخطاب ليهود المدينة قيل لهم لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ونعت محمد واخشوني في كتمانه
والثاني أنهم المسلمون قيل لهم لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس فلم يقولوا الحق ذكره أبو سليمان الدمشقي

قوله تعالى ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا في المراد بالآيات قولان
أحدهما أنها صفة محمد صلى الله عليه و سلم والقرآن
والثاني الأحكام والفرائض والثمن القليل مذكور في البقرة
فأما قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وقوله تعالى بعدها فأولئك هم الظالمون فأولئك هم الفاسقون فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال
أحدها أنها نزلت في اليهود خاصة رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس وبه قال قتادة والثاني أنها نزلت في المسلمين روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى والثالث أنها عامة في اليهود وفي هذه الأمة قاله ابن مسعود والحسن والنخعي والسدي والرابع أنها نزلت في اليهود والنصارى قاله أبو مجلز والخامس أن الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى قاله الشعبي
وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان
أحدهما أنه الكفر بالله تعالى والثاني أنه الكفر بذلك الحكم وليس بكفر ينقل عن الملة
وفصل الخطاب أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا له وهو يعلم أن الله أنزله كما فعلت اليهود فهو كافر ومن لم يحكم به ميلا إلى الهوى من غير جحود فهو ظالم وفاسق وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال

من جحد ما أنزل الله فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون
قوله تعالى وكتبنا أي فرضنا عليهم أي على اليهود فيها أي في التوراة قال ابن عباس وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس فما بالهم يخالفون فيقتلون النفسين بالنفس ويفقؤون العينين بالعين وكان على بني إسرائيل القصاص أو العفو وليس بينهم دية في نفس ولا جرح فخفف الله عن أمة محمد بالدية
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن ينصبون ذلك كله ويرفعون والجروح وكان نافع وعاصم وحمزة ينصبون ذلك كله وكان الكسائي يقرأ أن النفس بالنفس نصبا ويرفع ما بعد ذلك قال أبو علي وحجته

أن الواو لعطف الجمل لا للاشتراك في العامل ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى لأن معنى وكتبنا عليهم قلنا لهم النفس بالنفس فحمل العين على هذا وهذه حجة من رفع الجروح ويجوز أن يكون مستأنفا لا أنه مما كتب على القوم وإنما هو ابتداء ايجاب قال القاضي أبو يعلى وقوله العين بالعين ليس المارد قلع العين بالعين لتعذر استيفاء المماثلة لأنا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه وإنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمة وصفة ذلك أن تشد عين القالع وتحمى مرآة فتقدم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها وأما الأنف فاذا قطع المارن وهو مالان منه وتركت قصبته ففيه القصاص وأما إذا قطع من أصله فلا قصاص فيه لأنه لا يمكن استيفاء القصاص كما لو قطع يده من نصف الساعد وقال أبو يوسف ومحمد فيه القصاص إذا استوعب وأما الأذن فيجب القصاص إذا استوعبت وعرف المقدار وليس في عظم قصاص إلا في السن فان قلعت قلع مثلها وإن كسر بعضها برد بمقدار ذلك وقوله والجروح قصاص يقتضي إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها
قوله تعالى فمن تصدق به يشير إلى القصاص فهو كفارة له في هاء له قولان
أحدهما أنها إشارة إلى المجروح فاذا تصدق بالقصاص كفر من ذنوبه وهو قول ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن والشعبي

والثاني إشارة إلى الجارح إذا عفا عنه المجروح كفر عنه ما جنى وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته لأنه إذا كان مصرا فعقوبة الإصرار باقية وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين
قوله تعالى وقفينا على آثارهم أي وأتبعنا على آثار النبيين الذين أسلموا بعيسى فجعلناه يقفو آثارهم مصدقا أي بعثناه مصدقا لما بين يديه وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا ليس هذا تكرارا للأول لأن الأول لعيسى والثاني للإنجيل لأن عيسى كان يدعو إلى التصديق بالتوراة والإنجيل أنزل وفيه ذكر التصديق بالتوراة وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
قوله تعالى وليحكم أهل الإنجيل قرأ الأكثرون بجزم اللام على معنى الأمر تقديره وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه وقرأ الأعمش وحمزة بكسر اللام وفتح الميم على معنى كي فكأنه قال وآتيناه الإنجيل لكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من

الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جآءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ماآتكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون
قوله تعالى وأنزلنا إليك الكتاب يعني القرآن بالحق أي بالصدق مصدقا لما بين يديه من الكتاب قال ابن عباس يريد كل كتاب أنزله الله تعالى وفي المهيمن أربعة أقوال
أحدها أنه المؤيمن رواه التميمي عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والضحاك وقال المبرد مهيمن في معنى مؤيمن إلا أن الهاء بدل من الهمزة كما قالوا أرقت الماء وهرقت وإياك وهياك
وأرباب هذا القول يقولون المعنى أن القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب إلا أن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد ومهيمنا عليه قال محمد مؤتمن على القرآن فعلى قوله في الكلام محذوف كأنه قال وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه فتكون هاء عليه راجعة إلى القرآن وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتب المتقدمة

والثاني أنه الشاهد رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال الحسن وقتادة والسدي ومقاتل
والثالث أنه المصدق على ما أخبر عن الكتب وهذا قول ابن زيد وهو قريب من القول الأول
والرابع أنه الرقيب الحافظ قاله الخليل
قوله تعالى فاحكم بينهم يشير إلى اليهود بما أنزل الله إليك في القرآن ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق قال أبو سليمان المعنى فترجع عما جاءك قال ابن عباس لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن

قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا قال مجاهد الشرعة السنة والمنهاج الطريق وقال ابن قتيبة الشرعة والشريعة واحد والمنهاج الطريق الواضح فان قيل كيف نسق المنهاج على الشرعة وكلاهما بمعنى واحد فعنه جوابان
أحدهما أن بينهما فرقا من وجهين أحدهما أن الشرعة ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستمر قاله المبرد والثاني أن الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحا وربما كان غير واضح والمنهاج الطريق الذي لا يكون إلا واضحا ذكره ابن الأنباري فلما وقع الاختلاف بين الشرعة والمنهاج حسن نسق أحدهما على الآخر
والثاني أن الشرعة والمنهاج بمعنى واحد وإنما نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين قال الحطيئة ... ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد ...
فنسق البعد على النأي لماخالفه في اللفظ وإن كان موافقا له في المعنى ذكره ابن الأنباري وأجاب عنه أرباب القول الأول فقالوا النأي كل ما قل بعده أو كثر كأنه المفارقة والبعد إنما يستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته
وللمفسرين في معنى الكلام قولان
أحدهما لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا فلأهل التوراة شريعة ولأهل

الإنجيل شريعة ولأهل القرآن شريعة هذا قول الأكثرين قال قتادة الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وعيسى وأمة محمد فللتوراة شريعة وللانجيل شريعة وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل
والثاني أن المعنى لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا هذا قوم مجاهد
قوله تعالى ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة فيه قولان
أحدهما لجمعكم على الحق
والثاني لجعلكم على ملة واحدة ولكن ليبلوكم أي ليختبركم في ماآتاكم من الكتب وبين لكم من الملل فان قيل إذا كان المعنى بقوله لكل جعلنا

منكم شرعة نبينا محمد مع سائر الأنبياء قبله فمن المخطاب بقوله ليبلوكم فالجواب أنه خطاب لنبينا والمراد به سائر الأنبياء والأمم قال ابن جرير والعرب من شأنها إذا خاطبت غائبا فأرادت الخبر عنه أن تغلب المخاطب فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب
قوله تعالى فاستبقوا الخيرات قال ابن عباس والضحاك هو خطاب لأمة محمد عليه السلام قال مقاتل والخيرات الأعمال الصالحة إلى الله مرجعكم في الآخرة فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون من الدين قال ابن جرير قد بين ذلك في الدنيا بالأدلة والحجج وغدا يبينه بالمجازاة وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون
قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله سبب نزولها أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشأس بن قيس قال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن تبعناك اتبعك اليهود وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس وذكر مقاتل أن

جماعة من بني النضير قالوا له هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ونبايعك فنزلت هذه الآية قال القاضي أبو يعلى وليس هذه الآية تكرارا لما تقدم وإنما نزلتا في شيئين مختلفين أحدهما في شأن الرجم والآخر في التسوية في الديات حتى تحاكموا إليه في الأمرين
قوله تعالى واحذرهم أن يفتنوك أي يصرفوك عن بعض ما أنزل الله إليك وفيه قولان
أحدهما أنه الرجم قاله ابن عباس والثاني شأن القصاص والدماء قاله مقاتل
قوله تعالى فان تولوا فيه قولان
أحدهما عن حكمك والثاني عن الإيمان فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم وفي ذكر البعض قولان
أحدهما أنه على حقيقته وإنما يصيبهم ببعض ما يستحقونه
والثاني أن المراد به الكل كما يذكر لفظ الواحد ويراد به الجماعة كقوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء الطلاق 1 والمراد جميع المسلمين وقال الحسن أراد ما عجله من إجلاء بني النضير وقتل بني قريظة
قوله تعالى وإن كثيرا من الناس لفاسقون قال المفسرون أراد اليهود
وفي المراد بالفسق هاهنا ثلاثة أقوال أحدها الكفر قاله ابن عباس والثاني الكذب قاله ابن زيد والثالث المعاصي قاله مقاتل أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون

قوله تعالى أفحكم الجاهلية يبغون قرأ الجمهور يبغون بالياء لان قبله غيبة وهي قوله وإن كثيرا من الناس لفاسقون وقرأ ابن عامر تبغون بالتاء على معنى قل لهم وسبب نزولها ان النبي صلى الله عليه و سلم لما حكم بالرجم على اليهوديين تعلق بنو قريظة ببني النضير وقالوا يا محمد هؤلاء إخواننا أبونا واحد وديننا واحد إذا قتلوا منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر وإن قتلنا منهم واحدا أخذوا منا أربعين ومائة وسق وإن قتلنا منهم رجلا قتلوا به رجلين وإن قتلنا امرأة قتلوا بها رجلا فاقض بيننا بالعدل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم فقال بنو النضير والله لا نرضى بقضائك ولا نطيع أمرك ولنأخذن بأمرنا الأول فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس قال الزجاج ومعنى الآية أتطلب اليهود حكما لم يأمر الله به وهم أهل كتاب الله كما تفعل الجاهلية
قوله تعالى ومن أحسن من الله حكما قال ابن عباس ومن أعدل
وفي قوله لقوم يوقنون قولان
أحدهما يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس والثاني يوقنون بالله قاله مقاتل وقال الزجاج من أيقن تبين عدل الله في حكمه

يآ أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين
قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أنها نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة إذا رضوا بحكم سعد إنه الذبح رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول عكرمة
والثاني أن عبادة بن الصامت قال يا رسول الله إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى الله من ولاية يهود فقال عبد الله بن أبي إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ إلى الله من ولاية يهود فنزلت هذه الآية قاله عطية العوفي
والثالث أنه لما كانت وقعة أحد خافت طائفة من الناس أن يدال عليهم الكفار فقال رجل لصاحبه أما أنا فألحق بفلان اليهودي فآخذ منه أمانا

أو أتهود معه فنزلت هذه الآية قاله السدي ومقاتل قال الزجاج لا تتولوهم في الدين وقال غيره لا تستنصروا بهم ولا تستعينوا بعضهم أولياء بعض في العون والنصرة
قوله تعالى ومن يتولهم منكم فانه منهم فيه قولان
أحدهما من يتولهم في الدين فانه منهم في الكفر
والثاني من يتولهم في العهد فانه منهم في مخالفة الأمر فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على مآأسروا في أنفسهم نادمين
قوله تعالى فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم قال المفسرون نزلت في المنافقين ثم لهم في ذلك قولان
أحدهما أن اليهود والنصارى كانوا يميرون المنافقين ويقرضونهم فيوادونهم فلما نزلت لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء قال المنافقون كيف نقطع مودة قوم إن أصابتنا سنة وسعوا علينا فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وممن قال نزلت في المنافقين ولم يعين مجاهد وقتادة
والثاني أنها نزلت في عبد الله بن أبي قاله عطية العوفي
وفي المراد بالمرض قولان
أحدهما أنه الشك قاله مقاتل والثاني النفاق قاله الزجاج

وفي قوله يسارعون فيهم ثلاثة أقوال
أحدها يسارعون في موالاتهم ومناصحتهم قاله مجاهد وقتادة
والثاني في رضاهم قاله ابن قتيبة والثالث في معاونتهم على المسلمين قاله الزجاج وفي المراد بالدائرة قولان
أحدهما الجدب والمجاعة قاله ابن عباس قال ابن قتيبة نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه يعنون الجدب فلا يبايعونا ونمتار فيهم فلا يميرونا
والثاني انقلاب الدولة لليهود على المسلمين قاله مقاتل
وفي المراد بالفتح أربعة أقوال
أحدها فتح مكة قاله ابن عباس والسدي والثاني فتح قرى اليهود قاله الضحاك والثالث نصر النبي صلى الله عليه و سلم على من خالفه قاله قتادة والزجاج
والرابع الفرج قاله ابن قتيبة وفي الأمر أربعة أقوال
أحدها إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم وقتل قريظة وسبي ذراريهم قاله ابن السائب ومقاتل والثاني الجزية قاله السدي والثالث الخصب قاله ابن قتيبة والرابع أن يؤمر النبي صلى الله عليه و سلم باظهار أمر المنافقين وقتلهم قاله الزجاج وفيما أسروا قولان
أحدهما موالاتهم والثاني قولهم لعل محمدا لا ينصر ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين
قوله تعالى ويقول الذين آمنوا قرأ أبو عمرو بنصب اللام على معنى وعسى أن يقول ورفعه الباقون فجعلوا الكلام مستأنفا وقرأ ابن كثير

ونافع وابن عامر يقول بغير واو مع رفع اللام وكذلك في مصاحف أهل مكة والمدينة قال المفسرون لما أجلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بني النضير اشتد ذلك على المنافقين وجعلوا يتأسفون على فراقهم وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادا في معاداة اليهود أهذا جزاؤهم منك طال والله ما أشبعوا بطنك فلما قتلت قريظة لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه فجعلوا يقولون أربعمئة حصدوا في ليلة فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا أهؤلاء يعنون المنافقين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم قال ابن عباس أغلظوا في الأيمان وقال مقاتل جهد أيمانهم القسم بالله وقال الزجاج اجتهدوا في المبالغة في اليمين إنهم لمعكم على عدوكم حبطت أعمالهم بنفاقهم يآأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم
قوله تعالى من يرتد منكم عن دينه قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي يرتد بادغام الدال الأولى في الأخرى وقرأ نافع وابن عامر يرتدد بدالين قال الزجاج يرتدد هو الأصل لأن الثاني إذا سكن من المضاعف ظهر التضعيف فأما يرتد فأدغمت الدال الأولى في الثانية وحركت الثانية بالفتح لالتقاء الساكنين قال الحسن علم الله أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم عليه السلام فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه وفي المراد بهؤلاء القوم ستة أقوال

أحدها أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة قاله علي بن أبي طالب والحسن عليهما السلام وقتادة والضحاك وابن جريج قال أنس ابن مالك كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة وقالوا أهل القبلة فتقلد ابو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره
والثاني أبو بكر وعمر روي عن الحسن أيضا
والثالث أنهم قوم أبي موسى الأشعري روى عياض الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هم قوم هذا يعني أبا موسى
والرابع أنهم أهل اليمن رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والخامس أنهم الأنصار قاله السدي
والسادس المهاجرون والأنصار ذكره أبو سليمان الدمشقي قال ابن جرير وقد أنجز الله ما وعد فأتى بقوم في زمن عمر كانوا أحسن موقعا في الإسلام ممن ارتد
قوله تعالى أذلة على المؤمنين قال علي بن أبي طالب عليه السلام أهل

رقة على أهل دينهم أهل غلظة على من خالفهم في دينهم وقال الزجاج معنى أذلة جانبهم لين على المؤمنين لا أنهم أذلاء يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم لأن المنافقين يراقبون الكفار ويظاهرونهم ويخافون لومهم فأعلم الله عز و جل أن الصحيح الإيمان لا يخاف في الله لومة لائم ثم أعلم أن ذلك لا يكون إلا بتوفيقه فقال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء يعني محبتهم لله ولين جانبهم للمسلمين وشدتهم على الكافرين إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون
قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال
أحدها أن عبد الله بن سلام وأصحابه جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا إن قوما قد أظهروا لنا العداوة ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبعد المنازل

فنزلت هذه الآية فقالوا رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين وأذن بلال بالصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فاذا مسكين يسأل الناس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هل أعطاك أحد شيئا قال نعم قال ماذا قال خاتم فضة قال من أعطاكه قال ذاك القائم فاذا هو علي بن أبي طالب أعطانيه وهو راكع فقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مقاتل
وقال مجاهد نزلت في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع
والثاني أن عبادة بن الصامت لما تبرأ من حلفائه اليهود نزلت هذه الآية في حقه رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أنها نزلت في أبي بكر الصديق قاله عكرمة
والرابع أنها نزلت فيمن مضى من المسلمين ومن بقي منهم قاله الحسن
قوله تعالى ويؤتون الزكاة وهو راكعون فيه قولان
أحدهما أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم وهو تصدق علي عليه السلام بخاتمه في ركوعه والثاني أن من شأنهم إيتاء الزكاة وفعل الركوع

وفي المراد بالركوع ثلاثة أقوال
أحدها أنه نفس الركوع على ما روى أبو صالح عن ابن عباس وقيل إن الآية نزلت وهم في الركوع والثاني أنه صلاة التطوع بالليل والنهار وإنما أفرد الركوع بالذكر تشريفا له وهذا مروي عن ابن عباس أيضا
والثالث أنه الخضوع والخشوع وأنشدوا ... لا تذل الفقير علك أن تر ... كع يوما والدهر قد رفعه ...
ذكره الماوردي فأما حزب الله فقال الحسن هم جند الله وقال أبو عبيدة أنصار الله ثم فيه قولان
أحدهما أنهم المهاجرون والأنصار قاله ابن عباس
والثاني الأنصار ذكره أبو سليمان

ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا سبب نزولها أن رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث كانا قد أظهرا الاسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس فأما اتخاذهم الدين هزوا ولعبا فهو إظهارهم الإسلام وإخفاؤهم الكفر وتلاعبهم بالدين والذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى والكفار عبدة الأوثان قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكفار بالنصب على معنى لا تتخذوا الكفار أولياء وقرأ أبو عمرو والكسائي والكفار خفضا لقرب الكلام من العامل الجار وأمال أبو عمرو الألف واتقوا الله أن تولوهم وإذا ناديتم إلى الصلوة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون
قوله تعالى وإذا ناديتم إلى الصلاة في سبب نزولها قولان
أحدهما أن منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون

إليها قالت اليهود قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا على سبيل الاستهزاء والضحك فنزلت هذه الآية قاله ابن السائب
والثاني أن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمين على ذلك وقالوا يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية فان كنت تدعي النبوة فقد خالفت في هذا الأذان الأنبياء قبلك فما أقبح هذا الصوت وأسمج هذا الأمر فنزلت هذه الآية ذكره بعض المفسرين وقال السدي كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي أشهد أن محمدا رسول الله قال حرق الكاذب فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت فاحترق هو وأهله
والمناداة هي الأذان واتخاذهم إياها هزوا تضاحكهم وتغامزهم ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ما لهم في إجابة الصلاة وما عليهم في استهزائهم بها قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون
قوله تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا سبب نزولها أن نفرا من اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فذكر جميع الأنبياء فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا والله ما نعلم دينا شرا من دينكم فنزلت هذه الآية والتي بعدها قاله ابن عباس وقرأ الحسن والأعمش تنقمون بفتح القاف قال الزجاج يقال نقمت على الرجل أنقم ونقمت

