صحيح السيرة النبوية
ما صحّ من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه
وغزواته وسراياه والوفود إليه
للحافظ ابن كثير
بقلم
محمد ناصر الدين الألباني
(رحمه الله تعالى )
الطبعة الأولى
المكتبة الإسلامية
عمان – الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة ((صحيح السيرة النبوية)).
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحد وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً﴾ [النساء:1]، ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً﴾ [الأحزاب: 70و71].
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد؛ فقد كتب الله لي- لأسباب شرحتها في مقدمة ((كشف الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار))- أن أسافر من بيروت إلى الشارقة صحبة أحد إخواننا فيها، وأنزلني جزاه الله خيراً في منزله، فوجدت في مكتبته كتاباً للشيخ محمد أبو زهرة بعنوان: ((خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم)) في مجلدين، فقلبت فيه بعض الأوراق، وتصفحت فيه كثيراً من الصفحات، فرأيته قد ... [لم يكمل شيخنا الألباني – رحمة الله عليه- مقدمته هذه لـ((صحيح السيرة النبوية)) ]. الناشر.)
منهجي في الكتاب
حذفت الطرق والشواهدالتي يسوقها لتقوية الحديث، واعتمدت على الرواية التي هي أكمل معنى إذا ثبتت.
حذفت السند الذي يسوقه كاملاً أو ناقصاً، واكتفيت منه بذكر اسم الصحابي فقط؛ إلا لفائدة أو ضرورة.
حذفت ما لا سند له أو كان مرسلاً أو معضلاً؛ إلا ما صرح بأنه مجمع عليه أو نحوه.
قد ألخص أحياناً كلامه ليتناسب مع الاختصار الذي يقتضيه اقتصارنا على ما صح مما ذكره.
قد أستبدل بسياقه سياق المصدر الذي عزاه إليه؛ لأنه في كثير من الأحيان يسوقه بمعناه أو قريباً منه؛ الأمر الذي حمل محققه على أن يقول (ص226):
استدركت بعض ما فاته تحت عنوان: [المستدرك].
باب ذكر نسبه الشريف وطيب أصله المنيف
قال الله تعالى : ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾[الأنعام: 124].
ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب. قال: كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها. يعني: في أكرمها أحساباً، وأكثرها قبيلة، صلوات الله عليهم أجمعين.
فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة.
أبو القاسم، وأبو إبراهيم، محمد، وأحمد، والماحي الذي يُمحَى به الكفر، والعاقب الذي ما بعده نبي، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، والمقفّي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، وخاتم النبيين، وعبد الله.
قال البيهقي: وزاد بعض العلماء فقال: سماه الله في القرآن رسولاً، نبياً، أميّاً، شاهداً، مبشراً، نذيراً، وعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، ورؤوفاً رحيماً، ومذكراً، وجعله رحمة ونعمة وهادياً.
وهو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو من ولد إسماعيل لا محالة؛ على اختلاف كم أب بينهما.
وهذا النسب بهذه الصفة لا خلف فيه بين العلماء، فجميع قبائل عرب الحجاز ينتمون إلى هذا النسب، ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى : ﴿قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى﴾ [الشورى: 23]: لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نسب يتصل بهم.
وقد روي من طرق مرسلاً وموصولاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح؛ من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء)). وهذا رواه ابن عدي عن علي بن أبي طالب، وسند المرسل جيد.
وثبت في ((صحيح البخاري)) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
مخرج في ((الأحاديث الصحيحة)) (809).
(( بعثت من خير قرون بني آدم؛ قرناً فقرناً؛ حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه)).
وفي ((صحيح مسلم)) من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
مخرج في ((الأحاديث الصحيحة)) (302).
((إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)) .
وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبي وداعة قال: قال العباس:
بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس؛ قال: صعد المنبر، فقال: ((من أنا؟)). قالوا: أنت رسول الله . قال:
تخريج المشكاة (5757)، وصحيح الجامع (1485).
((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعله فرقتين فجلعني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً)). صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً إلى يوم الدين.
وثبت في ((الصحيح)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(صحيح)
((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر)).
باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولد صلوات الله علي وسلامه يوم الاثنين ؛ لما رواه مسلم في ((صحيحه)) عن أبي قتادة أن أعرابياً قال: يا رسول الله! ما تقول في صوم يوم الاثنين؟ فقال:
(صحيح)
((ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه)).
وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل.
وقد رواه البيهقي عن ابن عباس . وهو المجمع عليه؛ كما قال خليفة بن خياط، توفي أبوه عبد الله وهو حَمل في بطن أمه على المشهور.
وفي الحديث الآتي (ص16):
ابن إسحاق(1/175) وعنه الحاكم(2/600) وقال: ((صحيح الإسناد))
((... ورؤيا أمي الذي رأت حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت لها قصور الشام)).
فصل فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام
وروى محمد بن إسحاق عن حسان بن ثابت قال:
(إسناده حسن)
والله؛ إني لغلام يفعة؛ ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بـ(يثرب): يا معشر يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك مالك؟! قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به.
وروى أبو نعيم ومحمد بن حيان عن أسامة بن زيد قال: قال زيد بن عمرو ابن نفيل:
(سنده حسن)
قال لي حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبي، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه.
ذكر ارتجاس الإيوان وسقوط الشرفات
وخمود النيران ورؤيا الموبذان
وغير ذلك من الدلالات
(ليس فيه شيء)
ذكر حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام
أخرج البخاري ومسلم عن أم حبيبة بنت أبي سفيان [أنها] قالت: يا رسول الله! انكِح أختي بنت أبي سفيان (ولمسلم: عزة بنت أبي سفيان)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أو تحبين ذلك؟)). قلت: نعم، لست لك بمخْلِيَة، وأَحبُّ من شاركني في خير أختي. فقال: ((فإن ذلك لا يحل لي)). قالت: فإنا نحدّث انك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة (وفي رواية: دُرّة بنت أبي سلمة). قال: ((بنت أم سلمة؟!)). قلت: نعم. قال:
((إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضنّ عليّ بناتكن ولا أخواتكن)).
زاد البخاري: قال عروة : وثويبة مولاة لأبي لهب أعتقها، فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن إسحاق عن نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك. قال:
((نعم؛ أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام.
واسترضعتُ في بني سعد بن بكر؛ فبينا أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعى بهماً لنا، إذ أتاني رجلان- عليهما ثياب بيض- بطست من ذهب مملوء ثلجاً، ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي فشقّاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زِنْه بعشرة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمئة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فولالله لو وزنته بأمته لوزنها)).
وإسناده جيد قوي.
وقد روى أحمد وأبو نعيم في ((الدلائل)) عن عتبة بن عبد: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال:
الصحيحة (373)
((كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا، ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي! اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا. فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فقال: نعم. فأقبلاً يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فاخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء وثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد ، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة. فذرها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه. فخاطه، وختم على قلبي بخاتم النبوية، فقال أحدهما : اجعله في كفة، واجعل ألفاً من أمته في كفة. فإذا أنا أنظر إلى الألف فوق؛ أشفق أن يخر عليّ بعضهم، فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا فتركاني، وفرقتُ فرقي شديداً، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد لبس بي، فقالت: أعيذك بالله. فرحلت بعيراً لها، وحملتني على الرحل، وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي، فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيتُ، فلم يرُعها، وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام)).
وثبت في ((صحيح مسلم)) عن أنس بن مالك:
(صحيح)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، واستخرج معه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني: ظئره- فقالوا: إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى ذلك المخيط في صدره.
وفي ((الصحيحين)) عن أنس، وعن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء – كما سيأتي – قصة شرح الصدر ليلتئذٍ، وأنه غسل بماء زمزم.
ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين: مرة وهو صغير؛ ومرة ليلة الإسراء ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى، ولمناجاة الرب عز وجل، والمثول بين يديه سبحانه وتعإلى .
والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير ، ثم عادت على هوازن- بكمالهم- فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر، فمتّوا إليه برضاعه فأعتقهم، تحنن عليهم، وأحسن إليهم؛ كما سيأتي مفصلاً في موضعه إن شاء الله تعالى .
قال محمد بن إسحاق في وقعة (هوازن): عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ(حنين)، فلما أصاب من أموالهم وسباياهم؛ أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله! إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله! إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك؛ رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين. ثم أنشد
امنن علينا رسول الله في كرم |
|
فإنك المرء نرجوه وندخر |
امنن على بيضة قد عاقها قدر |
|
ممزق شملها في دهرها غير |
أبقت لنا الدهر هتافاً على حزن |
|
على قلوبهم الغماء والغمر |
إن لم تداركها نعماء تنشرها |
|
يا أرجح الناس حلماً حين يختبر |
امنن على نسوة قد كنت ترضعها |
|
إذ فوك يملؤه من محضها درر |
امنن على نسوة قد كنت ترضعها |
|
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر |
لا تجعلنا كمن شالت نعامته |
|
واستبق منا فإنا معشر زهر |
إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت |
|
وعندنا بعد هذا اليوم مدخر |
وقد رويت هذه القصة عن أبي صرد زهير بن جرول- وكان رئيس قومه – قال:
لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؛ فبينا هو يميزالرجال والنساء، وثبت حتى قعدت بين يديه، وأسمعته شعراً أذكرّه حين شب ونشأ في (هوازن) حين أرضعوه:
امنن علينا رسول الله في دعة |
|
فإنك المرء نرجوه وننتظر |
امنن على بيضة قد عاقها قدر |
|
ممزق شملها في دهرها غير |
أبقت لنا الحرب هتّافاً على حزن |
|
على قلوبهم الغمّاء والغمر |
إن لم تداركها نعماء تنشرها |
|
يا أرجح الناس حلماً حين يختبر |
امنن على نسوة قد كنت ترضعها |
|
إذ فوك تملؤه من محضها الدرر |
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها |
|
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر |
لا تجعلنا كمن شالت نعامته |
|
واستبق منافإنا معشر زُهُرُ |
إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت |
|
وعندنا بعد هذا اليوم مدخر |
فألبس العفو من قد كنت ترضعه |
|
من أمهاتك إن العفو مشتهر |
إنا نؤمل عفواً منك تلبسه |
|
هذا البرية إذ تعفو وتنتصر |
فاغفر عفا الله عما أنت راهبه |
|
يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر |
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم)).
فقالت الأنصار : وما كان لنا فهو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية، وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاماً وأناسي كثراً.
فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة؟!
فصل
روى الإمام أحمد عن بريدة قال:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بـ(ودّان) قال:
((مكانكم حتى آتيكم)). فانطلق، ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال:
((إني أتيت قبر أم محمد، فسألت ربي الشفاعة- يعني : لها - فمنعنيها، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)).
ورواه البيهقي من طريق أخرى عنه بلفظ:
انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبرٍ فجلس، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى، فاستقبله عمر، فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال:
((هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليّ، وأدركتني رقتها فبكيت)).
قال: فما رأيت ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة.
ورواه البيهقي من طريق أخرى نحوه.
وهو والحاكم من حديث عبد الله بن مسعود.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال:
زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال:
((استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت)).
وورى مسلم أيضاً عن أنس:
أن رجلاً قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: ((في النار)). فلما قفّى دعاه، فقال:
((إن أبي وأباك في النار)).
وقد روى البيهقي عن عامر بن سعد عن أبيه قال:
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي كان يصل وكان وكان، فأين هو؟ قال: ((في النار)).
قال: فكأنّ الأعرابي وجد من ذلك ، فقال: يا رسول الله! أين أبوك؟ قال:
((حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار)).
قال: فأسلم الأعرابي بعد ذلك فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً؛ ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.
والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية؛ خلافاً لفرقة الشيعة فيه، وفي ابنه أبي طالب؛ على ما سيأتي في (وفاة أبي طالب).
وقد قال البيهقي بعد روايته هذه الأحاديث في كتابه((دلائل النبوة)):
((وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة وقد كانوا يعبدون الوثن، حتى ماتوا ولم يدينوا بدين عيسى ابن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام؛ لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم؛ فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن، إذ كان مثله يجوز في الإسلام . وبالله التوفيق)).
قلت: وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار؛ لا ينافي الحديث الوارد من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة؛ كما بسطناه سنداً ومتناً في ((تفسيرنا)) عند قوله تعالى : ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾ [الإسراء: 15]. فيكون منهم من يجيب، ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب، فلا منافاة، ولله الحمد والمنة.
خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام وقصته مع بحيرى الراهب
روى الحافظ أبو بكر الخرائطي من طريق يونس بن أي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال:
خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، لما أشرفوا على الراهب- يعني : بحيرى- هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم. قال:
فنزل وهم يحلون رحالهم ، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذا سيد العالمين (وفي رواية البيهقي زيادة: هذا رسول رب العالمين؛ يبعثه الله رحمة للعالمين).
فقال له أشياخ من قريش: وما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه.
ثم رجع فصنع هم طعاماً، فلما أتاهم به- وكان هو في رعية الإبل- فقال:
أرسلوا إليه. فأقبل وغمامة تظله، فلما دنا من القوم قال: انظروا إليه عليه غمامة! فلما دنا القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء شجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، قال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه.
قال: فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقلتوه، فالتفت، فإذا هو سبعة نفر من الروم قد أقبلوا، قال: فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس وإنا أخبرنا خبره إلى طريقك هذه. قال: فهل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: لا؛ إنما أخبرنا خبره إلى طريقك هذه. قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه؛ هل يستيع أحد رده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه عنده، قال:
فقال الراهب: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب.
فلم يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزوده الراهب من الكعك والزيت.
وهكذا رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وابن عساكر وغير واحد من الحفاظ وقال الترمذي :
((حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)).
قلت: فيه ن الغرائب أنه مرسلات الصحابة؛ فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة، فهو مرسل، فإن هذه القصة كانت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر فيما ذكره ثنتا عشرة سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم، أو كان هذا مشهور مذكوراً أخذه من طريق الاستفاضة.
[المستدرك]
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((ما زالت قريش كاعّة حتى توفي أبو طالب)).
أخرجه الحاكم (2/622) وقال: ((صحيح على شرط الشيخين)).
قلت: فيه عقبة المجَدّر، ولم يخرج له الشيخان، وهو صدوق، فالإسناد جيد. وسيذكره المؤلف رحمه الله بلفظ آخر من رواية ابن إسحاق في (وفاة أبي طالب) مع روايات أخرى تناسب هذا الفصل. [انتهى المستدرك].
فصل
في منشئه عليه الصلاة والسلام ومرباه وكفاية الله له وحياطته وكيف كان يتيماً فآواه وعائلاً فأغناه
قال جابر بن عبد الله:
لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة، فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة. ففعل، فخرّ إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، ثم قام فقال: ((إزاري)). فشد عليه إزاره.
أخرجاه في ((الصحيحين)).
وروى البيهقي عن زيد بن حارثة قال:
(إسناده حسن)
كان صنم من نحاس- يقال له: (إساف) و(نائلة)- يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمسه)). قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسنه حتى أنظر ما يكون. فمسحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ألم تُنه؟!)). زاد غيره: قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب؛ ما استلم صنماً قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه وأنزل عليه)).
وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة؛ بل كان يقف مع الناس بـ(عرفات)؛ كما قال محمد بن إسحاق ... عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال:
لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بـ(عرفات) من بين قومه، حتى يدفع معهم؛ توفيقاً من الله عز وجل له.
قال البيهقي: معنى قوله: ((على دين قومه)): ما كان بقي من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ولم يشرك بالله قط؛ صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً.
قلت: ويفهم من قوله هذا أيضاً أنه كان يقف بـ(عرفات) قبل أن يوحى إليه، وهذا توفيق من الله له.
ورواه الإمام أحمد والطبراني (1577) عن محمد بن إسحاق، ولفظه:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم – قبل أن ينزل عليه – وإنه لواقف على بعير له مع الناس بـ(عرفات) حتى يدفع معهم توفيقاً من الله.
وله شاهد من حديث ربيعة بن عباد رواه الطبراني (4592).
ورواه الإمام أحمد من طريق أخرى عن جبير بن مطعم قال:
أضللت بعيراً لي بـ(عرنة)، فذهبت أطلبه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف، فقلت: إن هذا من (الحمس)؛ ما شأنه ها هنا؟!
وأخرجاه.
[المستدرك]
وعن سالم بن عبد الله أنه سمع ابن عمر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل (بلدح)، وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منه وقال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه.
أخرجه أحمد (2/89)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وانظر : ((السيرة)) للذهبي (ص44).
وله شاهد من حديث سعيد بن زيد أتم منه.
أخرجه الطبراني في ((الكبير)) (350)، وعنه الذهبي (ص46).
وفي رواية : عن زيد بن حارثة عند الطبراني (4663 و4664)، والحاكم (3/216-217)، وانظر: ((مجمع الزوائد)) (9/418). [انتهى المستدرك].
شهوده عليه الصلاة والسلام حلف الفضول
روى الحافظ البيهقي بسنده عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكُثه- أو كلمة نحوها – وأن لي حُمْر النعم)).
ثم روى البيهقى عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(إسناده حسن)
(( ما شهدت حلفاً لقريش إلا حلف المطيبين، وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته)).
قال: و(المطيبون): هاشم ، وأمية ، وزهرة، ومخزوم.
قال البيهقي: كذا روى هذا التفسير مدرجاً في الحديث، ولا أدري قائله. وزعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين.
قلت: هذا لا شك فيه، وذلك أن قريشاً تحالفوا بعد موت قصي، وتنازعوا في الذي جعله قصي لابنه عبد الدار من الساقية، والرفادة، واللواء، والندوة، والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف، وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش، وتحالفوا على النصرة لحزبهم، فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب، فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا، فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت، فسموا المطيبين؛ كما تقدم، وكان هذا قديماً.
ولكن المراد بهذا الحلف حلف الفضول، وكان في دار عبد الله بن جدعان؛ كما رواه الحميدي وابن إسحاق.
وكان حلف الفضول أكرم حلف سُمع به وأشرفه في العرب.
روى ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي:
أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان – والوليد يومئذ أمير المدينة، أمّره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان – منازعة في مال كان بينهما بـ(ذي المروة)، فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لأدعون بحلف الفضول.
قال: فقال عبد الله بن الزبير- وهو عند الوليد حيث قال له الحسين ما قال- : وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه من حقه أو نموت جميعاً. قال:
وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك.
وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التميمي، فقال مثل ذلك.
فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
فصل
في تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد ابن أسد بن عبد العزى بن قصي
قال البيهقي باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة)).
ثم روى بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم)). فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال:
((وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط)).
ورواه البخاري.
[المستدرك]
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة، وإني لم أدركها. قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: ((أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة )). قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة؟ فقال: ((إني رزقت حبها)).
رواه مسلم (7/134). [انتهى المستدرك].
فصل
في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين
قال الله تعالى : ﴿إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً﴾ [آل عمران: 96 و97].
وثبت في ((الصحيحين)) عن أبي ذر قال:
قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع أول؟ قال: ((المسجد الحرام)). قلت: ثم أيّ؟ قال: ((المسجد الأقصى)). قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنة)).
وقد تكلمنا على هذا وأن المسجد الأقصى أسسه إسرائيل، وهو يعقوب عليه السلام.
وفي ((الصحيحين)): ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة)).
وفي ((صحيح البخاري)) من حديث ابن عباس قال:
((أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفّي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت؛ عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءً فيه ماء. ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟! فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه؛ فقال: ﴿ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليه وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ﴾[إبراهيم : 37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى – أو قال: يتلبط – فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر؛ هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت؛ هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((فلذلك سعى الناس بينهما)).
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً؛ فقالت: صه! – تريد : نفسها – ثم تسمعت، فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواثٌ. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه – أو قال: بجناحه – حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا،وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم :
((يرحم الله أم إسماعيل ! لو تركت زمزم – أو قال: لو لم تغرف من الماء – لكانت زمزم عيناً معيناً)).
[قال]: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن ها هنا بيت الله ؛ يبني هذا الغلام وأبوه، فإن الله لا يُضيع أهله.
وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية؛ تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله.
فكانت كذلك حتى مرت بهم رُفقة من جرهم – أو : أهل بيت من جرهم- مقبلين من طريق (كداء) ، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء! لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء! فأرسلوا جرياً أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا – قال: وأم إسماعيل عند الماء – فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم؛ ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال عبد الله بن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم :
((فألفى ذلك أمّ إسماعيل وهي تحب الإنس)).
فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شبّ؛ فلما أدرك زوجوه امرأةً منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يُطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته [عنه] ، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة. فشكت إليه، قال: فإذا جاء زووجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يُغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم؛ جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني:
كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم؛ أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك: غيّر عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وقد أ/رني أن أفارقك، الحقي بأهلك. فطلقها وتزوج منهم أخرى.
فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة. وأثنت على الله عز وجل، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم! بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم :
((ولم يكن لهم يوئذ حب، ولو كان لهم حب دعا لهم فيه)). [قال:] فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم ؛ أتانا شيخ حسن الهيئة – وأثنت عليه – فسألني عنك، فأخبرته، فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم؛ هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة؛ أمرني أن أمسكك.
ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك.
قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً. وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء؛ جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" [البقرة: 127]، قال: فجعلا يبنيان، حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم".
وروى أبو داود الطيالسي عن علي رضي الله عنه قال:
لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا؛ من يضعه؟ فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه.
وروى أحمد عن مجاهد عن مولاه – وهو السائب بن عبد الله – أنه حدثه:
أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية، قال: وكان لي حجراً أنا تحته [بيدي] أعبده من دون الله، قال: وكنت أجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على نفسه، فأصبه عليه، فيجيء الكلب فيلحسه، ثم يشغر فيبول عليه ! قال:
فبينا حتى بلغنا موضع الحجر، ولا يرى الحجر أحد، فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل، يكاد يتراءى منه وجه الرجل. فقال بطن من قريش: نحن نضعه. وقال آخرون: نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكماً. فقالوا: أول رجل يطلع من الفجّ ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: أتاكم الأمين. فقالوا له، فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فرفعوا نواحيه[معه]، فوضعه هو صلى الله عليه وسلم.
قلت: وقد كانوا أخرجوا منها الحجر – وهو ستة أذرع، أو سبعة أذرع من ناحية الشام – قصرت بهم النفقة – أي: لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم – وجعلوا للكعبة باباً واحداً من ناحية المشرق، وجعلوه مرتفعاً لئلاً يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاؤوا ، ويمنعوا من شاؤوا.
وقد ثبت في ((الصحيحين)) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الهل عليه وسلم قال لها:
((ألم تري أن قومك قصرت بهم النفقة؟ ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة، وجعلت لها باباً شرقياً وباباً غربياً، وأدخلت فيها الحجر)).
ولهذا لما تمكن ابن الزبير بناها على ما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاءت في غاية البهاء والحسن والسناء، كاملة على قواعد الخليل، لها بابان ملتصقان بالأرض شرقاً وغرباً، يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر.
فلما قتل الحجاج ابن الزبير ؛ كتب إلى عبد الملك بن مروان – وهو الخليفة يومئذٍ- فيما صنعه ابن الزبير – واعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه – فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه ... فهي إلى الآن كذلك .
وقد ذكرنا قصة بناء والأحاديث الواردة في ذلك في تفسير (سورة البقرة) عند قوله: ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل﴾ [البقرة:127]. وذكرنا ذلك مطولاً مستقصى، فمن شاء كتبه ها هنا، ولله الحمد والمنة.
فصل
وذكر ابن إسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحمس، وهو الشدة في الدين والصلابة.
وذلك لأنهم عظموا الحرم تعظيماً زائداً؛ بحيث التزموا بسببه أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة، وكانوا يقولون: نحن أبناء الحرم، وقطان بيت الله. فكانوا لا يقفون بعرفات. مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام – حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة، وكانوا يمنعون الجيج والعمّار – ما داموا محرمين – أن يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس؛ طاف عرياناً ولو كانت امرأة، ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك؛ وضعت يدها على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
قال ابن إسحاق: فكانوا كذلك حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن رداً عليهم فيما ابتدعوه، فقال: ﴿ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس﴾؛ أي: جمهور العرب من عرفات، ﴿واستغفروا الله إن الله غفور رحيم﴾[البقرة:199].
وقد قدمنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه؛ توفيقاً من الله له.
وأنزل الله عليه ردّا عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس والطعام على الناس ﴿يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق﴾ الآية [الأعراف:31و32].
[المستدرك]
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول : من يعيرني تطوافاً؟ تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية : ﴿خذوا زينتكم عند كل مسجد﴾ [الأعراف: 31].
رواه مسلم (8/243-244).
وقال عروة:
كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحمس – والحُمس : قريش وما ولدت – وكانت الحمس يحتسبون على الناس؛ يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها، وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها، فمن لم تعطه الحمس طاف بالبيت عرياناً.
وكان يفيض جماعة الناس من (عرفات)، وتفيض الحمس من (جمع).
وعن عائشة رضي الله عنها:
أن هذه الآية نزلت في الحمس (وفي رواية: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ) ، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بـ(عرفات)، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي (عرفات) ثم يقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى ): ﴿ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس﴾ [البقرة: 199]، قال: كانوا يقيضون من (جمع) ، فدفعوا إلى (عرفات).
رواه البخاري بهذا التمام (818 – مختصره) ومسلم (4/43) بحديث عائشة: [انتهى المستدرك].
كتاب مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً
وذكر شيء من البشارات بذلك
قال محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى :
وكانت الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه.
أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى؛ فمما وجدوا في كتبهم من صفته، وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه، قال الله تعالى :
﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾ [الأعراف: 157].
وقال الله تعالى :
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29].
وقال الله تعالى :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾[آل عمران: 81]
وفي ((صحيح البخاري)) عن ابن عباس قال:
((ما بعث الله نبياً إذا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه)).
يعلم من هذا أن جميع الأنبياء بشرو به وأمروا باتباعه.
وقد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لأهل مكة :﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 129].
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال:
قلت: يا رسول الله! ما كان بدء أمرك؟ قال:
((دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأيت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام)).
ورواه محمد بن إسحاق من طريق أخرى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه مثله.
ومعنى هذا أنه أراد بدء أمره بين الناس واشتهار ذكره وانتشاره، فذكر دعوة إبراهيم اذي تنسب إليه العرب، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل. يدل هذا على أن من بينهما بشروا به أيضاً.
وفيه بشارة لأهل محلتنا أرض بصرى، وانها أول بقعة من أرض الشام خلص إليها نور النبوة، ولله الحمد والمنة.
ولهذا كانت أول مدينة فتحت من أرض الشام، وكان فتحها صلحاً في خلافة أبي بكر رضي الله عنه .
أما في الملأ الأعلى قد كان أمره مشهوراً مذكوراً معلوماً من قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام؛ كما فيما روى أحمد بسنده عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إني عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت ... )).
وروى الإمام أحمد أيضاً عن ميسرة الفجرة قال:
قلت: يا رسول الله! متى كنت نبياً؟ قال:
((وآدم بين الروح والجسد)).
إسناده جيد.
وقد رواه ابن شاهين في ((دلائل النبوة)) من حديث أبي هريرة قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : متى وجبت لك النبوة؟ قال:
((بين خلق آدم ونفخ الروح فيه )).
وفي رواية:
((وآدم منجدل في طينته)).
وروى من حديث ابن عباس:
قيل: يا رسول الله! متى كنت نبياً؟ قال:
((وآدم بين الروح والجسد)).
وأما الكهان من العرب ؛ فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع، إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره، ولا يلقي العرب لذلك فيه بالاً حتى بعثه الله تعالى ، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها.
فما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر زمان بعثه؛ حُجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم، فعرفت الشياطين أن ذلك لأمر حدث من أمر الله عز وجل.
قال[ابن إسحاق]:
وفي ذلك أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ﴿قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نُشرك بربنا أحداً﴾ [الجن: 1و2] إلى آخر السورة.
وقد ذكرنا تفسير ذلك كله في كتابنا ((التفسير))، وكذلك قوله تعالى : ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: 29و30] الآيات. ذكرنا تفسير ذلك كله هناك.
[56]
فصل
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا:
إن مما دعانا إلى الإسلام – مع رحمة الله تعالى وهداه لنا – لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبنهم شرورو، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن؛ نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم.
فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية : ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
وروى ابن إسحاق عن سلمة بن سلامة بن وقش – وكان من أهل بدر – قال:
كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يوماً من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل – قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً، عليّ فروة لي مضجع فيها بفناء أهلي – فذكر القيامة والبعث ، والحساب والميزان، والجنة والنار. قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت. فقالوا له: ويحك يا فلان! أو ترى هذا كائناً ؛ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم ؟! قال: نعم؛ والذي يحلف به، ويودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار يحمونه، ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً.
قالو له: ويحك يا فلان! فما آية ذلك؟
قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد. وأشار بيده إلى نحو (مكة) واليمن.
قالوا: ومتى تراه؟
قال: فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سناً، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: فوالله؛ ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله [محمداً] رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً.
قال: فقلنا له: ويحك يا فلان! ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟
قال: بلى، ولكن ليس به!
رواه أحمد عن يعقوب عن أبيه عن ابن إسحاق.
ورواه البيهقي عن الحاكم بإسناده من طريق يونس بن بكير.
وروى أبو نعيم في ((الدلائل)) عن محمد بن سلمة قال:
لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له: يوشع، فسمعته يقول- وإني لغلام في إزار - : قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت – ثم أشار بيده إلى بيت الله – فمن أدركه فليصدقه.
فبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا، وهو بين أظهرنا لم يسلم حسداً وبغياً.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال لي:
هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعبة، وأسيد بن سعيد، وأسد بن عبيد؟ - نفر من بني هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا ساداتهم في الإسلام – قال: قلت: لا [والله]. قال:
فإن رجلاً من اليهود من أرض الشام يقال له: ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، لا والله؛ ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان! فاستسق لنا. فيقول: لا والله؛ حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة. فنقول: كم؟ فيقول: صاعاً من تمر، أو مدّين من شعير. قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا، فوالله؛ ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقي. قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث.
قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: أنت أعلم.
قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكّف خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجرة، فكنت أرجو أن يبعث فاتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبَقنّ إليه يا معشر يهود! فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحاصر بني قريظة؛ قال هؤلاء الفتية – وكانوا شباناً أحداثا- : يا بني قريظة ! والله ؛ إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان. قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله؛ إنه لهو بصفته. فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم.
ثم ذكر ابن إسحاق رحمه الله إسلام الفارسي رضي الله عنه وأرضاه من حديث عبد الله بن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي – من فيه – قال:
كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: (جَيٌّ) وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ.
وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً.
قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، ثم قال لي: ولا تحتبس عني؛ فإنك إن احتسبت عني كنتم أهم إليّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري.
فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ، دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ، وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ.
فرَجَعْتُ إلى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ أَمْرِهِ كُلِّهِ.
فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّّ! أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ . قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ؛ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ.
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ.
قَالَ: قُلْتُ: كَلَّا وَاللَّهِ؛ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا.
قَالَ: فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.
قَالَ: وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى. فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ، قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ.
قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ عِلْمَاً؟ قَالُوا: الْأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ.
قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ له: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ. وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ. وأَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ، وَأُصَلِّي مَعَكَ، قَالَ: ادْخُلْ.
فَدَخَلْتُ مَعَهُ، قَالَ فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ؛ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا؛ فَإِذَا جَمَعُوا إليه مِنْهَا أَشْيَاءَ كَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ.
قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ.
ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إليه النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا كَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا.
قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا. قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، قَالَ فَاسْتَخْرَجُوا سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا، قَالَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. قَاْلَ: فَصَلَبُوهُ ورَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ.
وجَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَوَضَعُوهُ مَكَان. قَالَ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا أَدْأَبُ لَيْلًا وَنَهَارًا [مِنْهُ].
قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّ شيئاً قَبْلَهُ مِثْلَهُ.
قالَ: فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ شيئاً قَبْلَكَ ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالى ، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وبَِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَداَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا، وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ؛ إِلَّا رَجُلًا بِـ(الْمَوْصِلِ)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَالْحَقْ بِهِ.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (الْمَوْصِلِ)، فَقُلْتُ: يَا فُلَانُ! إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي.
فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ! إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ اللَّهِ مَا تَرَى، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: يا بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا بِـ(نَصِيبِينَ)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ.
فَلَمَّا مَاتَ وَغُيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (نَصِيبِينَ) فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي. فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ ! إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إلى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وبِمَ تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: يا بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِـ(عَمُّورِيَّةَ) فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فائتِهِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ (عَمُّورِيَّةَ)، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَ خير رجلٍ على هديِ أَصْحَابِهِ.
قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ.
قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَان! إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ فَأَوْصَى بِي إلى فُلَانٍ، ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإلى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ؛ مَا أَعْلَمُ أَصْبَحَ أحدٌ عَلَى مثل مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ. مُهَاجِره إلى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ. فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، فَافْعَلْ.
قَالَ: ثُمَّ مَاتَ، وَغَيَّبَ، ومَكَثْتُ بـِ(عَمُّورِيَّةَ) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ.
ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّار، فَقُلْتُ لَهُمْ: احمِلُونِي إلى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ. قَالُوا: نَعَمْ. فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي معهم، حَتَّى إِذَا بلغوا وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي؛ فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا فَكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، فَرَجَوْتُ أَنْ يكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي وَلَمْ يَحِقْ فِي نَفْسِي.
فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ (الْمَدِينَةِ) فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إلى (الْمَدِينَةِ)، فَوَاللَّهِ؛ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا، فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي لها، فَأَقَمْتُ بِهَا.
وَبُعِثَ رَسُولَُ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَقَامَ بـ(مكة) مَا أَقَامَ، لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مِمََّا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إلى (الْمَدِينَةِ).
فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ تحتي، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يا فُلَانُ قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاللَّهِ؛ إِنَّهُمْ لَمُجْتَمِعُونَ الْآنَ بِـ(قُبَاءَ) عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ مِنْ (مَكَّةَ) الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
قَالَ فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الرَّعْدَةُ، حَتَّى ظَنَنْتُ ساقِطٌ عَلَى سَيِّدِي، فَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ: ذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تَقُولُ؟
قَالَ:فَغَضِبَ سَيِّدِي، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا؟! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ.
قَالَ: فقُلْتُ: لَا شَيْءَ؛ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ.
قالَ: وكَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِـ(قُبَاءَ)، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ.
قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كلوا))، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ.
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ.
ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُه فَقُلْتُ له: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ.
قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ.
قالَ: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِـ(بَقِيعِ الْغَرْقَدِ) قَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وعَلَيْهِ شَمْلَتَانِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَبرْتُه أَنْظُرُ إلى ظَهْرِهِ؛ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي؟ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدبَرْتُهُ؛ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إلى الْخَاتَمِ، فَعَرَفْتُهُ فَاكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَحَوَّلْ))، فَتَحَوَّلْتُ بين يديه، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ.
ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَدْرٌ) وَ(أُحُدٌ).
قَالَ سلمان: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ!)).
فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ، وأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ:
((أَعِينُوا أَخَاكُمْ)).