عليه أنقم والأول أجود ومعنى نقمت بالغت في كراهة الشيء والمعنى هل تكرهون منا إلا إيماننا وفسقكم لأنكم علمتم أننا على حق وأنكم فسقتم قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل
قوله تعالى هل أنبئكم بشر من ذلك قال المفسرون سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين والله ما علمنا أهل دين أقل حظا منكم في الدنيا والآخرة ولا دينا شرا من دينكم وفي قوله بشر من ذلك قولان
أحدهما بشر من المؤمنين قاله ابن عباس
والثاني بشر مما نقمتم من إيماننا قاله الزجاج فأما المثوبة فهي الثواب قال الزجاج وموضع من في قوله من لعنه الله إن شئت كان رفعا وإن شئت كان خفضا فمن خفض جعله بدلا من شر فيكون المعنى أنبئكم بمن لعنه الله ومن رفع فباضمار هو كأن قائلا قال من ذلك فقيل هو من لعنه الله قال أبو صالح عن ابن عباس من لعنه الله بالجزية وغضب عليه بعبادة العجل فهم شر مثوبة عند الله وروي عن ابن عباس أن المسخين من أصحاب السبت مسخ شبابهم قردة ومشايخهم خنازير وقال غيره الردة أصحاب السبت والخنازير كفار مائدة عيسى وكان ابن قتيبة يقول أنا أظن أن هذه القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت قال واستدللت بقوله تعالى وجعل منهم القردة والخنازير فدخول الألف واللام يدل على المعرفة وعلى أنها القردة التي تعاين ولو كان أراد شيئا انقرض ومضى لقال وجعل

منهم قردة وخنازير إلا أن يصح حديث أم حبيبة في المسوخ فيكون كما قال عليه السلام قلت أنا وحديث أم حبيبة في الصحيح انفرد باخراجه مسلم وهو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ فقال النبي عليه السلام إن الله لم يمسخ قوما أو يهلك قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة وإن القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك وقد ذكرنا في سورة البقرة عن ابن عباس زيادة بيان ذلك فلا يلتفت إلى ظن ابن قتيبة
قوله تعالى وعبد الطاغوت فيها عشرون قراءة قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر ونافع والكسائي وعبد بفتح العين والباء والدال ونصب تاء الطاغوت وفيها وجهان
أحدهما أن المعنى وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت
والثاني أن المعنى من لعنه الله وعبد الطاغوت وقرأ حمزة وعبد الطاغوت بفتح العين والدال وضم الباء وخفض تاء الطاغوت قال ثعلب ليس لها وجه إلا أن يجمع فعل على فعل وقال الزجاج وجهها أن الاسم بني على فعل كما تقول علم زيد ورجل حذر أي مبالغ في الحذر فالمعنى جعل منهم خدمة الطاغوت ومن بلغ في طاعة الطاغوت الغاية وقرأ ابن مسعود

وأبي بن كعب وعبدوا بفتح العين والباء ورفع الدال على الجمع الطاغوت بالنصب وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة وعبد بفتح العين والباء والدال إلا أنهما كسرا تاء الطاغوت قال الفراء أرادا عبدة فحذفا الهاء وقرأ أنس ابن مالك وعبيد بفتح العين والدال وبياء بعد الباء وخفض تاء الطاغوت وقرأ أيوب والأعمش وعبد برفع العين ونصب الباء والدال مع تشديد الباء وكسر تاء الطاغوت وقرأ أبو هريرة وأبو رجاء وابن السميفع وعابد بألف مكسورة الباء مفتوحة الدال مع كسر تاء الطاغوت وقرأ أبو العالية ويحيى ابن وثاب وعبد برفع العين والباء وفتح الدال مع كسر تاء الطاغوت قال الزجاج هو جمع عبيد وعبد مثل رغيف و رغف وسرير وسرر والمعنى وجعل منهم عبيد الطاغوت وقرأ أبو عمران الجوني ومورق العجلي والنخعي وعبد برفع العين وكسر الباء مخففة وفتح الدال مع ضم تاء الطاغوت وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وعكرمة وعبد بفتح العين والدال وتشديد الباء مع نصب تاء الطاغوت وقرأ الحسن وأبو مجلز وأبو نهيك وعبد بفتح العين والدال وسكون الباء خفيفة مع كسر تاء الطاغوت وقرأ قتادة وهذيل ابن شرحبيل وعبدة بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ منصوبة بعد الدال الطواغيت بالف وواو وياء بعد الغين على الجمع وقرأ الضحاك وعمرو بن

دينار وعبد برفع العين وفتح الباء والدال مع تخفيف الباء وكسر تاء الطاغوت
وقرأ سعيد بن جبير والشعبي وعبدة مثل حمزة إلا أنهما رفعا تاء الطاغوت
وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري وعبد بفتح العين ورفع الباء والدال مع كسر تاء الطاغوت وقرأ أبو الأشهب العطاردي وعبد برفع العين وتسكين الباء ونصب الدال مع كسر تاء الطاغوت وقرأ أبو السماك وعبدة بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ بعد الدال مرفوعة مع كسر تاء الطاغوت وقرأ معاذ القارىء وعابد مثل قراءة أبي هريرة إلا أنه ضم الدال وقرأ أبو حيوة وعباد بتشديد الباء وبألف بعدها مع رفع العين وفتح الدال وقرأ ابن حذلم وعمرو بن فائد وعباد مثل أبي حيوة إلا أن العين مفتوحة والدال مضمومة وقد سبق ذكر الطاغوت في سورة البقرة
وفي المراد به هاهنا قولان أحدهما الأصنام والثاني الشيطان
قوله تعالى أولئك شر مكانا أي هؤلاء الذين وصفناهم شر مكانا من المؤمنين ولكن الكلام مبني على كلام الخصم حين قالوا للمؤمنين لا نعرف شرا منكم فقيل من كان بهذه الصفة فهو شر منهم وإذا جآؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون
قوله تعالى وإذا جاؤوكم قالوا آمنا قال قتادة هؤلاء ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه و سلم فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به وهم متمسكون بضلالتهم

قوله تعالى وقد دخلوا بالكفر أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين فالكفر معهم في حالتيهم والله أعلم بما كانوا يكتمون من الكفر والنفاق وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون
قوله تعالى وترى كثيرا منهم يعني اليهود يسارعون أي يبادرون في الإثم وفيه قولان أحدهما أنه المعاصي قاله ابن عباس والثاني الكفر قاله السدي فأما العدوان فهو الظلم
وفي السحت ثلاثة أقوال
أحدها الرشوة في الحكم والثاني الرشوة في الدين والثالث الربا لو لا ينههم الربانيون والأحبار لولا بمعنى هلا والربانيون مذكورون في آل عمران والأحبار قد تقدم ذكرهم في هذه السورة وهذه الآية من أشد الآيات على تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الله تعالى جمع بين فاعل المنكر وتارك الإنكار في الذم قال ابن عباس ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيمة كلمآ أوقدوا نارا للحرب

أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين
قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة قال أبو صالح عن ابن عباس نزلت في فنحاص اليهودي وأصحابه قالوا يد الله مغلولة وقال مقاتل فنحاص وابن صلوبا وعازر بن أبي عازر وفي سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال
أحدها أن الله تعالى كان قد بسط لهم الرزق فلما عصوا الله تعالى في أمر محمد صلى الله عليه و سلم وكفروا به كف عنهم بعض ما كان بسط لهم فقالوا يد الله مغلولة رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال عكرمة
والثاني أنه الله تعالى استقرض منهم كما استقرض من هذه الأمة فقالوا إن الله بخيل ويده مغلولة فهو يستقرضنا قاله قتادة
والثالث أن النصارى لما أعانوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت المقدس قالت اليهود لو كان الله صحيحا لمنعنا منه فيده مغلولة ذكره قتادة أيضا
والمغلولة الممسكة المنقبضة وعن ماذا عنوا أنها ممسكة فيه قولان
أحدهما عن العطاء قاله ابن عباس وقتادة والفراء وابن قتيبة والزجاج
والثاني ممسكة عن عذابنا فلا يعذبنا إلا تحلة القسم بقدر عبادتنا العجل قاله الحسن وفي قوله غلت أيديهم ثلاثة أقوال
أحدها غلت في جهنم قاله الحسن والثاني أمسكت عن الخير قاله مقاتل والثالث جعلوا بخلاء فهم أبخل قوم قاله الزجاج قال ابن الأنباري وهذا خبر أخبر الله تعالى به الخلق أن هذا قد نزل بهم وموضعه نصب على معنى الحال تقديره قالت اليهود هذا في حال حكم الله بغل أيديهم ولعنته

إياهم ويجوز أن يكون المعنى فغلت أيديهم ويجوز أن يكون دعاء معناه تعليم الله لنا كيف ندعو عليهم كقوله تبت يدا أبي لهب اللهب 1 وقوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين الفتح 27
وفي قوله ولعنوا بما قالوا ثلاثة أقوال
أحدها أبعدوا من رحمة الله والثاني عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار والثالث مسخوا قردة وخنازير وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من لعن شيئا لم يكن للعنه أهلا رجعت اللعنة على اليهود بلعنة الله إياهم قال الزجاج وقد ذهب قوم إلى أن معنى يد الله نعمته وهذا خطأ ينقضه بل يداه مبسوطتان فيكون المعنى على قولهم نعمتاه ونعم الله أكثر من أن تحصى والمراد بقوله بل يداه مبسوطتان أنه جواد ينفق كيف يشاء وإلى نحو هذا ذهب ابن الأنباري قال ابن عباس إن شاء وسع في الرزق وإن شاء قتر
قوله تعالى وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا
قال الزجاج كلما أنزل عليك شيء كفروا به فيزيد كفرهم والطغيان هاهنا الغلو في الكفر وقال مقاتل وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدماء طغيانا وكفرا

قوله تعالى وألقينا بينهم العداوة والبغضاء فيمن عني بهذا قولان
أحدهما اليهود والنصارى قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل فان قيل فأين ذكر النصارى فالجواب أنه قد تقدم في قوله لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء والثاني أنهم اليهود قاله قتادة
قوله تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ذكر إيقاد النار مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة وقيل إن الأصل في استعارة اسم النار للحرب أن القبيلة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى أوقدت النار على رؤوس الجبال والمواضع المرتفعة ليعلم استعدادهم للحرب فيتأهب من يريد إعانتهم وقيل كانوا إذا تحالفوا على الجد في حربهم أوقدوا نارا وتحالفوا
وفي معنى الآية قولان
أحدهما كلما جمعوا لحرب النبي صلى الله عليه و سلم فرقهم الله
والثاني كلما مكروا مكرا رده الله
قوله تعالى ويسعون في الأرض فسادا فيه أربعة أقوال
أحدها بالمعاصي قاله ابن عباس ومقاتل والثاني بمحو ذكر النبي صلى الله عليه و سلم من كتبهم ودفع الإسلام قاله الزجاج والثالث بالكفر والرابع بالظلم ذكرهما الماوردي ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيآتهم ولأدخلناهم جنات النعيم
قوله تعالى ولو أن أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى آمنوا بالله وبرسله واتقوا الشرك لكفرنا عنهم سيئاتهم التي سلفت

ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم سآء ما يعملون
قوله تعالى ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل قال ابن عباس عملوا بما فيهما وفيما أنزل إليهم من ربهم قولان أحدهما كتب أنبياء بني إسرائيل والثاني القرآن لأنهم لما خوطبوا به كان نازلا إليهم
قوله تعالى لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم فيه قولان
أحدهما لأكلوا بقطر السماء ونبات الأرض وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة
والثاني أن المعنى لوسع عليهم كما يقال فلان في خير من قرنه إلى قدمه ذكره الفراء والزجاج وقد أعلم الله تعالى بهذا أن التقوى سبب في توسعة الرزق كما قال لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض الأعراف 96 وقال ويرزقه من حيث لا يحتسب الطلاق3
قوله تعالى منهم أمة مقتصدة يعني من أهل الكتاب وهم الذين أسلموا منهم قاله ابن عباس ومجاهد وقال القرظي هم الذين قالوا المسيح عبد الله ورسوله والاقتصاد الاعتدال في القول والعمل من غير غلو ولا تقصير يآايها الرسول بلغ مآأنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين
قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ذكر المفسرون أن هذه

الآية نزلت على أسباب روى الحسن أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يهاب قريشا واليهود والنصارى فأنزل الله هذه الآية وقال مجاهد لما نزلت يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك قال يا رب كيف أصنع إنما أنا وحدي يجتمع علي الناس فأنزل الله وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس وقال مقاتل لما دعا اليهود وأكثر عليهم جعلوا يستهزؤون به فسكت عنهم فحرض بهذه الآية وقال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحرس فيرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية فقال يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس وقال أبو هريرة نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال يا محمد من يمنعني منك فقال الله فنزل قوله والله يعصمك من الناس قالت عائشة سهر رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة فقلت ما شأنك قال ألا رجل صالح يحرسني الليلة فبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال من هذا فقال سعد وحذيفة جئنا نحرسك فنام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى

سمعت غطيطه فنزلت والله يعصمك من الناس فأخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم رأسه من قبة أدم وقال انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله تعالى قال الزجاج قوله بلغ ما أنزل إليك معناه بلغ جميع ما أنزل إليك ولا تراقبن أحدا ولا تتركن شيئا منه مخافة أن ينالك مكروه فان تركت منه شيئا فما بلغت قال ابن قتيبة يدل على هذا المحذوف قوله والله يعصمك وقال ابن عباس إن كتمت آية فما بلغت رسالتي وقال غيره المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك جهرا فان أخفيت شيئا منه لخوف أذى يلحقك فكأنك ما بلغت شيئا وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي رسالته على التوحيد وقرأ نافع رسالاته على الجمع
قوله تعالى والله يعصمك من الناس قال ابن قتيبة أي يمنعك منهم وعصمة الله منعه للعبد من المعاصي ويقال طعام لا يعصم أي لا يمنع من الجوع فان قيل فأين ضمان العصمة وقد شج جبينه وكسرت رباعيته وبولغ في أذاه فعنه جوابان
أحدهما أنه عصمه من القتل والأسر وتلف الجملة فأما عوارض الأذى فلا تمنع عصمة الجملة والثاني أن هذه الآية نزلت بعدما جرى عليه ذلك لأن المائدة من أواخر ما نزل

قوله تعالى إن الله لا يهدي القوم الكافرين فيه قولان
أحدهما لا يهديهم إلى الجنة والثاني لا يعينهم على بلوغ غرضهم قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين
قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لستم على شيء سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم ألست تؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها حق قال بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها فأنا بريء من إحداثكم فقالوا نحن على الهدى ونأخذ بما في أيدينا ولا نؤمن بك فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
فأما أهل الكتاب فالمراد بهم اليهود والنصارى وقوله لستم على شيء أي لستم على شيء من الدين الحق حتى تقيموا التوراة والإنجيل وإقامتهما العمل بما فيهما ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم وفي الذي أنزل إليهم من ربهم قولان قد سبقا وكذلك باقي الآية إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤن والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون قد ذكرنا تفسيرها في البقرة وكذلك اختلفوا في إحكامها ونسخها كما بينا هناك فأما رفع الصائبين فذكر الزجاج عن البصريين منهم الخليل وسيبويه أن قوله

والصائبون محمول على التأخير ومرفوع بالابتداء والمعنى إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصائبون والنصارى كذلك أيضا وأنشدوا ... وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق ...
المعنى فاعلموا أنا بغاة ما بقينا في شقاق وأنتم أيضا كذلك لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون
قوله تعالى لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل قال مقاتل أخذ ميثاقهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها قال ابن عباس كان فيمن كذبوا محمد وعيسى و فيمن قتلوا زكريا ويحيى قال الزجاج فأما التكذيب فاليهود والنصارى يشتركون فيه وأما القتل فيختص اليهود وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون
قوله تعالى وحسبوا أن لا تكون فتنة قرأ ابن كثير ونافع وعاصم

وابن عامر تكون بالنصب وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تكون بالرفع ولم يختلفوا في رفع فتنة قال مكي بن أبي طالب من رفع جعل أن مخففة من الثقيلة وأضمر معها الهاء وجعل حسبوا بمعنى أيقنوا لأن أن للتأكيد والتأكيد لا يجوز إلا مع اليقين والتقدير أنه لا تكون فتنة ومن نصب جعل أن هي الناصبة للفعل وجعل حسبوا بمعنى ظنوا ولو كان قبل أن فعل لا يصلح للشك لم يجز أن تكون إلا مخففة من الثقيلة ولم يجز نصب الفعل بها كقوله أفلا يرون ألا يرجع إليهم طه 89 و علم أن سيكون المزمل 20 وقال أبو علي الأفعال ثلاثة فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره نحو العلم والتيقن وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار وفعل يجذب إلى هذا مرة وإلى هذا أخرى فما كان معناه العلم وقعت بعده أن الثقيلة لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره كقوله ويعلمون أن الله هو الحق المبين النور 25 ألم يعلم بأن الله يرى العلق 14 وما كان على غير وجه الثبات والاستقرار نحو أطمع وأخاف وأرجو وقعت بعده أن الخفيفة كقوله فان خفتم أن لا يقيما حدود الله البقرة 229 تخافون أن يتخطفكم الناس الأنفال 26 فخشينا أن يرهقهما الكهف 80 أطمع أن يغفر لي الشعراء 82 وما كان مترددا بين الحالين مثل حسبت وظننت فانه يجعل تارة بمنزلة العلم وتارة بمنزلة أرجو وأطمع وكلتا القراءتين في وحسبوا ألا تكون فتنة قد جاء بها التنزيل فمثل مذهب من نصب أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم الجاثية 21 أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا العنكبوت 4 أحسب الناس أن يتركوا العنكبوت 2 ومثل مذهب من رفع أيحسبون أنما نمدهم المؤمنون 55 أم يحسبون انا لا نسمع سرهم الزخرف 80

قال ابن عباس ظنوا أن الله لا يعذبهم ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء وتكذبيهم الرسل
قوله تعالى فعموا وصموا قال الزجاج هذا مثل تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا ورأوا من الآيات فصاروا كالعمي الصم
قوله تعالى ثم تاب الله عليهم فيه قولان
أحدهما رفع عنهم البلاء قاله مقاتل وقال غيره هو ظفرهم بالأعداء وذلك مذكور في قوله ثم رددنا لكم الكرة عليهم الاسراء 6
والثاني أن معنى تاب عليهم أرسل إليهم محمدا يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إن آمنوا وصدقوا قاله الزجاج وفي قوله ثم عموا وصموا قولان
أحدهما لم يتوبوا بعد رفع البلاء قاله مقاتل
والثاني لم يؤمنوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه و سلم قاله الزجاج
قوله تعالى كثير منهم أي عمي وصم كثير منهم كما تقول جاءني قومك أكثرهم قال ابن الأنباري هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما بعث كذبوه بغيا وحسدا وقدروا أن هذا الفعل لا يكون موبقا لهم وجانيا عليهم فقال الله تعالى وحسبوا أن لا تكون فتنة أي ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر فعموا وصموا بمجانبة الحق ثم تاب الله عليهم أي عرضهم للتوبة بأن أرسل محمد صلى الله عليه و سلم وإن لم يتوبوا ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد كثير منهم فخص بعضهم بالفعل الأخير لأنهم لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم

لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار
قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قال مقاتل نزلت في نصارى نجران قالوا ذلك
قوله تعالى وقال المسيح أي وقد كان المسيح قال لهم وهو بين أظهرهم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم
قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قال مجاهد هم النصارى قال وهب بن منبه لما ولد عيسى لم يبق صنم إلا خر لوجهه فاجتمعت الشياطين إلى إبليس فأخبروه فذهب فطاف أقطار الأرض ثم رجع فقال هذا المولود الذي ولد من غير ذكر أردت أن أنظر إليه فوجدت الملائكة قد حفت بأمه فليتخلف عندي اثنان من مردتكم فلما أصبح خرج بهما في صورة الرجال فأتوا مسجد بني إسرائيل وهم يتحدثون بأمر عيسى ويقولون مولود من غير أب فقال إبليس ما هذا ببشر ولكن الله أحب أن يتمثل في امرأة ليختبر العباد فقال أحد صاحبيه ما أعظم ما قلت ولكن الله أحب أن يتخذ ولدا وقال الثالث ما أعظم ما قلت ولكن الله أراد أن يجعل إلها في

الأرض فألقوا هذا الكلام على ألسنة الناس ثم تفرقوا فتكلم به الناس
وقال محمد بن كعب لما رفع عيسى اجتمع مئة من علماء بني إسرائيل وانتخبوا منهم أربعة فقال أحدهما عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له ثم صعد إلى السماء لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله وقال الثاني ليس كذلك لأنا قد عرفنا عيسى وعرفنا أمه ولكنه ابن الله وقال الثالث لا أقول كما قلتما ولكن جاءت به أمه من عمل غير صالح فقال الرابع لقد قلتم قبيحا ولكنه عبد الله ورسوله وكلمته فخرجوا فاتبع كل رجل منهم عنق من الناس قال المفسرون ومعنى الآية أن النصارى قالت الإلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم وكل واحد منهم إله وفي الآية إضمار فالمعنى ثالث ثلاثة آلهة فحذف ذكر الآلهة لأن المعنى مفهوم لأنه لا يكفر من قال هو ثالث ثلاثة ولم يرد الآلهة لأنه ما من اثنين إلا وهو ثالثهما وقد دل على المحذوف قوله وما من إله إلا إله واحد قال الزجاج ومعنى ثالث ثلاثة أنه أحد ثلاثة ودخلت من في قوله وما من إله للتوكيد
والذين كفروا منهم هم المقيمون على هذا القول وقال ابن جرير المعنى ليمسن الذين يقولون المسيح هو الله والذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة وكل كافر يسلك سبيلهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم
قوله تعالى أفلا يتوبون إلى الله قال الفراء لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الأمر كقوله فهل أنتم منتهون المائدة 91

ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون
قوله تعالى ما المسيح بن مريم إلا رسول فيه رد على اليهود في تكذيبهم رسالته وعلى النصارى في ادعائهم إلهيته والمعنى أنه ليس باله وإنما حكمه حكم من سبقه من الرسل وفي قوله وأمه صديقة رد على من نسبها من اليهود إلى الفاحشة قال الزجاج والصديقة المبالغة في الصدق وصديق فعيل من أبنية المبالغة كما تقول فلان سكيت أي مبالغ في السكوت
وفي قوله تعالى كانا يأكلان الطعام قولان
أحدهما أنه بين أنهما يعيشان بالغذاء ومن لا يقيمه إلا أكل الطعام فليس باله قاله الزجاج
والثاني أنه نبه بأكل الطعام على عاقبته وهو الحدث إذ لا بد لآكل الطعام من الحدث قاله ابن قتيبة قال وقوله انظر كيف نبين لهم الآيات من ألطف ما يكون من الكناية ويؤفكون يصرفون عن الحق ويعدلون يقال أفك الرجل عن كذا إذا عدل عنه وأرض مأفوكة محرومة المطر والنبات كأن ذلك صرف عنها وعدل قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم
قوله تعالى قل أتعبدون من دون الله قال مقاتل قل لنصارى نجران أتعبدون من دون الله يعني عيسى بن مريم ما لا يملك لكم ضرا في الدنيا ولا

نفعا في الآخرة والله هو السميع لقولهم المسيح ابن الله وثالث ثلاثة العليم بمقالتهم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
قوله تعالى قل يا أهل الكتاب قال مقاتل هم نصارى نجران والمعنى لا تغلوا في دينكم فتقولوا غير الحق في عيسى وقد بينا معنى الغلو في آخر سورة النساء
قوله تعالى ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل قال أبو سليمان من قبل أن تضلوا وفيهم قولان
أحدهما أنهم رؤساء الضلالة من اليهود
والثاني رؤساء اليهود والنصارى والآية خطاب للذين كانوا في عصر نبينا صلى الله عليه و سلم نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
قوله تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل في لعنهم قولان
أحدهما أنه نفس اللعن ومعناه المباعدة من الرحمة قال ابن عباس لعنوا على لسان داود فصاروا قردة ولعنوا على لسان عيسى في الإنجيل قال الزجاج وجائز أن يكون داود وعيسى أعلما أن محمدا نبي ولعنا من كفر به
والثاني أنه المسخ قاله مجاهد لعنوا على لسان داود فصاروا قردة وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير وقال الحسن وقتادة لعن أصحاب السبت

على لسان داود فانهم لما اعتدوا قال داود اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة ولعن أصحاب المائدة على لسان عيسى فانهم لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فجعلوا خنازير
قوله تعالى ذلك بما عصوا أي ذلك اللعن بمعصيتهم لله تعالى في مخالفتهم أمره ونهيه وباعتدائهم في مجاوزة ما حده لهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون
قوله تعالى كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه التناهي تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر
وذكر المفسرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال
أحدها صيد السمك يوم السبت والثاني أخذ الرشوة في الحكم
والثالث أكل الربا وأثمان الشحوم وذكر المنكر منكرا يدل على الإطلاق ويمنع هذا الحصر ويدل على ما قلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا فاذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم

قوله تعالى لبئس ما كانوا يفعلون قال الزجاج اللام دخلت للقسم والتوكيد والمعنى لبئس شيئا فعلهم ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون
قوله تعالى ترى كثيرا منهم في المشار إليهم قولان
أحدهما أنهم المنافقون روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد
والثاني أنهم اليهود قاله مقاتل في آخرين فعلى هذا القول انتظام الآيات ظاهر وعلى الأول يرجع الكلام إلى قوله فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم وفي الذين كفروا قولان أحدهما أنهم اليهود قاله أرباب القول الأول والثاني أنهم مشركو العرب قاله أرباب هذا القول الثاني
قوله تعالى لبئسما قدمت لهم أنفسهم أي بئسما قدموا لمعادهم أن سخط الله عليهم قال الزجاج يجوز أن تكون أن في موضع رفع على إضمار هو كأنه قيل هو أن سخط الله عليهم لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين

قوله تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود قال المفسرون نزلت هذه الآية وما بعدها مما يتعلق بها في النجاشي وأصحابه قال سعيد بن جبير بعث النجاشي قوما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها وسنذكر قصتهم فيما بعد قال الزجاج واللام في لتجدن لام القسم والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال وعداوة منصوب على التمييز واليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسدا للنبي صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى والذين أشركوا يعني عبدة الأوثان فأما الذين قالوا إنا نصارى فهل هذا عام في كل النصارى أم خاص فيه قولان
أحدهما أنه خاص ثم فيه قولان
أحدهما أنه أراد النجاشي وأصحابه لما أسلموا قاله ابن عباس وابن جبير
والثاني أنهم قوم من النصارى كانوا متمسكين بشريعة عيسى فلما جاء محمد عليه السلام أسلموا قاله قتادة
والقول الثاني أنه عام قال الزجاج يجوز أن يراد به النصارى لأنهم كانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود
قوله تعالى ذلك بأن منهم قسيسين قال الزجاج القس والقسيس من رؤساء النصارى وقال قطرب القسيس العالم بلغة الروم فأما الرهبان فهم العباد أرباب الصوامع قال ابن فارس الترهب التعبد فان قيل كيف مدحهم بأن منهم قسيسين ورهبانا وليس ذلك من أمر شريعتنا فالجواب أنه مدحهم بالتمسك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ عليهم في كتابهم

وقد كانت الرهبانية مستحسنة في دينهم والمعنى بأن فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمد صلى الله عليه و سلم قال القاضي أبو يعلى وربما ظن جاهل أن في هذه الآية مدح النصارى وليس كذلك لأنه إنما مدح من آمن منهم ويدل عليه ما بعد ذلك ولا شك أن مقالة النصارى أقبح من مقالة اليهود
قوله تعالى وأنهم لا يستكبرون أي لا يتكبرون عن إتباع الحق
قوله تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول قال ابن عباس لما حضر أصحاب النبي عليه السلام بين يدي النجاشي وقرؤوا القرآن سمع ذلك القسيسون والرهبان فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق فقال الله تعالى ذلك بأن منهم قسيسين إلى قوله من الشاهدين وقال سعيد بن جبير بعث النجاشي من خيار أصحابه ثلاثين رجلا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ عليهم القرآن فبكوا ورقوا وقالوا نعرف والله وأسلموا وذهبوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم فأنزل الله فيهم وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول الآية وقال السدي كانوا اثني عشر رجلا سبعة من القسيسين وخمسة من الرهبان فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم القرآن بكوا وآمنوا فنزلت هذه الآية فيهم
قوله تعالى فاكتبنا مع الشاهدين أي مع من يشهد بالحق وللمفسرين في المراد بالشاهدين هاهنا أربعة أقوال
أحدها محمد وأمته رواه علي بن أبي طلحة وعكرمة عن ابن عباس
والثاني أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث الذين يشهدون بالإيمان قاله الحسن والرابع الأنبياء والمؤمنون قاله الزجاج وما لنا لا نؤمن بالله وما جآءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات

تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم
قوله تعالى وما لنا لا نؤمن بالله قال ابن عباس لامهم قومهم على الإيمان فقالوا هذا وفي القوم الصالحين ثلاثة أقوال
أحدها أصحاب رسول الله قاله ابن عباس والثاني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه قاله ابن زيد والثالث المهاجرون الأولون قاله مقاتل
قوله تعالى وذلك جزاء المحسنين قال ابن عباس ثواب المؤمنين يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم في سبب نزولها ثلاثة أقوال
أحدها أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم منهم عثمان بن مظعون حرموا اللحم والنساء على أنفسهم وأرادوا جب أنفسهم ليتفرغوا للعبادة فقال رسول الله لم أومر بذلك ونزلت هذه الآية رواه العوفي عن ابن عباس وروى أبو صالح عن ابن عباس قال كانوا عشرة أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد بن الأسود وسالم مولى أبي حذيفة وسلمان الفارسي وأبو ذر وعمار بن ياسر في دار عثمان بن مظعون فتواثقوا على ذلك فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال من رغب عن سنتي فليس مني ونزلت

هذه الآية قال السدي كان سبب عزمهم على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس يوما فلم يزدهم على التخويف فرق الناس وبكوا فعزم هؤلاء على ذلك وحلفوا على ما عزموا عليه وقال عكرمة إن علي بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان ابن مظعون والمقداد وسالما مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت هذه الآية
والثاني أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إني إذا أكلت من هذا اللحم أقبلت على النساء وإني حرمته علي فنزلت هذه الآية رواه عكرمة عن ابن عباس
والثالث أن ضيفا نزل بعبد الله بن رواحة ولم يكن حاضرا فلما جاء قال لزوجته هل أكل الضيف فقالت انتظرتك فقال حبست ضيفي من أجلي طعامك علي حرام فقالت وهو علي حرام إن لم تأكله فقال الضيف وهو علي حرام إن لم تأكلوه فلما رأى ذلك ابن رواحة قال قربي طعامك كلوا بسم الله ثم غدا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بذلك فقال أحسنت ونزلت هذه

الآية وقرأ حتى بلغ لا يؤاخذكم الله باللغوا في أيمانكم رواه عبد الرحمن بن زيد عن أبيه فأما الطيبات فهي اللذيذات التي تشتهيها النفوس مما أبيح
وفي قوله ولا تعتدوا خمسة أقوال
أحدها لا تحببوا أنفسكم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وإبراهيم
والثاني لا تأتوا ما نهى الله عنه قاله الحسن والثالث لا تسيروا بغير سيرة المسلمين من ترك النساء وإدامة الصيام والقيام قاله عكرمة والرابع لا تحرموا الحلال قاله مقاتل والخامس لا تغصبوا الأموال المحرمة ذكره الماوردي لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فاحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون
قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم سبب نزولها أنه لما نزل قوله لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قال القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها فنزلت هذه الآية رواه العوفي عن ابن عباس وقد سبق ذكر اللغو في سورة البقرة
قوله تعالى بما عقدتم الأيمان قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم عقدتم بغير ألف مشددة القاف قال أبو عمرو معناها

وكدتم وقرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم عقدتم خفيفة بغير ألف واختارها أبو عبيد قال ابن جرير معناها أوجبتموها على أنفسكم وقرأ ابن عامر عاقدتم بألف مثل عاهدتم قال القاضي أبو يعلى وهذه القراءة المشددة لا تحتمل إلا عقد قول فأما المخففة فتحتمل عقد القلب وعقد القول
وذكر المفسرون في معنى الكلام قولين
أحدهما ولكن يؤاخذكم بما عقدتم عليه قلوبكم في التعمد لليمين قاله مجاهد
والثاني بما عقدتم عليه قلوبكم أنه كذب قاله سعيد بن جبير
قوله تعالى فكفارته قال ابن جرير الهاء عائدة على ما في قوله بما عقدتم
فصل
فأما إطعام المساكين فروي عن ابن عمر وزيد بن ثابت وابن عباس والحسن في آخرين أن لكل مسكين مدبر وبه قال مالك والشافعي
وروي عن عمر وعلي وعائشة في آخرين لكل مسكين نصف صاع من بر قال عمر وعائشة أو صاعا من تمر وبه قال أبو حنيفة ومذهب أصحابنا في جميع الكفارات التي فيها إطعام مثل كفارة اليمين والظهار وفدية الأذى والمفرطة في قضاء رمضان مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير ومن شرط صحة الكفارة تمليك الطعام للفقراء فان غداهم وعشاهم لم يجزئه وبه قال سعيد بن جبير والحكم والشافعي وقال الثوري والأوزاعي يجزئه وبه قال أبو حنيفة ومالك ولا يجوز صرف مدين إلى مسكين واحد ولا إخراج القيمة في الكفارة وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجوز قال الزجاج وإنما وقع

لفظ الذكير في المساكين ولو كانوا إناثا لأجزأ لأن المغلب في كلام العرب التذكير وفي قوله من أوسط ما تطعمون أهليكم قولان
أحدهما من أوسطه في القدر قاله عمر وعلي وابن عباس ومجاهد
والثاني من أوسط أجناس الطعام قاله ابن عمر والأسود وعبيدة والحسن وابن سيرين وروي عن ابن عباس قال كان أهل المدينة يقولون للحر من القوت أكثر ما للمملوك وللكبير أكثر ما للصغير فنزلت من أوسط ما تطعمون أهليكم ليس بأفضله ولا بأخسه وفي كسوتهم خمسة أقوال
أحدها أنها ثوب واحد قاله ابن عباس ومجاهد وطاووس وعطاء والشافعي والثاني ثوبان قاله أبو موسى الأشعري وابن المسيب والحسن وابن سيرين والضحاك والثالث إزار ورداء وقميص قاله ابن عمر والرابع ثوب جامع كالملحفة قاله إبراهيم النخعي والخامس كسوة تجزىء فيها الصلاة قاله مالك ومذهب أصحابنا أنه إن كسا الرجل كساه ثوبا والمرأة ثوبين درعا وخمارا وهو أدنى ما تجزئ فيه الصلاة وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو الجوزاء ويحيى بن يعمر أو كسوتهم بضم الكاف وقد قرأ سعيد بن جبير وأبو العالية وأبو نهيك ومعاذ القارئ أو كاسوتهم بهمزة مكسورة مفتوحة الكاف مكسورة التاء والهاء وقرأ ابن السميفع وأبو عمران الجوزي مثله إلا إنهما فتحا الهمزة قال المصنف ولا أرى هذه القراءة جائزة لأنها تسقط أصلا من أصول الكفارة

قوله تعالى أو تحرير رقبة تحريرها عتقها والمراد بالرقبة جملة الشخص واتفقوا على إشتراط إيمان الرقبة في كفارة القتل لموضع النص
واختلفوا في إيمان الرقبة المذكورة في هذه الكفارة على قولين
أحدهما أنه شرط وبه قال الشافعي لأن الله تعالى قيد بذكر الإيمان في كفارة القتل فوجب حمل المطلق على المقيد
والثاني ليس بشرط وبه قال أبو حنيفة وعن أحمد رضي الله عنه في إيمان الرقبة المعتقة في كفارة اليمين وكفارة الظهار وكفارة الجماع والمنذورة روايتان
قوله تعالى فمن لم يجد اختلفوا فيما إذا لم يجده صام على خمسة أقوال
أحدها أنه إذا لم يجد درهمين صام قاله الحسن والثاني ثلاثة دراهم قاله سعيد بن جبير والثالث إذا لم يجد إلا قدر ما يكفر به صام قاله قتادة والرابع مئتي درهم قاله أبو حنيفة والخامس إذا لم يكن له إلا قدر قوته وقوت عائلته يومه وليلته قاله أحمد والشافعي وفي تتابع الثلاثة أيام قولان
أحدهما أنه شرط وكان أبي وابن مسعود يقرآن فصيام ثلاثة أيام متتابعات وبه قال ابن عباس ومجاهد وطاووس وعطاء وقتادة وأبو حنيفة وهو قول أصحابنا
والثاني ليس بشرط ويجوز التفريق وبه قال الحسن ومالك والشافعي فيه قولان
قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فيه إضمار تقديره إذا حلفتم وحنثتم وفي قوله واحفظوا أيمانكم ثلاثة أقوال

أحدها أقلوا منها ويشهد له قوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وأنشدوا ... قليل الألايا حافظ ليمينه ...
والثاني احفظوا أنفسكم من الحنث فيها
والثالث راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها يآ أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن سعد بن أبي وقاص أتى نفرا من المهاجرين والأنصار فأكل عندهم وشرب الخمر قبل أن تحرم فقال المهاجرون خير من الأنصار فأخذ رجل لحي جمل فضربه فجدع أنفه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فنزلت هذه الآية رواه مصعب بن سعد عن أبيه وقال سعيد بن جبير صنع رجل من الأنصار صنيعا فدعا سعد بن أبي وقاص فلما أخذت فيهم الخمرة افتخروا واستبوا فقام الأنصاري إلى لحي بعير فضرب به رأس سعد فاذا الدم على وجهه فذهب سعد يشكو إلى النبي صلى الله عليه و سلم فنزل تحريم الخمر في قوله إنما إلى قوله تفلحون

والثاني أن عمر بن الخطاب قال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في البقرة فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في النساء لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى النساء 43 فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية رواه أبو ميسرة عن عمر
والثالث أن أناسا من المسلمين شربوها فقاتل بعضهم بعضا وتكلموا بما لا يرضاه الله من القول فنزلت هذه الآية رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والرابع أن قبيلتين من الأنصار شربوا فلما ثملوا عبث بعضهم ببعض فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته فيقول صنع بي هذا أخي فلان والله لو كان بي رؤوفا ما صنع بي هذا حتى وقعت في قلوبهم الضغائن وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن فنزلت هذه الآية رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وقد ذكرنا الخمر والميسر في البقرة وذكرنا في النصب في أول هذه السورة قولين وهما اللذان ذكرهما المفسرون في الأنصاب وذكرنا هناك الأزلام فأما الرجس فقال الزجاج هو اسم لكل ما استقذر من عمل يقال رجس الرجل يرجس ورجس يرجس إذا عمل عملا قبيحا والرجس بفتح الراء شدة الصوت فكأن الرجس العمل الذي يقبح ذكره ويرتفع في القبح ويقال رعد رجاس إذا كان شديد الصوت