فَأَعَانُونِي في النَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ ودية، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ ودية، وَالرَّجُلُ بِعَشْرة، يعين الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ! فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُنُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ)).
قال: فَفَقَّرْتُ، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ، وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، حتى إذا فرغنا، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ؛ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ.
فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ المعادن، فَقَالَ:
((مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟)).
قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، قَالَ:
((خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَان!)).
فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِمَّا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
((خُذْهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ)).
قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا - وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ - أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ.
وَعُتِقَ سلمان. فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْخَنْدَقَ) ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ.
وروى البخاري في ((صحيحه)) من حديث أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي:
أنه تداوله بضعة عشر؛ من ربّ إلى ربّ.
أي: من معلم إلى معلم، ومُرَبّ إلى مثله. والله أعلم.
وستأتي قصة أبي سفيان مع (هرقل) ملك الروم حين سأله عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله، واستدلاله بذلك على صدقه ونبوته ورسالته، وقال له: كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم اكن أظن أنه فيكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولئن كان ما تقول حقاً ليملكن موضع قدمي هاتين. وكذلك وقع ولله الحمد والمنة.
وقال الله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[الأعراف:157].
روى الإمام أحمد عن رجل من الأعراب قال:
جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت من بيعي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه. قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتعبتهم، حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها؛ يعزي بها على نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجملهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أنشدك بالذي أنزل التوراة؛ هل تجدني في كتابك ذا صفتي ومخرجي؟)).
فقال برأسه هكذا؛ أي: لا . فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة؛ إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
فقال:
((أقيموا اليهودي عن أخيكم)). ثم ولي كفنه والصلاة عليه.
هذا إسناد جيد، وله شاهد في ((الصحيح)) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
روى أبو القاسم البغوي بإسناده عن الفلتان بن عاصم، وذكر أن خاله قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ شخص بصره إلى رجل، فإذا يهودي عليه قميص وسراويل ونعلان. قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه وهو يقول: يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أتشهد أني رسول الله ؟)).
قال: لا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((أتقرأ التوراة)). قال: نعم. قال:
((أتقرأ الإنجيل)). قال: نعم. قال:
((والقرآن)). قال: لا. ولو تشاء قرأته.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
((فبم (!) تقرأ التوراة والإنجيل أتجدني نبياً؟)). قال: إنا نجد نعتك ومخرجك، فلما خرجت رجونا أن تكون فينا، فلما رأيناك عرفناك أنك لست به.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((ولم يا يهودي؟)). قال: إنا نجده مكتوباً: يدخل من أمته الجنة سبعون ألفاً بغير حساب. ولا نرى معك إلا نفراً يسيراً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن أمتي لأكثر من سبعين ألفاً، وسبعين ألفاً)).
هذا حديث غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه.
وثبت في ((الصحيح)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمدارس اليهود، فقال لهم:
((يا معشر اليهود! أسلموا، فوالذي نفسي بيده؛ إنكم لتجدون صفتي في كتبكم)). الحديث.
وروى أحمد والبخاري عن عطاء بن يسار قال:
لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال:
أجل؛ والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي! إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء؛ بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.
ورواه ابن جرير، وزاد:
قال عطاء: فلقيت كعباً، فسألته عن ذلك؟ فما اختلفا [في] حرف.
ورواه البيهقي من طريق أخرى عن عطاء يسار عن ابن سلام: أنه كان يقول:
إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء؛ بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله، يفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.
وقال عطاء بن يسار: وأخبرني الليثي: أنه سمع كعب الأحبار يقول مثلما قال ابن سلام.
قلت: وهذا عن عبد الله بن سلام أشبه، ولكن الرواية عن عبد الله بن عمرو أكثر؛ مع أنه كان قد وجد يوم (اليرموك) زاملتين من كتب أهل الكتاب، وكان يحدث عنهما كثيراً.
وليعلم أن كثيراً من السلف كانوا يطلقون (التوراة) على كتب أهل الكتاب، فهي عندهم أعم من التي أنزلها الله على موسى، وقد ثبت شاهد ذلك من الحديث.
والعلم بأنه موجود في كتب أهل الكتب معلوم من الدين ضرورة، وقد دل على ذلك آيات كثيرة في الكتاب العزيز؛ تكلمنا عليها في مواضعها، ولله الحمد.
فمن لك قوله: ﴿ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾[القصص: 52و53].
وقال تعالى : ﴿ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾[البقرة: 146].
وقال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ﴾ [الإسراء: 107و108].
وقال تعالى إخباراً عن القسيسين والرهبان: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة:83].
وفي قصة النجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام وغيرهم؛ كما سيأتي شواهد كثيرة لهذا المعنى، ولله الحمد والمنة.
وذكرنا في تضاعيف ((قصص الأنبياء)) وصفهم لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعته، وبلد مولده، ودار مهاجره، ونعت أمته في قصة موسى، وشعياً، وأرمياء، ودانيال، وغيرهم.
وفي الإنجيل البشارة بـ(الفارقليط)، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم .
وروى البيهقي عن الحاكم بإسناده عن عائشة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((مكتوب في الإنجيل: لا فظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، بل يعفوا ويصفح)).
[المستدرك]
عن عوف بن مالك الأشجعي قال:
انطلق النبي صلى الله عليه وسلم [يوماً] وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود [بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم]، فقال [لهم]:
((يا معشر اليهود! أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم)).
قال: فأسكتوا ما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم، فلم يجبه منهم أحد، فقال:
((أبيتم! فوالله؛ [إني] لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى؛ آمنتم أو كذبتم)).
ثم انصرف وأنا معه، حتى [إذا] كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفنا يقول: كما أنت يا محمد! فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله؛ ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك. قال: فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة. فقالوا: كذبت! ثم ردوا عليه قوله، وقالوا فيه شراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، وأما إذ آمن فكذبتموه وقلتم فيه ما قلتم، فلن يقبل قولكم)).
قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا، وعبد الله بن سلام، وأنزل الله تعالى فيه: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأحقاف: 10]. [انتهى المستدرك].
باب في هواتف الجن
وهو ما ألقته الجان على ألسنه الكهان ومسموعاً من الأوثان
روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال:
ما سمعت عمر يقول لشيء قط: إني لأظنه [كذا]. إلا كان كما يظن.
بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو أن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليّ الرجل.
فدعي به، فقال له ذلك. فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم!
قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. قال: كنت كاهنهم في الجاهلية قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟
قال: بينما أنا في السوق يوماً؛ جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت:
ألم تر الجن وإبلاسها، وبأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟
قال عمر: صدق، بينا أنا عند آلهتهم جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله. فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. ثم نادى: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله. فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.
وهذا الرجل هو سواد بن قارب الأزدي، ويقال: الدوسي من أهل السراة جبال (البلقاء)، له صحبة ووفادة.
وروى الحافظ أبو نعيم عن جابر بن عبد الله قال:
إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن، فجاء في صورة طائر أبيض، وقع على حائط لهم، فقالت له: ألا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك، وتخبرنا ونخبرك؟ فقال لها: إنه قد بعث نبي بمكة حرم الزنا، ومنع منا القرار.
باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أول شيء أنزل عليه من القرآن العظيم
كان ذلك وله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعون سنة.
روى البخارى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار (حراء) ، فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ((ما أنا بقارئ)). قال: ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5])).
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: ((زملوني زملوني)). فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع.
فقال لخديجة – وأخبرها الخبر- : ((لقد خشيت على نفسي)).
فقالت خديجة : كلا؛ [أبشر]؛ فوالله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، [وتصدق الحديث]، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت على ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة [أخي أبيها]، وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن كتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.
فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني في جذعاًن ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((أو مخرجيّ هم ؟!)).
فقال: نعم؛ لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة؛ حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما بلغنا – حزنا غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوسق شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد! إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، قال: فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك.
هكذا وقع مطولاً في (باب التعبير) من ((البخاري)).
قال جابر بن عبد الله الأنصاري – وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه - :
((بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري؛ فإذا الملك الذي جاءني بـ(حراء) جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله : ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾[المدثر: 1-5] – فحمي الوحي وتتابع)).
رواه البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه، وتكلمنا عليه مطولاً في أول ((شرح البخاري)) في (كتاب بدء الوحي) إسناداً ومتناً، ولله الحمد والمنة.
وأخرجه مسلم في ((صحيحه))، وانتهى سياقه إلى قول ورقة: ((أنصرك نصراً مؤزراً)).
فقول أم المؤمنين عائشة: ((أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)) يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج في كتاب، فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ. فغتّني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني)).
وذكر نحو حديث عائشة سواء.
فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة، وقد جاء مصرحاً بهذا في ((مغازي موسى بن عقبة)) عن الزهري أنه رأى ذلك في المنام، ثم جاءه الملك في اليقظة.
وروى أبو نعيم في ((الدلائل)) بسنده عن علقمة بن قيس قال:
((إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد)).
قال أبو شامة: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عجائب قبل بعثته.
فمن ذلك ما في ((صحيح مسلم)) عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(مسلم 7/58/59)
(( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن)).
انتهى كلامه.
وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه؛ لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله في الحديث: ((والتحنث: التعبد)) تفسير بالمعنى، وإلا فحقيقة التحنث: من حيث البنية – فيما قاله السهيلي- : الدخول في الحنث. ولكن سمعت ألافظ قليلة في اللغة معناها: الخروج من ذلك الشيء؛ كتحنث، أي: خرج من الحنث، وتحوب، وتحرج وتأثم. وتهجد: هو ترك الهجود وهو النوم للصلاة، وتنجس وتقذر. أوردها أبو شامة.
قال ابن هشام: والعرب تقول: التحنيث والتحنف. يبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا: جدّف وجدث، كما قال رؤبة:
لو كان أحجاري من الاجداف.
يريد: الأجداث.
قال: وحدثني أبو عبيدة: أن العرب تقول: (فُمّ) في موضع (ثُمّ).
قلت: ومن ذلك قول بعض المفسرين : ﴿وفومها﴾ أن المراد: ثومها.
وقوله: ((حتى فجأه الحق وهو بغار حراء))؛ أي: جاء بغتة على غير موعد؛ كما قال تعالى : ﴿وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك﴾الآية[النمل:86].
وقد كان نزول هذه السورة الكريمة وهي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5] – وهي أول ما نزل من القرآن؛ كما قررنا ذلك في ((التفسير))، وكما سيأتي أيضاً – في يوم الاثنين؛ كما ثبت في ((صحيح مسلم)) عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال:
((ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل عليّ فيه)).
وقال ابن عباس:
ولد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونُبّي يوم الاثنين.
وهذا ما خلاف فيه.
والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان؛ كما نص على ذلك عبيد بن عمير ومحمد بن إسحاق وغيرهما، واستدل ابن إسحاق على ذلك بقوله تعالى : ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس﴾ [البقرة: 185].
وروى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((أُنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)).
وروى ابن مردويه في ((تفسيره)) عن جابر بن عبد الله مرفوعاً نحوه.
ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين.
وأما قول جبريل: ((اقرأ))، فقال: ((ما أنا بقارئ))؛ فالصحيح أن قوله: ((ما أنا بقارئ)) نفي؛ أي : لست ممن يحسن القراءة، ووممن رجحه انووي، وقبله الشيخ أبو شامة.
ومن قال: إنها استفهامية. فقوله بعيد؛ لأن الباء لا تزاد في الإثبات.
وقوله: ((حتى بلغ مني الجهد)): يُروى بضم الجيم وفتحها وبالنصب وبالرفع، وفعل به ثلاثاً، قال الخطابي:
((وإنما فعل ذلك به ليبلوا صبره، ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة، ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، وتأخذه (الرحضاء)؛ أي: البهر والعرق)).
وقال غيره: إنما فعل ذلك لأمور: منها أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس؛ كما قال تعالى : ﴿إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً﴾ [المزمل: 5]، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمر وجهه، ويغط كما يغط البكر من الإبل، ويتفصد جبينه عرقاً في اليوم الشديد البرد.
وقوله: ((فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يردف فؤاده))، وفي رواية: ((بوادره)): جمع بادرة؛ قال أبو عبيدة: وهي لحمة بن المنكب والعنق. وقال غيره: هي عروق تضطرب عند الفزع .
وقوله: ((لقد خشيت على نفسي))، وذلك لأنه شاهد أمراً لم يعهده قبل ذلك، ولا كان في خلده، ولهذا قالت خديجة: كلا؛ أبشر والله؛ لا يخزيك الله أبداً. قيل: من الخزي، وقيل: من الحزن، وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه؛ أن من كان متصفاً بصفات الخير لا يخزى في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة. فقالت: ((إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث)). وقد كان مشهوراً بذلك صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق.
((وتحمل الكل))؛ أي: عن غيرك، تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤونة عياله.
((وتكسب المعدوم)) ؛ أي: تسبق إلى فعل الخير، فتبادر إلى إعطاء الفقير، فتكسب حسنته قبل غيرك، ويسمى الفقير معدوماً ؛ لأن حياته ناقصة، فوجوده وعدمه سواء؛ كما قال بعضهم:
ليس من مات فاستراح بميت إن الميت ميت الأحياء
واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بـ(المعدوم) ههنا: المال المعطى؛ أي: يعطي المال لمن هو عادمه.
ومن قال: إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم، أو النفيس القليل النظير؛ فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما ليس له علم، فإن مثل هذا لا يمدح به غالباً، وقد ضعف هذا القول عياض والنووي وغيرهما. والله أعلم.
((وتقري الضيف))؛ أي: تكرمه في تقديم قراه، وإحسان مأواه.
((وتعين على نوائب الحق))، ويروى ((الخير))؛ أي: إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها، وقمت مع صاحبها حتى يجد سداداً من عيش، أو قواماً من عيش.
وقول ورقة: ((يا ليتني فيها جذَعاً))؛ أي: يا ليتني أكون اليوم شاباً متمكناً من الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح.
((يا ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك))؛ يعني: حتى أخرج معك وأنصرك.
((نصراً مؤزراً)؛ أي: أنصرك نصراً عزيزاً أبداً.
وقوله: ((ثم لم ينشب ورقة أن توفي))؛ أي: توفي بعد هذه القصة بقليل، رحمه الله ورضي عنه، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وُجد ، وإيمان بما حصل من الوحي، ونية صالحة للمستقبل.
وقد روى الإمام أحمد عن ابن لهيعة: حدثني أبو الاسود عن عروة عن عائشة: أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل؟ فقال:
((قد رأيته؛ فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض)).
وهذا إسناد حسن؛ لكن رواه الزهري وهشام عن عروة مرسلاً. فالله أعلم.
وروى الحافظ أبو يعلى عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل؟ فقال:
((قد رأيته؛ فرايت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس)).
وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل؟ فقال:
((يبعث يوم القيامة أمة وحده)).
وسئل عن أبي طالب؟ فقال:
((أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها)).
وسئل عن خديجة؛ لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن؟ فقال:
((أبصرتها على نهر في الجنة في بيت من قصب؛ لا صخب فيه ولا نصب)).
إسناده حسن، ولبعضه شواهد في ((الصحيح)). والله أعلم.
وروى البزار وابن عساكر عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة أو جنتين)).
وهذا إسناد جيد، وروي مرسلاً، وهو أشبه.
وروى البيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال : السلام عليك يا رسول الله!
وفي رواية:
لقد رأيتني أدخل معه الوادي، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال : السلام عليكم يا رسول الله! وأنا أسمعه.
ومضى قريباً حديث مسلم:
((إني لأعرف بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)).
فصل
وفي ((الصحيحين)) عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي قال:
((فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء ... فخشيت منه فرقاً حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾[المدثر: 1-5].
قال: ثم حمي الوحي وتتابع)).
فهذا كان أول من القرآن بعد فترة الوحي لا مطلقاً، ذاك قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
وقد ثبت عن جابر : أن أول ما نزل : ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾، واللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه؛ فإن في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجيء الملك الذي عرفه ثانياً بما عرفه به أولاً إليه. ثم قوله: ((يحدث عن فترة الوحي)) دليل على تقدم الوحي على هذا الإيحاء. والله أعلم.
وقد ثبت في ((الصحيحين)) عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل قبل؟ فقال: ﴿يا أيها المدثر﴾.
فقلت: و ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾؟
فقال: سألت جابراً بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟ فقال: ﴿يا أيها المدثر﴾ فقلت: و﴿اقرأ باسم ربك﴾؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إني جاورت بـ(حراء) شهراً، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت بين يدي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فلم أرَ شيئاً، ثم نظرت إلى السماء؛ فإذا هو على العرش في الهواء، فأخذتني رعدة- أو قال: وحشة- فأتيت خديجة ، فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله : ﴿يا أيها المدثر ﴾ حتى بلغك ﴿وثيابك فطهر﴾)).
وفي رواية:
((فإذا الملك الذي جاءني بـ(حراء) جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه)).
وهذا صريح في تقدم إتيانه إليه، وإنزاله الوحي من الله عليه؛ كما ذكرناه. والله أعلم.
ومنهم من زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة: ﴿والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى﴾ إلى آخرها. وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي ((الصحيح))؛ من أن أول القرآن نزولاً بعد فترة الوحي:
﴿يا أيها المدثر. قم فأنذر﴾، ولكن نزلت سورة (والضحى) بعد فترة أخرى كانت ليالي يسيرة؛ كما ثبت في ((الصحيحين)) وغيرهما عن جندب بن عبد الله البجلي قال:
اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثاً، فقالت امرأة: ما أرى شيطانك إلا تركك. فأنزل الله: ﴿وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾.
وبهذا الأمر حصل الإرسال إلى الناس، وبالأول حصلت النبوة.
ثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع؛ أي: تدارك شيئاً بعد شيء.
وقام حينئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة أتم القيام، وشمر عن ساق العزم ، ودعا إلى الله القريب والبعيد، والأحرار والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد.
فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق.
ومن الغلمان علي بن أبي طالب.
ومن النساء خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام.
ومن الموالي مولاه زيد بن حارثة الكلبي؛ رضي الله عنهم وأرضاهم.
فصل
في منع الجان ومرَدَة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفاً واحداً فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الأمر ويختلط الحق
فكان من رحمة الله وفضله ولطفه بخلقه أن حجبهم عن السماء؛ كما قال الله تعالى إخباراً عنهم في قوله: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا. وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: 8- 10].
وقال تعالى :﴿وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون﴾[الشعراء: 210 – 212].
وروى الحافظ أبو نعيم عن ابن عباس قال:
كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعاً، فأما الكلمة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فتكون باطلاً.
فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا لإبليس – ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك – فقال لهم إبليس : هذا لأمر قد حدث في الأرض.
فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا الأمر الذي حدث في الأرض.
وعنه قال:
انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلتْ عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، قالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا اشهب. فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، [فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟! فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها].
فمر النفق الذي أخذوا نحو (تهامة) - وهو بـ(نخل) – عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمع القرآن استمعوا له، فقالو: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء.
فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا. يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا﴾.
أخرجاه في ((الصحيحين)).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عنه قال:
إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل الوحي؛ سمعت الملائكة صوتاً كصوت الحديد ألقيتها على الصفا، قال: فإذا سمعت الملائكة خروا سجداً، فلم يرفعوا رؤوسهم حتى ينزل، فإذا نزل؛ قال بعضهم لبعض: ﴿ماذا قال ربكم﴾؟ فإن كان مما يكون في السماء ﴿قالوا الحق وهو العلي الكبير﴾، وإن كان مما يكون في الأرض من : أمر الغيب، أو موتٍ ، أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به، فقالوا: يكون كذا وكذا. فتسمعه الشياطين، فينزلونه على أوليائهم.
فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم دُحروا بالنجوم، فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه، فيذبح كل يوم شاة، وذو الإبل فينحر كل يوم بعيراً، فأسرع الناس في أموالهم، فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا؛ فإن كانت النجوم التي يهتدون بها وإلا فإنه لأمر حدث. فنظروا؛ فإذا النجوم التي يُهتدى بها كما هي لم يَزُل منها شيء، فكفوا.
وصرف الله الجن فسمعوا القرآن ﴿فلما حضروه قالوا أنصتوا﴾.
وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه، فقال: هذا حدثٌ حدث في الأرض، فأتوني من كل أرض بتربة، فآتوه بتربة تهامة، فقال: ها هنا الحدث.
ورواه البيهقي والحاكم عن عطاء بن السائب.
وثبت في الحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه [من الأنصار]، فرُمي بنجم عظيم فاستنار، قال:
((ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟)).
قال: كنا نقول: يولد عظيم، أو يموت عظيم – قال معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم؛ ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم – قال:
((فإنه لا يرمى بها لموت أحد، ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذي يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا، ثم يستخبر أهل السماء الذي يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ﴿ماذا قال ربكم﴾؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء؛ حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، ويخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون [فيه] ويزيدون)).
[المستدرك]
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إذا قضى الله الأمر في السماء؛ ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله؛ كأنه سلسلة على صفوان [ينفذهم ذلك]، فـ﴿إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا﴾ للذي قال: ﴿الحق وهو العلي الكبير﴾ [سبأ: 23]. فيسمعها مسترقـ[وا] السمع، ومسترقـ[وا] السمع هكذا : بعضه فوق بعض- ووصف سفيان بكفه؛ فحرفها وبدّد (وفي لفظ : وفرج) بين أصابعه- يسمع الكلمة، فيلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب [المستمعَ] قبل أن يلقيا [إلى صاحبه فيحرق]، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيُصدّق بتلك الكلمة التي سمع من السماء)).
أخرجه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((ليسوا بشيء)).
قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدثون أحياناً الشيء يكون حقاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرّها في أذن وليه قرّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة)).
أخرجه الشيخان. [انتهى المستدرك].
فصل
في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة ، وثاني مرة أيضاً.
وعن عائشة رضي الله عنها:
أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال:
((أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ؛ فينفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً يكلمني؛ فأعي ما يقول)).
قالت عائشة رضي الله عنها:
ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد؛ فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً.
أخرجاه في ((الصحيحين))، وأحمد.
وفي حديث الإفك قالت عائشة:
فوالله؛ ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرحاء، حتى إنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق – وهو في يوم شاتٍ- من ثقل الوحي الذي أنزل عليه.
وفي ((صحيح مسلم)) وغيره عن عبادة بن الصامت قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك ، وتربّد وجهه. (وفي رواية: وغمض عينيه، وكنا نعرف ذلك منه).
وفي ((الصحيحين)) حديث زيد بن ثابت حين نزلت: ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين﴾ [النساء:95]، فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت: ﴿غير أولي الضرر﴾.
قال: وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، وأنا أكتب، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي.
وفي ((صحيح مسلم)) عن يعلى بن أمية قال: قال لي عمر:
أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه؟ فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بـ(الجعرانة)؛ فإذا هو محمر الوجه، وهو يغط كما يغط البكر.
وثبت في ((الصحيحين)) من حديث عائشة لما نزل الحجاب، وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى (المناصع) ليلاً، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة! فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده، فأوحى الله إليه، [ثم يرفع عنه]، والعرق في يده [ما وضعه]، ثم رفع رأسه فقال:
((إنه قد أذن لكن أن تخرجتن لحاجتكن)).
فدل هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية ؛ بدليل أنه جالس، ولم يسقط العرق أيضاً من يده؛ صلوات الله وسلامه دائماً عليه.
وروى أبو يعلى عن الفلتان بن عاصم قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه، وكان إذا أُنزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة ، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل، [فكنا نعرف ذلك منه].
وروى أحمد وأبو نعيم عن أسماء بنت يزيد قالت:
((إني لآخذة بزمام العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه (المائدة) كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
وروى أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال:
أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (المائدة) وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها.
وروى ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها:
أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت عليه سورة (المائدة)، فاندقّ عنق الراحلة من ثقلها.
وهذا غريب من هذا الوجه.
ثم قد ثقت في ((الصحيحين)) نزول سورة (الفتح) على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية وهو على راحلته، فكان يكوت تارة وتارة، بحسب الحال، والله أعلم.
فصل
قال الله تعالى : ﴿لا تحرك به لسانه لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه﴾ [القيامة: 16-19].
وقال تعالى : ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً﴾ [طه: 114]
وكان هذا في الابتداء؛ كان عليه الصلاة والسلام من شدة حرصه على أخذه من املك ما يوحى إليه عن الله عز وجل يسابقه في التلاوة، فأمره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحي، وتكلف له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه تلاوته وتبليهن وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، ويوقفه على المراد منه.
ولهذا قال: ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً﴾.
وقوله: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه﴾؛ أي: في صدرك، ﴿وقرآنه﴾؛ أي: وتقرأه، ﴿فإذا قراناه﴾؛ أي: تلاه عليك الملَك، ﴿فاتبع قرآنه﴾؛ أي: فاستمع له وتدبره، ﴿ثم إن علينا بيانه﴾؛ وهو نظير قوله: ﴿وقل رب زدني علماً﴾.
وفي ((الصحيحين)) عن ابن عباس قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله : ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه﴾؛ قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه، ﴿فإذا قرأناه فاتبع قرآنه﴾: فاستمع له وأنصت، ﴿ثم إن علينا بيانه﴾؛ قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل.
فصل
@قال ابن إسحاق: ثم تتامّ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصدق بما جاء منه، وقد قبله بقبوله، وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم.
وللنبوة أثقال ومؤونة لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل- بعون الله وتوفيقه – لما يلقون من الناس، وما يُردّ عليهم مما جاؤوا به عن الله عز وجل.
فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أمر الله به على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.
قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء منه.
فخفف الله بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئاً يكرهه – من رد عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك – إلا فرج الله عنه بها؛ إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه ، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رضي الله عنها وأرضاها.
قال: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب؛ لا صخب فيه ولا نصب)).
وهذا الحديث مخرج في ((الصحيحين)) من حديث هشام.
قال ابن هشام: (القصب) ها هنا: اللؤلؤ المجوف.
فصل
في ذكر من أسلم ثم ذكر متقدمي الإسلام
من الصحابة وغيرهم
روى ابن إسحاق عن إياس بن عُفيف عن أبيه عفيف – وكان عفيف أخا الأشعث بن قيس لأمه – أنه قال:
كنت امرءاُ تاجراً، فقدمت (منىً) أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرءاً تاجراً، فأتيته أبتاع منه.
قال: فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء، فقام يصلي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه.
فقلت: يا عباس! ما هذا الدين ؟! إن هذا الدين ما أدري ما هو؟!
فقال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به.
قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذٍ فكنت أكون رابعاً.
وفي رواية عنه قال:
إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها قد مالت قام يصلي ... ثم ذكر قيام خديجة وراءه.
وروى ابن جرير بسنده عن يحيى بن عفيف [عن عفيف] قال:
جئت زمن الجاهلية إلى (مكة)، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس، وحلقت في السماء – وأنا أنظر إلى الكعبة – أقبل شاب، فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب، فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجداً، فسجدا معه.
فقلت: يا عباس! أمر عظيم! فقال: أمر عظيم؟! أتدري من هذا؟ فقلت: لا. فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؛ ابن أخي . أتدري من الغلام؟ قلت: لا. قال: هذا علي بن أبي طالب- رضي الله عنه – أتدري من هذه المرأة التي خلفهما؟ قلت: لا. قالت: لا. قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي. وهذا حدثني أن ربك رب السماء والأرض أمره بهذا الذي تراهم عليه، وايم الله؛ ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.
وروى ابن جرير أيضاً عن ابن عباس قال:
أول من صلى عَلِيّ.
وعن جابر قال:
بُعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وصلى عليٌُّ يوم الثلاثاء.
وعن زيد بن أرقم قال:
أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب.
قال: [عمرو بن مرة]: فذكرته للنخعي، فأنكره، وقال: أبو بكر أول من أسلم.
وقال آخرون: أول من أسلم هذه الأمة أبو بكر الصديق.
والجمع بين الأقوال كلها: إن خديجة أول من أسلمت من النساء- وظاهر السياقات- وقبل الرجال أيضاً.
وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة.
وأول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب؛ فإنه كان صغيراً دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت.
وأول من أسلم من الأحرار أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم؛ إذ كان صدراً معظماً، ورئيساً في قريش مكرماً، وصاحب مال، وداعية إلى الإسلام، وكان محبباً متألفاً، يبذل المال في طاعة الله ورسوله.
وقد ثبت في ((صحيح البخاري)) عن أبي الدرداء في حديث ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الخصومة، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبتَ. وقال أبو بكر: صدق. وواساني بنفسه وماله. فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ (مرتين) )). فما أوذي بعدها.
وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه.
وقد روى الترمذي وابن حبان عن أبي سعيد قال:
قال ابو بكر الصديق رضي الله عنه: ألست أحق الناس بها؟ ألست أول من أسلم؟ ألست صاحب كذا؟
وقد تقدم رواية ابن جرير عن زيد بن أرقم قال:
أول من أسلم علي بن أبي طالب.
قال عمرو بن مرة: فذكرته لإبراهيم النخعي، فأنكره، وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وهذا هو المشهور عن جمهور أهل السنة.
وثبت في ((صحيح البخاري)) عن عمار بن ياسر قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد، وامرأتان، وأبو بكر.
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن ابن مسعود قال:
أول من أظهر الإسلام سبع: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم؛ فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما ارادوا؛ إلا بلالاً؛ فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب (مكة) وهو يقول: أحد أحد.
وثبت في ((صحيح مسلم)) من حديث أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو بـ(مكة)، وهو حينئذ مستخف، فقلت: ما أنت؟ قال: ((أنا نبي)). فقلت: وما النبي؟ قال: ((رسول الله)). قلت: الله أرسلك؟ قال: ((نعم)). قلت: بم أرسلك؟ قال:
((أن تعبد الله وحده لا شريك له، وتكسر الأصنام، وتوصل الأرحام)).
قال: قلت: نِعْمَ ما أرسلت به، فمن تبعك على هذا؟
قال: ((حر وعبد)). يعني: أبا بكر وبلالاً.
قال: فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام.
قال: فأسلمت. قلت: فاتبعك يا رسول الله؟ قال: ((لا؛ ولكن الحقْ بقومك؛ فإذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني)).
ويقال: إن معنى قوله عليه السلام: ((حر وعبد)) اسم جنس، وتفسير ذلك بأبي بكر وبلال فقط فيه نظر؛ فإنه قد كان جماعة أسلموا قبل عمرو بن عبسة، وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضا، فلعله أخبر أنه ربع الإسلام بحسب علمه، فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم، لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم، دع الأجانب، دع أهل البادية من الأعراب. والله أعلم.
وفي ((صحيح البخاري)) عن سعد بن أبي وقاص:
((ما أسلم أحد[إلا] في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام)).
أما قوله: ((ما أسلم أحدٌ في اليوم الذي أسلمت فيه)) فسهل، ويروى: ((إلا في اليوم الذي أسلمت فيه))، وهو مشكل؛ إذ يقتضي أنه لم يسبقه أحد بالإسلام، وقد علم أن الصديق وعلياً وخديجة وزيد بن حارثة أسلموا قبله؛ كما قد حكى الإجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد؛ منهم ابن الأثير.
ونص أبو حنيفة رضي الله عنه على أن كلاً من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه. والله أعلم.
وأما قوله: ((ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام)) فمشكل، وما أدري على ماذا يوضع عليه؟! إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه. والله أعلم.
وروى الطيالسي وأحمد والحسن بن عرفة عن ابن مسعود قال:
كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط بـ(مكة)، فأتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقد فرا قمن المشركين، فقال – أو : فقالا - : عندك يا غلام! لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن، ولست بساقيكما. فقال: هل عندك من جذعة لم ينزُ عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم. فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع ودعا، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقياني، ثم قال للضرع: اقلص. فقلص.
فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: علمني من هذا القول الطيب. يعني القرآن، فقال:
((إنك غلام معلّم)).
فأخذت من فيه سبعين سورة؛ ما ينازعني فيها أحد.
ذكر إسلام أبي ذر رضي الله عنه
روى البيهقي عن الحاكم بسنده عن أبي ذر قال:
كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر، وأنا الرابع، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا سياق مختصر.
وقد رواه البخاري عن ابن عباس قال:
لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي؛ فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني.
فانطلق الأخ، حتى قدمه وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر.
فقال: ما شفيتني ما أردت.
فتزود وحمل شنّة [له] فيها ماء، حتى قدم (مكة)، فأتى المسجد، فالتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء.
حتى إذا كان يوم الثالث فعاد عليّ على مثل ذلك، فأقام معه، فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت. ففعل، فأخبره. قال: فإنه حق، وإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك؛ قمت كأني أريق الماء. وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي. ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
((ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)).
فقال: والذي نفسي بيده؛ لأصرخن ما بين ظهرانيهم. فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. ثم قام القوم، فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس، فأكب عليه، فقال: ويلكم!
ألستم تعلمون أنه من غفار؛ وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟! فأنقده منهم.
ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه.
هذا لفظ البخاري.
وقد جاء إسلامه مبسوطاً في ((صحيح مسلم)) وغيره، فروى أحمد عن عبد الله بن الصامت [قال: ] قال أبو ذر:
خرجنا من قومنا غفار – وكانوا يحلون الشهر الحرام – أنا وأخي أنيس وأمّنا، فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال وذي هيئة، فأكرمنا خالنا، وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس. فجاء خالنا فنثى عليه ما قيل له، فقلت له: أما ما مضى من معروفك؛ فقد كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد.
قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبه، وجعل يبكي.
قال: فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة (مكة)، قال: فنافر أنيس [رجلاً] عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن، فخيّر أنيساً، فأتانا بصرمتنا ومثلها.
وقد صليت يا ابن أخي! قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.
قال: قلت: لمن؟ قال: لله. قال: فأين توجه؟ قال: حيث وجهني الله. قال: وأصلي عشاء، حتى إذا كان من آخر الليل أُلقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس.
قال: فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فاكفني حتى آتيك.
قال: فانطلق فراث عليّ، ثم أتاني، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلاً يزعم أن الله عز وجل أرسله على دينك. قال: فقلت: ما يقول الناس له؟ قال: يقولون: إنه شاعر وساحر [وكاهن]. وكان أنيس شاعراً.
قال: فقال: قد سمعت قول الكاهن، فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فوالله؛ ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، والله ؛ إنه لصادق، وإنهم لكاذبون.
قال: فقلت له: هل أنت كافيّ حتى أنطلق فانظر؟ قال: نعم، وكن من أهل (مكة) على حذر؛ فإنهم قد شنفوا له، وتجهموا له.
قال: فانطلقت حتى قدمت (مكة)، فتضعفت رجلاً منهم، فقلت: أين هذا الرجل الذي تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلي. [قال: الصابئ. قال: ] فمال أهل الوادي عليّ بكل مدَرَةٍ وعظم، حتى خررت مغشياً عليّ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نُصُب أحمر.
فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به ابن أخي! ثلاثين من بين يوم وليلة، وما لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سُخفة جوع.
قال: فبينا أهل (مكة) في ليلة قمراء إضحيان، فضرب الله على أصمخة أهل (مكة)، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا عليّ وهما تدعوان (إساف) و(ونائلة)، فقلت: أنكحوا أحدهما الآخر! فما ثناهما ذلك، قال: فأتتا عليّ، فقلت: وهنّ مثل الخشبة. غير أني لم أُكن.