قوله تعالى من عمل الشيطان قال ابن عباس من تزيين الشيطان فان قيل كيف نسب إليه وليس من فعله فالجواب أن نسبته إليه مجاز وإنما نسب إليه لأنه هو الداعي إليه المزين له ألا ترى أن رجلا لو أغرى رجلا بضرب رجل لجاز أن يقال له هذا من عملك
قوله تعالى فاجتنبوه قال الزجاج اتركوه واشتقاقه في اللغة كونوا جانبا منه فان قيل كيف ذكر في هذه الآية أشياء ثم قال فاجتنبوه فالجواب أن الهاء عائدة على الرجس والرجس واقع على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ورجوع الهاء عليه بمنزلة رجوعها على الجمع الذي هو واقع عليه ومنبئ عنه ذكره ابن الأنباري إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين
قوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر أما الخمر فوقوع العداوة والبغضاء فيها على نحو ما ذكرنا في سبب نزول الآية من القتال والمماراة وأما الميسر فقال قتادة كان الرجل يقامر على أهله وماله فيقمر ويبقى حزينا سليبا فينظر إلى ماله في يد غيره فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء
قوله تعالى فهل أنتم منتهون فيه قولان
أحدهما أنه لفظ استفهام ومعناه الأمر تقديره انتهوا قال الفراء ردد علي أعرابي هل أنت ساكت هل أنت ساكت وهو يريد اسكت اسكت

والثاني أنه استفهام لا بمعنى الأمر ذكر شيخنا علي بن عبيد الله أن جماعة كانوا يشربون الخمر بعد هذه الآية ويقولون لم يحرمها إنما قال فهل أنتم منتهون فقال بعضنا انتهينا وقال بعضنا لم ننته فلما نزلت قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم الأعراف 33 حرمت لأن الإثم اسم للخمر وهذا القول ليس بشيء والأول أصح
قوله تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فيما أمراكم واحذروا خلافهما فان توليتم أي أعرضتم فاعلموا أنما على رسولنا محمد البلاغ المبين وهذا وعيد لهم كأنه قال فاعلموا أنكم قد استحققتم العذاب لتوليكم ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين
قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا سبب نزولها أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ماتوا وهم يشربون الخمر إذ كانت مباحة فلما حرمت قال ناس كيف بأصحابنا وقد ماتوا وهم يشربونها فنزلت هذه الآية قاله البراء بن عازب والجناح الإثم وفيما طعموا ثلاثة أقوال

أحدها ما شربوا من الخمر قبل تحريمها قاله ابن عباس والجمهور قال ابن قتيبة يقال لم أطعم خبزا وأدما ولا ماء ولا نوما قال الشاعر ... فان شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا ...
النقاخ الماء البارد الذي ينقخ الفؤاد ببرده والبرد النوم
والثاني ما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر
والثالث ما طعموا من المباحات وفي قوله إذا ما اتقوا ثلاثة أقوال
أحدها اتقوا بعد التحريم قاله ابن عباس والثاني اتقوا المعاصي والشرك
والثالث اتقوا مخالفة الله في أمره وفي قوله وآمنوا قولان
أحدهما آمنوا بالله ورسوله والثاني آمنوا بتحريمها وعملوا الصالحات قال مقاتل أقاموا على الفرائض
قوله تعالى ثم أتقوا في هذه التقوى المعادة أربعة أقوال
أحدها أن المراد خوف الله عز و جل والثاني أنها تقوى الخمر والميسر بعد التحريم والثالث أنها الدوام على التقوى والرابع أن التقوى الأولى مخاطبة لمن شربها قبل التحريم والثانية لمن شربها بعد التحريم
قوله تعالى وآمنوا في هذا الإيمان المعاد قولان
أحدهما صدقوا بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم
والثاني آمنوا بما يجيء من الناسخ والمنسوخ

قوله تعالى ثم اتقوا وأحسنوا في هذه التقوى الثالثة أربعة أقوال
أحدها اجتنبوا العود إلى الخمر بعد تحريمها قاله ابن عباس والثاني اتقوا ظلم العباد والثالث توقوا الشبهات والرابع اتقوا جميع المحرمات
وفي الإحسان قولان أحدهما أحسنوا العمل بترك شربها بعد التحريم قاله ابن عباس والثاني أحسنوا العمل بعد تحريمها قاله مقاتل يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد قال المفسرون لما كان عام الحديبية وأقام النبي صلى الله عليه و سلم بالتنعيم كانت الوحوش والطير تغشاهم في رحالهم وهم محرمون فنزلت هذه الآية ونهوا عنها ابتلاء قال الزجاج اللام في ليبلونكم لام القسم ومعناه لنختبرن طاعتكم من معصيتكم
وفي من قولان أحدهما أنها للتبعيض ثم فيه قولان أحدهما أنه عنى صيد البر دون صيد البحر والثاني أنه عنى الصيد ما داموا في الإحرام كأن ذلك بعض الصيد والثاني أنها لبيان الجنس كقوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان الحج 30
قوله تعالى تناله أيديكم ورماحكم قال مجاهد الذي تناله اليد الفراخ والبيض وصغار الصيد والذي تناله الرماح كبار الصيد

قوله تعالى ليعلم الله قال مقاتل ليرى الله من يخافه بالغيب ولم يره فلا يتناول الصيد وهو محرم فمن اعتدى فأخذ الصيد عمدا بعد النهي للمحرم عن قتل الصيد فله عذاب أليم قال ابن عباس يوسع بطنه وظهره جلدا وتسلب ثيابه يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام
قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم بين الله عز و جل بهذه الآية من أي وجه تقع البلوى وفي أي زمان وما على من قتله بعد النهي
وفي قوله وأنتم حرم ثلاثة أقوال
أحدها وأنتم محرمون بحج أو عمرة قاله الأكثرون والثاني وأنتم في الحرم يقال أحرم إذا دخل في الحرم وأنجد إذا أتى نجدا والثالث الجمع بين القولين
قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا فيه قولان
أحدهما أن يتعمد قتله ذاكرا لإحرامه قاله ابن عباس وعطاء
والثاني أن يتعمد قتله ناسيا لإحرامه قاله مجاهد فأما قتله خطأ ففيه قولان
أحدهما أنه كالعمد قاله عمر وعثمان والجمهور قال الزهري نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ يعني ألحقت المخطئ بالمتعمد في وجوب

الجزاء وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الضبع صيد وفيه كبش إذا قتله المحرم وهذا عام في العامد والمخطئ قال القاضي أبو يعلى أفاد تخصيص العمد بالذكر ما ذكر في أثناء الآية من الوعيد وإنما يختص ذلك بالعامد
والثاني أنه لا شيء فيه قاله ابن عباس وابن جبير وطاووس وعطاء وسالم والقاسم وداود وعن أحمد روايتان أصحهما الوجوب
قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر فجزاء مثل مضافة وبخفض مثل وقرأ عاصم وحمزة والكسائي فجزاء منون مثل مرفوع قال أبو علي من أضاف فقوله من النعم يكون صفة للجزاء وإنما قال مثل ما قتل وإنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله لأنهم يقولون أنا أكرم مثلك يريدون أن أكرمك فالمعنى جزاء ما قتل
ومن رفع المثل فالمعنى فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول والتقدير فعليه جزاء
قال ابن قتيبة النعم الإبل وقد يكون البقر والغنم والأغلب عليها الإبل وقال الزجاج النعم في اللغة الإبل والبقر والغنم فان انفردت الابل قيل لها نعم وإن انفردت البقر والغنم لم تسم نعما

فصل
قال القاضي أبو يعلى والصيد الذي يجب الجزاء بقتله ما كان مأكول اللحم كالغزال وحمار الوحش والنعامة ونحو ذلك أو كان متولدا من حيوان يؤكل لحمه كالسمع فانه متولد من الضبع والذئب وما عدا ذلك من السباع كلها فلا جزاء على قاتلها سواء ابتدأ قتلها أو عدت عليه فقتلها دفعا عن نفسه لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة فلم يدخل تحت الآية ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أجاز للمحرم قتل الحية والعقرب والفويسقة والغراب والحدأة والكلب العقور والسبع العادي قال والواجب بقتل الصيد فيما له مثل من الأنعام مثله وفيما لا مثل له قيمته وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة الواجب فيه القيمة وحمل المثل على القيمة وظاهر الآية يرد ما قال ولأن

الصحابة حملوا الآية على المثل من طريق الصورة فقال ابن عباس المثل النظير ففي الظبية شاة وفي النعامة بعير
قوله تعالى يحكم به ذوا عدل منكم يعني بالجزاء وإنما ذكر اثنين لأن الصيد يختلف في نفسه فافتقر الحكم بالمثل إلى عدلين
قوله تعالى منكم يعني من أهل ملتكم
قوله تعالى هديا بالغ الكعبة قال الزجاج هو منصوب على الحال والمعنى يحكمان به مقدرا أن يهدى ولفظ قوله بالغ الكعبة لفظ معرفة ومعناه النكرة والمعنى بالغا الكعبة إلا أن التنوين حذف استخفافا قال ابن عباس إذا أتى مكة ذبحه وتصدق به
قوله تعالى أو كفارة قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي أو كفارة منونا طعام رفعا وقرأ نافع وابن عامر أو كفارة رفعا غير منون طعام المساكين على الاضافة قال أبو علي من رفع ولم يضف جعله عطفا على الكفارة عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة ولم يضف الكفارة إلى الطعام لأن الكفارة لقتل الصيد لا للطعام ومن أضاف الكفارة إلى الطعام فلأنه لما خير المكفر بين الهدي والطعام والصيام جازت الإضافة لذلك فكأنه قال كفارة طعام لا كفارة هدي ولا صيام والمعنى أو عليه بدل الجزاء والكفارة وهي طعام مساكين وهل يعتبر في إخراج الطعام قيمة النظير أو قيمة الصيد فيه قولان
أحدهما قيمة النظير وبه قال عطاء والشافعي وأحمد
والثاني قيمة الصيد وبه قال قتادة وأبو حنيفة ومالك

وفي قدر الإطعام لكل مسكين قولان
أحدهما مدان من بر وبه قال ابن عباس وأبو حنيفة
والثاني مد بر وبه قال الشافعي وعن أحمد روايتان كالقولين
قوله تعالى أو عدل ذلك صياما قرأ أبو رزين والضحاك وقتادة والجحدري وطلحة أو عدل ذلك بكسر العين وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة قال أصحابنا يصوم عن كل مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير يوما وقال أبو حنيفة يصوم يوما عن نصف صاع في الجميع وقال مالك والشافعي يصوم يوما عن كل مد من الجميع
فصل
وهل هذا الجزاء على الترتيب أم على التخيير فيه قولان
أحدهما أنه على التخيير بين إخراج النظير وبين الصيام وبين الإطعام
والثاني أنه على الترتيب إن لم يجد الهدي اشترى طعاما فان كان معسرا صام قاله ابن سيرين والقولان مرويان عن ابن عباس وبالأول قال جمهور الفقهاء
قوله تعالى ليذوق وبال أمره أي جزاء ذنبه قال الزجاج الوبال ثقل الشيء في المكروه ومنه قولهم طعام وبيل وماء وبيل إذا كانا ثقيلين قال الله عز و جل فأخذناه أخذا وبيلا المزمل 16 أي ثقيلا شديدا
قوله تعالى عفا الله عما سلف فيه قولان
أحدهما ما سلف في الجاهلية من قتلهم الصيد وهم محرمون قاله عطاء

والثاني ما سلف من قتل الصيد في أول مرة حكاه ابن جرير والأول أصح فعلى القول الأول يكون معنى قوله ومن عاد في الإسلام وعلى الثاني ومن عاد ثانية بعد أولى قال أبو عبيدة عاد في موضع يعود وأنشد ... إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا ...
قوله تعالى فينتقم الله منه الانتقام المبالغة في العقوبة وهذا الوعيد بالانتقام لا يمنع إيجاب جزاء ثان إذا عاد وهذا قول الجمهور وبه قال مالك والشافعي وأحمد وقد روي عن ابن عباس والنخعي وداود أنه لا جزاء عليه في الثاني إنما وعد بالانتقام أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون
قوله تعالى أحل لكم صيد البحر قال أحمد يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح لأن التمساح يأكل الناس يعني أنه يفرس وقال

أبو حنيفة والثوري لا يباح منه إلا السمك وقال ابن أبي ليلى ومالك يباح كل ما فيه من ضفدع وغيره فأما طعامه ففيه ثلاثة أقوال
أحدها ما نبذه البحر ميتا قاله أبو بكر وعمر وابن عمر وأبو أيوب وقتادة
والثاني أنه مليحه قاله سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والسدي وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة كالقولين واختلفت الرواية عن النخعي فروي عنه كالقولين وروي عنه أنه جمع بينهما فقال طعامه المليح وما لفظه
والثالث أنه ما نبت بمائة من زروع البر وإنما قيل لهذا طعام البحر لأنه ينبت بمائه حكاه الزجاج وفي المتاع قولان
أحدهما أنه المنفعة قاله ابن عباس والحسن وقتادة
والثاني أنه الحل قاله النخعي قال مقاتل متاعا لكم يعني المقيمين وللسيارة يعني المسافرين
قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما أما الاصطياد فمحرم على المحرم فان صيد لأجله حرم عليه أكله خلافا لأبي حنيفة فان أكل فعليه الضمان خلافا لأحد قولي الشافعي فان ذبح المحرم صيدا فهو ميتة خلافا لأحد قولي الشافعي أيضا فان ذبح الحلال صيدا في الحرم فهو ميتة أيضا خلافا لأكثر الحنفية جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في

السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم إعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم
قوله تعالى جعل الله الكعبة جعل بمعنى صير وفي تسمية الكعبة كعبة قولان
أحدهما لأنها مربعة قاله عكرمة ومجاهد
والثاني لعلوها ونتوئها يقال كعبت المرأة كعابة وهي كاعب إذا نتأ ثديها ومعنى تسمية البيت بأنه حرام أنه حرم أن يصاد عنده وأن يختلى ما عنده من الخلا وأن يعضد شجره وعظمت حرمته والمراد بتحريم البيت سائر الحرم كما قال هديا بالغ الكعبة وأراد الحرم والقيام

بمعنى القوام وقرأ ابن عامر قيما بغير ألف قال أبو علي وجهه على أحد أمرين إما أن يكون جعله مصدرا كالشبع أو حذف الألف وهو يريدها كما يقصر الممدود وفي معنى الكلام ستة أقوال
أحدها قياما للدين ومعالم للحج رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني قياما لأمر من توجه إليها رواه العوفي عن ابن عباس قال قتادة كان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إليها لم يتناول ولم يقرب وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر فأحمته ومنعته من الناس وكان إذا نفر تقلد قلادة من الاذخر أو من لحاء السمر فمنعته من الناس حتى يأتي أهله حواجز ألقاها الله بين الناس في الجاهلية
والثالث قياما لبقاء الدين فلا يزال في الأرض دين ما حجت واستقبلت قاله الحسن
والرابع قوام دنيا وقوام دين قاله أبو عبيدة
والخامس قياما للناس أي مما أمروا أن يقوموا بالفرض فيه ذكره الزجاج
والسادس قياما لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التجارة عندها ذكره بعض المفسرين
فأما الشهر الحرام فالمراد به الأشهر الحرم كانوا يأمن بعضهم بعضا فيها فكان ذلك قواما لهم وكذلك إذا أهدى الرجل هديا أو قلد بعيره أمن

كيف تصرف فجعل الله تعالى هذه الأشياء عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها
قوله تعالى ذلك لتعلموا ذكر ابن الأنباري في المشار إليه بذلك أربعة أقوال
أحدها أن الله تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار الأنبياء وغيرهم وأطلع على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين فقال ذلك لتعلموا أي ذلك الغيب الذي أنبأتكم به عن الله يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض ولا تخفى عليه خافية
والثاني أن العرب كانت تسفك الدماء بغير حلها وتأخذ الأموال بغير حقها ويقتل أحدهم غير القاتل فاذا دخلوا البلد الحرام أو دخل الشهر الحرام كفوا عن القتل والمعنى جعل الله الكعبة أمنا والشهر الحرام أمنا إذ لو لم يجعل للجاهلية وقتا يزول فيه الخوف لهلكوا فذلك يدل على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض
والثالث أن الله تعالى صرف قلوب الخلق إلى مكة في الشهور المعلومة فاذا وصلوا إليها عاش أهلها معهم ولولا ذلك ماتوا جوعا لعلمه بما في ذلك من صلاحهم وليستدلوا بذلك على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض
والرابع أن الله تعالى جعل مكة أمنا وكذلك الشهر الحرام فاذا دخل الظبي الوحشي الحرم أنس بالناس ولم ينفر من الكلب ولم يطلبه الكلب فاذا خرجا عن حدود الحرم طلبه الكلب وذعر هو منه والطائر يأنس بالناس في الحرم ولا يزال يطير حتى يقرب من البيت فاذا قرب منه عدل عنه ولم

يطر فوقه إجلالا له فاذا لحقه وجع طرح نفسه على سقف البيت استشفاء به فهذه الأعاجيب في ذلك المكان وفي ذلك الشهر قد دللن على أن الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض
ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون
قوله تعالى ما على الرسول إلا البلاغ في هذه الآية تهديد شديد وزعم مقاتل أنها نزلت والتي بعدها في أمر شريح بن ضبيعة وأصحابه وهم حجاج اليمامة حين هم المسلمون بالغارة عليهم وقد سبق ذكر ذلك في أول السورة وهل هذه الآية محكمة أم لا فيه قولان
أحدهما أنها محكمة وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ وليس عليه الهدى والثاني أنها كانت قبل الأمر بالقتال ثم نسخت بآية السيف قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون
قوله تعالى لا يستوي الخبيث والطيب روى جابر بن عبد الله أن رجلا قال يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله فقال له النبي صلى الله عليه و سلم إن الله لا يقبل إلا الطيب فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي الخبيث والطيب أربعة أقوال

أحدها الحلال والحرام قاله ابن عباس والحسن والثاني المؤمن والكافر قاله السدي والثالث المطيع والعاصي والرابع الرديء والجيد ذكرهما الماوردي ومعنى الاعجاب هاهنا السرور بما يتعجب منه
يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم
قوله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم في سبب نزولها ستة أقوال
أحدها أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه و سلم حتى أحفوه بالمسألة فقام مغضبا خطيبا فقال سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم فقام رجل من قريش يقال له عبد الله بن حذافة كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال يا نبي الله من أبي قال أبوك حذافة فقام آخر فقال أين أبي قال في النار فقام عمر فقال رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما إنا حديثو عهد بجاهلية والله أعلم من أباؤنا فسكن غضبه ونزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن أبي هريرة وقتادة عن أنس

والثاني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب الناس فقال إن الله كتب عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن فقال أفي كل عام يا رسول الله فقال أما إني لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتم لضللتم اسكتوا عني ما سكت عنكم فانما هلك من هلك ممن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فنزلت هذه الآية رواه محمد بن زياد عن أبي هريرة وقيل إن السائل عن ذلك الأفرع بن حابس
والثالث أن قوما كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم استهزاء فيقول الرجل من أبي ويقول الرجل تضل ناقته أين ناقتي فنزلت هذه الآية رواه أبو الجورية عن ابن عباس

والرابع أن قوما سألوا الرسول صلى الله عليه و سلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فنزلت هذه الآية رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال ابن جبير
والخامس أن قوما كانوا يسألون الآيات والمعجزات فنزلت هذه الآية روي هذا المعنى عن عكرمة
والسادس أنها نزلت في تمنيهم الفرائض وقولهم وددنا أن الله تعالى أذن لنا في قتال المشركين وسؤالهم عن أحب الأعمال إلى الله ذكره أبو سليمان الدمشقي قال الزجاج أشياء في موضع خفض إلا أنها فتحت لأنها لا تنصرف و تبد لكم تظهر لكم فأعلم الله تعالى أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع لأنه يسوء الجواب عنه وقال ابن عباس إن تبد لكم أي إن نزل القرآن فيها بغليظ ساءكم ذلك
قوله تعالى وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن أي حين ينزل القرآن فيها بفرض أو إيجاب أو نهي أو حكم وليس في ظاهر ما نزل دليل على شرح ما بكم إليه حاجة فاذا سألتم حينئذ عنها تبد لكم وفي قوله عفا الله عنها قولان
أحدهما أنه إشارة إلى الأشياء
والثاني إلى المسألة فعلى القول الأول في الآية تقديم وتأخير والمعنى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم عفا الله عنها ويكون معنى عفا الله عنها أمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكما وعلى القول الثاني الآية على نظمها ومعنى عفا الله عنها لم يؤاخذ بها

قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين
قوله تعالى قد سألها قوم من قبلكم في هؤلاء القوم أربعة أقوال
أحدها أنهم الذين سألوا عيسى نزول المائدة قاله ابن عباس والحسن
والثاني أنهم قوم صالح حين سألوا الناقة هذا على قول السدي وهذان القولان يخرجان على أنهما سألوا الآيات
والثالث أن القوم هم الذين سألوا في شأن البقرة وذبحها فلو ذبحوا بقرة لأجزأت ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم قاله ابن زيد وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحج إذ لو أراد الله أن يشدد عليهم بالزيادة في الفرض لشدد
والرابع أنهم الذين قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله وهذا عن ابن زيد أيضا وهو يخرج على من قال إنما سألوا عن الجهاد والفرائض تمنيا لذلك قال مقاتل كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء فاذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدقوهم فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون
قوله تعالى ما جعل الله من بحيرة أي ما أوجب ذلك ولا أمر به
وفي البحيرة أربعة أقوال
أحدها أنها الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس فان كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى شقوا أذنها وكانت حراما على النساء لا ينتفعن بها ولا يذقن من لبنها ومنافعها للرجال خاصة فاذا ماتت إشترك فيها الرجال والنساء قاله ابن عباس واختاره ابن قتيبة

والثاني أنها الناقة تلد خمس إناث ليس فيهن ذكر فيعمدون إلى الخامسة فيبتكون أذنها قاله عطاء
والثالث أنها ابنة السائبة قاله إبن إسحاق والفراء قال ابن إسحاق كانت الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سيبت فاذا نتجت بعد ذلك أنثى شقت أذنها وسميت بحيرة وخليت مع أمها
والرابع أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوها وامتنعوا من ركوبها وذبحها ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى وإذا لقيها لم يركبها قاله الزجاج فأما السائبة فهي فاعلة بمعنى مفعولة وهي المسيبة كقوله في عيشة راضية أي مرضية وفي السائبة خمسة أقوال
أحدها أنها التي تسيب من الأنعام للآلهة لا يركبون لها ظهرا ولا يحلبون لها لبنا ولا يجزون منها وبرا ولا يحملون عليها شيئا رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثاني أن الرجل كان يسيب من ماله ما شاء فيأتي به خزنة الآلهة فيطعمون ابن السبيل من ألبانه ولحومه إلا النساء فلا يطعمونهن شيئا منه إلا أن يموت فيشترك فيه الرجال والنساء رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال

الشعبي كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم ويتركونها عند الآلهة فلا يشرب منها إلا رجل فان مات منها شيء أكله الرجال والنساء
والثالث أنها الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يجز لها وبر ولم يشرب لبنها إلا ضيف أو ولدها حتى تموت فاذا ماتت أكلها الرجال والنساء ذكره الفراء
والرابع أنها البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله تعالى من مرض أو بلغه منزله أن يفعل ذلك قاله ابن قتيبة قال الزجاج كان الرجل إذا نذر لشيء من هذا قال ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ولا تمنع من ماء ومرعى
والخامس أنه البعير يحج عليه الحج فيسيب ولا يستعمل شكرا لنجحها حكاه الماوردي عن الشافعي وفي الوصيلة خمسة أقوال
أحدها أنها الشاة كانت إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع فان كان أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء وإن كان ذكرا ذبحوه فأكلوه جميعا وإن كان ذكران وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك مع أخيها فلا تذبح ومنافعها للرجال دون النساء فاذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء رواه أبو صالح عن ابن عباس وذهب إلى نحوه ابن قتيبة فقال إن كان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال والنساء وإن كان أنثى تركت في النعم وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها وكانت لحومها حراما على النساء ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منها شيء فيأكله الرجال والنساء

والثاني أنها الناقة البكر تبتكر في أول نتاج الإبل بالأنثى ثم تثني بالأنثى فكانوا يستبقونها لطواغيتهم ويدعونها الوصيلة أي وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر رواه الزهري عن ابن المسيب
والثالث أنها الشاة تنتج عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن فيدعونها الوصيلة وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث قاله ابن إسحاق
والرابع أنها الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين فاذا ولدت في سابعها عناقا وجديا قيل وصلت أخاها فجرت مجرى السائبة قاله الفراء
والخامس أن الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم فان ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم قاله الزجاج
وفي الحام ستة أقوال
أحدها أنه الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم ولا يحمل عليه قاله ابن مسعود وابن عباس واختاره أبو عبيدة والزجاج
والثاني أنه الفحل يولد لولده فيقولون قد حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه ولا يجزون وبره ولا يمنعونه ماء ولا مرعى رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس واختاره الفراء وابن قتيبة
والثالث أنه الفحل يظهر من أولاده عشر إناث من بناته وبنات بناته قاله عطاء

والرابع أنه الذي ينتج له سبع إناث متواليات قاله ابن زيد
والخامس أنه الذي لصلبه عشرة كلها تضرب في الإبل قاله أبو روق
والسادس أنه الفحل يضرب في إبل الرجل عشر سنين فيخلى ويقال قد حمى ظهره ذكره الماوردي عن الشافعي قال الزجاج والذي ذكرناه في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام أثبت ما روينا عن أهل اللغة وقد أعلم الله عز و جل في هذه الآية أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئا وان الذين كفروا افتروا على الله عز و جل قال مقاتل وافتراؤهم قولهم إن الله حرمه وأمرنا به وفي قوله وأكثرهم لا يعقلون قولان
أحدهما وأكثرهم يعني الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب على الله من الرؤساء الذين حرموا قاله الشعبي
والثاني لا يعقلون أن هذا التحريم من الشيطان قاله قتادة
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون
قوله تعالى وإذا قيل لهم يعني إذا قيل لهؤلاء المشركين الذين حرموا على أنفسهم هذه الأنعام تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن من تحليل ما حرمتهم على أنفسكم قالوا حسبنا أي يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا من الدين والمنهاج أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الدين ولا يهتدون له أيتبعونهم في خطئهم يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من

ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم في سبب نزولها قولان
أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب إلى هجر وعليهم المنذر بن ساوي يدعوهم إلى الاسلام فان أبوا فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى والمجوس فأقروا بالجزية وكرهوا الاسلام فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أما العرب فلا تقبل منهم إلا الاسلام أو السيف وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أسلمت العرب وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية فقال منافقوا مكة عجبا لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية فهلا أكرههم على الاسلام وقد ردها على إخواننا من العرب فشق ذلك على المسلمين فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال مقاتل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلما أسلمت العرب طوعا وكرها قبلها من مجوس هجر فطعن المنافقون في ذلك فنزلت هذه الآية
والثاني أن الرجل كان إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك وضللتهم وكان ينبغي لك أن تنصرهم فنزلت هذه الآية قاله ابن زيد قال الزجاج ومعنى الآية إنما ألزمكم الله أمر أنفسكم ولا يؤاخذكم بذنوب غيركم وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف لأن المؤمن إذا تركه وهو مستطيع له فهو

ضال وليس بمهتد وقال عثمان بن عفان لم يأت تأويلها بعد وقال ابن مسعود تأويلها في آخر الزمان قولوا ما قبل منكم فاذا غلبتم فعليكم أنفسكم
وفي وقاله لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قولان

أحدهما لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف إذا اهتديتم أنتم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاله حذيفة بن اليمان وابن المسيب
والثاني لا يضركم من ضل من أهل الكتاب إذا أدوا الجزية قاله مجاهد
وفي قوله فينبئكم بما كنتم تعملون تنبيه على الجزاء
فصل
فعلى ما ذكرنا عن الزجاج في معنى الآية هي محكمة وقد ذهب قوم من المفسرين إلى أنها منسوخة ولهم في ناسخها قولان
أحدهما أنه آية السيف
والثاني أن آخرها نسخ أولها روي عن أبي عبيد أنه قال ليس في القرآن آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه وموضع المنسوخ منها إلى قوله لا يضركم من ضل والناسخ قوله إذا اهتديتم والهدى هاهنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

يآ أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلوة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة فصحبهما رجل من قريش من بني سهم فمات بأرض ليس فيها أحد من المسلمين فأوصى إليهما بتركته فلما قدما دفعاها إلى أهله وكتما جاما كان معه من فضة وكان مخوصا بالذهب فقالا لم نره فأتي بهما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فاستحلفهما بالله ما كتما وخلى سبيلهما ثم إن الجام وجد عند قوم من أهل مكة فقالوا ابتعناه من تميم الداري وعدي بن بداء فقام أولياء السهمي فأخذوا الجام وحلف رجلان منهم بالله إن هذا الجام جام صاحبنا وشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا فنزلت هذه الآية والتى بعدها قال مقاتل واسم الميت بزيل بن أبي

مارية مولى العاص بن وائل السهمي وكان تميم وعدي نصرانيين فأسلم تميم ومات عدي نصرانيا فأما التفسير فقال الفراء معنى الآية ليشهدكم اثنان إذا حضر أحدكم الموت قال الزجاج المعنى شهادة هذه الحال شهادة اثنين فحذف شهادة ويقوم اثنان مقامهما وقال ابن الأنباري معنى الآية ليشهدكم في سفركم إذا حضركم الموت وأردتم الوصية اثنان وفي هذه الشهادة ثلاثة أقوال
أحدها أنها الشهادة على الوصية التي ثبتت عند الحكام وهو قول ابن مسعود وأبي موسى وشريح وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري والجمهور
والثاني أنها أيمان الوصي بالله تعالى إذا ارتاب الورثة بهما وهو قول مجاهد
والثالث أنها شهادة الوصية أي حضورها كقوله أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت البقرة 133 جعل الله الوصي هاهنا اثنين تأكيدا واستدل أرباب هذا القول بقوله فيقسمان بالله قالوا والشاهد لا يلزمه يمين فأما حضور الموت فهو حضور أسبابه ومقدماته وقوله حين الوصية أي وقت الوصية وفي قوله منكم قولان

أحدهما من أهل دينكم وملتكم قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير وشريح وابن سيرين والشعبي وهو قول أصحابنا
والثاني من عشيرتكم وقبيلتكم وهم مسلمون أيضا قاله الحسن وعكرمة والزهري والسدي
قوله تعالى أو آخران من غيركم تقديره أو شهادة آخرين من غيركم وفي قوله من غيركم قولان
أحدهما من غير ملتكم ودينكم قاله أرباب القول الأول
والثاني من غير عشيرتكم وقبيلتكم وهم مسلمون أيضا قاله أرباب القول الثاني وفي أو قولان
أحدهما أنها ليست للتخيير وإنما المعنى أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم وبه قال ابن عباس وابن جبير والثاني أنها للتخيير ذكره الماوردي
فصل
فالقائل بأن المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة أو من غير القبيلة لا يشك في إحكام هذه الآية فأما القائل بأن المراد بقوله أو آخران من غيركم أهل الكتاب إذا شهدوا على الوصية في السفر فلهم فيها قولان
أحدهما أنها محكمة والعمل على هذا باق وهو قول ابن عباس وابن المسيب وابن جبير وابن سيرين وقتادة والشعبي والثوري وأحمد في آخرين
والثاني أنها منسوخة بقوله وأشهدوا ذوي عدل منكم وهو قول

زيد بن أسلم وإليه يميل أبوحنيفة ومالك والشافعي قالوا وأهل الكفر ليسوا بعدول والأول أصح لأن هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس والاستهلال
قوله تعالى إن أنتم ضربتم في الأرض هذا الشرط متعلق بالشهادة والمعنى ليشهدكم اثنان إن أنتم ضربتم في الأرض أي سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت فيه محذوف تقديره وقد أسندتم الوصية إليهما ودفعتم إليهما مالكم تحبسونهما من بعد الصلاة خطاب للورثة إذا ارتابوا وقال ابن عباس هذا من صلة قوله أو آخران من غيركم أي من الكفار فأما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما وفي هذه الصلاة قولان

أحدهما صلاة العصر رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال شريح وابن جبير وإبراهيم وقتادة والشعبي
والثاني من بعد صلاتهما في دينهما حكاه السدي عن ابن عباس وقال به
وقال الزجاج كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وقال ابن قتيبة لأنه وقت يعظمه أهل الأديان
قوله تعالى فيقسمان بالله أي فيحلفان إن ارتبتم أي شككتم يا أولياء الميت ومعنى الآية إذا قدم الموصى إليهما بتركة المتوفي فاتهمهما الوارث استحلفا بعد صلاة العصر أنهما لم يسرقا ولم يخونا فالشرط في قوله إن ارتبتم متعلق بتحبسونهما كأنه قال إن إرتبتم حبستموهما فاستحلفتموهما فيحلفان بالله لا نشتري به أي بأيماننا وقيل بتحريف شهادتنا فالهاء عائدة على المعنى ثمنا أي عرضا من الدنيا ولو كان ذا قربى أي ولو كان المشهود له ذا قرابة منا وخص ذا القرابة لميل القريب إلى قريبه والمعنى لا نحابي في شهادتنا أحدا ولا نميل مع ذي القربى في قول الزور ولا نكتم شهادة الله إنما أضيفت إليه لأمره باقامتها ونهيه عن كتمانها وقرأ سعيد بن جبير ولا نكتم شهادة بالتنوين الله بقطع الهمزة وقصرها وكسر الهاء ساكنة النون في الوصل وقرأ سعيد بن المسيب وعكرمة شهادة بالتنوين والوصل منصوبة الهاء وقرأ أبو عمران الجوني شهادة بالتنوين وإسكانها في الوصل الله بقطع الهمزة وقصرها مفتوحة الهاء وقرأ الشعبي وابن السميفع شهادة بالتنوين وإسكانها في الوصل

الله بقطع الهمزة ومدها وكسر الهاء وقرأ أبوالعالية وعمرو بن دينار مثله إلا أنهما نصبا الهاء واختلف العلماء لأي معنى وجبت اليمين على هذين الشاهدين على ثلاثة أقوال
أحدها لكونهما من غير أهل الإسلام روي هذا المعنى عن أبي موسى الأشعري والثاني لوصية وقعت بخط الميت وفقد ورثته بعض ما فيها رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث لأن الورثة كانوا يقولون كان مال ميتنا أكثر فاستخانوا الشاهدين قاله الحسن ومجاهد
فان عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين
قوله تعالى فان عثر على أنهما استحقا إثما قال المفسرون لما نزلت الآية الأولى دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عديا وتميما فاستحلفهما عند المنبر أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما فحلفا وخلى سبيلهما ثم ظهر الإناء الذي كتماه فرفعهما أولياء الميت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت فان عثر على أنهما استحقا إثما ومعنى عثر اطلع أي إن عثر أهل الميت أو من يلي أمره على أن الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا استحقا إثما لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما فآخران يقومان مقامهما أي مقام هذين الخائنين من الذين استحق عليهم الأوليان
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي استحق بضم التاء الأوليان على التثنية وفي قوله من الذين استحق عليهم قولان

أحدهما أنهما الذميان والثاني الوليان فعلى الأول في معنى استحق عليهم أربعة أقوال
أحدها استحق عليهم الإيصاء قال ابن الأنباري المعنى من القوم الذين استحق فيهم الإيصاء استحقه الأوليان بالميت وكذلك قال الزجاج المعنى من الذين استحقت الوصية أو الإيصاء عليهم
والثاني أنه الظلم والمعنى من الذين استحق عليهم ظلم الأوليان فحذف الظلم وأقام الأوليين مقامه ذكره ابن القاسم أيضا
والثالث أنه الخروج مما قاما به من الشهادة لظهور خيانتهما
والرابع أنه الاثم والمعنى استحق منهم الاثم ونابت على عن من كقوله على الناس يستوفون المطففين 2 أي منهم وقال الفراء على بمعنى في كقوله على ملك سليمان البقرة 102 أي في ملكه ذكر القولين أبو علي الفارسي وعلى هذه الأقوال مفعول استحق محذوف مقدر وعلى القول الثاني في معنى استحق عليهم قولان
أحدهما استحق منهم الأوليان وهو اختيار ابن قتيبة
والثاني جني عليهم الاثم ذكره الزجاج
فأما الأوليان فقال الأخفش الأوليان اثنان واحدهما الأولى والجمع الأولون ثم للمفسرين فيهما قولان
أحدهما أنهما أولياء الميت قاله الجمهور قال الزجاج الأوليان في قول أكثر البصريين يرتفعان على البدل مما في يقومان والمعنى فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين وقال أبو علي لا يخلو الأوليان أن يكون

ارتفاعهما على الابتداء أو يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قال فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان أو يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان والتقدير فيقوم الأوليان
والقول الثاني أن الأوليان هما الذميان والمعنى أنهما الأوليان بالخيانة فعلى هذا يكون المعنى يقومان إلا من الذين استحق عليهم قال الشاعر ... فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طهيان ...
أي بدلا من ماء زمزم وروى قرة عن ابن كثير وحفص وعاصم استحق بفتح التاء والحاء الأوليان على التثنية والمعنى استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها فحذف المفعول وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم استحق برفع التاء وكسر الحاء الأولين بكسر اللام وفتح النون على الجمع والتقدير من الأولين الذين استحق فيهم الإثم أي جني عليهم لأنهم كانوا أولين في الذكر ألا ترى أنه قد تقدم ذوا عدل منكم على قوله أو آخران من غيركم وروى الحلبي عن عبد الوارث الأولين بفتح الواو وتشديدها وفتح اللام وسكون الياء وكسر النون وهي تثنية أول وقرأ الحسن البصري استحق بفتح التاء والحاء الأولون تثنية أول على البدل من قوله فآخران وقال ابن قتيبة أشبه الأقوال بالآية أن الله تعالى أراد أن يعرفنا كيف يشهد بالوصية عند حضور الموت فقال ذوا عدل منكم أي عدلان من المسلمين تشهدونهما على الوصية وعلم أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم ويحضره الموت فلا يجد

من يشهده من المسلمين فقال أو آخران من غيركم أي من غير أهل دينكم إذا ضربتم في الأرض أي سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت وتم الكلام فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر خاصة إن أمكن إشهادهما في السفر والذميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما ثم قال تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن إرتبتم أراد تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن ارتبتم في شهادتهما وخشيتم أن يكونا قد خانا أو بدلا فاذا حلفا مضت شهادتهما فان عثر بعد هذه اليمين أي ظهر على أنهما استحقا إثما أي حنثا في اليمين بكذب في قول أو خيانة في وديعة فآخران أي قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان وهما الوليان يقال هذا الأولى بفلان ثم يحذف من الكلام بفلان فيقال هذا الأولى وهذان الأوليان وعليهم بمعنى منهم فيحلفان بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وما اعتدينا عليهما ولشهادتنا أصح لكفرهما وإيماننا فيرجع على الذميين بما اختانا وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك وقال غيره لشهادتنا أي ليميننا أحق وسميت اليمين شهادة لأنها كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك
قال المفسرون فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا بالله ودفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين

قوله تعالى ذلك أدنى أي ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين أقرب إلى إتيان أهل الذمة بالشهادة على وجهها أي على ما كانت وأقرب أن يخافوا أن ترد أيمان أولياء الميت بعد أيمانهم فيحلفون على خيانتهم فيفتضحوا ويغرموا فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك واتقوا الله أن تحلفوا كاذبين أو تخونوا أمانة واسمعوا الموعظة
يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب
قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل قال الزجاج نصب يوم محمول على قوله واتقوا الله واتقوا يوم جمعة للرسل ومعنى مسألته للرسل توبيخ الذين أرسلوا إليهم فأما قول الرسل لا علم لنا ففيه ستة أقوال
أحدها أنهم طاشت عقولهم حين زفرت جهنم فقالوا لا علم لنا ثم ترد إليهم عقولهم فينطلقون بحجتهم رواه أبو الضحى عن ابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد والسدي
والثاني أن المعنى لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث أن المراد بقوله ماذا أجبتم ماذا عملوا بعدكم وأحدثوا فيقولون لا علم لنا قاله ابن جريج وفيه بعد
والرابع أن المعنى لا علم لنا مع علمك لأنك تعلم الغيب ذكره الزجاج
والخامس أن المعنى لا علم لنا كعلمك إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا ونحن نعلم ما أظهروا ولا نعلم ما أضمروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا هذا اختيار بن الأنباري

والسادس لا علم لنا بجميع أفعالهم إذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا وإنما يستحق الجزاء بما تقع به الخاتمة حكاه ابن الأنباري قال المفسرون إذا رد الأنبياء العلم إلى الله أبلست الأمم وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه وأن الكل لا يخرجون عن قبضته
قوله تعالى علام الغيوب قال الخطابي العلام بمنزلة العليم وبناء فعال بناء التكثير فأما الغيوب فجمع غيب وهو ما غاب عنك إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير باذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص باذني وإذ تخرج الموتى باذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين
قوله تعالى إذ قال الله يا عيسى قال ابن عباس معناه وإذ يقول
قوله تعالى اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك في تذكيره النعم فائدتان
إحداهما إسماع الأمم ما خصه به من الكرامة
والثانية توكيد حجته على جاحده ومن نعمه على مريم أنه اصطفاها وطهرها وأتاها برزقها من غير سبب وقال الحسن المراد بذكر النعمة الشكر فأما النعمة فلفظها لفظ الواحد ومعناها الجمع فان قيل لم قال هاهنا فتنفخ فيها وفي آل عمران فيه فالجواب أنه جائز أن يكون ذكر الطير على معنى الجميع

وأنث على معنى الجماعة وجاز أن يكون فيه للطير وفيها للهيأة ذكره أبو علي الفارسي
قوله تعالى إن هذا إلا سحر مبين قرأ ابن كثير وعاصم هاهنا وفي هود و الصف إلا سحر مبين وقرأ في يونس لساحر مبين بألف وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر الأربعة سحر مبين بغير ألف فمن قرأ سحر أشار إلى ما جاء به ومن قرأ ساحر أشار إلى الشخص وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون
وفي الوحي الى الحواريين قولان
أحدهما أنه بمعنى الإلهام قاله الفراء وقال السدي قذف في قلوبهم
والثاني أنه بمعنى الأمر فتقديره أمرت الحواريين وإلى صلة قاله أبو عبيدة وفي قوله واشهد قولان
أحدهما أنهم يعنون الله تعالى والثاني عيسى عليه السلام
وقوله بأننا مسلمون أي مخلصون للعبادة والتوحيد وقد سبق شرح ما أهمل هاهنا فيما تقدم
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى هل يستطيع ربك قال الزجاج أي هل يقدر وقرأ الكسائي هل تستطيع بالتاء ونصب الرب قال الفراء معناه هل تقدر

أن تسأل ربك قال ابن الأنباري ولا يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة الله وإنما هذا كما يقول الانسان لصاحبه هل تستطيع أن تقوم معي وهو يعلم أنه مستطيع ولكنه يريد هل يسهل عليك وقال أبو علي المعنى هل يفعل ذلك بمسألتك إياه وزعم بعضهم أنهم قالوا ذلك قبل استحكام إيمانهم ومعرفتهم فرد عليهم عيسى بقوله اتقوا الله أن تنسبوه إلى عجز والأول أصح فأما المائدة فقال اللغويون المائدة كل ما كان عليه من الأخونة طعام فاذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة والكأس كل إناء فيه شراب فاذا لم يكن فيه شراب فليس بكأس ذكره الزجاج قال الفراء وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي تهدى عليه الهدية هو المهدى مقصور ما دامت عليه الهدية فاذا كان فارغا رجع إلى اسمه إن كان طبقا أو خوانا أو غير ذلك وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن لفظها فاعلة وهي في المعنى مفعولة مثل عيشة راضية الحاقة 21 قال أبو عبيدة وهي من العطاء والممتاد المفتعل المطلوب منه العطاء قال الشاعر ... إلى أمير المؤمنين الممتاد

وماد زيد عمرا إذا أعطاه قال الزجاج والأصل عندي في مائدة أنها فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها وقال ابن قتيبة المائدة الطعام من مادني يميدني كأنها تميد الآكلين أي تعطيهم أو تكون فاعلة بمعنى مفعول بها أي ميد بها الآكلون
قوله تعالى اتقوا الله إن كنتم مؤمنين فيه ثلاثة أقوال
أحدها اتقوه أن تسألوه البلاء لأنها إن نزلت وكذبتم عذبتم قاله مقاتل
والثاني أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم ذكره أبو عبيد
والثالث أن تشكوا في قدرته قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين
قوله تعالى قالوا نريد أن نأكل منها هذا اعتذار منهم بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه وفي إرادتهم للأكل منها ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أرادوا ذلك للحاجة وشدة الجوع قاله ابن عباس
والثاني ليزدادوا إيمانا ذكره ابن الأنباري
والثالث للتبرك بها ذكره الماوردي وفي قوله وتطمئن قلوبنا ثلاثة أقوال
أحدها تطمئن إلى أن الله تعالى قد بعثك إلينا نبيا
والثاني إلى أن الله تعالى قد إختارنا أعوانا لك
والثالث إلى أن الله تعالى قد أجابك وقال ابن عباس قال لهم عيسى هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ثم لا تسألونه شيئا إلا أعطاكم فصاموا ثم سألوا المائدة فمعنى ونعلم أن صدقتنا في أنا إذا صمنا ثلاثين يوما لم نسأل الله شيئا إلا أعطانا وفي هذا العلم قولان

أحدهما أنه علم يحدث لهما لم يكن وهو قول من قال كان سؤالهم قبل استحكام معرفتهم
والثاني أنه زيادة علم إلى علم ويقين إلى يقين وهو قول من قال كان سؤالهم بعد معرفتهم وقرأ الأعمش وتعلم بالتاء والمعنى وتعلم القلوب أن قد صدقتنا وفي قوله من الشاهدين أربعة أقوال
أحدها من الشاهدين لله بالقدرة ولك بالنبوة والثاني عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم وذلك أنهم كانوا مع عيسى في البرية عند هذا السؤال والثالث من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدنا من الآيات الدالة على أنك نبي
والرابع من الشاهدين لك عند الله بأداء ما بعثت به قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين
قوله تعالى تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وقرأ ابن محيصن وابن السميفع والجحدري لأولانا وأخرانا برفع الهمزة وتخفيف الواو والمعنى يكون اليوم الذي نزلت فيه عيدا لنا نعظمه نحن ومن بعدنا قاله قتادة والسدي وقال كعب أنزلت عليهم يوم الأحد فاتخذوه عيدا وقال ابن قتيبة عيدا أي مجمعا قال الخليل بن أحمد العيد كل يوم يجمع كأنهم عادوا إليه وقال ابن الأنباري سمي عيدا للعود من الترح إلى الفرح
قوله تعالى وآية منك أي علامة منك تدل على توحيدك وصحة نبوة نبيك وقرأ ابن السميفع وابن محيصن والضحاك وأنه منك بفتح الهمزة

وبنون مشددة وفي قوله وارزقنا قولان أحدهما ارزقنا ذلك من عندك
والثاني ارزقنا الشكر على ما أنعمت به من إجابتك لنا
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فاني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين
قوله تعالى قاله الله إني منزلها عليكم قرأ نافع وعاصم وابن عامر منزلها بالتشديد وقرأ الباقون خفيفة وهذا وعد باجابة سؤال عيسى واختلف العلماء هل نزلت أم لا على قولين
أحدهما أنها نزلت قاله الجمهور فروى وهب بن منبه عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال لما رأى عيسى أنهم قد جدوا في طلبها لبس جبة من شعر ثم توضأ واغتسل وصف قدميه في محرابه حتى استويا وألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالأصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وطأطأ رأسه خضوعا ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت تسيل دموعه على خده وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض من دموعه حيال وجهه ثم رفع رأسه إلى السماء فقال اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء فبينما عيسى كذلك هبطت علينا مائدة من السماء سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من تحتها وغمامة من فوقها وعيسى يبكي ويتضرع ويقول إلهي اجعلها سلامة لا تجعلها عذابا حتى استقرت بين يديه والحواريون من حوله فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها وإذا عليهم منديل مغطى فقال عيسى أيكم أوثق بنفسه وأقل بلاء عند ربه فليأخذ هذا المنديل وليكشف لنا عن هذه الآية قالوا يا روح الله أنت أولانا بذلك فاكشف عنها فاستأنف وضوءا جديدا وصلى ركعتين وسأل

ربه أن يأذن له بالكشف عنها ثم قعد إليها وتناول المنديل فاذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك وحولها من كل البقل ما خلا الكراث وعند رأسها الخل وعند ذنبها الملح وحولها خمسة أرغفة على رغيف تمر وعلى رغيف زيتون وعلى رغيف خمس رمانات فقال شمعون رأس الحواريين يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أمن طعام الجنة فقال عيسى سبحان الله أما تنتهون ما أخوفني عليكم قال شمعون لا وإله بني إسرائيل ما أردت بهذا سوءا قال عيسى ليس ما ترون عليها من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة إنما هو شيء ابتدعه الله فقال له كن فكان أسرع من طرفة عين فقال الحواريون يا روح الله إنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية فقال سبحان الله ما اكتفيتم بهذه الآية ثم أقبل على السمكة فقال عودي باذن الله حية طرية فعادت تضطرب على المائدة ثم قال عودي كما كنت فعادت مشوية فقال يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها فقال معاذ الله بل يأكل منها من سألها فلما رأوا امتناعه خافوا أن يكون نزولها عقوبة فلما رأى عيسى ذلك دعا لها الفقراء والزمنى واليتامى فقال كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم ليكون منؤها لكم وعقوبتها على غيركم فأكل منها ألف وسبعمائة إنسان يصدرون عنها شباعا وهي كهيئتها حين نزلت فصح كل مريض واستغنى كل فقير أكل منها ثم نزلت بعد ذلك عليهم فازدحموا عليها فجعلها عيسى نوبا بينهم فكانت تنزل عليهم أربعين يوما تنزل يوما وتغب يوما وكانت تنزل عند ارتفاع الضحى فيأكلون منها حتى إذا قالوا ارتفعت إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض وقال قتادة كانت تنزل عليهم بكرة وعشية

حيث كانوا وقال غيره نزلت يوم الأحد مرتين وقيل نزلت غدوة وعشية يوم الأحد فلذلك جعلوه عيدا وفي الذي كان على المائدة ثمانية أقوال
أحدها أنه خبز ولحم روي عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما والثاني أنها سمكة مشوية وخمس أرغفة وتمر وزيتون ورمان وقد ذكرناه عن سلمان والثالث ثمر من ثمار الجنة قاله عمار بن ياسر وقال قتادة ثمر من ثمار الجنة وطعام من طعامها
والرابع خبز وسمك رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وأبو عبد الرحمن السلمي والخامس قطعة من ثريد رواه الضحاك عن ابن عباس
والسادس أنه أنزل عليها كل شيء إلا اللحم قاله سعيد بن جبير
والسابع سمكة فيها طعم كل شيء من الطعام قاله عطية العوفي
والثامن خبز أرز وبقل قاله ابن السائب
والقول الثاني أنها لم تنزل روى قتادة عن الحسن أن المائدة لم تنزل لأنه لم قال الله تعالى فمن يكفر بعد منكم فاني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين قالوا لا حاجة لنا فيها وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال أنزلت مائدة عليها ألوان من الطعام فعرضها عليهم وأخبرهم أنه العذاب إن كفروا فأبوها فلم تنزل وروى ليث عن مجاهد قال هذا مثل ضربه الله تعالى

لخلقه لينهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه ولم ينزل عليهم شيء والأول أصح
قوله تعالى فمن يكفر بعد منكم أي بعد إنزال المائدة
وفي العذاب المذكور قولان
أحدهما أنه المسخ والثاني جنس من العذاب لم يعذب به أحد سواهم
قال الزجاج ويجوز أن يعجل لهم في الدنيا ويجوز أن يكون في الآخرة وفي العالمين قولان أحدهما أنه عام والثاني عالمو زمانهم وقد ذكر المفسرون أن جماعة من أصحاب المائدة مسخوا وفي سبب مسخهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم أمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير رواه عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثاني أن عيسى خص بالمائدة الفقراء فتكلم الأغنياء بالقبيح من القول وشككوا الناس فيها وارتابوا فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم مسخهم الله خنازير قاله سلمان الفارسي
والثالث أن الذين شاهدوا المائدة ورجعوا إلى قومهم فأخبروهم فضحك بهم من لم يشهد وقالوا إنما سحر أعينكم وأخذ بقلوبكم فمن أراد الله به خيرا ثبت على بصيرته ومن أراد به فتنة رجع إلى كفره فلعنهم عيسى فأصبحوا خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا قاله ابن عباس

وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب
قوله تعالى وإذ قال الله يا عيسى بن مريم في زمان هذا القول قولان
أحدهما أنه يقول له يوم القيامة قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج
والثاني أنه قاله له حين رفعه إليه قاله السدي والأول أصح
وفي إذ ثلاثة أقوال
أحدها أنها زائدة والمعنى وقال الله قاله أبو عبيدة
والثاني أنها على أصلها والمعنى وإذ يقوله الله له قاله ابن قتيبة
والثالث أنها بمعنى إذا كقوله ولو ترى إذ فزعوا سبأ 51 والمعنى إذا قال أبو النجم ... ثم جزاك الله عني إذ جزى ... جنات عدن في السموات العلا ...
ولفظ الآية لفظ الاستفهام ومعناها التوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى قال أبو عبيدة وإنما قال آلهين لأنهم إذ أشركوا فعل ذكر مع فعل أنثى غلب فعل الذكر ذكروهما فان قيل فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف

قال الله تعالى ذلك فيهم فالجواب أنهم لما قالوا لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها من حيث البعضية بمثابة من ولدته فصاروا بمثابة من قاله
قوله تعالى قال سبحانك أي براءة لك من السوء ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أي لست أستحق العبادة فأدعو الناس إليها وروى عطاء بن السائب عن ميسرة قال لما قال الله تعالى لعيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي آلهين من دون الله رعد كل مفصل منه حتى وقع مخافة أن يكون قد قاله وما قال إني لم أقل ولكنه قال إن كنت قلته فقد علمته فان قيل ما الحكمة في سؤال الله تعالى له عن ذلك وهو يعلم أنه ما قاله فالجواب أنه تثبيت للحجة على قومه وإكذاب لهم في ادعائهم عليه أنه أمرهم بذلك ولإنه إقرار من عيسى بالعجز في قوله ولا أعلم ما في نفسك وبالعبودية في قوله أن اعبدوا الله ربي وربكم
قوله تعالى تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك قال الزجاج تعلم ما أضمره ولا أعلم ما عندك علمه والتأويل تعلم ما أعلم وأنا لا أعلم ما تعلم ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد
قوله تعالى أن اعبدوا الله قال مقاتل وحدوه
قوله تعالى وكنت عليهم شهيدا أي على ما يفعلون ما كنت مقيما فيهم وقوله فلما توفيتني فيه قولان

أحدهما بالرفع إلى السماء والثاني بالموت عند انتهاء الأجل والرقيب مشروح في سورة النساء والشهيد في آل عمران
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
قوله تعالى إن تعذبهم فإنهم عبادك قال الحسن وأبو العالية إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم وقال الزجاج علم عيسى أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر فقال في جملتهم تعذبهم أي إن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك وأنت العادل فيهم لأنك قد أوضحت لهم الحق فكفروا وإن تغفر لهم أي وإن تغفر لمن أقلع منهم وآمن فذلك تفضل منك لأنه قد كان لك أن لا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم وأنت في مغفرتك لهم عزيز لا يمتنع عليك ما تريد حكيم في ذلك وقال ابن الأنباري معنى الكلام لا ينبغي لأحد أن يعترض عليك فإن عذبتهم فلا اعتراض عليك وإن غفرت لهم ولست فاعلا إذا ماتوا على الكفر فلا اعتراض عليك

وقال غيره العفو لا ينقص عزك ولا يخرج عن حكمك وقد روى أبو ذر قال قام رسول الله صلى الله عليه و سلم قيام ليلة بآية يرددها إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير
قوله تعالى قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم قرأ الجمهور برفع اليوم وقرأ نافع بنصبه على الظرف قال الزجاج المعنى قال الله هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين صدقهم ويجوز أن يكون على معنى قال الله هذا الذي ذكرناه يقع في ينفع الصادقين صدقهم والمراد باليوم يوم القيامة وإنما خص نفع الصدق به لأنه يوم الجزاء وفي هذا الصدق قولان
أحدهما أنه صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة
والثاني صدقهم في الآخرة ينفعهم هنالك وفي هذه الآية تصديق لعيسى فيما قال

قوله تعالى رضي الله عنهم أي بطاعتهم ورضوا عنه بثوابه وفي قوله لله ملك السموات والأرض على عبودية عيسى وتحريض على تعليق الآمال بالله وحده تم بعون الله الجزء الثاني من كتاب زاد المسير في علم التفسير ويليه الجزء الثالث وأوله تفسير سورة الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنعام
فصل في نزولها
روى مجاهد عن ابن عباس أن الأنعام مما نزل بمكة وهذا قول الحسن وقتادة وجابر بن زيد
وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس قال نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكة وحولها سبعون ألف ملك
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال هي مكية نزلت جملة واحدة ونزلت ليلا وكتبوها من ليلتهم غير ست آيات وهي قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر الثلاث آيات وقوله وما قدروا الله حق قدره الآية وقوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي إلى آخر الآيتين وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين قوله والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق وقوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه

وروى عن ابن عباس وقتادة قالا هي مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة قوله وما قدروا الله حق قدره الآية وقوله وهو الذي أنشا جنات معروشات وغير معروشات وذكر أبو الفتح ابن شيطا أنها مكية غير آيتين نزلتا بالمدينة قل تعالوا والتي بعدها
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
فأما التفسير فقال كعب فاتحة الكهف فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة هود وإنما ذكر السموات والأرض لأنهما من أعظم المخلوقات
والمراد بالجعل الخلق وقيل إن جعل ههنا صلة والمعنى والظلمات وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال أحدها الكفر والإيمان قاله الحسن والثاني الليل والنهار قاله السدي والثالث جميع الظلمات والأنوار
قال قتادة خلق الله السموات قبل الأرض والظلمات قبل النور والجنة قبل النار
قوله تعالى ثم الذين كفروا يعني المشركين بعد هذا البيان بربهم يعدلون أي يجعلون له عديلا فيعبدون الحجارة الموات مع إقرارهم بأنه الخالق لما وصف يقال عدلت هذا بهذا إذا ساويته به قال أبو عبيدة هو مقدم ومؤخر تقديره يعدلون بربهم وقال النضر بن شميل الباء بمعنى عن
هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون
قوله تعالى هو الذي خلقكم من طين يعني آدم وذلك أنه لما شك