قال: فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا!
قال: فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل، فقال: ((ما لكما؟)). فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: ((ما قال لكما؟)). قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم!
قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر، فطاف بالبيت، ثم صلى.
قال: فاتيته، فكنت أول من حياه بتحية أهل الإسلام، فقال:
((عليك السلام ورحمة الله، ممن أنت؟)).
قال: قلت: من غفار. قال: فأهوى بيده فوضعها على جبهته. قال: فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار. قال: فأردت أن آخذ بيده، فقدعني صاحب، وكان أعلم به مني، قال:
((متى كنت ههنا؟)).
قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم. قال:
((فمن كان يطعمك؟)).
قلت: ما كان إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((إنها مباركة، وإنها طعام طُعم)).
قال: فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله! في طعامه الليلة. قال: ففعل.
قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم ، [وانطلق أبو بكر]، وانطلقت معهما، حتى فتح أبو بكر باباً، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف. قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إني قد وجّهت إلى أرض ذات نخل، ولا أحسبها إلا (يثرب) فهل أنت مبلغ عني قومك؛ لعل الله عز وجل ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟)).
قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيساً، قال: فقال لي: ما صنعت؟ قال: قلت: إني صنعتُ أني أسلمتُ وصدّقت. قال: قال: فما لي رغبة عن دينك؛ فإني قد أسلمت وصدقت.
ثم أتينا أمنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما؛ فإني قد أسلمت وصدّقت.
فتحملنا حتى أتينا قومنا (غفاراً) ، فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة)، وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رحضة، وكان سيدهم يومئذ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا. فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة)، فأسلم بقيتهم.
قال: وجاءت (أسلم)، فقالوا: يا رسول الله! إخواننا؛ نسَلّم على الذي أسلموا عليه. فأسلموا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( (غفار) غفر الله لها، و(أسلم) سالمها الله)).
ورواه مسلم نحوه، وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر، وفيه زيادات غريبة. فالله أعلم.
وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسي في (كتاب البشارات بمبعثه عليه الصلاة والسلام).
ذكر إسلام ضماد
روى مسلم والبيهقي من حديث ابن عباس قال:
قدم ضماد (مكة) – وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح – فسمع سفهاء من سفه (مكة) يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: أين هذا الرجل؟ لعل الله أن يشفيه على يدي. فلقي محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرقي من هذه الرياح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهلم. فقال محمد:
((إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (ثلاث مرات) )).
فقال: والله؛ لقد سمعت الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلم يدك أبايعك على الإسلام. فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:
((وعلى قومك؟)).
فقال: وعلى قومي.
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً، فمروا بقوم ضماد، فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئاً؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مظهرة. فقال: ردها عليهم؛ فإنهم قوم ضماد.
وفي رواية: فقال له ضماد: أعد علي كلماتك هؤلاء؛ فلقد بلغن قاموس البحر.
ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء، حتى فشا أمر الإسلام بـ(مكة)، وتُحدّث به.
باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام وأمره له بالصبر والاحتمال والإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم وإرسال الرسول الأعظم إليهم وذكر ما لقي من الأذية منهم هو وأصحابه رضي الله عنهم
قال الله تعالى : ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون. وتوكل على العزيز الرحيم. الذي يراك حين تقوم. وتقلّبك في الساجدين. إنه هو السميع العليم﴾ [الشعراء:214-220].
وقال تعالى : ﴿وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون﴾ [الزخرف: 44].
وقال تعالى : ﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد﴾ [القصص: 85]، أي: إن الذي فرض عليك وأوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إلى دار الآخرة، وهي المعاد، فيسألك عن ذلك؛ كما قال تعالى : ﴿ فوربك لنسالنهم أجمعين، عما كانوا يعملون﴾ [الحجر: 92 و93].
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا ((التفسير))، وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة (الشعراء):
﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾، وأوردنا أحاديث جمة في ذلك.
فمن ذلك ما أخرجه أحمد والشيخان عن ابن عباس قال:
لما أنزل الله: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ أتى النبي صلى الله عليه وسلم (الصفا)، فصعد عليه، ثم نادى: ((يا صباحاه!)). فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه؛ وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يا بني عبد المطلب! يا بني فهر! يا بني لؤي! أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً يسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟)). قالوا: نعم. قال:
((فإني ﴿نذير لكم بين يدي عذاب شديد﴾ [سبأ:46])).
فقال أبو لهب – لعنه الله - : تباً لك سائر اليوم! أما دعوتنا إلا لهذا؟! وأنزل الله عز وجل: ﴿تبت يدا أبي لهب وتب﴾.
وأخرج أحمد – والسياق له – والشيخان عن أبي هريرة قال:
لما نزلت هذه الآية: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ [الشعراء: 214] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، فعم وخص ، فقال:
((يا معشر قريش! أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب [بن لؤي]! انقذوا أنفسكم من النار، [يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار]، يا معشر بني هاشم ! أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد ! أنقذي نفسك من النار، فإني – والله – لا أملك لكم من الله شيئاً؛ إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها)).
وروى أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
لما نزلت: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ [الشعراء: 214] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
((يا فاطمة بنت محمد! يا صفية بنت عبد المطلب! يا بني عبد المطلب! لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي إن شئتم)).
وروى الإمام أحمد في ((مسنده)) عن علي [قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم – أو: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم – بني عبد المطلب؛ فيهم رهط كلهم يأكل الجذعة، ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مدّاً من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، قال: وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس، ثم دعا بغُمر، فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب، فقال:
(يا بني عبد المطلب! إني بعثت لكم خاصة؛ وإلى الناس بعامة، وقد رأتيم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟)).
قال: فلم يقم إليه أحد، قال: فقمت إليه، وكنت أصغر القوم، قال: فقال: ((اجلس))، قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه، فيقول لي: ((اجلس))، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي].
[المستدرك]
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت:
لما نزلت: ﴿تبت يدا أبي لهب﴾؛ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهرٌ، وهي تقول:
مذمماً أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله! قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إنها لن تراني)).
وقرأ قرآناً، فاعتصم به كما قال [تعالى ]، وقرأ: ﴿وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً﴾ [الإسراء:45]، فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا أبا بكر! إني أخبرت أن صاحبك هجاني. فقال: لا ورب هذا البيت؛ ما هجاك. فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها.
أخرجه الحاكم (2/361) وقال: ((صحيح الإسناد))، ووافقه الذهبي، وابن حبان (2103)، وأبو نعيم (ص61) من طريق أخرى عن ابن عباس نحوه. وصححه ابن أبي حاتم أيضاً؛ كما في ((الدر المنثور)) (4/186)، وله عنده شاهد من حديث أبي بكر.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزيناً؛ قد خضب بالدماء؛ ضربه بعض أهل (مكة)، قال: فقال له: ما لك؟ قال: فقال له:
((فعل بي هؤلاء وفعلوا)).
قال: فقال له جبريل عليه السلام: أتحب أن أريك آية؟ قال: ((نعم)).
قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع بتلك الشجرة. فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، فقال: مرها فلترجع. فأمرها فرجعت إلى مكانها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((حسبي)).
أخرجه أحمد (3/113)، وابن ماجه (4028) بسند صحيح.
وعن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي:
أنه مر وصاحب له بـ(أيمن) وفئة من قريش قد حلوا أزرهم؛ فجعلوها مخاريق يجتلدون بها وهم عراة، فلما مررنا بهم قالوا: إن هؤلاء قسيسون؛ فدعوهم.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم، فلما أبصروه تبددوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً حتى دخل، وكنت أنا وراء الحجرة، فسمعته يقول:
((سبحان الله! لا من الله استحيوا؛ ولا من رسوله استتروا!)).
وأم أيمن عنده تقول: استغفر لهم يا رسول الله!
قال عبد الله: فبلأيٍ ما استغفر لهم.
أخرجه أحمد(4/191)، وإسناده صحيح، ورواه إبراهيم الحربي، والطبراني؛ كما في ((الإصابة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم !؟)). [قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ]
((يشتمون مذمماً، [وأنا محمد]، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد)).
أخرجه البخاري (3533)، والنسائي في ((الطلاق))، وأحمد (2/244و340و366) من طرق عنه. [انتهى المستدرك].
وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال:
جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمر به رجل، فقال : طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله؛ لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت.
فاستغضب، فجعلت أعجب! ما قال إلا خيراً! ثم أقبل إليه فقال:
ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيّبه الله عنه؛ لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟! والله؛ لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جنهم؛ لم يجيبوه ولم يصدقوه.
أولا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم؛ مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم ؟!
والله؛ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها في نبيّ من الأنبياء؛ في فترة وجاهلية؛ ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى أن الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً – وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان – يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها للتي قال الله عز وجل: ﴿الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً﴾ [الفرقان:74].
أخرجه أحمد (6/2-3)، وابن حبان (1684) بسند صحيح رجاله كلهم ثقات.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلاً نهاراً، وسراً وجهراً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من حر وعبد، وضعيف وقوي، وغني وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء.
وتسلط عليه وعلى من اتبعه من أحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية.
وكان أشد الناس عليه عمه أبو لهب، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان.
وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب خلق الله إليه طبعاً، وكان يحنو عليه، ويحسن إليه، ويدافع عنه ويحامي، ويخالف قومه في ذلك؛ مع أنه على دينهم وعلى خلتهم؛ إلا أن الله قد امتحن قلبه بحبه حباً طبعياً لا شرعياً.
وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى ، ومما صنعه لرسوله من الحماية؛ إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه،ولاجترؤوا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه، ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار﴾ [القصص:28]، وقد قسم خلفه أنواعاً وأجناسا.
فهذان العمان كافران: أبو طالب وأبو لهب، ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من النار، وذلك في الدرك الأسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمن أنه ﴿سيصلى ناراً ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب﴾ [المسد:3و4].
روى الإمام أحمد، والبيهقي عن ربيعة بن عباد من بني الديل – وكان جاهليّاً فأسلم – قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق (ذي المجاز) وهو يقول:
((يا أيها الناس! قولوا: (لا إله إلا الله) تفلحوا)).
والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيءُ الوجه أحول، ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه؟ فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
ثم رواه البيهقي من طريق أخرى عن ربيعة الديلي قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ(ذي المجاز) يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، وراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: يا أيها الناس! لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.
قلت: من هذا؟ قيل: هذا أبو لهب.
وأما أبو طالب؛ فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي؛ كما سيظهر من صنائعه وسجاياه واعتماده فيما يحامي به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وروى البخاري في ((التاريخ))، والبيهقي عن الحاكم من حديث عقيل بن أبي طالب قال:
جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا. فقال: يا عقيل! انطلق فأتني بمحمد. فانطلقت فاستخرجته من كنس، أو خنس- يقول: بيت صغير – فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم. فحلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال:
((ترون هذه الشمس؟)). قالوا: نعم. قال:
((فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منها بشعلة)).
فقال أبو طالب: والله؛ ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا.
وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه؛ مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما يشاء، لا معقب لحكمه.
وروى الإمام أحمد، والبخاري عن ابن عباس قال:
قال: أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لاطأن على عنقه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
((لو فعل ذلك لأخذته الملائكة عياناً)).
وفي رواية عنه قال:
مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد!.
[فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو جهل: لم تنهرني يا محمد! فوالله؛] لقد علمت ما بها أحد أكثر نادياً مني.
[قال:] فقال جبريل: ﴿فليدع ناديه. سندع الزبانية﴾ [العلق: 17و18].
[قال: فقال ابن عباس:] والله؛ لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب.
رواه أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي.
وروى أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن أبي هريرة قال:
قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟! قالوا: نعم.
قال: فقال: واللات والعزى؛ لئن رأيته يصلي كذلك لاطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته. قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه.
قال: فقيل له: ما لك؟ قال: إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً وأجنحة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)).
قال: وأنزل الله تعالى – لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا - : ﴿كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى﴾ [العلق: 6و7] إلى آخر السورة.
وروى الإمام أحمد، والبخاري في مواضع من ((صحيحه))، ومسلم عن عبد الله (هو ابن مسعود) قال:
ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش؛ غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه، فقالوا: من يـأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟ فقال: عقبة بن أبي معيط: أنا. فأخذه فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((اللهم! عليك بهذا الملأ من قريش، اللهم! عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم! عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم! عليك بأبيّ بن خلف. أو: أمية بن خلف)). شعبة الشاك.
قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعاً، ثم سحبوا إلى القليب؛ غير أُبي أو أمية بن خلف؛ فإنه كان رجلاً ضخماً فتقطع.
والصواب: أمية بن خلف؛ فإنه الذي قتل يوم بدر، وأخوه أُبيّ إنما قتل يوم أُحد؛ كما سيأتي بيانه.
و(السلا): هو الذي يخرج مع ولد الناقة؛ كالمشيمة لولد المرأة.
وفي بعض ألفاظ ((الصحيح)): أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا؛ حتى جعل بعضهم يميل على بعض؛ أي: يميل هذا على هذا من شدة الضحك. لعنهم الله.
وفيه: أن فاطمة لما ألقته عنه أقبلت عليهم فسبتهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك، وخافوا أكثر الروايات تسمية ستة منهم؛ وهم: عتبة وأخوه شيبة؛ ابنا ربيعة، والوليد ابن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف. قال أبو إسحاق: ونسيت السابع.
قلت: وهو عمارة بن الوليد، وقع تسميته في ((صحيح البخاري)).
@وروى عن عروة بن الزبير [قال: ]سألت ابن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة؛ إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً.
فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ﴿أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم﴾ [غافر : 28].
انفرد به البخاري، وقد رواه في أماكن من ((صحيحه))، وصرح في بعضها بـ(عبد الله بن عمرو بن العاص) ، وهو أشبه لرواية عروة عنه، وفي رواية معلقة عن عروة قال: قيل لعمرو بن العاص. وهذا أشبه لتقدم هذه القصة.
وقد روى البيهقي عن الحاكم بسنده عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عروة عن أبيه عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوته؟ فقال:
لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط؛ سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم.
أو كما قالوا:
قال: فبينما هم في ذلك [إذ] طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال:
((أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده؛ لقد جئتكم بالذبح)).
فأخذت القومَ كلمته، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه [بأحسن ما يجد من القول] ، حى إنه ليقول: انصرف أبا القاسم! راشداً، فـ[والله؛] ما كنت جهولاً فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى ِإذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه.
فبيمنا هم في ذلك [إذ] طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول: كذا وكذا ؟! لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((نعم؛ أنا الذي أقول ذلك)).
ولقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر يبكي دونه ويقول: ﴿أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله﴾ [غافر 28]؟! ثم انصرفوا عنه.
فإن ذلك لأكثرُ ما رأيت قريشاً بلغت منه قط.
فصل
في تأليب الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واجتماعهم بعمه أبي طالب القائم في منعه ونصرته وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم
فابى عليهم ذلك بحول الله وقوته
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد؛ إلا ما يواري إبط بلال)).
أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه ، وقال الترمذي:
((حديث حسن صحيح)).
فصل
فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعاً من الآيات وخرق العادات
على وجه العناد لا على وجه طلب الهدى والرشاد
فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا، ولا ما إليه رغبوا؛ لعلم الحق سبحانه؛ أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردّون.
قال الله تعالى : ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾[ الأنعام: 109-111].
وقال تعالى : ﴿الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾[يونس: 96و97].
وقال تعالى : ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: 59].
وقال تعالى : ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 90-93].
وقد تكلمناعلى هذه الآيات وما يشبهها في أماكنها من ((التفسير))، ولله الحمد.
عن ابن عباس قال:
سأل أهل (مكة) رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم لصفا ذهباً، وأن ينحّي عنهم الجبال فيزدرعوا. فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم. قال:
((لا؛ بل أستأني بهم)).
فأنزل الله تعالى : ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء:59].
رواه أحمد والنسائي.
وفي رواية لأحمد عنه قال:
قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ادعُ لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال: ((وتفعلوا؟)). قالوا: نعم.
قال: فدعا ، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة. قال:
((بل [باب] التوبة والرحمة)).
وإسناد كل منهما جيد.
وقد جاء مرسلاً عن جماعة من التابعين؛ منهم: سعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغير واحد.
فصل
@قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء (مكة) إذا اشتد الحر، من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم.
فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم، ومنهم من يصلُب لهم، ويعصمه الله منهم.
وقد تقدم حديث ابن مسعود:
أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله فمنعه الله بعمه، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا؛ إلا بلالاً؛ فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى ، وهان على قومه، فأخذوه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب (مكة) وهو يقول: أحد أحد.
وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون، فقال:
((أبشروا آل عمار وآل ياسر! فإن موعدكم الجنة)).
رواه البيهقي عن الحاكم.
قلت: وفي مثل هذا أنزل الله تعالى : ﴿من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقبله مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم﴾ [النحل: 106].
فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.
وعن خباب بن الأرت قال:
كنت رجلاً قيناً، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله؛ لا أقضيك حتى تكفر بمحمد! فقلت: لا والله؛ لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت ثم بعثت؛ جئتني ولي ثمّ مالٌ وولد فأعطيك، فأنزل الله: ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً﴾ إلى قوله: ﴿ويأتينا فرداً﴾ [مريم: 77-80].
أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم في ((الصحيحين))، وفي لفظ البخاري:
كنت قيناً بـ(مكة)، فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه ... فذكر الحديث.
وفي طريق أخرى له عنه قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه، فقال:
((لقد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب؛ ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتمّنّ الله هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من (صنعاء) إلى (حضر موت) ما يخاف إلا الله عز وجل (زاد بيان: والذئب على غنمه) )).
وفي رواية : ((ولكنكم تستعجلون)).
[المستدرك]
وعن أبي ليلى الكندي قال: جاء خباب إلى عمر فقال: ادنُ؛ فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار. فجعل خباب يريه آثاراً بظهره مما عذبه المشركون.
أخرجه ابن سعد (3/165)، وابن ماجه (153) بسند صحيح. [انتهى المستدرك].
باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم باحلق وإن أظهروا المخالفة عناداً وحسداً وبغياً وجحوداً
روى إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال : يا عم! إن قومك يريدون أن يجمعو لك مالاً. قال: لم؟ قال: ليعطوكه؛ فإنك أتيت محمداً لتعرّض ما قِبَلَه.
قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً.
قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول؟ فوالله؛ ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله؛ ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله؛ إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: فدعني حتى أفكر فيه.
فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. فنزلت: ﴿ذرني ومن خلقت وحيداً. وجعلت له مالاً ممدوداً. وبنين شهوداً﴾ [المدثر: 11-13] الآيات.
هكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن إسحاق.
قلت: وفي ذلك قال الله تعالى إخباراً عن جهلهم وقلة عقلهم: ﴿بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون﴾. [الأنبياء:5]، فحاروا ما ذا يقولون فيه؟ فكل شيء يقولونه باطل؛ لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ، قال الله تعالى : ﴿انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً﴾ [الإسراء:48].
@وروى الإمام عبد بن حميد في ((مسنده)) بسنده عن جابر بن عبد الله قال:
اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر؛ فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟
فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد!
فأتاه عتبة فقال: يا محمد! أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم قال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك؛ فقد عبدوا الآلهة التي عِبتَ وإن كنت تزعم أنك خير منهم؛ فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتّتّ أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلى مثل صيحة الحبلى؛ أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل! إن كان إنما بك الحاجة؛ جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً، وإن كان إنما بك الباءة؛ فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فرغت؟)). قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( ﴿بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾ إلى أن بلغ: ﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ [فصلت: 1-13])).
فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: ((لا)).
فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته.
قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم. ثم قال: لا والذي نصبها بيّنة؛ ما فهمت شيئاً مما قال؛ غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
قالوا: ويلك! يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟!ّ
قال: لا والله؛ ما فهمت شياً مما قال؛ غير ذكر الصاعقة.
@وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم بسنده عن الأجلح به، وفيه كلام، وزاد:
وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك؛ فكنت رأساً ما بقيت. وعنده أنه لما قال: ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾؛ أمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله، واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش! ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد، وأعجبه كلامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه. فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة! ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد، وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة؛ جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد.
فغضب، وأقسم بالله لا يكلم محمداً أبداً، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته – وقص عليهم القصة – فأجابني بشيء – والله؛ ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة – قرأ : (( ﴿بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم﴾حتى بلغ: ﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ ))، فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
ثم روى البيهقي بسنده عن المغيرة بن شعبة قال:
إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة؛ إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل:
((يا أبا الحكم! هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله)).
فقال أبو جهل: يا محمد! هل أنت منتهٍ عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت، فوالله؛ لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك.
فانصر ف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل علي فقال: والله؛ إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن يمنعني شيء؛ إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا الندوة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللواء. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكّت الركب قالوا: منا نبي! والله لا أفعل.
وهذا القول منه – لعنه الله – كما قال تعالى مخبراً عنه وعن أضرابه:
﴿وإذا رأويك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولاً. إن كان ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً﴾ [الفرقان: 41و42].
وقال ابن عباس:
نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بـ(مكة): ﴿ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها﴾[الإسراء:110]؛ قال:
كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله، ومن جاء به. قال: فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ﴿ولا تجهر بصلاتك﴾؛ أي: بقراءتك؛ فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، ﴿ولا تخافت بها﴾ عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، ﴿وابتغ بين ذلك سبيلاً﴾.
رواه أحمد وصاحبا ((الصحيح)).
بسم الله الرحمن الرحيم
باب هجرة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
من (مكة) إلى أرض الحبشة فراراً بدينهم من الفتنة
قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين، وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد والإهانة البالغة.
وكان الله عز وجل قد حجرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعه بعمه أبي طالب؛ كما تقدم تفصيله، ولله الحمد والمنة.
وقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن مسعود قال:
بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلاً، فيهم عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى، فأتوا النجاشي.
وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية.
فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفراً من بني عمنا نزلوا ارضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا.
قال: فأين هم؟ قالا: في أرضك؛ فابعث إليهم.
فبعث إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. فاتّبعوه.
فسلم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟
قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل.
قال: وما ذاك.
قال: إن الله بعث إليناً رسولاً، ثم أمرنا أن لا نسجد لأحدٍ إلا الله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم.
قال: فما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟
قال: نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد.
قال: فرفع عوداً من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان! والله؛ ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يسوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله؛ لولا ما أنا فيه من الملك؛ لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه [وأوضئه].
وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما.
ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدراً.
وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته.
وهذا إسناد جيد قوي، وسياق حسن، وفيهما يقتضي أن أبا موسى كان فيمن هاجر من (مكة) إلى أرض الحبشة؛ إن لم يكن مدرجاً من بعض الرواة. والله أعلم.
ورواه أبو نعيم في ((الدلائل)) عن أبي موسى قال:
فبلغ ذلك قريشاً، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية.
وقدما على النجاشي فاتياه بالهدية، فقبلها، وسجدا له. ثم قال عمرو بن العاص: إن ناساً من أرضنا رغبوا عن ديننا ، وهم في أرضك.
قال لهم النجاشي: في أرضي؟!
قالا: نعم.
فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد؛ أنا خطيبكم اليوم.
فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه، وعمرو بن العاص عن يمينه، وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك.
@فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك. فقال جعفر: لا نسجد إلا لله عز وجل.
فقال له النجاشي: وما ذاك؟
قال: إن الله بعث فينا رسولاً، وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من بعده اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر.
فأعجب النجاشي قوله.
فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في عيسى بن مريم!
فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟
قال: يقول فيه قول الله؛ هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، ولم يفرضها ولد.
فتناول النجاشي عوداً من الأرض فرفعه، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان! ما يزيد هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك؛ لأتيته حتى أقبل نعليه، امكثوا في أرضي ما شئتم.
وأمر لنا بطعام وكسوة. وقال: ردوا على هذين هديتهما.
وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً، وكان عمارة رجلا ًجميلاً، وكانا أقبلاً في البحر، فشربا [يعني خمراً]، ومع عمرو امرأته، فلما شرباً قال عمارة لعمرو: مر امرأتك فلتقبلني! فقال له عمرو: ألا تستحي؟! فأخذ عمارة عمراً فرمى به في البحر، فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة.
فحقد عليه عمرو في ذلك، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك. فدعا النجاشي بعمارة، فنفخ في إحليله، فطار مع الوحش.
وهكذا رواه البيهقي في ((الدلائل)) إلى قوله: ((فأمر لنا بطعام وكسوة))، قال:
((وهذا إسناد صحيح، وظاهره يدل على أن أبا موسى كان بـ(مكة)، وأنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة.
والصحيح عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى:
أنهم بلغهم مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم باليمن، فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين رجلاً في سفينة، فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي بأرض الحبشة، فوافقوا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عندهم، فأمره جعفر بالإقامة، فأقاموا عنده حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن (خيبر).
قال: وابو موسى شهد ما جرى بين جعفر وبين النجاشي، فأخبر عنهم.
قال: ولعل الراوي وهم في قوله: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق)). والله أعلم)).
وهكذا رواه البخاري في (هجرة الحبشة)، ومسلم عن أبي موسى قال:
بلغنا مخرج النبي ونحن باليم، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فأقمنا معه حتى قدمنا، فوافينا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح (خيبر)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((لكم أنتم أهل السفينة هجرتان)).
وروياه في موضع آخر مطولاً. والله أعلم.
@وقال ابن إسحاق: حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث ابن هشام عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
لما ضاقت (مكة)، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفُتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره ومما ينال أصحابه؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقو ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه)).
فخرجنا إليها أرسالاً، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلماً.
فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً وأمناً غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا؛ ليخرجنا من بلاده، وليردنا عليهم.
فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا رجلا إلا هيئوا له هدية على حدة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فان استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.
فقدما عليه، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته، فكلموه، فقالوا له: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا؛ فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فاذا نحن كلمناه فاشيروا عليه بأن يفعل. فقالوا: نفعل.
ثم قدموا للنجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدون إليه من (مكة) الأدم. (وذكر موسى بن عقبة: أنهم أهدوا إليه فرسا وجبة ديباج).
فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا: له أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجؤوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم؛ آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فانهم أعلى بهم عينا، فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك.
فغضب ثم قال: لا لعمر الله! لا أردهم عليهم حتى أدعوهم فأكلمهم وأنظر ما أمرهم؛ قوم لجئوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فان كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم ، ولم أَنْعَم عيناً.
@(وذكر موسى بن عقبة: أن أمراءه أشاروا عليه بان يردهم إليهم، فقال: لا والله؛ حتى اسمع كلامهم، وأعلم على أي شيء هم عليه).
فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له، فقال: أيها الرهط! ألا تحدثوني ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم؟!
فاخبروني ماذا تقولون في عيسى؟ وما دينكم؟
أنصارى أنتم؟
قالوا: لا.
قال: أفيهود أنتم؟
قالوا: لا.
قال: فعلى دين قومكم؟
قالوا: لا.
قال: فما دينكم؟
قالوا: الإسلام.
قال: وما الإسلام.
قالوا: نعبد الله لا نشرك به شيئا.
قال: من جاءكم بهذا؟
قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا، قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، فأمرنا بالبر والصدقة، والوفاء، وأداء الأمانة، ونهانا أن نعبد الأوثان، وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له، فصدقناه، وعرفنا كلام الله، وعلمنا أن الذي جاء به من عند الله، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا، وعادوا النبي الصادق، وكذبوه، وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادة الأوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا.
قال: والله إن هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى.
قال جعفر: وأما التحية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة (السلام) وأمرنا بذلك فحييناك بالذي يحيي بعضنا بعضاً.
وأما عيسى بن مريم؛ فعبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وابن العذراء البتول.
فأخذ عوداً، وقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود.
فقال عظماء الحبشة: والله؛ لئن سمعت الحبشة لتخلعنك.
فقال: والله؛ لا أقول في عيسى غير هذا أبداً، وما أطاع الله الناس فِيَّ حين رد علي ملكي؛ فأطيع الناس في دين الله؟! معاذ الله من ذلك!
وقال يونس عن ابن اسحاق: فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شيء أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم.
فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون؟
فقالوا: وماذا نقول؟! نقول - والله - ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن من ذلك ما كان.
فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية!
فقال له جعفر: أيها الملك! كنا قوماً على الشرك نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، يستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحلل شيئا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا، نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الأرحام، ونحمى الجوار، ونصلي لله عز وجل، ونصوم له، ولا نعبد غيره.
@(وقال زياد عن ابن اسحاق: فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – قال: فعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده لا شريك له، ولم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا، فعذبونا ليفتنونا عن ديننا، ويردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك!
قالت: فقال النجاشي: هل معك شي مما جاء به؟
فقرأ عليه صدراً من ﴿كهيعص﴾ فبكى - والله - النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم[حين سمعوا ما تلا عليهم]).
ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى؛ انطلقوا راشدين، لا والله؛ لا أردهم عليكم، ولا أنعمكم عيناً.
فخرجنا من عنده، وكان أبقى الرجلين فينا عبد الله بن [أبي] ربيعة، فقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما استأصل به خضراءهم، ولأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد - عيسى بن مريم - عبد !
فقال له عبد الله بن [أبي] ربيعة: لا تفعل؛ فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحما ولهم حقا فقال: والله لأفعلن.
فلما كان الغد دخل عليه، فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيما، فارسل اليهم فسلهم عنه.
فبعث - والله - إليهم ولم ينزل بنا مثلها.
فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟
فقالوا: نقول - والله - الذي قاله الله فيه، والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه.
فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟
فقال له جعفر: نقول: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عوداً بين إصبعيه، فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد.
فتناخرت بطراقته، فقال: وإن تناخرتم والله!
اذهبوا فأنتم شيوم في الأرض (الشيوم: الآمنون في الأرض)، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم (ثلاثاً) ما أحب أن لي دبراً وأني آذيت رجلاً منكم. (والدبر بلسانهم: الذهب).
@(وقال زياد عن ابن اسحاق: ما أحب أن لي دبراً من ذهب. قال ابن هشام: ويقال زبراً، وهو الجبل بلغتهم).
ثم قال النجاشي: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه؟! ردوا عليهما هداياهم، فلا حاجة لي بها، واخرجا من بلادي.
فخرجا مقبوحين مردوداً عليهما ماجاءا به.
قالت: فاقمنا مع خير جار في خير دار.
فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه الملك.
فوالله ما علمتنا حزنّا حزناً قط هو أشد منه فرقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه.
فجعلنا ندعوا الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: من يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون.
وقال الزبير - وكان من أحدثهم سنا - : أنا.
فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة.
فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه.
فجاءنا الزبير فجعل يليح لنا بردائه ويقول: ألا فابشروا؛ فقد أظهر الله النجاشي.
قالت: فوالله؛ ما علمتنا أننا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي.
ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى (مكة) وأقام من أقام.
قال الزهري: فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير عن أم سلمة، فقال عروة: أتدري ما قوله: ((ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فيّ؛ فاطيع الناس فيه؟!))؟
فقلت: لا؛ ما حدثني ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة. فقال عروة: فإن عائشة حدثتني: أن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلاً، ولم يكن لأبي النجاشي ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشي، وملكنا أخاه؛ فان له اثني عشر رجلاً من صلبه؛ فتوارثوا الملك؛ لبقيت الحبشة عليهم دهراً طويلا لا يكون بينهم اختلاف.
فعدوا عليه فقتلوه، وملكوا أخاه.
@فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه، فلا يدير أمره غيره، وكان لبيبا حازماً من الرجال.
فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا: قد غلب هذا الغلام على أمر عمه، فما نأمن أن يملكه علينا، وقد عرف أنا قتلنا أباه، فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله فكلموه فيه فليقتله، أو ليخرجنه من بلادنا.
فمشوا إلى عمه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الفتى منك، وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه، وانا لا نأمن أن يملك علينا فيقتلنا؛ فإما أن تقتله؛ وإما أن تخرجه من بلادنا.
قال: ويحكم! قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم؟! بل أخرجه من بلادكم.
فخرجوا به فوقفوه في السوق، وباعوه من التجار قذفه في سفينة بستمائة درهم، أو بسبعمائة فانطلق به.
فلما كان العشي هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمه يتمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته.
ففزعوا إلى ولده؛ فاذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله أن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره للذي بعتم الغداة، فان كان لكم بأمر الحبشة حاجة؛ فادركوه قبل أن يذهب.
فخرجوا في طلبه فأدركوه فردوه، فعقدوا عليه تاجه، وأجلسوه على سريره وملكوه.
فقال التاجر: ردوا علي مالي كما أخذتم مني غلامي. فقالوا: لا نعطيك. فقال: اذاً والله لأكلمنه.
فمشى إليه فكلمه، فقال: أيها الملك! إني ابتعت غلاماً، فقبض مني الذي باعوه ثمنه، ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي، ولم يردوا علي مالي.
فكان أول ما خبر به من صلابة حكمه وعدله أن قال:
لتردن عليه ماله، أو لتجعلن يد غلامه في يده، فليذهبن به حيث شاء.
فقالوا: بل نعطيه ماله. فأعطوه إياه.
فلذلك يقول: ما أخذ الله مني الرشوة؛ فآخذ الرشوة حين ردّ علي ملكي؟! وما أطاع الناس فيّ؛ فأطيع الناس فيه؟!
والذي وقع في سياق ابن إسحاق إنما هو ذكر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة.
والذي ذكره موسى بن عقبة والأموي وغيرهما أنهما عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة – وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تضاحكوا يوم وضع سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة – وهكذا تقدم في حديث ابن مسعود وأبي موسى الأشعري.
والمقصود أنهما حين خرجا من (مكة) كانت زوجة عمرو معه، وعمارة كان شاباً حسناً، فاصطحبا في السفينة، وكأن عمارة طمع في امرأة عمرو بن العاص؛
[180]
فألقى عمراً في البحر ليهلكه، فسبح حتى رجع إليها، فقال له عمارة: لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك. فحقد عمرو عليه.
فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي، وكان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشى، فوشى به عمرو، فأمر به النجاشي فسحر حتى ذهب عقله، وساح في البرية مع الوحوش.
وقد ذكر الأموي قصته مطولة جداً، وأنه عاش إلى زمن إمارة عمر بن الخطا، وأنه تقصده بعض الصحابة ومسكه، فجعل يقول: أرسلني أرسلني ، وإلا مت. فلما لم يرسله مات من ساعته. فالله أعلم.
وروى ابن إسحاق بسنده عن عائشة رضي الله عنه قالت:
لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
ورواه أبو داود عن ابن إسحاق.
@وقد ثبت في ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربع تكبيرات.
وروى البخاري في (موت النجاشي) بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((مات اليوم رجل صالح؛ فقوموا فصلوا على أخيكم (أصحمة) )).
وروي ذلك من حديث أنس بن مالك، وابن مسعود، وغير واحد.
وفي بعض الروايات تسميته (أصحمة)، وفي رواية (مصحمة)، وهو (أصحمة بن بحر) ، وكان عبداً لبيباً ذكياً، وكان عادلاً عالماً، رضي الله عنه وأرضاه.
وقال يونس عن ابن إسحاق : اسم النجاشي (مصحمة)، وفي نسخة صححها البيهقي: (أصحم)، وهو بالعربية: (عطية).