المشركون في البعث وقالوا من يحيي هذه العظام أعلمهم أنه خلقهم من طين فهو قادر على إعادة خلقهم
قوله تعالى ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده فيه ستة اقوال
أحدها أن الأجل الأول أجل الحياة إلى الموت والثاني أجل الموت إلى البعث روي عن ابن عباس والحسن وابن المسيب وقتادة والضحاك ومقاتل
والثاني أن الأجل الأول النوم الذي تقبض فيه الروح ثم ترجع في حال اليقظة والأجل المسمى عنده أجل موت الإنسان رواه العوفي عن ابن عباس
والثالث أن الأجل الأول أجل الآخرة متى يأتي والأجل الثاني أجل الدنيا قاله مجاهد في رواية
والرابع أن الأول خلق الأشياء في ستة أيام والثاني ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة قاله عطاء الخراساني
والخامس أن الأول قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه والثاني الحياة في الدنيا قاله ابن زيد كأنه يشير إلى أجل الذرية حين أحياهم وخاطبهم
والسادس أن الأول أجل من قد مات من قبل والثاني أجل من يموت بعد ذكره الماوردي
قوله تعالى ثم أنتم أي بعد هذا البيان تمترون وفيه قولان
أحدهما تشكون قاله قتادة والسدي وفيما شكوا فيه قولان أحدهما الوحدانية والثاني البعث
والثاني يختلفون مأخوذ من المراء ذكره الماوردي

وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون
قوله تعالى وهو الله في السماوات وفي الأرض فيه أربعة اقوال
أحدها هو المعبود في السماوات وفي الأرض قاله ابن الأنباري
والثاني وهو المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض قاله الزجاج
والثالث وهو الله في السماوات ويعلم سركم وجهركم في الأرض قاله ابن جرير
والرابع أنه مقدم ومؤخر والمعنى وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض ذكره بعض المفسرين
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جآءهم فسوف يأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزؤن
قوله تعالى وما تأتيهم من آية من آيات ربهم نزلت في كفار قريش وفي الآية قولان أحدهما أنها الآية من القرآن والثاني المعجزة مثل انشقاق القمر
والمراد بالحق القرآن والأنباء الأخبار والمعنى سيعلمون عاقبة استهزائهم
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين
قوله تعالى كم أهلكنا من قبلهم من قرن القرن اسم أهل كل عصر

وسموا بذلك لاقترانهم في الوجود وللمفسرين في المراد بالقرن سبعة اقوال
أحدها أنه أربعون سنة ذكره ابن سيرين عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثاني ثمانون سنة رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث مائة سنة قاله عبد الله بن بشر المازني وأبو سلمة بن عبد الرحمن
والرابع مائة وعشرون سنة قاله زرارة بن أوفى وإياس بن معاوية
والخامس عشرون سنة حكاه الحسن البصري
والسادس سبعون سنة ذكره الفراء
والسابع أن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي أو طبقة من العلماء قلت السنون أو كثرت بدليل قوله صلى الله عليه و سلم خيركم قرني يعني أصحابي ثم الذين يلونهم يعني التابعين ثم الذين يلونهم يعني الذين أخذوا عن التابعين فالقرن مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان فهو في كل قوم على مقدار أعمارهم واشتقاق القرن من الاقتران وفي معنى ذلك الاقتران قولان
أحدهما أنه سمي قرنا لأنه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه أهل ذلك الزمان في بقائهم هذا اختيار الزجاج

والثاني أنه سمي قرنا لأنه يقرن زمانا بزمان وأمة بأمة قاله ابن الأنباري وحكى ابن قتيبة عن أبي عبيدة قال يرون أن أقل ما بين القرنين ثلاثون سنة
قوله تعالى مكناهم في الأرض قال ابن عباس أعطيناهم ما لم نعطكم يقال مكنته ومكنت له إذا أقدرته على الشيء باعطاء ما يصح به الفعل من العدة وفي هذه الآية رجوع من الخبر إلى الخطاب
فأما السماء فالمراد بها المطر ومعنى أرسلنا أنزلنا والمدرار مفعال من در يدر والمعنى نرسلها كثيرة الدر
ومفعال من أسماء المبالغة كقولهم امرأة مذكار إذا كانت كثيرة الولادة للذكور وكذلك مئناث
فان قيل السماء مؤنثة فلم ذكرا مدرارا
فالجواب أن حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه أن يلزم التذكير في كل حال سواء كان وصفا لمذكر أو مؤنت كقولهم امرأة مذكار ومعطار وامرأة مذكر ومؤنث وهي كفور وشكور ولو بنيت هذه الأوصاف على الفعل لقيل كافرة وشاكرة ومذكرة فلما عدل عن بناء الفعل جرى مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة كقولهم النعل لبستها والفأس كسرتها وكان إيثارهم التذكير للفرق بين المبني على الفعل والمعدول عن مثل الأفاعيل والمراد بالمدرار المبالغة في اتصال المطر ودوامه يعني أنها تدر وقت الحاجة إليها لا أنها تدوم ليلا ونهارا فتفسد ذكره ابن الأنباري

ولو أنزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين
قوله تعالى ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس سبب نزولها أن مشركي مكة قالوا يا محمد والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله فنزلت هذه الآية قاله ابن السائب قال ابن قتيبة والقرطاس الصحيفة يقال للرامي إذا اصاب الصحيفة قرطس قال شيخنا أبو منصور اللغوي القرطاس قد تكلموا به قديما ويقال إن أصله غير عربي والجمهور على كسر قافه وضمها أبو رزين وعكرمة وطلحة ويحيى بن يعمر
فأما قوله تعالى فلمسوه بأيديهم فهو توكيد لنزوله وقيل إنما علقه باللمس باليد إبعادا له عن السحر لأن السحر يتخيل في المرئيات دون الملموسات ومعنى الآية إنهم يدفعون الصحيح
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون

قوله تعالى وقالوا لولا أنزل عليه ملك قال مقاتل نزلت في النضر ابن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد ولولا بمعنى هلا أنزل عليه ملك نصدقه ولو أنزلنا ملكا فعاينوه ولم يؤمنوا لقضي الأمر وفيه ثلاثة اقوال
أحدها أن المعنى لماتوا ولم يؤخروا طرفة عين لتوبة قاله ابن عباس
والثاني لقامت الساعة قاله عكرمة ومجاهد
والثالث لعجل لهم العذاب قاله قتادة
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون
قوله تعالى ولو جعلناه أي ولو جعلنا الرسول إليهم ملكا لجعلناه في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون رؤية الملك على صورته وللبسنا عليهم أي لشبهنا عليهم يقال ألبست الأمر على القوم ألبسه أي شبهته عليهم وأشكلته والمعنى لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرون أملك هو أم آدمي فأضللناهم بما به ضلوا قبل أن يبعث الملك وقال الزجاج كانوا يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي صلى الله عليه و سلم فيقولون إنما هذا بشر مثلكم فقال تعالى لو رأوا الملك رجلا لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منه وقرأ الزهري ومعاذ القارئ وأبو رجاء وللبسنا بالتشديد عليهم ما يلبسون مشددة أيضا
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين

قوله تعالى فحاق بالذين سخروا أي أحاط قال الزجاج الحيق في اللغة ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ومنه ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله أي لا ترجع عاقبة مكروهه إلا عليهم قال السدي وقع بهم العذاب الذي استهزؤا به
قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون
قوله تعالى قل لمن ما في السماوات والأرض المعنى فان أجابوك وإلا ف قل لله كتب على نفسه الرحمة قال ابن عباس قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين قال الزجاج ومعنى كتب أوجب ذلك إيجابا مؤكدا وجائز أن يكون كتب في اللوح المحفوظ وإنما خوطب الخلق بما يعقلون فهم يعقلون أن توكيد الشيء المؤخر أن يحفظ بالكتاب وقال غيره رحمته عامة فمنها تأخير العذاب عن مستحقه وقبول توبة العاصي
قوله تعالى ليجمعنكم إلى يوم القيامة اللام لام القسم كأنه قال والله ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه وذهب قوم إلى أن إلى بمعنى في ثم اختلفوا فقال قوم في يوم القيامة وقال آخرون في قبوركم إلى يوم القيامة
قوله تعالى الذين خسروا أنفسهم أي بالشرك فهم لا يؤمنون لما سبق فيهم من القضاء وقال ابن قتيبة قوله الذين خسروا أنفسهم مردود إلى قوله كيف كان عاقبة المكذبين مردود إلى قوله كيف كان عاقبة المكذبين الذين خسروا
وله ما سكن في الليل في الليل والنهار وهو السميع العليم
قوله تعالى وله ما سكن في الليل والنهار سبب نزولها أن كفار مكة

قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيبا في أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلا وترجع عما أنت عليه فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس
وفي معنى سكن قولان
أحدهما أنه من السكنى قال ابن الأعرابي سكن بمعنى حل
والثاني أنه من السكون الذي يضاد الحركة قال مقاتل من المخلوقات ما يستقر بالنهار وينتشر بالليل ومنها ما يستقر بالليل وينتشر بالنهار
فان قيل لم خص السكون بالذكر دون الحركة فعنه ثلاثة أجوبة
احدها أن السكون أعم وجودا من الحركة
والثاني أن كل متحرك قد يسكن وليس كل ساكن يتحرك
والثالث أن في الآية إضمارا والمعنى وله ما سكن وتحرك كقوله تقيكم الحر أراد والبرد فاختصر
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين
قوله تعالى قل أغير الله أتخذ وليا ذكر مقاتل أن سبب نزولها أن كفار قريش قالوا يا محمد ألا ترجع إلى دين آبائك فنزلت هذه الآية وهذا الاستفهام معناه الإنكار أي لا أتخذ وليا غير الله أتولاه وأعبده وأستعينه
قوله تعالى فاطر السماوات والأرض الجمهور على كسر راء فاطر وقرأ ابن أبي عبلة برفعها قال أبو عبيدة الفاطر معناه الخالق وقال ابن

قتيبة المبتدئ ومنه كل مولود يولد على الفطرة أي على ابتداء الخلقة وهو الإقرار بالله حين أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم وقال ابن عباس كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها قال الزجاج إن قيل كيف يكون الفطر بمعنى الخلق والانفطار الانشقاق في قوله تعالى إذا السماء انفطرت فالجواب إنما يرجعان إلى شيء واحد لأن معنى فطرهما خلقهما خلقا قاطعا والانفطار والفطور تقطع وتشقق
قوله تعالى وهو يطعم ولا يطعم قرأ الجمهور بضم الياء من الثاني ومعناه وهو يرزق ولا يرزق لأن بعض العبيد يرزق مولاه وقرأ عكرمة والأعمش ولا يطعم بفتح الياء قال الزجاج وهذا الاختيار عند البصراء بالعربية ومعناه وهو يرزق ويطعم ولا يأكل
قوله تعالى إني أمرت أن أكون أول من أسلم أي أول مسلم من هذه الأمة ولا تكونن من المشركين قال الأخفش معناه وقيل لي لا تكونن فصارت أمرت بدلا من ذلك لأنه حين قال أمرت قد أخبر أنه قيل له

قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم
قوله تعالى قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم زعم بعض المفسرين أنه كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذنوب ثم نسخ ذلك بقوله ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر والصحيح أن الآيتين خبر والخبر لا يدخله النسخ وإنما هو معلق بشرط ومثله لئن أشركت ليحبطن عملك
من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين
قوله تعالى من يصرف عنه قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم من يصرف بضم الياء وفتح الراء يعنون العذاب وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم يصرف بفتح الياء وكسر الراء الضمير قوله إن عصيت ربي ومما يحسن هذه القراءة قوله فقد رحمه فقد اتفق إسناد الضميرين إلى اسم الله تعالى ويعني بقوله يصرف العذاب يومئذ يعني يوم القيامة وذلك يعني صرف العذاب
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير
قوله تعالى وإن يمسسك الله بضر الضر اسم جامع لكل ما يتضرر به الإنسان من فقر ومرض وغير ذلك والخير اسم جامع لكل ما ينتفع به الإنسان
وللمفسرين في الضر والخير قولان
أحدهما أن الضر السقم والخير العافية
والثاني أن الضر الفقر والخير الغنى

وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير
قوله تعالى وهو القاهر فوق عباده القاهر الغالب والقهر الغلبة والمعنى أنه قهر الخلق فصرفهم على ما أراد طوعا وكرها فهو المستعلي عليهم وهم تحت التسخير والتذليل
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله إلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون
قوله تعالى قل أي شيء أكبر شهادة سبب نزولها أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا محمد ما نرى أحدا يصدقك بما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس ومعنى الآية قل لقريش أي شيء أعظم شهادة فان أجابوك وإلا فقل الله وهو شهيد بيني وبينكم على ما أقول
وقال الزجاج أمر الله أن يحتج عليهم بأن شهادة الله في نبوته أكبر شهادة وأن القرآن الذي أتى به يشهد له أنه رسول الله وهو قوله وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ففي الإنذار به دليل على نبوته لأنه لم يأت أحد بمثله ولا يأتي وفيه خبر ما كان وما يكون ووعد فيه بأشياء فكانت كما قال وقرأ عكرمة وابن السميفع والجحدري وأوحي إلي بفتح الهمزة والحاء القرآن بالنصب فأما الإنذار فمعناه التخويف ومعنى ومن بلغ أي من بلغ إليه هذا القرآن فإني نذير له قال القريظي من بلغه القرآن

فكأنما رأى النبي صلى الله عليه و سلم وكلمه وقال أنس بن مالك لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عز و جل
قوله تعالى أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى هذا استفهام معناه الانكار عليهم قال الفراء وإنما قال أخرى ولم يقل آخر لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كما قال ولله الأسماء الحسنى وقال فما بال القرون الأولى
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب في الكتاب قولان
أحدهما أنه التوراة والإنجيل وهذا قول الجمهور
والثاني أنه القرآن
وفي هاء يعرفونه ثلاثة أقوال
أحدها أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم قاله السدي وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعبد الله بن سلام إن الله قد أنزل على نبيه بمكة الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فكيف هذه المعرفة فقال لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد صلى الله عليه و سلم مني بابني فقال عمر وكيف ذاك فقال إني أشهد أنه رسول الله حقا ولا أدري ما يصنع النساء

والثاني أنها ترجع إلى الدين والنبي فالمعنى يعرفون الإسلام أنه دين الله عز و جل وأن محمدا رسول الله قاله قتادة
والثالث أنها ترجع إلى القرآن فالمعنى يعرفون الكتاب الدال على صدقه ذكره الماوردي
وفي الذين خسروا أنفسهم قولان
أحدهما أنهم مشركو مكة
والثاني كفار أهل الكتابين
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون
قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي اختلق على الله الكذب في ادعاء شريك معه وفي آياته قولان
أحدهما أنها محمد والقرآن قاله ابن السائب والثاني القرآن قاله مقاتل والمراد بالظلم المذكور في هذه الآية الشرك
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون
قوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا انتصب اليوم بمحذوف تقديره واذكر يوم نحشرهم قال ابن جرير والمعنى لا يفلحون اليوم ولا يوم نحشرهم وقرأ يعقوب يحشرهم ثم يقول بالياء فيهما
وفي الذين عني قولان
أحدهما المسلمون والمشركون والثاني العابدون والمعبودون

وقوله أين شركاؤكم سؤال توبيخ والمراد بشركاؤكم الأوثان وإنما أضافها إليهم لأنهم زعموا أنها شركاء الله
وفي معنى يزعمون قولان أحدهما يزعمون أنهم شركاء مع الله والثاني يزعمون أنها تشفع لهم
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين
قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم قرأ ابن كثير وابن عامر وحفص بم عاصم ثم لم تكن بالتاء فتنتهم بالرفع وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم تكن بالتاء أيضا فتنتهم بالنصب وقد رويت عن ابن كثير ايضا وقرأ حمزة والكسائي يكن بالياء فتنتهم بالنصب
وفي الفتنة أربعة أقوال
أحدها أنها بمعنى الكلام والقول قال ابن عباس والضحاك لم يكن كلامهم
والثاني أنها المعذرة قال قتادة وابن زيد لم تكن معذرتهم قال ابن الأنباري فالمعنى اعتذروا بما هو مهلك لهم وسبب لفضيحتهم
والثالث أنها بمعنى البلية قال عطاء الخراساني لم تكن بليتهم وقال ابو عبيد لم تكن بليتهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة
والرابع أنها بمعنى الافتتان والمعنى لم تكن عاقبة فتنتهم
قال الزجاج لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه إلا أن تبرؤوا منه ومثل ذلك في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فاذا وقع في هلكة تبرأ منه فيقول ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه قال وهذا تأويل لطيف لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك

وقال ابن الأنباري المعنى أنهم افتتنوا بقولهم هذا إذا كذبوا فيه ونفوا عن أنفسهم ما كانوا معروفين به في الدنيا
قوله تعالى إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والله ربنا بكسر الباء وقرأ حمزة والكسائي وخلف بنصب الراء
وفي هؤلاء القوم الذين هذا وصفهم قولان
أحدهما أنهم المشركون والثاني المنافقون
ومتى يحلفون فيه ثلاثة أقوال
أحدها إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما قالوا تعالوا نكابر عن شركنا فحلفوا قاله ابن عباس
والثاني أنهم إذا دخلوا النار ورأوا أهل التوحيد يخرجون حلفوا واعتذروا قاله سعيد بن جبير ومجاهد

والثالث أنهم إذا سئلوا أين شركاؤكم تبرؤوا وحلفوا ما كنا مشركين قاله مقاتل
انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون
قوله تعالى أنظر كيف كذبوا على أنفسهم أي باعتذارهم بالباطل
وضل عنهم ما كانوا يفترون أي ذهب ما كانوا يدعون ويختلقون من أن الاصنام شركاء لله وشفعاؤهم في الآخرة
ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جآؤك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا اساطير الأولين وهم ينهون عنه وينؤن عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون
قوله تعالى ومنهم من يستمع إليك سبب نزولها أن نفرا من المشركين منهم عتبة وشيبة والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم واستمعوا إليه ثم قالوا للنضر بن الحارث ما يقول محمد فقال والذي جعلها بنية ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه وما يقول إلا أساطير الأولين مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس
فأما الأكنة فقال الزجاج هي جمع كنان وهو الغطاء مثل عنان وأعنة

وأما أن يفقهوه فمنصوب على انه مفعول له المعنى وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت اللام نصبت الكراهة ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى أن
الوقر ثقل السمع يقال في أذنه وقر وقد وقرت الأذن توقر
قال الشاعر ... وكلام سيء قد وقرت ... أذني عنه وما بي من صمم ...
والوقر بكسر الواو أن يحمل البعير وغيره مقدار ما يطيق يقال عليه وقر ويقال نخلة موقر وموقرة وإنما فعل ذلك بهم مجازاة لهم باقامتهم على كفرهم وليس المعنى أنهم لم يفهموه ولم يسمعوه ولكنهم لما عدلوا عنه وصرفوا فكرهم عما عليهم في سوء العاقبة كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع وإن يروا كل آية أي كل علامة تدل على رسالتك لا يؤمنوا بها
ثم أعلم الله عز و جل مقدار احتجاجهم وجدلهم وأنهم إنما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا إن هذا أي ما هذا إلا اساطير الأولين وفيها قولان
أحدهما أنها ما سطر من أخبارهم وأحاديثهم روى ابو صالح عن ابن عباس قال أساطير الأولين كذبهم وأحاديثهم في دهرهم وقال أبو الحسن الاخفش يزعم بعضهم أن واحدة الأساطير أسطورة وقال بعضهم أساطيرة ولا أراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد نحو عباديد ومذاكير وأبابيل وقال ابن قتيبة أساطير الأولين أخبارهم وما سطر منها أي ما كتب ومنه قوله ن والقلم وما يسطرون أي يكتبون واحدها سطر