قال: وإنما النجاشي اسم الملك؛ كقولك: (كسرى)، (هرقل).
قلت: كذا، ولعله يريد به (قيصر)؛ فإنه علم لكل ملك من ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الروم. و(كسرى) علم على من ملك الفرس. و(فرعون) علم لمن ملك مصر كافة. و(المقوقس) لمن ملك الإسكندرية. و(تُبع) لمن ملك اليمن والشحر. و(النجاشي) لمن ملك الحبشة. و(بطليموس) لمن ملك اليونان، وقيل: الهند. و(خاقان) لمن ملك الترك.
وقال بعض العلماء: إنما صلى عليه؛ لأنه كان يكتم إيمانه من قومه، فلم يكن عنده يوم مات من يصلي عليه، فلهذا صلى عليه.
قالوا: فالغائب إن كان قد صُلي عليه ببلده لا تشرع الصلاة عليه ببلد أخرى، ولهذا لم يُصَلّ على النبي صلى الله عليه وسلم في غير (المدينة)؛ لا أهل (مكة) ولا غيرهم. وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة؛ لم ينقل أنه صُلّي على أحد منهم في غير البلدة التي صُلّي عليه فيها. فالله أعلم.
[المستدرك]
عن عمير بن إسحاق قال:
قال جعفر: يا رسول الله! ائذن لي أن أرضاً أعبد الله فيها؛ لا أخاف أحداً. قال: قال: فأذن له فيها، فأتى النجاشي.
قال عمير: حدثني عمرو بن العاص قال:
لما رأيت جعفراً وأصحابه آمنين بأرض الحبشة حسدته؛ لأستقبلن لهذا وأصحابه، فأتيت النجاشي فقلت: ائذن لعمرو بن العاص. فأذن لي، فدخلت فقلت: إن بأرضنا ابن عم لهذا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنا – والله - إن لم ترحنا منه وأصحابه؛ لا قطعت إليك هذه النطفة ولا أحد من أصحابي أبداً.
فقال: وأين هو؟ قلت: إنه يجيء مع رسولك؛ إنه لا يجيء معي.
فأرسل معي رسولاً؛ فوجدناه قاعداً بين أصحابه، فدعاه، فجاء، فلما أتيت الباب ناديت: ائذن لعمرو بن العاص. ونادى خلفي: ائذن لحزب الله عز وجل. فسمع صوته فأذن له قبلي، فدخل ودخلت، وإذا النجاشي على السرير قال: فذهبت حتى قعدت بين يديه وجعلته خلفي، وجعلت بين كل رجلين من أصحابه رجلاً من أصحابي، [قال: فسكت وسكتنا، وسكت وسكتنا، حتى قلت في نفسي: ألعن هذا العبد الحبشي؛ ألا يتكلم؟! ثم تكلم]، فقال النجاشي: نجروا قال عمرو: يعني: تكلموا. قلت: إن بأرضك رجلاً ابن عمه بأرضنا، ويزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد. وإنك إن لم تقتله وأصحابه، لا أقطع إليك هذه النطفة أنا ولا أحد من أصحابي أبداً. [قال: يا حزب الله! نجر].
قال جعفر: صدق ابن عمي وأنا على دينه.
قال: فصاح صياحاً، وقال: أوه. حتى قلت: ما لابن الحبشية لا يتكلم. وقال: أناموس كناموس موسى؟
قال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟
قال: أقول هو روح الله وكلمته.
قال: فتناول شيئاً من الأرض، فقال: ما أخطأ في أمره مثل هذا، فوالله؛ لولا ملكي لاتبعتكم، وقال لي: ما كنت أبالي أن لا تأتيني أنت ولا أحد من أصحابك أبداً. أنت آمن بأرضي، من ضربك قتلته، ومن سبك غرمته.
وقال لآذنه: متى استأذنك هذا فائذن له؛ إلا أن أكون عند أهلي، فإن أبى فأذن له.
قال: فتفرقنا ولم يكن أحد أحب إلى أن ألقاه من جعفر.
قال: فاستقبلني من طريق مرة. فنظرت خلفه فلم أر أحداً، فنظرت خلفي فلم أر أحداً، فدنوت منه وقلت: أتعلم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؟
قال: فقد هداك الله فاثبت، فتركني وذهب.
فأتيت أصحابي، فكأنما شهدوه معي، فأخذوا قطيفة أو ثوباً، فجعلوه علي حتى غموني بها. قال: وجعلت أخرج رأسي من هذه الناحية مرة، ومن هذه الناحية مرة، حتى أفلت وما علي قشرة، [ولم يدعوا لي شيئاً إلا ذهبوا به].
فمررت على حبشية فأخذت قناعها فجعلته على عورتي.
فأتيت جعفراً فدخلت عليه فقال: ما لك؟ فقلت: أُخذ كل شيء لي، ما ترك علي قشرة، فأتيت حبشية فأخذت قناعها فجعلته على عورتي.
[فقال:]
فانطلق وانطلقت معه حتى انتهينا إلى باب الملك، فقال جعفر لآذنه: استأذن لي. قال: إنه عند أهله.[فقال: استأذن لي عليه. فاستأذن له،] فأذن له، فقال : إن عمراً تابعني على ديني، قال: كلا، قال: بلى.
فقال لإنسان: اذهب معه فإن فعل؛ فلا تقل شيئاً إلا كتبته. قال: فجاء فقال: نعم. فجعلت أقول وجعل يكتب، حتى كتبت كل شيء حتى القدح.
قال: ولو شئت آخذ شيئاً من أموالهم إلى مالي فعلت.
[ثم كنت بعد من الذين أقبلوا في السفن مسلمين].
رواه الطبراني والبزار، وصدر الحديث في أوله والزيادة في آخره له.
وعن أبي مالك الأشجعي قال: كنت جالساً مع محمد بن حاطب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إني قد رأيت أرضاً ذات نخل فاخرجوا)).
فخرج حاطب وجعفر في البحر قبَل النجاشي.
قال: فولدت أنا في تلك السفينة.
رواه أحمد( 4/259)، وسنده صحيح.
وفي رواية له (3/418 و6/337) من طريق أخرى عن محمد بن حاطب عن أمه أم جميل بنت المجلل قالت:
أقبلت بك من أرض الحبشة، حتى إذا كنت من (المدينة) على ليلة أو ليلتين طبخت لك طبخاً، ففني الحطب، فخرجت أطلبه، فتناولت القدر، فانكفأت على ذراعك، فأتيت بك النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! هذا محمد بن حاطب، [وهو أول من سمي بك]. فتفل في فيك، ومسح على رأسك ودعا لك، وجعل يتفل على يدك ويقول:
((أذهب الباس رب الناس! واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)).
فقالت: فما قمت بك من عنده حتى برأت يدك. [انتهى المستدرك].
إسلام عمر بن الخطاب
@قال ابن إسحاق: ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردهم النجاشي بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب، وكان رجلاً ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره؛ امتنع به أصحاب رسول الله وبحمزة؛ حتى غاظوا قريشاً.
فكان عبد الله بن مسعود يقول:
ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.
قلت: وثبت في ((صحيح البخاري)) عن ابن مسعود أنه قال:
ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب.
وقال زياد البكائي: حدثني مسعر بن كدام عن سعد بن إبراهيم قال: قال ابن مسعود:
إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما اسلم عمر؛ قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه.
@قال ابن إسحاق: وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة.
حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة [عن أبيه] عن أمي أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت:
والله؛ إنا لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر، فوقف وهو على شركه، فقالت: وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة علينا.
قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أم عبد الله؟
قلت: نعم؛ والله لنخرجن في أرض من أرض الله – إذا آذيتمونا وقهرتمونا – حتى يجعل الله لنا مخرجاً.
قالت: فقال: صحبكم الله. ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم أنصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا.
قالت: فجاء عامر بحاجتنا تلك، فقلت له: يا أبا عبيد الله! لو رايت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا.
قال: أطمعتِ في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم.
قال: لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب!.
قالت: يأساً منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام.
قلت: هذا يرد قول من زعم أنه كان تمام الأربعين من المسلمين، فإن المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين.
اللهم! إلا أن يقال: إنه كان تمام الأربعين بعد خروج المهاجرين.
قلت: وقد استقصيت كيفية إسلام عمر رضي الله عنه، وما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار مطولاً في أول ((سيرته)) التي أفردتها على حدة، ولله الحمد والمنة.
@قال ابن اسحاق وحدثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال:
لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟
فقيل له: جميل بن معمر الجمحي.
فغدا عليه. قال عبد الله: وغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كلما رأيت، حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل! اني أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم؟
قال:؛ فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتبعه عمر، واتبعته أنا، حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! - وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن ابن الخطاب قد صبأ.
قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤسهم.
قال: وطلح فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول:
افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله؛ أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا.
قال: فبينما هم على ذلك؛ إذ أقبل شيخ من قريش - عليه حلة حبرة وقميص موشى - حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم. فقالوا: صبأ عمر!
قال: فمه؛ رجل اختار لنفسه أمراً؛ فماذا تريدون؟! أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟! خلوا عن الرجل.
قال: فوالله؛ لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه.
قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى (المدينة): يا أبت! من الرجل الذي زجر القوم عنك بـ(مكة) يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟
قال: ذاك أي بني! العاص بن وائل السهمي.
وهذا إسناد جيد قوي، وهو يدل على تأخر إسلام عمر؛ لأن ابن عمر عرض يوم (أحد) وهو ابن أربع عشرة سنة، وكانت (أحد) في سنة ثلاث من الهجرة، وقد كان مميزاً يوم أسلم أبوه، فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين، وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين. والله أعلم.
[المستدرك]
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((اللهم! أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب)).
قال: فكان أحبهما إليه عمر.
أخرجه الترمذي (3764) وقال: ((حديث حسن صحيح))، وابن سعد (3/237)، والحاكم (3/83)، وأحمد (2/95)، وقال الحاكم: ((صحيح الإسناد))، ووافقه الذهبي، وهو عنده من طريقين آخرين عن نافع عنه. ثم رواه هو وابن ماجه (105) من حديث عائشة، وهو أيضاً من حديث ابن مسعود، وابن سعد (3/237و242) من حديث عثمان بن الأرقم ، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري مرسلاً.
وعن ابن عباس قال:
أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب.
رواه الطبراني، وإسناده حسن؛ كما في ((المجمع)) (9/63).
وعن عمر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني لا أدع مجلساً جلسته في الكفر إلا أعلنت فيه الإسلام.
فأتى المسجد، وفيه بطون قريش متحلقة، فجعل يعلن الإسلام، ويشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فثار المشركون، فجعلوا يضربونه ويضربهم، فلما تكاثروا خلصه رجل.
فقلت لعمر: من الرجل الذي خلصك من المشركين؟ قال: ذاك العاص بن وائل السهمي.
رواه الطبراني في ((الأوسط))، ورجاله ثقات؛ كما قال الهيثمي. [انتهى المستدرك].
فصل
في ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً ، وسراً وجهاراً، منادياً بأمر الله تعالى ، لا يتقي فيه أحداً من الناس.
فجعلت قريش حين منعه الله منها – وقام عمه وقومه من بي هاشم وبني عبد المطلب دونه ، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به – يهمزونه، ويستهزؤون به ويخاصمونه.
وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته، منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار.
فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه، والعاص بن وائل ونزول قوله: ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً﴾ [مريم: 77] فيه، وقد تقدم شيء من ذلك.
وأبا جهل بن هشام، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: لتتركن سب آلهتنا أو لنسبنّ إلهك الذي تعبد. ونزول قول الله فيه: ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم﴾ الآية [الأنعام: 108].
@قال ابن إسحاق: و جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم - فيما بلغنا - يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، و في المجلس غير و احد من رجال قريش.
فتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرض له النضر، فكلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه و عليهم ﴿ إنَّكُم وما تعبُدُون مِن دُونِ اللهِ حصبُ جهنَّمَ أنتُمْ لَها واردُونَ لوْ كانَ هؤلاءِ آلهةً ما وردُوها و كلٌّ فِيها خالدِون لُهم فِيها زفيرٌ و هم فِيها لا يسمَعُون ﴾[ الأنبياء : 98 - 100].
ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس.
فقال الوليد بن المغيرة له : و الله ما قام و الله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا و ما قعد، و قد زعم محمد أنّا و ما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم !.
فقال عبد الله بن الزبعرى : أما – والله – لو و جدته لخصمته، فسلوا محمداً أكل من نعبد من دون الله حصب جهنم مع عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة و اليهود تعبد عزيراً و النصارى تعبد عيسى.
فعجب الوليد و من كان معه في المجلس من قول ابن الزبعرى و رأوا أنه قد احتج و خاصم.
فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم ...فأنزل الله تعالى ﴿ إنَّ الذين سبقَتْ لَهمْ مِنَّا الُحسنى أُولئِك عنْهَا مُبعدُونَ لا يسمعُون حسِيسَها و هُم في ما اشْتَهتَ أنْفُسُهُم خالِدُون ﴾ [ الأنبياء : 101-102 ]؛ أي: عيسى ابن مريم، و عزيراً، و من عبد من الأحبار و الرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى .
و نزل - فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة و أنها بنات الله - : ﴿و قالُوا اتَّخذَ الرَّحمنُ ولداً سُبحانَه بَلْ عِبادٌ مُكرَمُون﴾ [ الأنبياء :26 ].
و نزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري: { و لمَّا ضُرِبَ ابنُ مريمَ مثلاً إذا قومُكمَ مِنْهُ يَصدُّونَ و قَالُوا آلِهَتُنَا خَيْرٌ أمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قومُ خَصِمُونَ } [ الزخرف :57و58 ].
و هذا الجدل الذي سلكوه باطل، و هم يعلمون ذلك؛ لأنهم قوم عرب من لغتهم أن (ما) لما لا يعقل، فقوله : ﴿ إنكُمْ وَ مَا تَعْبُدُون مِنْ دونِ اللهِ حصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام، و لا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، و لا المسيح، و لا عزيراً، و لا أحداً من الصالحين؛ لأن اللفظ لا يتناولهم لا لفظاً و لا معناً.
فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل؛ كما قال الله تعالى : ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلا جَدَلاً بلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾.
ثم قال ﴿ إنْ هُوَ ﴾؛أي: عيسى ﴿إلا عَبْدٌ أنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾؛ أي: بنبوتنا، ﴿وَ جَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إسْرَائِيل﴾؛ أي: دليلاً على تمام قدرتنا على ما نشاء، حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، و قد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى، و خلقنا آدم لا من هذا، و لا من هذا، و خلقنا سائر بني آدم من ذكر و أنثى، كما قال في الآية الأخرى: ﴿و لنجعله آيةً للنَّاس﴾[مريم:21]؛ أي: أمارة و دليلاً على قدرتنا الباهرة، ﴿و رحمةً منَّا﴾ نرحم بها من نشاء .
وذكر ابن اسحاق الوليد بن المغيرة حيث قال: أَيُنْزَل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها؟! ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف؟! فنحن عظيماً القريتين. ونزول قوله فيه: ﴿وقال لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم﴾ والتي بعدها . [الزخرف: 31و32].
وذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط: ألم يبلغني أنك جالست محمداً وسمعت منه وجهي من وجهك حرام؛ إلا أن تتفل في وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة لعنه الله، فأنزل الله :﴿ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً، يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً﴾ والتي بعدها [الفرقان: 27-29].
قال: ومشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرمّ، فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم؟! ثم فته بيده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
((نعم؛ أنا أقول ذلك؛ يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار)).
وأنزل الله تعالى : ﴿وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشاها أول مرة وهو بكل خلق عليم﴾ إلى آخر السورة [يس: 78-83].
قال: واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - وهو يطوف عند باب الكعبة الأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل فقالوا: يا محمد! هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر!
فأنزل الله فيهم: ﴿قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون﴾ إلى آخرها.
قال: ووقف الوليد بن المغيرة فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يكلمه، وقد طمع في إسلامه.
فمرّ به ابن أم مكتوم: عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة الأعمى، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يستقرئه القرآن، فشق ذلك عليه حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه.
فأنزل الله تعالى : ﴿عبس وتولى. أن جاءه الأعمى ﴾ إلى قوله: ﴿مرفوعة مطهرة﴾ [عبس: 1-14].
وقد قيل: إن الذي كان يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم: أمية بن خلف. فالله أعلم.
[المستدرك]
عن علي رضي الله عنه قال:
قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: قد نعلم يا محمد! أنك تصل الرحم، وتصدق الحديث، ولا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به. فأنزل الله عز وجل:
﴿﴿قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون﴾ [الأنعام:36].
أخرجه الترمذي (5058)، والحاكم (2/315) وقال : ((صحيح على شرط الشيخين)).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما:
((ان أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم بـ(مكة) لا يؤذيه، وكان رجلاً حليماً، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط.
وقدم خليله من الشام ليلاً، فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد مما كان أمراً. فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صبا.
فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه، فلم يرد عليه التحية. فقال: مالك. لا ترد علي تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟!
قال: أوقد فعلتها قريش؟! قال: نعم.
قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلت؟
قال: تأتيه في مجلسه، وتبزق في وجهه، وتشمته باخبث ما تعلمه من الشتم!.
ففعل، فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم إن مسح وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال:
((إن وجدتك خارجاً من جبال (مكة) أضرب عنقك صبراً)).
فلما كان يوم بدر، وخرج أصحابه، أبى أن يخرج.
فقال له أصحابه: أخرج معنا.
قال: قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجاً من جبال (مكة) أن يضرب عنقي صبراً.
فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه.
فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين، وحل به جمله في جدد من الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيرا في في سبعين من قريش، وقدم إليه أبو معيط فقال: تقتلني من بين هؤلاء؟ قال:
((نعم. بما بزقت في وجهي)).
فأنزل الله في أبي معيط ﴿ ويوم يعض الظالم على يديه﴾ إلى قوله ﴿وكان الشيطان للانسان خذولا﴾[الفرقان: 27-29].
أخرجه ابن مردويه، وأبو نعيم في ((الدلائل)) بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ كما في ((الدر المنثور)) (5/68).
وعن ابن عباس أيضاً:
أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالاً، فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطؤوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد! وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء.
فإن لم تفعل؛ فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح.
قال: ((ما هي؟)).
قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة. قال:
((حتى أنظر ما يأتي من عند ربي)).
وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى : ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم﴾ [الحج:52].
وذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحاً؛ لئلاً يسمعها من لا يضعها على مواضعها.
إلاأن أصل القصة في ((الصحيح)).
روى البخاري دون مسلم عن ابن عباس قال:
فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ السورة، وأنزل الله: ﴿قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون﴾ إلى قوله: ﴿ فاعبد وكن من الشاكرين﴾ [الزمر: 64-66].
أخرجه ابن جرير (30/331)، وابن أبي حاتم، والطبراني؛ كما في ((الدر)). (6/404)، وإسناده حسن. [انتهى المستدرك].
ثم ذكر ابن إسحاق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى (مكة).
وذلك حين بلغهم إسلام أهل (مكة)، وكان النقل ليس بصحيح ولكن كان له سبب.
وهو ماثبت في ((الصحيح)) وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوماً مع المشركين، وأنزل الله عليه: ﴿والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم... ﴾يقرؤها عليهم حتى ختمها ، وسجد، فسجد من هناك من المسلمين والمشركين، والجن والإنس.
سجد النبي صلى الله عليه وسلم بـ(النجم)، وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن، والإنس.
وروى هو ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله (ابن مسعود). قال:
قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿والنجم﴾ بـ(مكة)، فسجد فيها وسجد من معه؛ غير شيخ أخذ كفّاً من حصا أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. فرأيته بعدُ قُتِلَ كافراً.
وروى أحمد وعنه النسائي عن المطلب بن أبي وداعة قال:
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ(مكة) سورة (النجم)، فسجد، وسجد من عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد.
ولم يكن أسلم يومئذ المطلب، فكان بعد ذلك لا يسمع أحداً يقرؤها إلا سجد معه.
وقد يجمع بين هذا والذي قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكباراً، وذلك الشيخ الذي استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية. والله أعلم.
والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ اعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه، ولم يبق نزاع بينهم.
فطار الخبر بذلك، وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها، فظنوا صحة ذلك، فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة، وكلاهما محسن مصيب فيما فعل.
وقال البخاري:
وقالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((أريت دار هجرتكم؛ ذات نخل بين لابتين)).
فهاجر من هاجر قبل (المدينة)، ورجع من كان هاجر بأرض الحبشة إلى (المدينة).
وفيه عن أبي موسى وأسماء رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم حديث أبي موسى (ص170)، وهو في ((الصحيحين))، وسيأتي حديث أسماء بنت عميس بعد فتح (خيبر) حين قدم من كان تأخر من مهاجرة ((إن في الصلاة شغلاً)).
وهو يقوي تأويل من تأويل حديث زيد بن أرقم الثابت في ((الصحيحين)):
كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى : ﴿وقوموا لله قانتين﴾، فأمرنا بالسكوت، ونُهيناً عن الكلام.
على أن المراد جنس الصحابة، فإن زيداً أنصاري مدني، وتحريم الكلام في الصلاة ثبت بـ(مكة)، فتعين الحمل على ما تقدم.
وأما ما ذكره الآية – وهي مدنية – فمشكل، ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك، وإنما كان المحرم له غيرها معها. والله أعلم.
ذكر عزم الصديق على الهجرة إلى أرض الحبشة
@قال ابن إسحاق: وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه – كما حدثني محمد بن مسلم الزهري عن عروة عن عائشة – حين ضاقت عليه (مكة)، وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى ؛ استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة؛ فأذن له.
فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجراً؛ حتى إذا سار من (مكة) يوماً أو يومين لقيه ابن الدّغنة – أخو بني الحارث بن يزيد؛ أحد بني بكر بن عبد مناة بن كنانة – وهو يومئذ سيد الأحابيش.
[قال ابن إسحاق: و(الأحابيش): بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق من خزاعة.
@قال ابن هشام: تحالفوا جميعاً، فسموا الأحابيش؛ لأنهم تحالفوا بوادٍ يقال له : (الأحبش) بأسفل (مكة) للحلف].
فقال: [ابن الدغنة]: إلى أين يا أبا بكر؟
قال: أخرجني قومي، وآذوني، وضيّقوا علي.
قال: ولم؟ والله؛ إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتُكسب المعدوم، ارجع فإنك في جواري.
فرجع معه، حتى إذا دخل (مكة) قام معه ابن الدّغنة فقال: يا معشر قريش! إني قد أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرض له أحد إلا بخير.
قال: فكفوا عنه.
قالت: وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح، فكان يصلي فيه، وكان رجلاً رقيقاً؛ إذا قرأ القرآن استبكى.
قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء؛ يعجبون لما يرون من هيئته.
قال: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدّغنة، فقالوا: يا ابن الدغنة! إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا ! إنه رجل إذا صلى وقرأ يرقّ وكانت له هيئة، ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم، فأته فمره أن يدخل بيته فيصنع فيه ما شاء.
قالت: فمشى ابن الدغنة إليه فقال: يا أبا بكر! إني لم أجرك لتؤذي قومك، وقد كرهوا مكانك الذي أنت به، وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت.
قال: أو أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله .
قال: فاردد عليّ جواريّ. قال: قد رددته عليك.
قال: فقام ابن الدّغنة فقال: يا معشر قريش! إن ابن أبي قحافة قد ردّ علي حواري، فشأنكم بصاحبكم.
وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث منفرداً به، وفيه زيادة حسنة،
أخرجه عن عقيل : قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار: بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ (برك الغماد) لقيه ابن الدعنة، وهو سيد (القارة)، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟
فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الارض فأعبد ربي.
فقال ابن الدغنة: فان مثلك يا أبا بكر! لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك.
فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟!
فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا: لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، وليصل فيها ويقرأما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر.
فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.
ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فينقذف [عليه] نساء المشركين وأبناؤهم ؛ يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فارسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن في الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا، فانْهَهُ، فإن أحب على أن يقتصر أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك؛ فسله أن يرد عليك ذمتك، فانا قد كرهنا نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فاتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي قد عاقدتك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إليّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له.
فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما سيأتي مبسوطاً.
فصل
وقد ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة بدون إسناد.
وكان سيداً مطاعاً شريفاً في (دوس)، وكان قد قدم (مكة)، فاجتمع به أشراف قريش، وحذروه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهوه أن يجتمع به، أويسمع كلامه.
روى الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة قال:
لما قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن دوساً قد استعصت [وأبت، فادع الله عليهم. فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا]، قال:
((اللهم! اهد دوساً، وائت بهم، [اللهم! اهد دوساً، وائت بهم])).
قصة مصارعة ركانة
روى أبو داود والترمذي عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه:
أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الترمذي: ((غريب)).
قلت: وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما:
أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم ، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات؛ كل مرة على مائة من الغنم، فلما كان في الثالثة قال: يا محمد! ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وماكان أحد أبغض إلي منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه غنمه.
@قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد، فجلس عليها المستضعفون من أصحابه: خباب، وعمار، وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين؛ هزئت به قريش، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون! أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق؟! لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا!
فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 52-54].
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يجلس عند المروة إلى مبيعه غلام نصراني يقال له: جبر؛ عبد لبني الحضرمي، وكانوا يقولون: والله؛ ما يعلّم محمداً كثيراً مما يأتني به إلا جبر.
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: ﴿إنما يعلمه بشر لسان الذي يُلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين﴾ [النحل: 103].
ثم ذكر نزول سورة (الكوثر) في العاص بن وائل حين قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه أبتر. أي : لا عقب له؛ فإذا مات انقطع ذكره، فقال الله تعالى : ﴿إن شانئك هو الأبتر﴾.
أي: المقطوع الذِكر بعده؛ ولو خلف ألوفاً من النسل والذرية، وليس الذكر والصيت ولسان الصدق بكثرة الأولاد والأنسال والعقب. وقد تكلمنا على هذه السورة في ((التفسير))، ولله الحمد.
[ثم روى ابن إسحاق (2/35) بإسناده الصحيح عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل له: يا رسول الله! ما الكوثر الذي أعطاك الله؟ قال:
((نهر كما بين (صنعاء) إلى (أيلة)، آنيته كعدد نجوم السماء، ترده طيور لها أعناق كأعناق الإبل)).
قال: يقول عمر بن الخطاب: إنها يا رسول الله! لناعمة. قال:
((أكلّها أنعمُ منها)).
@قال ابن إسحاق:
وقد سمعت في هذا الحديث أو غيره أنه قال صلى الله عليه وسلم :
((من شرب منه لا يظمأ أبداً))].
قلت: وقال الله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾[ألأنعام: 34].
وقال تعالى : ﴿إنا كفيناك المستهزئين﴾ [الحجر: 95].
قال سفيان: عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
المستهزؤون: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والحارث بن عيطل، والعاص بن وائل السهمي.
فأتاه جبريل، فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراه الوليد، فأشار جبريل إلى أكحله، وقال: كفيته.
ثم أراه الأسود بن المطلب، فأومأ إلى عينيه، وقال: كُفيته.
ثم أراه الحارث بن عيطل، فأومأ إلى بطنه، وقال: كفيته.
ومر به العاص بن وائل ، فأومأ إلى أخمصه، وقال: كفيته.
فأما الوليد؛ فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً له، فأصاب أكحله، فقطعها.
وأما الأسود بن عبد يغوث؛ فخرج في رأسه قروح؛ فمات منها.
وأما الأسود بن المطلب فعمي، وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة، فجعل يقول: يا بنيّ ألا تدفعون عني؟ قد قتلت فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً. وجعل يقول: يا بنيّ! ألا تدفعون عني؟ قد هلكت! ها هو ا الطعن بالشوك في عيني. فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً. فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه.
وأما الحارث بن عيطل؛ فأخذه الماء الأصفر في بطنه؛ حتى خرج خرؤه من فيه ؛ فمات منها.
وأما العاص بن وائل؛ فبينما هو كذلك يوماً؛ إذا دخل في رجله شبرقة حتى امتلأت منها؛ فمات منها.
وقال غيره في هذا الحديث.
فركب إلى الطائف على حمار، فربض به على شبرقة (يعني: شوكة)، فدخلت في أخمص قدمه شوكة، فقتلته.
رواه البيهقي بنحو من هذا السياق.
[المستدرك]
عَنْ خَبَّابٍ قَالَ:
جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فَوَجَدَوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ قَاعِدًا فِي نَاسٍ مِنْ الضُّعَفَاءِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقَرُوهُمْ، فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ، وَقَالُوا:
إِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ، فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ! فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنْكَ، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ. قَالَ :
((نَعَمْ)).
قَالُوا: فَاكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ كِتَابًا.
قَالَ: فَدَعَا بِصَحِيفَةٍ، وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ - وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ - فَنَزَلَ جِبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلام فَقَالَ: ﴿وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾ [ الأنعام:52].
ثُمَّ ذَكَرَ الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ فَقَالَ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام:53] .
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام:54].
قَالَ : فَدَنَوْنَا مِنْهُ حَتَّى وَضَعْنَا رُكَبَنَا عَلَى رُكْبَتِهِ، [وهو يقول :﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾].
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ مَعَنَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَامَ وَتَرَكَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾:
وَلَا تُجَالِسْ الْأَشْرَافَ ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ يَعْنِي: عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ قَالَ: هَلاكًا؛ قَالَ: أَمْرُ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَ الرَّجُلَيْنِ وَمَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
قَالَ خَبَّابٌ: فَكُنَّا نَقْعُدُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا بَلَغْنَا السَّاعَةَ الَّتِي يَقُومُ فِيهَا؛ قُمْنَا وَتَرَكْنَاهُ حَتَّى يَقُومَ.
أخرجه ابن ماجة (4127) والسياق له، وابن جرير (7/201)، وابن أبي شيبة أيضاً، وأبو يعلى، وأبو نعيم في ((الحلية))، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ ، وابن مردويه، والبيهقي في ((الدلائل))؛ كما في ((الدر المنثور)) (3/13)، وإسناده صحيح كما قال البوصيري. وله شاهد عن ابن مسعود مختصراً. أخرجه أحمد (1/420)، وابن جرير (7/200) من طريق أشعث عن كردوس الثعلبي عنه. وسنده صحيح إن كان أشعث بن أبي الشعثاء. ثم ترجح عندي أنه ابن سوار، وفيه ضعف؛ لأنه ممن رواه عن حفص بن غياث.
عن سعد قال:
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترؤون علينا.
قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه﴾ [الأنعام: 52].
أخرجه مسلم (2413)، وابن ماجه (4128)، وابن جرير (7/202)، والحاكم (3/319) وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهي، وعزاه المؤلف في ((التفسير)) لابن حبان والحاكم فقط! وعزاه في ((الدر)) (3/13) لجمع آخر منهم أحمد، ولم أره في ((مسنده)).
وعن ابن عباس قال:
لما قدم كعب بن الأشرف (مكة) أتوه، فقالوا له: نحن أهل السقاية والسدانة، وأنت سيد أهل (المدينة)، فنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر من فوقه يزعم أنه خير منا؟ قال: بل أنتم خير منه! فنزلت عليه: ﴿إن شانئك هو الأبتر﴾.
قال: وأنزلت عليه: ﴿تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [النساء: 44و45].
أخرجه ابن جرير في ((التفسير)) (30/330) بإسناد صحيح رجاله رجال الصحيح))، وقال المؤلف في ((التفسير)): ((رواه البزار، وإسناده صحيح)). وفي ((المجمع)) (7/6): ((رواه الطبراني، وفيه يونس بن سليمان الجمال، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجاله رجال (الصحيح) )).
قلت: قد توبع عند الأولين، فصح الحديث، والحمد لله. [انتهى المستدرك].
فصل
وذكر البيهقي ها هنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف.
وأورد ما أخرجاه في ((الصحيحين)) عن ابن مسعود قال:
خمس [قد] مضين: اللزام، والروم، والدخان، والبطشة، والقمر.
وفي رواية عن ابن مسعود قال:
إن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبطؤوا عن الإسلام قال:
((اللهم! أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف)).
قال فأصابتهم سنة حتى حصّت كل شيء، حتى أكلوا الجيف، وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، ثم دعا، فكشف الله عنهم، ثم قرأ عبد الله هذه الآية: ﴿إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون﴾[الدخان:15].
قال: فعادوا فكفروا، فأخرّوا إلى يوم بدر.
قال عبد الله: إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم ﴿يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون﴾ [الدخان: 16]؛ قال: يوم بدر.
وفي رواية عنه قال:
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدباراً قال:
((اللهم سبع كسبع يوسف)).
فأخذتهم سنة؛ حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل (مكة)، فقالوا: يا محمد! إنك تزعم أنك بعثت رحمة، وإن قومك قد هلكوا؛ فادع الله لهم.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، فشكا الناس كثرة المطر، فقال:
((اللهم حوالينا ولا علينا)).
فانحدرت السحابة عن رأسه فسُقِيَ الناس حولهم.
قال: لقد مضت آية الدخان، وهو الجوع الذي أصابهم، وذلك قوله: ﴿إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون﴾ [الدخان:15]. وآية الروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر، وذلك كله يوم بدر.
قال البيهقي: يريد - والله أعلم - البطشة الكبرى، والدخان، وآية اللزام كلها حصلت بـ(بدر).
قال: وقد أشار البخاري إلى هذه الرواية.
ثم أورد من حديث ابن عباس قال:
جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستغيث من الجوع؛ لأنهم لم يجدوا شيئا حتى أكلوا العهن، فأنزل الله تعالى : ﴿ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون﴾ [المؤمنون: 76].
قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرج الله عنهم.
ثم قال الحافظ البيهقي:
وقد روي في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك بعد الهجرة ولعله كان مرتين. والله أعلم.
[المستدرك]
عن أبيّ بن كعب أنه قال:
في هذه الآية: ﴿ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر﴾ [السجدة: 21] قال:
المصيبات في الدنيا – قال: - والدخان قد مضى، والبطشة واللزام.
أخرجه مسلم (2799)، وابن جرير (21/108)، وأحمد في ((المسند)) (5/128)، وصححه الحاكم (4/428). [انتهى المستدرك].
فصل
ثم أورد البيهقي قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى : ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: 1-5].
ثم روى عن ابن عباس قال:
كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل الكتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ لأنهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
((أما إنهم سيظهرون)).
فذكر ذلك أبو بكر للمشركين، فقالوا: اجعل بيننا وبينك إن ظهروا لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا. [فجعل أجلاً خمس سنين، فلم يظهروا].
فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
((ألا جعلته – أراه قال: - دون العشر؟)).
فظهرت الروم بعد ذلك.
[232]
وقد أوردنا طرق هذا الحديث في ((التفسير))، وذكرنا أن المُنَاخب- أي: المُراهن – لأبي بكر أميّة بن خلف، وأن الرهن كان على خمس قلائص، وأنه كان إلى مدة، فزاد فيها الصديق عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الرهن، وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر، أو كان يوم الحديبية. فالله أعلم.
فصل في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم عروجه من هناك إلى السماوات وما رأى هناك من الآيات
ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء في أوائل البعثة، وأما ابن إسحاق؛ فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين، وهو في الأظهر.
وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى : ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير﴾ [الإسراء:1].
فلتكتب من هناك على ما هي عليه من الأسانيد والعزو، والكلام عليها ومعها، ففيها مقنع وكفاية. ولله الحمد والمنة.