ثم اسطار ثم اساطير جمع الجمع مثل قول وأقوال وأقاويل
والقول الثاني أن معنى أساطير الأولين الترهات قال أبو عبيدة واحد الأساطير أسطورة وإسطارة ومجازها مجاز الترهات قال ابن الأنباري الترهات عند العرب طرق غامضة ومسالك مشكلة يقول قائلهم قد أخذنا في ترهات البسابس يعني قد عدلنا عن الطريق الواضح إلى المشكل وعما يعرف إلى مالا يعرف والبسابس الصحاري الواسعة والترهات طرق تتشعب من الطريق الأعظم فتكثر وتشكل فجعلت مثلا لما لا يصح وينكشف
فان قيل لم عابوا القرآن بأنه أساطير الأولين وقد سطر الأولون ما فيه علم وحكمة وما لا عيب على قائله فعنه جوابان
أحدهما أنهم نسبوه إلى أنه ليس بوحي من الله
والثاني أنهم عابوه بالإشكال والغموض استراحة منهم إلى البهت والباطل فعلى الجواب الأول تكون أساطير من التسطير وعلى الثاني تكون بمعنى الترهات وقد شرحنا معنى الترهات
قوله تعالى وهم ينهون عنه وينأون عنه في سبب نزولها قولان
أحدهما أن أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ويتباعد عما جاء به فنزلت فيه هذه الآية رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو قول عمرو بن دينار وعطاء بن دينار والقاسم بن مخيمرة وقال مقاتل

كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي صلى الله عليه و سلم سوءا فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم فيقتلوه فقال مالي عنه صبر فقالوا ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك فقال أبو طالب حين تروح الإبل فان حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم وقال ... والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا ... فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقر بذاك منك عيونا ... وعرضت دينا لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا ... لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا ...
فنزلت فيه هذه الآية
والثاني أن كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه و سلم ويتباعدون بأنفسهم عنه رواه الوالبي عن ابن عباس وبه قال ابن الحنفية والضحاك والسدي فعلى القول الأول يكون قوله وهم كناية عن واحد وعلى الثاني عن جماعة
وفي هاء عنه قولان
أحدهما أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثم فيه قولان أحدهما ينهون عن اذاه والثاني عن اتباعه
والقول الثاني أنها ترجع إلى القرآن قاله مجاهد وقتادة وابن زيد وينأون بمعنى يبعدون وفي هاء عنه قولان أحدهما أنها راجعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم والثاني إلى القرآن

قوله تعالى وإن يهلكون أي وما يهلكون إلا أنفسهم بالتباعد عنه وما يشعرون أنهم يهلكونها
ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين
قوله تعالى ولو ترى إذ وقفوا على النار في معنى وقفوا ستة اقوال
أحدها حبسوا عليها قاله ابن السائب والثاني عرضوا عليها قاله مقاتل
والثالث عاينوها والرابع وقفوا عليها وهي تحتهم
والخامس دخلوا إليها فرفعوا مقدار عذابها تقول وقفت على ما عند فلان أي فهمته وتبينته ذكر هذه الأقوال الثلاثة الزجاج واختار الأخير وقال ابن جرير على هاهنا بمعنى في
والسادس جعلوا عليها وقفا كالوقوف المؤبدة على سبلها ذكره الماوردي والخطاب بهذه الآية للنبي صلى الله عليه و سلم والوعيد للكفار وجواب لو محذوف ومعناه لو رأيتهم في تلك الحال لرأيت عجبا
قوله تعالى ولا نكذب بآيات ربنا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر عن عاصم برفع الباء من نكذب والنون من نكون
قال الزجاج والمعنى أنهم تمنوا الرد وضمنوا أنهم لا يكذبون والمعنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد ونكون من المؤمنين لأنا قد عاينا مالا نكذب معه أبدا
قال ويجوز الرفع على وجه آخر على معنى يا ليتنا نرد يا ليتنا لا نكذب كأنهم تمنوا الرد والتوفيق للتصديق

وقال الأخفش إذا رفعت جعلته على مثل اليمين كأنهم قالوا ولا نكذب والله بآيات ربنا ونكون والله من المؤمنين وقرأ حمزة إلا العجلي وحفص عن عاصم ويعقوب بنصب الباء من نكذب والنون من نكون
قال مكي بن أبي طالب وهذا النصب على جواب التمني وذلك بإضمار أن حملا على مصدر نرد فأضمرت أن لتكون مع الفعل مصدرا فعطف بالواو مصدرا على مصدر وتقديره يا ليت لنا ردا وانتفاءا من التكذيب وكونا من المؤمنين وقرأ ابن عامر برفع الباء من نكذب ونصب النون من نكون فالرفع قد بينا علته والنصب على جواب التمني
بل بدل لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين
قوله تعالى بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل بل هاهنا رد لكلامهم أي ليس الأمر على ما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا
وقال الزجاج بل استدراك وإيجاب بعد نفي تقول ما جاء زيد بل عمرو وفي معنى الآية أربعة أقوال
أحدها بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض قاله الحسن
والثاني بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم قاله مقاتل
والثالث بدا لهم جزاء ما كانوا يخفونه قاله المبرد

والرابع بدا للأتباع ما كان يخفيه الرؤساء قاله الزجاج
قوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه قال ابن عباس لعادوا إلى ما نهوا عنه من الشرك وإنهم لكاذبون في قولهم ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين
قال ابن الانباري كذبهم الله في إخبارهم عن أنفسهم أنهم إن ردوا آمنوا ولم يكذبوا ولم يكذبهم في التمني
قوله تعالى وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا هذا إخبار عن منكري البعث قال مقاتل لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم كفار مكة بالبعث قالوا هذا وكان عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم يقول هذا حكاية قولهم لو ردوا لقالوه
ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
قوله تعالى ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال مقاتل عرضوا على ربهم قال لأليس هذا العذاب بالحق وقال غيره أليس هذا البعث حقا فعلى قول مقاتل بما كنتم تكفرون بالعذاب وعلى قول غيره تكفرون بالبعث
قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون
قوله تعالى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله إنما وصفوا بالخسران لأنهم باعوا الإيمان بالكفر فعظم خسرانهم
والمراد بلقاء الله البعث والجزاء والساعة القيامة والبغتة الفجأة

قال الزجاج كل ما أتى فجأة فقد بغت يقال قد بغته الأمر يبغته بغتا وبغتة إذا أتاه فجأة قال الشاعر ... ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة ... وأفظع شيء حين يفجؤك البغت ...
قوله تعالى يا حسرتنا الحسرة التلهف على الشيء الفائت وأهل التفسير يقولون يا ندامتنا
فإن قيل ما معنى دعاء الحسرة وهي لا تعقل
فالجواب أن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم ما تقع فيه جعلته نداء فتدخل عليه يا للتنبيه والمراد تنبيه الناس لا تنبيه المنادي ومثله قولهم لا أرينك هاهنا لفظه لفظ الناهي لنفسه والمعنى للمنهي ومن هذا قولهم يا خيل الله اركبي يراد يا فرسان خيل الله وقال سيبويه إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت احضر وتعال يا عجب فهذا زمانك فأما التفريط فهو التضييع
وقال الزجاج التفريط في اللغة تقدمه العجز وفي المكني عنه بقوله فيها ثلاثة أقوال
أحدها أنها الدنيا فالمعنى على ما ضيعنا في الدنيا من عمل الآخرة قاله مقاتل

والثاني أنها الصفقة لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة وترك ذكرها اكتفاء بذكر الخسران قاله ابن جرير
والثالث أنها الطاعة ذكره بعض المفسرين
فأما الأوزار فقال ابن قتيبة هي الآثام واصل الوزر الحمل على الظهر وقال ابن فارس الوزر الثقل وهل هذا الحمل حقيقة فيه قولان
أحدهما أنه على حقيقته قال عمير بن هانئ يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح كلما كان هول عظمه عليه وزاده خوفا فيقول بئس الجليس أنت مالي ولك فيقول أنا عملك طالما ركبتني في الدنيا فلأركبنك اليوم حتى إخزيك على رؤوس الناس فيركبه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه فذلك قوله وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وهذا قول السدي وعمرو بن قيس الملائي ومقاتل
والثاني أنه مثل والمعنى يحملون ثقل ذنوبهم قاله الزجاج قال فجعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل ما يتحمل ومعنى ألا ساء ما يزرون بئس الشيء شيئا يزرونه أي يحملونه
وما الحيوة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون افلا تعقلون
قوله تعالى وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو فيه ثلاثة اقوال

أحدها وما الحياة الدنيا في سرعة انقطاعها وقصر عمرها إلا كالشيء يلعب به
والثاني وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو فأما فعل الخير فهو من عمل الآخرة لا من الدنيا
والثالث وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو لاشتغالهم عما أمروا به واللعب مالا يجدي نفعا
قوله تعالى وللدار الآخرة خير اللام لام القسم والدار الآخرة الجنة افلا يعقلون فيعملون لها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي يعقلون بالياء في الأنعام والأعراف ويوسف ويس وقرؤوا في القصص بالتاء وقرأ نافع كل ذلك بالياء وروى حفص عن عاصم كل ذلك بالتاء إلا في يس في الخلق أفلا يعقلون بالياء وقرأ ابن عامر الذي في يس بالياء والباقي بالتاء
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فانهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون
قوله تعالى قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون
في سبب نزولها أربعة أقوال
أحدها أن رجلا من قريش يقال له الحارث بن عامر قال والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتهمك اليوم ولكنا إن نتبعك نتخطف من ارضنا فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال مقاتل كان الحارث بن عامر يكذب النبي في العلانية فاذا خلا مع أهل بيته قال ما محمد من أهل الكذب فنزلت فيه هذه الآية

والثاني أن المشركين كانوا إذا رأوا النبي صلى الله عليه و سلم قالوا فيما بينهم إنه لنبي فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح
والثالث أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه و سلم إنا لا نكذبك ولكن نكذب الذي جئت به فنزلت هذه الآية قاله ناجية بن كعب
وقال أبو يزيد المدني لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا جهل فصافحه أبو جهل فقيل له أتصافح هذا الصابئ فقال والله إني لأعلم أنه نبي ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف فأنزل الله هذه الآية
والرابع أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل فقال الأخنس يا ابا الحكم أخبرني عن محمد اصادق هو أم كاذب فليس هاهنا من يسمع كلامك غيري فقال أبو جهل والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت هذه الآية قاله السدي فأما الذي يقولون فهو التكذيب للنبي صلى الله عليه و سلم والكفر بالله وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم وتعزية عما يواجهون به
قوله تعالى فانهم لا يكذبونك قرأ نافع والكسائي يكذبونك بالتخفيف وتسكين الكاف وفي معناها قولان

أحدهما لا يلفونك كاذبا قاله ابن قتيبة
والثاني لا يكذبون الشيء الذي جئت به إنما يجحدون آيات الله ويتعرضون لقعوباته قال ابن الانباري وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة بأن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وصنعة الاباطيل من القول وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب ليس هو الصانع له قال وقال غير الكسائي يقال أكذبت الرجل إذا أدخلته في جملة الكذابين ونسبته إلى صفتهم كما يقال أبخلت الرجل إذا نسبته إلى البخل وأجبنته إذا وجدته جبانا قال الشاعر ... فطائفة قد أكفروني بحبكم ... وطائفة قالوا مسيء ومذنب ...
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة وابن عامر يكذبونك بالتشديد وفتح الكاف وفي معناها خمسة اقوال
أحدها لا يكذبونك بحجة وإنما هو تكذيب عناد وبهت قاله قتادة والسدي
والثاني لا يقولون لك إنك كاذب لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به قاله ناجية بن كعب
والثالث لا يكذبونك في السر ولكن يكذبونك في العلانية عداوة لك قاله ابن السائب ومقاتل
والرابع لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم كذبت
والخامس لا يكذبونك بقلوبهم لأنهم يعلمون أنك صادق ذكر القولين الزجاج

وقال أبو علي يجوز أن يكون معنى القراءتين واحدا وإن اختلفت اللفظتان إلا أن فعلت إذا ارادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من أفعلت ويؤكد أن القراءتين بمعنى ما حكاه سيبويه أنهم قالوا قللت وأقللت وكثرت وأكثرت بمعنى
قال أبو علي ومعنى لا يكذبونك لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرت به مما جاء في كتبهم ويجوز أن يكون معنى الحقيقة لا يصادفونك كاذبا كما يقال أحمدت الرجل إذا اصبته محمودا لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون بألسنتهم ما يعلمونه يقينا لعنادهم
وفي آيات الله هاهنا ثلاثة أقوال
أحدها أنها محمد صلى الله عليه و سلم قاله السدي
والثاني محمد والقرآن قاله ابن السائب
والثالث القرآن قاله مقاتل
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جآءك من نبأي المرسلين
قوله تعالى ولقد كذبت رسل من قبلك هذه تعزية له على ما يلقى منهم قال ابن عباس فصبروا على ما كذبوا رجاء ثوابي وأوذوا حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار حتى أتاهم نصرنا بتعذيب من كذبهم

قوله تعالى ولا مبدل لكلمات الله فيه خمسة أقوال
أحدها لا خلف لمواعيده قاله ابن عباس
والثاني لا مبدل لما أخبر به وما أمر به قاله الزجاج
والثالث لا مبدل لحكوماته وأقضيته النافذة في عباده فعبرت الكلمات عن هذا المعنى كقوله ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين أي وجب ما قضي عليهم فعلى هذا القول والذي قبله يكون المعنى لا مبدل لحكم كلمات الله ولا ناقض لما حكم به وقد حكم بنصر أنبيائه بقوله لأغلبن أنا ورسلي
والرابع أن معنى الكلام معنى النهي وإن كان ظاهره الإخبار فالمعنى لا يبدلن أحد كلمات الله فهو كقوله لا ريب فيه
والخامس أن المعنى لا يقدر أحد على تبديل كلام الله وإن زخرف واجتهد لأن الله تعالى صانه برصين اللفظ وقويم الحكم أن يختلط بألفاظ أهل الزيغ ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري
قوله تعالى ولقد جاءك من نبأ المرسلين أي فيما صبروا عليه من الأذى فنصروا وقيل إن من صلة
وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين

قوله تعالى وإن كان كبر عليك إعراضهم سبب نزولها أن الحارث ابن عامر أتى النبي صلى الله عليه و سلم في نفر من قريش فقال يا محمد ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات فإن فعلت آمنا بك فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس وكبر بمعنى عظم وفي إعراضهم قولان
أحدهما عن استماع القرآن والثاني عن اتباع النبي صلى الله عليه و سلم
فأما النفق فقال ابن قتيبة النفق في الأرض المدخل وهو السرب والسلم في السماء المصعد وقال الزجاج النفق الطريق النافذ في الأرض والنافقاء ممدود أحد جحره اليربوع يخرقه من باطن الأرض إلى جلدة الأرض فاذا بلغ الجلدة أرقها حتى إن رابه ريب دفع برأسه ذلك المكان وخرج ومنه سمي المنافق لأنه أبطن غير ما أظهر كالنافقاء الذي ظاهره غير بين وباطنه حفر في الأرض
والسلم مشتق من السلامة وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك والمعنى فان استطعت هذا فافعل وحذف فافعل لأن في الكلام دليلا عليه
وقال أبو عبيدة السلم السبب والمرقاة تقول اتخذتني سلما لحاجتك أي سببا
وفي قوله فتأتيهم بآية قولان
أحدهما بآية قد سألوك إياها وذلك أنهم سألوا نزول ملك ومثل آيات الأنبياء كعصا موسى وناقة صالح
والثاني بآية هي أفضل من آيتك
قوله تعالى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فيه ثلاثة أقوال

أحدها لو شاء أن يطبعهم على الهدى لطبعهم
والثاني لو شاء لأنزل ملائكة تضطرهم إلى الإيمان ذكرهما الزجاج
والثالث لو شاء لآمنوا كلهم فأخبر إنما تركوا الإيمان بمشيئته ونافذ قضائه
قوله تعالى فلا تكونن من الجاهلين فيه ثلاثة أقوال
أحدها لا تجهل أنه لو شاء لجمعهم على الهدى
والثاني لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم ويكفر بعضهم
والثالث لا تكونن ممن لا صبر له لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين
إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون
قوله تعالى إنما يستجيب الذين يسمعون أي إنما يجيبك من يسمع والمراد ه سماع قبول
وفي المراد بالموتى قولان
أحدهما أنهم الكفار قاله الحسن ومجاهد وقتادة فيكون المعنى إنما يستجيب المؤمنون فأما الكفار فلا يستجيبون حتى يبعثهم الله ثم يحشرهم كفارا فيجيبون اضطرارا

والثاني أنهم الموتى حقيقة ضربهم الله مثلا والمعنى أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله فكذلك الذين لا يسمعون
قوله تعالى ثم إليه يرجعون يعني المؤمنين والكافرين فيجازي الكل
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون
قوله تعالى وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قال ابن عباس نزلت في رؤساء قريش ولولا بمعنى هلا وقد شرحناها في سورة النساء وقال مقاتل أرادوا بالآية مثل آيات الأنبياء وقال غيره أرادوا نزول ملك يشهد له بالنبوة
وفي قوله تعالى ولكن أكثرهم لا يعلمون ثلاثة أقوال
أحدها لا يعلمون بأن الله قادر على إنزال الآية
والثاني لا يعلمون ما عليهم من البلاء في إنزالها لأنهم إن لم يؤمنوا بها زاد عذابهم
والثالث لا يعلمون المصلحة في نزول الآية
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحية إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون
قوله تعالى وما من دابة في الأرض قال ابن عباس يريد كل ما دب على الأرض قال الزجاج وذكر الجناحين توكيد وجميع ما خلق لا يخلو إما أن يدب وإما أن يطير

قوله تعالى إلا أمم أمثالكم قال مجاهد أصناف مصنفة
وقال أبو عبيدة أجناس يعرفون الله ويعبدونه
وفي معنى أمثالكم أربعة أقوال
أحدها أمثالكم في كون بعضها يفقه عن بعض رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثاني في معرفة الله قاله عطاء
والثالث أمثالكم في الخلق والموت والبعث قاله الزجاج
والرابع أمثالكم في كونها تطلب الغذاء وتبتغي الرزق وتتوقى المهالك قاله ابن قتيبة قال ابن الانباري وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن اله تعالى ركب في المشركين عقولا وجعل لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبروا أمر النبي صلى الله عليه و سلم ويتمسكوا بطاعته كما جعل للطير أفهاما يعرف بها بعضها إشارة بعض وهدى الذكر منها لإتيان الأنثى وفي كل ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها
قوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء في الكتاب قولان
أحدهما أنه اللوح المحفوظ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب وإلى هذا المعنى ذهب قتادة وابن زيد
والثاني أنه القرآن روى عطاء عن ابن عباس ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص فيكون المعنى ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب إما نصا وإما مجملا وإما دلالة كقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء أي لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين
قوله تعالى ثم إلى ربهم يحشرون فيه قولان

أحدهما أنه الجمع يوم القيامة روى أبو ذر قال انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا أبا ذر أتدري فيما انتطحتا قلت لا قال لكن الله يدري وسيقضي بينهما وقال أبو هريرة يحشر الله الخلق يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فيقول الكافر ياليتني كنت ترابا
والثاني أن معنى حشرها موتها قاله ابن عباس والضحاك
والذين كذبوا بآياتنا صم بكم وفي الظلمات من يشا لله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم
قوله تعالى والذين كذبوا بآياتنا يعني ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم صم عن القرآن لا يسمعونه وبكم عنه لا ينطقون به في الظلمات أي في الشرك والضلالة من يشأ الله يضلله فيموت على الكفر ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وهو الإسلام
قل أرأيتكم إن أتكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين
قوله تعالى قل أرأيتكم قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة أرأيتم وأرأيتكم وأرأيت بالألف في كل القرآن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق